المصيبة الأعظم!!

ميسون أسدي

 

لم أصدق "لطيفة" عندما قالت لي بأنها لا تستمع إلى نشرات الأخبار ولا تقرأ الأخبار في الصحف، منذ سنوات عديدة!!

- كيف ذلك وأنت أفضل من تحللين الواقع السياسي، وأنت التي كنت مدمنة على الأخبار؟!

لن أقول لكم ما كان الجواب الأول الذي سمعته من "لطيفة"، لكن سأروي قصتها بالتفصيل.

* * *

في إحدى العمارات، التي بناها أحد أثرياء مدينة حيفا العرب، تسكن ست عائلات، عرب ويهود وامرأة واحدة أرمنية، بعضهم مقابل إيجار شهري والبعض الآخر يمتلك البيت بعد أن اشتراه من مالكه الأصلي... العلاقة بين سكان العمارة ليست وطيدة.

منذ ثلاث سنوات، جاءت لطيفة وزوجها وسكنا في إحدى الشقق، وأصبحا الساكنين الشابين الوحيدين في عمارة تعج بالعجائز. ومثل بقية الجيران لم تتعد علاقتهما مع الجيران أكثر من "مرحبًا، مرحبًا". وعادة، عندما يسكن العرب في بناية مختلطة يبدأ اليهود بالانسحاب منها تدريجيًا.

يوم السبت، بالنسبة للطيفة، هو يوم الراحة والكسل، تقضيه مستلقية في الفراش، تقرأ الصحف أو تشاهد التلفزيون...

- من الطارق؟ سألت لطيفة بعد أن سمعت طرقًا على الباب... ثم سمعت صوت امرأة يتكلم بلكنة عربية غريبة: أنا جارتك الأرمنية "غولونيا".

فتحت لطيفة الباب وقالت: أهلا جارتنا. بماذا يمكنني مساعدتك؟

تحدثت "غولونيا" بتلعثم ممزوج بالبكاء المكتوم، وشفتاها مرتبكتان مرتجفتان، وجفناها مرتبطان إلى أعلى وكأنها صدمت بشيء لتوها: ابني مفقود منذ ثلاثة أيام... "شو هالمسخرة"... كيف خرج من المصحة دون علم المسؤولين؟ ساعديني ماما، أرجوك...

"يارم"، ابن الأرمنية، عمره خمسون عامًا، ولد بأعراض "المنغولي" مع تخلف عقلي، ويعيش في مؤسسة خاصة، ويعرفه الجيران جيدًا، لأنه كان يأتي مرارًا، ويقف تحت البيت ويبدأ بالصراخ ومناداة أمه بصوته الخشن القوي، حتى تفتح له الباب. وأمه مصابة بصمم ثقيل لا تسمع صراخه، ويستمر بالصراخ حتى يتدخل أحد الجيران ويطرق بابها بقوة.

لم تفهم لطيفة لماذا اختارتها "غولونيا" من بين كل الجيران؛ ألأنها شابة، أو لأنها عربية، أم لأنها تثق بها فعلاً!!

هذه هي المرة الأولى التي تطأ بها قدم الأرمنية بيت لطيفة. سقتها كوبًا من الماء، وعلمت منها أن ابنها عانى مؤخرًا من اضطرابات نفسية واجتماعية، بعد أن أغلق عليه أحد عمال المصحة - خطأ - باب المطبخ، ليبقى سجينًا ووحيدًا طوال الليل.

أسرعت لطيفة بالاتصال بالشرطة وبعض الأصدقاء، ثم دونت تفاصيل الابن وبعثت بصورة الأم وابنها للصحف تحت عنوان "أم تبحث عن ابنها"، وأبقت لطيفة رقم هاتفها الشخصي في ذلك الإعلان، آخذة بالاعتبار أن الأرمنية صماء ولن تجيب على الهاتف.

في اليوم التالي وبعد تدخل الصحافة والشرطة، تم العثور على جثة "يارم" ملقاة في حفرة قريبة من المؤسسة التي يقيم فيها، وكانت الشمس قد أحرقت جلده، ولم ينتبه إليه العاملون في المؤسسة، ولم يهتموا لنداء والدته المسنة.

صعدت لطيفة، مع جارتها العجوز اليهودية "استر" ورجال الشرطة، إلى بيت الأرمنية في الطابق العلوي، ليبلغوا الأرمنية خبر وفاة ابنها...

تسمرت لطيفة في مدخل البيت وهي تراقب كيف ستكون ردة فعل الأرمنية على هذا الخبر. المفاجأة أنها لم تبك، بل ضاقت ذرعًا وتعثرت في أذيالها، ثم صرخت وانتفضت عدة انتفاضات، اهتزت وخبطت بقدميها كطفل صغير، فضمتها "استر" وأخذت تخفف عنها.

شعرت لطيفة بأن هذه العجوز - من تصرفها ونظراتها - ليست حزينة من الفاجعة، بل حزينة لأنهم أعلموها بنتيجة التفتيش، وكأنها أرادت القول: كان أفضل لي بأن لا أعلم!!!

منذ تلك الحادثة توطدت علاقة لطيفة بالجارة الأرمنية، وأصبحت لطيفة تعاملها كأمها. أرفقت بها وأكرمتها غاية الإكرام، وتحولت إلى جدة حقيقية لأبنائها، ترعاهم أثناء غياب لطيفة وزوجها عن الدار، وساعدتها الأرمنية في أعمال المنزل، تطوي الغسيل، وتقطم الملوخية وتنقر الكوسا، وتصطحبها لطيفة معها في زيارات عائلية وتشاركها بالأفراح والأتراح، وكثيرًا ما أخذتها لطيفة بسيارتها لزيارة أصدقائها الأرمن المنتشرين في أرجاء البلاد، وكانت "غولونيا" تتربع على رأس مائدة العشاء والغداء عندما تستضيف لطيفة ضيوفها، وراقبت الأرمنية سيارة لطيفة من شرفة بيتها التي كانت تطل على الطريق العام، متى تذهب إلى عملها ومتى تعود، ومن يدخل إلى بيتها أو يخرج منه، واعتادت أن تتصل بها عشرات المرات خلال اليوم لتطلب أي مساعدة ضرورية وغير ضرورية، وكانت تنادي زوج لطيفة بالخواجا، وتحث لطيفة على معاملته كسيد، وترمق لطيفة بنظرات غضب إذا لبست تنوره قصيرة، وكانت إذا رأت أي امرأة في التلفزيون تلبس تنوره قصيرة، تزم شفتيها وتقول على مسمع من لطيفة: "شوفي هاي الوسخة كيف لبسها.. يا عيب الشوم".

وكانت تحضر الهدايا لها ولأبنائها وأحيانًا تنسى أنها جلبت هدية فتحضر هدية أخرى لنفس المناسبة. ولا تكتفي بذلك، بل كانت ترغم أبناءها وضيوفها الأرمن من خارج البلاد أن يأتوا بالهدايا للطيفة وعائلتها، وتحولت الأرمنية إلى ملاذ للطيفة بفرحها وحزنها.

وكانت هذه العجوز تدّعي دائمًا بأنها لا تعرف، حتى أنها كانت تجفل من كل أمر تصادفه، وتفعل ذلك بشكل مبالغ، وكل من يراها يجفل لجفلها!! وكانت لطيفة تكتشف، يومًا بعد يوم، أمورًا جديدة عنها وتستغرب أنها ذات ثقافة عالية، تجيد الكتابة والقراءة بأربع لغات: الأرمنية، العربية، العبرية والانجليزية... جابت دول العالم مع أولادها المقيمين في أوروبا وأمريكا، ولا زالت تتطوع في نادي الأرمن وتعلم اللغة الأرمنية للصغار، وتناصر كل ما هو أرمني وأحيانًا، عندما تتزوج فتاة أرمنية بشاب عربي، تسمعها لطيفة تقول بحسرة وحزن وعدم رضا: "معلش ماما... تزوجت ابن عرب".

احتارت لطيفة كثيرًا من أمر هذه العجوز، فهي أبية وعزيزة النفس، قليلة الكلام، ذات عيون فياضة بالحديث، وتستعمل بعض الكلمات العربية التي أكل عليها الدهر وشرب، وتتكلم العربية بطلاقة ولكن بلهجة مقبولة على السمع، وتسير على عكازها رافضة المساعدة حتى من أبنائها!!

بعد مضي أحد عشر عامًا على تعارفهما، هرمت الأرمنية وخارت قواها أكثر وزاد عجزها وشيبها أكثر وأكثر، لكنها بقيت ظريفة ولبيبة. وفي أحد أيام السبت سمعت لطيفة طرقًا على الباب...

- من الطارق؟

- أنا جارتك الأرمنية "غولونيا"...

فتحت لطيفة الباب وقالت: أهلا جارتنا... تفضلي...

قالت "غولونيا" بتلعثم، وهي مصفرة الوجه ويبدو عليها الغم والهم، وشفتاها ترتجفان، وجفناها معقودان إلى أعلى وكأن شيئًا ما صدمها للتو: ماما أنا مش مبسوطة... أنا مريضة... ساعديني...

أسرعت لطيفة واتصلت بأولادها، ثم نقلتها إلى المستشفى، والأرمنية تردد: لن آخذ عمري وعمر غيري... يا رب لا تعوزني لأحد...

عرفت لطيفة من نظرات الأرمنية، أنها تعرف بأن أيامها معدودة، ولكنها لا تريد أن يخبرها أحد بذلك. فتذكرت يوم تلقت خبر وفاة ابنها، وأخذت تفكر: كيف أنها تعرف وهي لا تريد أن تعرف. وفجأة علت على شفتي لطيفة ابتسامة وضحكت. حتى أن "غولونيا" أخذت تضحك معها دون أن تعرف سبب الضحك، ولم تسأل عنه.

كانت لطيفة تتذكر حادثة جرت بين ابنها وجارتها، حادثة لم تعرها اهتمام في حينه واعتبرتها مجرد نكتة. كان ابنها الكبير يقضي العطلة الصيفية، فسألته "غولونيا": متى ستعودون إلى المدرسة؟ فقال لها الفتى: يوم الأربعاء. فأعادت السؤال مرارًا، على اعتبار أنها لا تسمع جيدًا. وكان الفتى يعيد نفس الجواب. لكنه في النهاية بدّل إجابته وقال لها بصوت عال وبهدف التخلص من إلحاحها: سنعود إلى المدرسة غدًا. فقالت له الأرمنية: كيف غدًا وقبل قليل قلت يوم الأربعاء؟؟!!

اليوم فقط عرفت لطيفة أن "غولونيا" كانت تسمع جيدًا وبأنها كانت تدعي الصمم. هي لا تريد أن تعرف، فما عرفته بحياتها كان يكفيها، منذ الانتداب البريطاني وحتى اليوم. وتذكرت لطيفة إحدى الجمل التي قالتها "غولونيا" بلغة عربية صحيحة لكن بلكنة جميلة: "إذا كنت لا تدرين فتلك مصيبة وإذا كنت تدرين فالمصيبة أعظم"!

* * *

الجملة الأخيرة، كانت الإجابة على السؤال الذي طرحته على لطيفة في بداية حديثي...

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود