كاندنسكي: عشرون قصيدة نثر

 

فاسيلي كاندنسكي

 

أرانين... تجريدات كاندنسكي النثرية

بعد مرور سنتين على الجانب الروحي في الفن وقبل عام على انجاز نظرات على الماضي، التجأ فاسيلي كاندنسكي (1866- 1944، روسي الأصل/ فرنسي الجنسية/ ألماني القلم... وعالمي الريشة) إلى قصيدة النثر، لكي تكون رنينًا لغويًا لبصيرته الفنية في التمهيد لحاسة التجريد التشكيلية. فأصدر عام 1912 أرانين Klänge الذي يعتبر أول كتاب يرتبط فيه الشعر بالرسم، إذ لم يكن هناك من كتاب شعري يتضمن رسوم الشاعر نفسه، أو كتاب فنان لرسومه يتضمن أشعاره هو.

فالعادة المعروفة كانت كالتالي: شاعر يطلب من فنان تزيين كتابه الشعري ببعض الرسوم. إن أرانين يتوحد فيه شعر كاندينسكي ورسومه توحدًا يكاد أي انفصال بينهما يفقد كلاهما معناه، بقدر ما ينسفهما أي تماثل بينهما. حالة توتر جدلية الطابع تنتج بعدًا ثالثًا: اختلافهما هو الرابط الحقيقي بينهما. "المشروع" هذا كان، في الحقيقة، يفكر به كاندنسكي منذ أن أخذ يكتب قصائد نثر ما بين عامي 1908 و1911. فكان مجموع ما كتب 38 قصيدة ضمها الكتاب مع 12 رسمة بالألوان و44 رسمة بالأبيض والأسود. والرسوم كلها تمت طباعيًا بالحفر على الخشب. ولم يطبع منه سوى 340 نسخة مع وصية "كاندنسكي الحاسمة": أن لايعاد طبع هذا الديوان على الاطلاق، وقد احترمَت وصيته إلى اليوم، مما جعل من الصعب على القارئ الألماني العثور عليه لقراءته، وما عليه إلا أن يذهب إلى مكتبة مختصة لكي يطلع عليه، ويرضي فضوله. وقد عانينا، نحن الراغبين في رؤية الأصل، معاناة الألماني نفسه مما اضطررنا إلى الاتصال بمكتبة كاندنسكي في متحف بوبور (باريس) لتزويدنا بنسخ مصورة لإتمام هذه الترجمة ليس فقط على مستوى المضمون وإنما أيضًا على مستوى الشكل. لذا حافظ، المترجم، على شكل التقطيع في عدة قصائد كما هو في النص الأصلي.

إن قصيدة النثر التي يتضمنها كتاب كاندنسكي أرانين، تختلف كليًا عن مجمل نتاج قصيدة النثر، على الأقل عن النتاج الذي كان شائعًا حتى عام 1912. فهنا ليس السرد أساسها، ولا الحكاية هدفها. ولا الكتلة مثالها... ومع هذا فإن المعايير الثلاثة لقصيدة النثر (الاختصار، اللاغرضية، والتوتر)، تمثل جزء لا يتجزأ من قصيدة النثر لدى كاندنسكي. فالإيجاز متوفر في كل القصائد، واللاغرضية واضحة إذ لا يريد كاندنسكي، على الاطلاق، إيصال أية حكمة أو موعظة أو قصد للقارئ عبر قصائده هذه. كما أن النثر هنا هو مادة القصيدة، استقلاليته من أية غرضية سواء كانت "شعرية" أو "غنائية"، فالجمل بسيطة تلغرافية... ولا تربط بينها أية رمزية أو معان مجازية. والترجمة هنا يجب أن تحافظ على الوهلة التجريدية الأولى التي تولدها هذه القصائد عند قراءتها. فأي تجميل لها تدمير لها.

صحيح أن كاندنسكي سمى أرانينه هذه "قصائد نثر"، لكن ليس ضمن ما يفهم كإضافة جديدة لفن شعري اسمه "قصيدة النثر"، وإنما استخدم المصطلح بالمعنى العام للكلمة أي كتلة كلامية نثرية لا تتوسل أي إيقاع عروضي أو وزن أو غير وزن. وفي الحقيقة، إن التقطيع الذي يراه القارئ لكتل قصائد كاندنسكي النثرية سببه ليس التقطيع الإيقاعي المعروف في الشعر الحر، وإنما إعطاء قيمة تركيبية للفراغ، وتكثيف التوتر بين الرسم والكتابة. فكان يضطر إلى قطع الجملة أو الكلمة، وكأن "الكتلة النثرية" محاصرة ببياض ملموس يفرض نفسه ولغاية ما. وهكذا يلبي كاندسكي المطلب الثالث لقصيدة النثر: التوتر، كثافة الفراغ، وهو متوفر من خلال هذا التقصيب المفاجئ للجمل، وفي مسلخ هذا البياض (فراغ الصفحة) الذي هو أشبه بحلبة حوار أو صراع بين العين واللسان...

فضلت أرانين كمقابل لـ Klänge على كلمات أخرى كـ"رنّات" أو "أصوات" أو "رنينات" أو "رُنن" أو "نغمات". إن المعنى الأول لكلمة Kläng هو "رنّة"، وهي، غالبًا، رنّة موسيقية، نبرة. والمترجم الفرنسي للكتاب كان على حق عندما ترك العنوان بالألماني لأنه لم يجد المراد الموسيقي في المقابل الفرنسي Sonorités، بينما المترجمة الانجليزية اكتفت بوضع Sounds كمقابل وبهذا ضيّعت بالذات النبرة الموسيقية للتركيبية الخميائية المنطوية عليها أرانين. فكاندنسكي لم يكن له هم سوى العثور على النغمة الضائعة المتمكنة من جعل هذا النثر اللاغرضي أن "يصدّي" هيئات اللون وآثار الحفر على الخشب، وفي الوقت ذاته، أن تكون هذه الحفريات الصورية مكبرات صوت ما تنطوي عليه هذه الكتل النثرية المكثفة في حال من التوتر... فلا يعود المطلوب من الكلمة إفادة المعنى المتعارف عليه، وإنما أن تتجرد... أن تبقى هيئة لغوية تتقاطب وهيئة الشكل المرسوم: مجرد مناظر مقتطعة من ضواحي التجريد، أرانينَ من أعماق الشكل المترامي غابةً لونية من الرتوش.

يجب ألا ننسى، أولاً، أنه نشر عام 1903 كتابًا تضمن 12 رسمة (حفر بالخشب) ويحمل عنوانًا غريبًا: أبياتٌ بلا كلمات، وثانيًا، أنه كتب مسرحية تجريبية عنوانها الرنّة الصفراء: تأليف مشهدي، ستفضي إلى علاقة مع الموسيقار أرنولد شوينبرغ، مؤسس الموسيقى البلا نوطة، ومن ثم إلى عمل مشترك معه: اليد الجذلاء نقطة التقاء بين التجريد واللانوطة؛ بين مسار اللغة-الرسم كإشارة وسلّم الموسيقى-الإيقاع كرنين.

صدر ديوان أرانين في وقت كان فيه الفن الشعري، حتى في حداثته آنذاك، أسير "الجمالية" و"الشعرية" و"الصورية الغائية"؛ عكس التيار المتعارف عليه في كتابة الشعر. من هنا كان هذا الديوان الغريب يحدث (خصوصًا في تلك الفترة) صدمةً في ذهن قارئه مما كان يجد هذا القارئ نفسه ملقى في آفاق لم يعهدها من قبل... لكن، ربما، لم تعد مجهولة بالنسبة إلى قارئ اليوم فيُحرم أثناء قراءته لهذا العمل التاريخي، من اللذة الكاملة لما تنطوي عليه أرانين من صدمة تحديث عميقة.

لقد لعبت أرانين كاندنسكي دورًا في تغيير ذائقة متلقي مطلع القرن الماضي، منبئة إياهم عن صعود طلائع تشكيلية سيتغير معها كل مفاهيم الكلمة واللون؛ التركيب والخطوط؛ اللامغزى والمضمون الباطن؛ تجريدات النغمة الكلامية وأرانين المرئي. وليس غريبًا، أن الدادائيين في زيورخ عندما أخذوا يتجمعون، عام 1917، بصفتهم رأس هذه الطلائع المقبلة، وجدوا أن كتاب كاندنسكي من بين كل الأعمال الحديثة، هو الأقرب، شكلاً ومضمونًا، إلى ذائقتهم المتمردة، فقرؤوا بصوت عال في مقاهيهم وعروضهم، قصائد من أرانين كمثال للشعر الذي يريدون اجتراحه. هنا مقطع كتبه أحد المؤسسين الكبار للدادائية هانز آرب، يوضح فيه شعور رفاقه:

باشر كاندنسكي في أندر التجارب الروحية في قصائده. فمن الوجود المحض استخرج جماليات لم تُسمع من قبل. في هذه القصائد تطفو تراكيب لغوية على نحو لم يحدث مثله من قبل... فكاندنسكي يواجه القارئ بصور محتضرة ومتحولة، بجمل محتضرة ومتحولة، بحلم محتضر ومتحول ذاتيًا. في هذه القصائد نعيش الدورة، التشميع والتضاؤل، تَحوّلَ هذا العالم. قصائد كاندنسكي تكشف فراغ المظاهر والعقل.

لقد أوضح كاندنسكي بأنه، رغم كفاحه من أجل الرسم، اكتشف "أن الرسم وحده لن يكفي". لذا أصدر أرانين. والكتاب هذا كما وصفه كاندنسكي نفسه،

كتاب تركيبي استطاع حذف نصف المفاهيم القديمة والضيقة، محطمًا الجدران الحائلة بين الفنون... وأثبت في آخر الأمر بأن مشكلة الفن ليست مشكلة شكل وإنما هي مشكلة المضمون الروحي.

عبد القادر الجنابي

* * *

20 قصيدة نثر من كتاب فاسيلي كاندنسكي: أرانين Klänge

أوراق

أتذكّر حدثًا معينًا. كان هناك جبلٌ أسودُ ضخم مثلث القاعدة تصل قِمته إلى السماء. وكان من الصعب رؤية قمته الفضية. على يمينهِ كانت هناك شجرةٌ متينة جدًا
ذات قمةٍ خضراء كثيفة. قمة الشجرة كانت كثيفة جدًا

بحيث كان يصعبُ فصل أوراقها عن بعض.
على اليسار في بقعةٍ ضيقة نمتْ زهيراتٌ بيضاء صغيرة، بدت مثل صحون مسطحة.
ما عدا ذلك لم يكن هناك شيء.

وقفت أمام هذا المنظر ونظرت إليه. فجأة جاء رجل من جهة اليمين على ظهر تيس أبيض يبدو اعتياديًا جدًا، غير أن قرنيه لم يكونا منحنيين إلى الوراء، بل كانا منتصبين إلى الأمام. أما ذنبه فلم يكن متجهًا بوقاحة إلى الأعلى، بل كان عاريًا ويتجه نحو الأسفل.
وجه الرجل كان أزرق وبأنف معكوفٍ وقصير. ضحك الرجل فبرزت أسنانه الصغيرة المتضررة الموزعة بشكل غير منتظم، رغم أنها كانت ساطعة البياض. ولاحظت شيئًا شديد الحمرة. مر عليّ ببطْء وأختفى وراء الجبل. الغريب في الأمر أني حين تطلعت من جديد في المنظر كانت كل الأوراق قد انتشرت على الأرض، وعلى اليسار اختفت الزهور، لتحل محلها ثمارٌ حمراء. الجبل بقي ثابتًا في محله. هذه المرة.

*

مغامرة

مرة زرت منطقة بنيت فيها قصور، لا يسكنها أحد. البيوت كلها كانت ساطعة البياض وكانت شبابيكها الخضراء مغلقة بإحكام. وسط هذه المنطقة كان هناك ميدان نما عليه العشب. ووسط الميدان انتصبت كنيسةٌ ببرج نواقيس مرتفع، مدبب السطح. عقارب الساعة الكبيرة كانت تتحرك غير أنها لا تدقّ. أسفل البرج وقفت بقرة حمراء وقد انتفخت بطنها. إنها تقف هناك وتمضغ شبه نائمة. وكلما أشار عقرب الساعة إلى مرور ربع أو نصف ساعة أو ساعة كاملة صرخت البقرة: "آي لا تخافي!" ثم تواصل المضغ.

*

ماء

في الرمال الصفراء مشى رجل صغير. كان يتزحلق بين وقت وآخر. بدا كما لو أنه كان يمشي على أرض جامدة. غير أن ما كان يمشي عليه كان رملاً أصفر لسهل لا ينتهي.
بين وقت وآخر كان يقول: "ماء. ماء أزرق."، دون أن يعي لِم قال ذلك.
مر فارسٌ يرتدي ثوبًا أخضر ذا ثنايا على فرس أصفر يجري سريعًا.
الفارس الأخضر شد قوسه الأبيض المتين وأستدار مطلقًا السهم باتجاه الرجل الأحمر. صفير السهم كان شبيهًا بالبكاء وهدفه أن ينغرز في قلب الرجل الأحمر. غير أن الرجل الأحمر امسك به في آخر لحظة بيده ورماه إلى جنب. الفارس الأزرق ابتسم وانحنى على عنق فرسه واختفى بعيدًا.
الرجل الأحمر ازداد حجمًا وخطواته ازدادت قوة. قال "ماء أزرق".
واصل سيره في حين بدأت الرمال تتحول إلى تلال وكثبان. ومع كل خطوة وجد نفسه وسط تلال أكثر شدة وظلامًا وأكثر ارتفاعًا حتى تحولت صخورًا صلبة.
فأضطر أن يحشر نفسه وسط الصخور، حيث لا مجال للتوقف ولا للعودة من حيث أتى. وحين مر على صخرة مدببة ومرتفعة جدًا لاحظ أن الرجل الأبيض الذي كان يتربص فوقها يريد أن يسقط عليه صخرة بنية كبيرة.
غير أنه كان مضطرًا للسير في المضيق منتصبًا، وحالما أصبح تحت الصخرة، دفع الرجل من الأعلى الصخرة بكل ما يمتلك من قوة.

سقط الحجر على الرجل الأحمر. غير أنه أستقبله بكتفه الأيسر ورماه وراء ظهره. الرجل الأبيض فوق الصخرة ابتسم وهز رأسه برضى. الرجل الأحمر صار أكبر، يعني أطول. قال "ماء. ماء". الممر بين الصخور راح يتسع حتى تحول من جديد إلى كثبان واسعة تمتد في سهول منخفضة سرعان ما تختفي، كما لو أنها لم تكن هناك.
- وأنما هناك سهل تجدّد.

*

مائدة

كانت هناك مائدة طويلة. أوه طويلة طويلة. يمينًا ويسارًا حول هذه المائدة جلس عدد كبير من البشر البشر البشر.
أوه طويلاً، طويلاً جلس البشر حول هذه المائدة الطويلة.

*

نظرة

لماذا تتطلعُ نحوي من خلال الستارةِ البيضاء؟ لم أنادِك ولم أطلبُ منك أن تتطلع نحوي من خلال الستارة البيضاء. لماذا تخفي الستارةُ وجهَك عني؟ لماذا لا أرى وجهكَ وراء الستارة البيضاء؟ لا تتطلع نحوي من خلال الستارةِ البيضاء. لم أنادِك ولم أطلب منك شيئًا. من خلالِ أجفاني المغلقة أرى كيف تتطلعُ إليّ، إذ تتطلع إليّ من خلال الستارة البيضاء. سأسحب الستارة البيضاء جانبًا وأرى وجهك، وأنت لا ترى وجهي. لماذا لا أستطيع أن أسحب الستارة البيضاء جانبًا؟ لماذا تخفي الستارة البيضاء وجهك عني؟

*

في الغابة

الغابة ازدادت كثافة. والجذوع الحمراء أصبحت أكثر سمكًا. والقمم الخضر ازدادت ثقلاً. والهواء أشتد ظلامًا. الأدغال أزدهرت ونَمت. وأزداد عدد الفطر، حتى وجد المرء نفسه مضطرًا لأن يسحقها بقدميه. وازدادت صعوبة مواصلة السير بالنسبة للرجل، فحشر نفسه وسط الأحراش دون أن يتزحلق. غير أنه واصل السير وهو يكرر الجملة ذاتها:
الندوب الشافية.
الألوان المختارة.
على يساره خلفه تقريبًا تسير امرأة. وكلما انتهى من النطق بجملته تقول المرأة مشددة على حرف الدال
عمليٌ جِدددددًا.

*

تلال

كمية من التلال في كل الألوان التي يتصورها المرء. أحجامها مختلفة، غير أن أشكالها تكاد أن تكون متشابهة: متينة في الأسفل، منتفخة الأطراف، مسطحة ومستديرة عند القمة. هي إذا تلال بسيطة وعادية كما يتصورها المرء دون أن يراها.

وسط التلال هناك درب ضيق أبيض ببساطة، هذا يعني لا يميل للزرقة ولا للصفار. لا أزرق ولا أصفر.
في ثوب أسود طويل يغطي الأقدام أيضًا يسير في هذا الدرب رجل شاحب الوجه، غير أن خداه عليهما بقعتان حمراء. كذلك شفتاه حمراوان. يحمل على رقبته طبلاً يدق عليه. الرجل يسير بشكل مضحك جدًا.
أحيانًا يركض ويدق على الطبل دقات سريعة ومضطربة. وأحيانًا يسير بطيئًا، ربما غارقًا في التفكير، ويدق على الطبل دقات طويلة بطريقة ميكانيكية. واحد... واحد... واحد... واحد... أحيانًا يتوقف تمامًا عن السير ويدق على الطبل مثل الأرنب الأبيض ذو الفرو الرقيق الذي نحبه جميعًا. غير أن هذا لا يستمر طويلاً.
وها هو الآن يواصل السير ويدق بشكل غير منتظم وسريع على الطبل.
وها هو الآن يرتمي متعبًا هذا الرجل الأسود متمددًا على طوله في الدرب الأبيض بين التلال الكثيرة الألوان. طبله مرمي إلى جنبه وكذلك خشبتا التطبيل.
والآن هو سينهض. وسيواصل السير.
كل هذا رأيته من فوق وأرجوكم أن تنظروا إليه كذلك من فوق.

*

حقل متعدد الألوان

في حقل تنمو عليه أزهار متعددة الألوان بدلاً من العشب، جلس خمسة رجال جنبًا إلى جنب. على جنب منهم وقف رجل سادس.
قال الرجل الأول:
"السقف ثابت. ثابت السقف. ثابت"...
بعد وقت قال الثاني:
"لا تمسوني... أنا أعرق... أعرق... نعم!"
وقال الثالث:
"لا تعبروا الجدار!
لا تعبروا الجدار!
لا!"
أما الرابع فقال:
"فاكهة طازجة!"
بعد صمت طويل صرخ الخامس بصوت حاد:
"أوقظوه! افتحوا عينيه على سعتهما!
هناك صخرة تنحدر من الجبل.
صخرة. صخرة. صخرة. صخرة! من الجبل! إنها تنحدر إلى الأسفل. اجعلوا أذنيه فضوليتين!
افتحوا عينيه على سعتهما!
اطيلوا ساقيه! اجعلوها طويلة! طويلة. ساقيه!"
أما السادس الذي كان يقف على جنب فصرخ بقوة وبحدة: "أصمتوا!"

*

ستارة

الحبلُ انحدرَ نحو الأسفل و
الستارةُ ارتفعت إلى الأعلى.
هذه اللحظة كنا
ننتظرها جميعًا منذ وقت
طويل. الستارة صارت معلقة.
الستارة معلقة. معلقة نحو الأسفل. والآن أصبحت فوق.
حين اتجهت نحو الأعلى (أو كانت على وشك أن تتجه إلى أعلى)
سررنا جميعًا
سرورًا كبيرًا.

*

الزبد الأبيض

أود أن أعرف لماذا الأمر هكذا وليس على العكس. من الممكن أن يحصل العكس، العكس تمامًا. امرأة تركب جوادًا شديد السواد وتقوده عبر حقول خضراء منبسطة. لا أستطيع أن أرى نهايتها. المرأة ترتدي ثيابًا حمراء، ووجها مغطى بحجاب لونه أصفر مثل الكناري. المرأة تضرب الجواد بقسوة، غير أنه لا يستطيع أن يجري بسرعة أكبر. إنه يجري بكل الأحوال سريعًا ويزداد بياضًا من خلال الزبد الأبيض الساخن. المرأة تجلس منتصبة وتضرب الجواد الأسود. ألا تظنون أن من الأفضل أن يموت الجواد الأسود؟ أنه يزداد بياضًا بسبب الزبد الأبيض الساخن! غير أنه عاجز عن الموت. أوه لا! إنه لا يستطيع أن يموت. أليس من الممكن أن يحصل العكس، العكس تمامًا.

*

الرخو

كل واحد أستلقى على ظهر جواده، مما جعل المشهد قبيحًا ومبتذلاً. جميل، بل من المفضل أن يجلس طائر بدين على غصن نحيف ترتجف أوراقه الصغيرة. كل يمكن أن ينحني (ومن لا يستطيع ذلك سيتعلمه). هل يستطيع الكل أن يرى الأبراج المدببة؟ افتحوا الأبواب! أو سيهدم الشق في الجدار السقف!

*

البرج

رجل مفتول الشارب يرتدي سترة خضراء يستلقي على العشب الأخضر. لم يعجبني مطلقًا. المكان محاط بفطر أحمر. امرأة أتت من الغابة الخضراء: زرقاء كانت ومقرفة.
جَلَستْ قربَ الرجل فأختفى الفطر كله. زال.
الرجل نهض ومضى والمرأة إلى جانبه، سويةً مضيا من الغابة الخضراءِ نحو البيتِ الأحمر الكبير.
الباب الرمادية كانت مغلقة. البابُ لم تكنْ هناك.
المرأة دخلت. الرجل أيضًا دخل. في أعلى البرج غالبًا ما يقفان سوية: أمر مقرف.
الباب الرمادية مغلقة.

*

أرانين

وجه.
بُعد.
غيمة.
.....
.....
ثمة رجل يقف حاملاً سيفًا طويلاً. السيفُ طويلٌ وعريضٌ أيضًا. عريضٌ جدًا.
.....
إنه يسعى مرات عديدة للخداع ويجب أن أعترف: لقد تمكن من ذلك- الخداع. وربما مرات عديدة.
.....
.....
عيون. عيون. عيون... عيون.
.....
.....
امرأة نحيفة لم تعد شابة، تحمل حجابًا على رأسها، يغطي وجهها مثل درع ويلقي بظله على الوجه. المرأة تسحب وراءها عجلاً مازال صغيرًا وعاجزًا عن الوقوف على قدميه المعوجتين. أحيانًا يسير العجل وراءها راضيًا. وأحيانًا يتمرد. حينها تشد المرأة على الحبل. فيحني رأسه وتتصلب سيقانه. غير أن سيقانه ضعيفه والحبل لا ينقطع.
الحبل لا ينقطع.
......
......
عيون تنظر من بعيد.
الغيمة ترتفع.
......
......
الوجه.
البُعد.
الغيمة.
السيف.
الحبل.

*

لاحقًا

في عمق المرتفع سأعثر عليك. هناك حيث الصقيل يجرح. هناك حيث الحاد لا يشق. إنك تمسكين الخاتم في اليد اليمنى. لا أحد يرى القلادة. غير أن هذه الخواتم هي آخر حلقات القلادة.
البداية.
النهاية.

*

الثغرة

الرجلُ الصغير أرادَ أن يقطع
الجنزيرغير أنه بالطبع
لم يتمكن من ذلك. الرجل الكبير قطعه
بسهولةٍ كبيرة. الرجلُ الصغير
حاول أن يتسرب
من خلال الثغرة.
الرجل الكبير أمسك
بذراعه، وأنحنى عليه هامسًا
في أذنه:
"يجب أن نحتفظ بهذا السر." وضحكا
سوية من الأعماق.

*

قبل حلول الربيع

رجل رفع قبعته في الشارع. رأيت شعرًا
أسود وأبيض ثبت بالدهن يمينًا ويسارًا على جانبي مفرق الشعر. رجل آخر رفع قبعته. شاهدت صلعة كبيرة
وردية وملمعة بالزيت يسطع
عليها ضوء أزرق.
تطلع الرجلان في بعضهما وكشف أحدهما
للآخر عن أسنانه المعوجة المائلة إلى الصفرة
والمحشاة.

*

أغنية

رجل جالس
في الدائرة الضيقة
في الدائرة الضيقة
للمكان الضيق.
إنه فرح
لا أذنان له
ولا عينان.
الصدى الأحمر
لكرة الشمس
يمس آثاره.
ما تهاوى
سينهض من جديد.
وما لم يَنطق
سيصدح أغنية.
سيكون الرجل
لا أذنان له
وبلا عينين أيضًا.
الصدى الأحمر
لكرة الشمس
يتحسس آثاره.

*

قفص

كان ممزقًا. أمسكت طرفيه بيدي وحاولت أن أربطهما ببعض. كان هناك ما ينمو حولي بكثافة. غير أن كل هذا لم يكن مرئيًا. فكرت بأن لا شيء هناك. غير أني كنت عاجزًا عن السير قدمًا. كنت مثل ذبابة في صندوق مغلق.
يعني هذا هناك شيء لامرئي، غير أنك عاجز عن تجاوزه. كان فارغًا حتى. أمامي كانت هناك شجرة يتيمة، بل شجيرة. خضراء زرقاء مثل خضرة العفن. كثيفة مثل الحديد وصلبة أيضًا. على غصونها ثمة تفاحات صغيرة حمراء مثل الدم.
هذا كل شيء.

*

بعض الأشياء

سمكة تغطس عميقًا في الماء. لونها فضي. لون الماء أزرق. ألاحقها بعيني. السمكة تغطس أعمق. غير أني مازلت قادرًا على رؤيتها. ولم أعد قادرًا على رؤيتها. كنت قادرًا على رؤيتها، حين لم أعد أراها.
طبعًا طبعًا رأيت السمكة. رأيتها. رأيتها. رأيتها. ثمة جواد أبيض سيقانه مرتفعة يقف هادئًا. كانت السماء زرقاء. السيقان كانت مرتفعة. الجواد لم يتحرك من مكانه. عنقه كان منحنيًا إلى الأسفل وبلا حركة. الجواد يقف بسيقانه المرتفعة بلا حركة. غير أنه مازال حيًا. عضلات لا حركة فيها وجلد لا يرتجف. كان حيًا. طبعًا طبعًا كان حيًا.
في الحقل الواسع نمت زهرة. الزهرة كانت زرقاء. كانت زهرة في حقل واسع.
حقًا. حقًا. حقًا. كانت هناك.

*

تربة

التربة الثقيلة تنقلها مساح ثقيلة إلى العربات.
العربات امتلأت وأصبحت ثقيلة. البشر
يصرخون على الجياد.
بالسوط يحدثون ضجيجًا البشر. الجياد تسحب
بصعوبة العربات الثقيلة
التي فيها التربة الثقيلة.

ترجمها عن الألمانية: صالح كاظم

تقديم: عبد القادر الجنابي

*** *** ***

إيلاف. السبت 17 أكتوبر 2009

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود