الإيرلندي سيموس هيني يصدر ديوان السلسلة البشرية بالانكليزية
الشاعر الطفل ملكًا دخيلاً يترنَّح على كرسي هزَّاز

رلى راشد

 

تنبسط على مدِّ النظر كليشيهات الكاتب، سالب أضواء المجد في نسخة مدينة دبلن. في وسعه أن يكون مجنونًا وهائلاً على نسق ييتس، أو غامضًا على شاكلة بيكيت، أو ضائعًا في غمامة الخمور على غرار فلان أوبراين، أو غائبًا بنمط جويس، وفي وسعنا المضي في التصنيفات إلى أبعد. قبل أعوام عدة، ألصق كلايف جيمس بالشاعر الإيرلندي سيموس هيني صفة "سيموس الشهير"، غير أن الأمر لم يتعد الدعابة السمجة، وفي الحد الأسخى نصف حقيقة لا ترتقي إلى تغطية تصوُّر هيني التام لنفسه. في قرارة ذاك الشاعر ما يفيض على الانتشار، بغض النظر عن سلطة التوزُّع وفضائله.

هيني هو محطُّ تمحُّص، وبإصرار عنيد منذ سنوات، غير أنه لا يزال ما يشابه اللغز على رغم جهده ليجعل "الشهير" يتراءى عاديًا. في مقدور ذاك الوجه الدائم اللباقة والانتباه والابتسامة، أن ينتقل إلى ضفة الجدِّية والانحباس العاطفي، وأن يحترف تأمل دواخله في لعبة فطرية، لكأنه ملك يترنَّح على كرسي هزَّاز. إنه الرجل عينه الذي نشر قصائده الأولى متدثرةً بشخصية "انسورتوس"، المرادف اللاتيني لـ"غير المؤكَّد". أراد لنا أن نتفهم تردُّده في الإفصاح، أن نعود إلى نشأته في إحدى المزارع حيث لم تحتسب سوى الموهبة في تحريك سيف أو محراث، فأي مكان يبقى للقلم؟ فضلاً عن مواجهة هيني إشكالية أن يكون المرء كاثوليكيًا في إيرلندا الشمالية ذات الغالبية البروتستانتية. على انصراف الأعوام وقدوم الاحتفاء، تأقلمت روح هيني الخفرة مع سموُّها لتبلغ حلقة الشعراء القابضين على تسبيح كان من رذاذه نوبل للآداب. لم يعِ هيني سوى الآن، في هذه السنِّ المتهالكة، أنه قنص جائزة الآداب السامية. خلال الوقت المستقطع المنصرم، غاص تحت سقف الامتياز- المرجع متغاضيًا عن وجودها حتى.

بعدما تجاوز عتبة الشيخوخة وأطبق على عامه السبعين، وعى الشاعر الإيرلندي استسلامه حتى الساعة لإيقاع إغلاقي جعله يقبع في مساحة علبة، فحاول المستحيل ليكسر جدرانها متممًا رزمة قصائد تنقلب على وضعه وترثيه، حتى ارتأى أن يسمِّيها السلسلة البشرية، أصدرها لدى دار "فرار، شتراوس & جيرو". ليس في حوزة سيموس هيني انفلات جنوني. جلَّ ما تملكه قصيدته استقاء وحي سرِّي من أحد ألغاز الأدب الكلاسيكي، وتحديدًا من شخصية ريغينالد دجيفز التخييلية. كان ليرغب فعلاً في أن يندسَّ تحت مسام ذاك الرجل مستخدم بيرتي ووستر في قصص الإنكليزي بي دجي ودهاوس القصيرة ورواياته، كمحاولة لفك رموز لغز حياته شاعرًا.

في المجموعة الأحدث السلسلة البشرية، يعود هيني طفلاً في عالم الحاجيات، تجرُّ انتباهه أغراض مألوفة، من قبيل أكياس الفحم، يدلِّل عليها على نحو شبه أخرس، ذلك أن القرائن على وجود العادي لا تزال تذهله تمامًا. تبقى عدسة هيني نظيفة ونضرة ومتمكِّنة، تحجِّر شخصيات إيرلندا العميقة. في القصائد الأخيرة حيطة وصفية ألفناها لديه، تأسر شيئية الأشياء بدقة، إلى جوار مقتطفات تنعم بغنائية هائلة على نسق "أغنيات نسكية". أما المجاز الجديد في شأن الثياب المستنفدة فيشدد على فكرة الجسد بوصفه غطاء إضافيًا يمكن نزعه بيسر. إنه ذروة التجاوز يعبر بنا إلى نمط جنائزي يحاور الانفصال والذاكرة كما في نصين جميلين يوجهان إلى الرسامة نانسي واين جونز ونظيرها كولين مايديلتون. يمكن عدُّ السلسلة البشرية كتاب الموتى الخاص بهيني، لحظة يتكوَّر على الحزن والفقد. يذكِّر المنزل حيث يعود الحيوان في القصيدة الافتتاحية بمقبرة لاذ بها والد هيني في شحرور غلانمور من مجموعته مقاطعة وحلقة (2006). حيث "سقف من الصلصال الواطئ"، بينما يرى هيني نفسه في مرثية المغني ديفيد هاموند عند عتبة منزل صديقه الميت يكتب:

شعرت للمرة الأولى حينذاك وهناك
أني غريب
دخيل تقريبًا، راغب في الطيران
بيد أني تيقَّنت أن هنا، ليس ثمة خطورة
هناك انسحاب فحسب، خواء غير مرحِّب
كما في حظيرة طائرات عند انتصاف الليل.

نعثر كذلك على ملاحظات عادية ومنمنمة منوطة بالتحولات الطبيعية:

ستحمل بشرتك فيما تذبل
علامات البثرات الرمادية الكئيبة
وحليب الهندباء الأبيض.

في حين يستوقفنا قوله في القصيدة عينها: "كان الباب مشرَّعًا والبيت مظلمًا". والحال، إن هيني يحظِّر على الغائب منَّة حياة ثانية في كنف الشعر، وإن يكن برهوية. عوضًا من ذلك يتأمل الصمت اللاحق للموت، وإنها لفكرة مذهلة أنه ينبغي للصمت أن يطوِّر أيضًا ذاتيًا حركية باطنية، وأن يترحل قبل أن يتقاعد في الشارع. بينما ترنُّ الغرابة فجة في عاطفتها كردِّ فعل على علاقة جديدة تقوم مع السكون، لينفلش السطر الأخير في مكان واعد في هذا السياق "في ميدان طيران متعاظم في أواخر الصيف".

تمسك بنا أيضًا ذكريات حنونة ومبجلة في قصيدة ألبوم حيث تأمل لصورة فوتوغرافية قديمة لوالدي هيني، يراهما بعينه الراشدة شخصين آخرين. الإيقاع الشعري ها هنا ساكن ويتملَّى التفاصيل وإن فاتته شرارة الألعاب النارية. تفيد ذاكرته المضطربة من الخسارات المتلاحقة، وقد يكون أشدها بعثًا للتأثر ربما، تقهقر والده الأيل إلى موته. تلك قصائد استدعاء لحياة صارت الآن سابقًا.

تصدر السلسة البشرية في توقيت ملائم، بعدما تجاوز هيني شقعًا من الزمن ويوشك على العبور إلى سواها في مزاج على قدر من التصوُّف، متأهبًا لتناول مسألة تقدم الشاعر في السن. يجد في ذاك المعبر فسحة إلى مزيد من وعي الذات، فيما يحتفظ بإلزام المواظبة على مفاجأة نفسه. ولأن ليس ثمة طريق مؤكدة ليوضِّب المباغتات، يغرق في انفعالات وسطية بين الهجس والشعور السليقي. ليس من حل ثالث مقترح. في الآونة الأخيرة منحه العمر سببًا إضافيًا ليفكر في المفاجآت الاستشرافية، مدَّه بتربيتة كتف، أو لنصفها بالمساندة المعنوية وإن جاءت على شكل مقيت.

في آب 2006 تعرَّض سيموس هيني في دونيغال لأزمة قلبية دفعها إلى مرائب النسيان وتغاضى عن الإشارة إليها علنًا. غير أن قصيدة المجموعة الاستهلالية لو لم أكن يقظًا، تحيي النوبة القلبية استعاريًا، وتجيء بإيقاع غير مسبوق من الشكِّ والهشاشة، في حين يتم في الأنماط الاستعادية حتى، نفث نماذج سادت في عمل هيني، من مثل التوازن والثبات والمثابرة، ضمن إدراك طارىء لحال اللاثبات. بوصلة القصائد منهكمة بالتواصل والانفصال في آن واحد، ويمكن إيجاد مبررات التركيز على الأمور الختامية في النوبة القلبية–التجربة، وهناك تاليًا إبراز لمعرفة مكتسبة حديثًا. تتعامل قصيدتا أعجوبة وأغنية المغامرة مع تبعات المحنة الجسدية المباشرة. تعدُّ أعجوبة وجه العملة الأول، إنها تحية ورعة إلى عمال الإغاثة الصحية واعتراف بدور "أولئك الذين عرفوه منذ البدء واصطحبوه معهم"، غير أنها أيضًا احتفاء موارب بجنود الإغاثة اليوميين المتأهبين لتدجين الوجع وتمتين السلسلة البشرية. ابان تلك الرحلة إلى المستشفى في ظهيرة يوم أحد، يقول هيني إنه كان لينجرُّ إلى اقتباس الشاعر البريطاني جون دوني غير أنه لم يكن في وضع مناسب ليقتبس أيًّا يكن. نبرة القصيدة الغالبة إرجاعية وهادئة لكأنها دوُّنت عند نقطة مراقبة في هضبة منخفضة الارتفاع.

تحين في المجموعة عناوين عدة شفوقة ومرحِّبة، بيد أن هيني لم يكن يومًا من اتباع المواساة المغشوشة. تذكِّرنا شانسون دافانتور (أي أغنية المغامرة) التي تستعين بالتعبير الفرنسي الأصلي، إشارة إلى نوع من شعر القرون الوسطى، بحنان محسود روَّضه هيني تكرارًا ليحكي زوجته. يروي كيف احتلت "مقعد الممرضة الخاوي في الزاوية" في سيارة الإسعاف وكيف "تحركت نظراتهما الخاطفة كخيوط شعاع لايزر".

هيني شاعر ريفي وتفكيري يتحرك بلا عناء بين الإنسان والتفصيل الطبيعي ليقع على الأمثولة في كل حاجة بسيطة. يسخر أسلوبه من شعر متبجِّح المقاربة، من طريق الراحة المتواضعة والمعبرة والرفق أيضًا. شعر هيني مبهج ربما لكنه غير مُسكر. في أنتيغونا، يتولى العرَّاف الضرير تيريزياس دلَّ كريون إلى أخطاء الطريق. لا يدعي هيني امتلاك سلطة تيريزياس، لكنه ينظر إلى الحاسة السادسة فينا جميعًا، إلى تلك القوة الحدسية التي تتربص بنا. يمنح هيني تيريزياس مهمة التعريف عن اللاواعي والاعتراف به، فيما يطارد أفعالنا، وتلك قدرة شعرية. ألقيت سلطة تيريزياس على الشاعر تاليًا، شاء أم أبى، غير أنه لم يشعر بثقلها. أقرَّ بها من خلال إحتوائها، لكأنها حزام أمان، من غير أن يجعلها مادة للإفصاح، وتلك من دون شك حجة هيني الأكثر قدرة. يحجم عن دلق الكلمات فيسمح لقصيدته بأن تفعل ما ينبغي لها من دون شطط. في مجموعة سلسلة بشرية المقدامة، يتنافس كل من الاستمرار والهدف على الصدارة. وككل مجموعات هيني، وفي رتل القطع الغنائية، تضيء إحداها الأخرى فيما تتضافر بهدف تنويري نهائي.

بدءًا من موت طبيعي (1966) إلى القول الشعري الراهن، تفيَّأت حسابات هيني الابتكارية وطوردت وحجِّمت أحيانًا بسبب حقبة الاضطرابات في إيرلندا الشمالية التي حلَّت العنصر المحوري في منطق هيني الإيرلندي الكاثوليكي المتحدر من الشمال. إذا كان ثمة مطرح للمعاناة الأخيرة عند هيني، فيمكن تحديدها في فسحة معينة في تروما إيرلندا الشمالية التاريخية والنفسانية. بيد أنه أراد لقصائده أن تطوف خارج كل التزام وصلات، وحاول أن يرفع سمة الشك إلى جوار الفن وأن ينقلها إلى غنائية الحياة اليومية، غير أنه ينبغي لنا الاعتراف بأنه قصَّر عن التجذيف في مياه الضفة الإيرلندية الشمالية الدموية. عند انبثاق مرحلة "الاضطرابات" فيها، أقام سيموس هيني في بلفاست حيث اعتاد شراء السمك ورقاقات البطاطا من محل يقع عند طرف منطقة يقطنها الملكيون. في إحدى الليالي تعرَّفت إليه عاملة لم تكن التقته قبلذاك، فبادرته: "رأيتك في البرنامج التلفزيوني في الأمس. ألست الشاعر الإيرلندي؟". لم يتسنَ لهيني النطق بإجابة عن أكثر التساؤلات المشحونة حنقًا في تلك الأنحاء، ذلك أن صاحبة المتجر استدارت لتصحِّح كلام مستخدمتها: "أنت مخطئة تمامًا. إنه أحدنا، مواطن بريطاني يقيم في أولستر"، لتواصل متوجهة إلى هيني: "سئمت هذه الحال بلا ريب، أن تضطر إلى سماع كلام مماثل، أن توصف بالشاعر الإيرلندي!".

عندما يقصُّ الحكاية، لا يتناسى الإقرار بجبن أمسك بلسانه فتلكأ عن تصويب الكلام. استعان هيني بأي حيلة كتابية ليتفادى الإجابة عن استفهامات مشابهة، غير أنه للمفارقة سيعاين ابن جلده دومًا. لن تجدي طفراته الموقفية للمحافظة على هوية مقطوعة الجذور، ولن تفلح أساليب الهروب إلى الأمام أيضًا.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود