السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟

 

محمود الزيباوي

 

استعاد الكثير من أهل الإخبار تاريخ الدول الإسلامية وسير خلفائها إثر سقوط بغداد في أيدي المغول عام 1258، ومنهم ابن الطقطقي الذي ألَّف كتابه الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية في الموصل، صيف 1302، وأهداه إلى واليها فخر الدين عيسى بن إبرهيم، وسماه "الفخري" نسبة إليه.

يتألف الفخري في الآداب السلطانية من فصلين متباينين. عرض ابن الطقطقي في الفصل الأول آراءه "فيما يجب للملك على رعيته وما يجب لهم عليه"، وتناول في الفصل الثاني أخبار الدول الإسلامية، وهي تباعًا دولة الخلفاء الراشدين، فالدولة الأموية، فالعباسية. في مقدمة حديثه عن خلفاء بني عباس، رأى المؤرخ أن دولتهم

كانت دولةً ذات خدع ودهاء وغدر، وكان قسم التحايل والمخادعة فيها أوفر من قسم القوة والشدة، خصوصًا في أواخرها، فإن المتأخرين منهم بطلوا قوة الشدة والنجدة وركنوا إلى الحيل والخدع.

بالرغم من ذلك، كانت هذه الدولة

كثيرة المحاسن، جمة المكارم، أسواق العلوم فيها قائمة، وبضائع الآداب فيها نافقة، وشعائر الدين فيها معظمة، والخيرات فيها دارة، والدنيا عامرة، والحرمات مرعية، والثغور محصنة، ومازالت على ذلك حتى كانت أواخرها، فانتشر الجبر، واضطرب الأمر، وانتقلت الدولة.

أسر المستعصم، مجمع التواريخ، القرن الخامس عشر، مجموعة صدر الدين آغا خان

يستعيد ابن الطقطقي تاريخ هذه الدولة التي "طالت حتى تجاوزت خمسمئة سنة" من خلال سير خلفائهم ووزرائهم، مقسِّمًا هذا التاريخ مرحلتين أساسيتين، هما مرحلة صعود الدولة وبلوغها العصر الذهبي في عصر الرشيد، ثم مرحلة تضعضعها وتشرذمها في زمن صعود الحرس التركي في الدولة، وسيطرته على جميع المناصب الإدارية والعسكرية، وقد بلغ هذا التشرذم ذروته في زمن خلفائها الأخيرين الذين "ضعفوا غاية الضعف حتى عصت تكريت عليهم". ظهر ضعف الدولة العباسية في عهد الخليفة المتوكل الذي اغتيل ليلاً في مجلس لهوه مع وزيره الفتح بن خاقان. يستعيد الراوي هذا الخبر "على سبيل الاختصار"، ونصُّه:

كانت بينه وبين ابنه المنتصر مباينة، وكان كل منهما يكره الآخر ويؤذيه. فاتفق المنتصر مع جماعة من الأمراء على قتله وقتل الفتح بن خاقان، وكان أكبر أمرائه وأفضلهم، فهجموا عليه وهو يشرب، فخبطوه بالسيوف، فقتلوه وقتلوا الفتح معه، وأشاعوا أن الفتح قتله فقتلناه به. وجلس ابنه على السرير بعده.

بويع المنتصر "في صبيحة الليلة التي قتل أبوه بها"، وكان "شهمًا فاتكًا سفاكًا للدم"، ولم يدم ملكه طويلاً، "فلم تتم ستة أشهر حتى مات". و"اجتمع الأمراء وأكابر المماليك وقالوا: متى ولينا أحدًا من ولد المتوكل طالبنا بدمه وأهلكنا. فأجمعوا على مبايعة المستعين، وقالوا: هو ابن ابن مولانا المعتصم، فإذا بايعناه لم تخرج الخلافة من ولد المعتصم. فبايعوه". كان المستعين "مستضعفًا في رأيه وعقله وتدبيره. وكانت أيامه كثيرة الفتن، ودولته شديدة الاضطراب، ولم يكن فيه من الخصال المحمودة إلا أنه كان كريمًا وهوبًا". وخُلع بعد خمس سنوات، ثم قُتل، وخلفه المعتز بالله، وهو أبو عبد الله محمد بن المتوكل، "ولم يكن بسيرته ورأيه وعقله بأس، إلا أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاؤوا أبقوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه". في أيامه "ظهر يعقوب بن الليث الصفار واستولى على فارس وجمع جموعًا كثيرة، ولم يقدر المعتز على مقاومته". ثار الأتراك على الخليفة، وطالبوه بالمال، فاعتذر وقال: "ليس في الخزائن شيء"، "فاتفقوا على خلعه وقتله"، و"هجموا عليه وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، ثم جعلوه في بيت وسدُّوا بابه حتى مات، بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه".

تشتت الخلافة

بعد المعتز، تولى الخلافة المهتدي بالله، وكان "من أحسن الخلفاء مذهبًا وأجملهم طريقةً وسيرةً وأظهرهم ورعًا وأكثرهم عبادة"، غير أن مصيره كان مشابها لمصير المعتز. بحسب ابن الطقطقي، قتل الخليقة "بعض الموالي فشغب عليه الأتراك، وهاجوا وأخذوه أسيرًا وعذَّبوه ليخلع نفسه فلم يفعل، فخلعوه هم ومات". وملك من بعده المعتمد على الله، غير أن السلطة الفعلية كانت بيد أخيه الموفق طلحة الناصر، فكان "للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بإمرة المؤمنين، ولأخيه طلحة الأمر والنهي وقود العساكر ومحاربة الأعداء ومرابطة الثغور وترتيب الوزراء والأمراء، وكان المعتمد مشغولاً عن ذلك بلذاته"، وبعد موته، آلت الخلافة لابن أخيه المعتضد، وكان "شهمًا عاقلاً فاضلاً حمدت سيرته، وُلِّيَ والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قيامًا مرضيًا حتى عمرت مملكته وكثرت الأموال وضُبطت الثغور". لم تدم هذه النهضة طويلاً. بعد رحيل المعتضد آلت الخلافة لابنه المقتدر بالله، وكان عمره ثلاث عشرة سنة، "فكانت دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم، وهو مشغول بلذته، فخربت الدنيا في أيامه وخلت بيوت الأموال". خُلع المقتدر، وبويع عبد الله بن المعتز غير أن خلافته لم تدم سوى يوم واحد إذ عاد المقتدر وقتله، ثم اندلعت الحرب بين الخليفة وأمير الجيوش مؤنس المظفر، وفي النهاية، قُتل المقتدر وحُمل رأسه إلى مؤنس المظفر، "ومكثت جثته مرمية على قارعة الطريق"، وملك من بعده أخوه القادر.

اغتيال المتوكل ووزيره الفتح في القصر الجعفري، جوامع الحكايات، 1439، المكتبة البريطانية، لندن

كان القادر "مهيبًا مقدامًا على سفك الدماء، أهوج محبًا لجمع الأموال، رديء السياسة"، فصادر أموال أم المقتدر، "وعذَّبها بصنوف عظيمة من الضرب والإهانة، واستخرج منها مئة وثلاثين ألف دينار، وبقيت بعد ذلك أيامًا قليلة وماتت حزنًا على ولدها ومما جرى عليها من العذاب". بدوره، خُلع القاهر على أيدي جنوده، وسُملت عيناه، "ثم حُبس في دار السلطنة ومكث في الحبس مدَّة، ثم أخرج منه عند تقلب الأحوال، وكان مرةً يُحبس ومرةً يُفرج عنه، فخرج يومًا ووقف بجامع المنصور يطلب الصدقة من الناس". بعد القاهر، آلت الخلافة لابن أخيه الراضي بالله، وكان "آخر خليفة دُوِّن له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير الملك، وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء ووصل إليه العلماء، وآخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين". في أيامه تشتتت دولة بني عباس، "فكانت فارس في يد علي بن بويه، والري وأصفهان والجبل في يد أخيه الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد ابن طغج، ثم في أيدي الفاطميين، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الأموي، وخراسان والبلاد الشرقية في يد نصر بن أحمد الساماني".

حروب وفتن

خلف المتقي لله أخاه الراضي، وفي أيامه جرت حروب وفتن، و"نُهبت دار الخلافة وأُخِذ ما كان بها". سيطر على أمور الخليقة رجل يقال له توزون، وهو من أمراء الديلم في شمال الهضبة الإيرانية، "فهرب المتقي ومعه ابنه وأهله إلى الموصل خوفًا على نفسه من حرب ببغداد"، غير أن توزون عاد وخدعه وأقنعه بالعودة إلى بغداد، "ثم قبض عليه وسمل عينيه وخلعه وبايع المستكفي". مثل المتقي، خُلع المستكفي "ونُهبت داره وسُملت عيناه"، وظلَّ سجينًا في دار السلطنة حتى وفاته، وخلفه المطيع لله بن المقتدر الذي أُصيب بالفالج، فدُعي "إلى خلع نفسه ومبايعة ولده الطائع، ففعل ذلك وعقد الأمر لولده".

في أيام الطائع لأمر الله، "قويت شوكة آل بويه"، "وانتشر حكمهم، فخلعوا الخليفة، وبويع بعده للقادر، وكان من أفاضل خلفاء بني عباس، وفي عهده استعادت الدولة شيئًا من رونقها، وملك من بعده ابنه أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله، وزاد به وقار الدولة ونمت قوتها، وفي أيامه انقرضت دولة بني بويه وظهرت دولة بني سلجوق"، وقد استولت هذه الدولة على الخلافة، "وخُطب لها على المنابر، وضُربت أسماء ملوكها على الدرهم والدينار". بعد المقتدي، جلس على كرسي الخلافة ابنه المستظهر بالله أبو العباس أحمد، و"في أيامه تفاقم حال الباطنية واستولوا على المعاقل والحصون بخراسان".

هولاكو يأمر بأسر المستعصم، كتاب الروائع، القرن الخامس عشر، المكتبة الوطنية، باريس

بانقضاء أيام المستظهر لله، بويع ابنه المسترشد، وكانت نهايته على يد جماعة من الباطنية في مخيمه، قرب مراغة. وملك من بعده ابنه الراشد بالله، ولم يدم حكمه طويلاً، إذ خُلع، ثم اغتيل على يد جماعة من الملاحدة عند باب أصفهان، وملك من بعده عمه المقتفي لأمر الله. جرت في أيام المقتفي "فتن وحروب بينه وبين سلاطين العجم، كانت الغلبة فيها له. وثار في أيامه العيَّارون والمفسدون، فنهض بقمعهم أتم نهوض". وملك من بعده ابنه المستنجد بالله الذي قضى "مخنوقًا في الحمام" على يد أكابر دولته، وخلفه ابنه المستضيء بأمر الله، فقضى على المدعو "ابن البلدي"، وزير أبيه، وشهد نهاية الدولة الفاطمية في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي. خلفه ابنه الناصر لدين الله، وكان "من أفاضل الخلفاء وأعيانهم، بصيرًا بالأمور، مجربًا سائسًا مهيبًا مقدامًا عارفًا شجاعًا"، حاول إعادة الخلافة إلى ما كانت عليه في عصرها الأول، وطال حكمه من عام 1180 إلى عام 1225، وتولى الخلافة من بعده الظاهر بأمر الله الذي حكم ما يقارب السنة، ثم خلفه ابنه المستنصر بالله.

كان المستنصر بحسب ابن الطقطقي "شهمًا جوادًا يباري الريح كرمًا وجودًا، وكانت هباته وعطاياه أشهر من أن يدل عليها وأعظم من أن تُحصى، ولو قيل إنه لم يكن في خلفاء بني العباس مثله لصدق القائل". حكم في بغداد حتى وفاته عام 1242، وملك بعده ولده أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله، آخر الخلفاء العباسيين: "كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعًا فيه، غير مهيب في النفوس ولا مطلع على حقائق الأمور. وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرج على المساخر، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسًا ليس فيه كبير فائدة. وكان أصحابه مستولين عليه، وكلهم جهَّال من أرذال العوام إلا وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي، فإنه كان من أعيان الناس وعقلاء الرجال، وكان مكفوف اليد مردود القول، يترقب العزل والقبض".

في آخر أيام المستعصم، "قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو، فلم يحرِّك ذلك منه عزمًا ولا نبه منه همةً ولا أحدث عنده همًا، وكان كلما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك". دخل المغول بغداد في شتاء 1258، وأمر سلطانهم هولاكو "بخروج الخليفة وولده ونسائه إليه، فخرجوا". لا ينقل ابن الطقطقي هنا أي تفاصيل مثيرة، ويكتفي بنقل خبر معاتبة السلطان وتوبيخه الخليفة "بما معناه نسبة العجز والتفريط والغفول إليه"، ثم يؤكد "استشهاد المستعصم" فحسب، من دون أن يحدد كيف تمَّ استشهاده، معلنًا نهاية مملكة العباسيين على يد دولة هولاكو القاهرة، والعجيب أنه إذ يذكر هذه الدولة يدعو لها ويقول: "نشر الله إحسانها وأعلى شأنها".

زمن هولاكو

يخبرنا الراوي أن "السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة محا أثر بني العباس كل المحو، وغيَّر جميع قواعدهم، حتى إن الذي كان يتلفظ باسم بني العباس كان على خطر من ذلك". جمع الحاكم الجديد بعضًا من خدم الخليفة المخلوع، وكان عليهم "زي دار الخلافة"، وقال لهم: أنتم كنتم قبل هذا للخليفة، وأنتم اليوم لي، فينبغي أنكم تخدمون خدمةً جيدة بنصيحة، وتزيلون من قلوبكم اسم الخليفة، فذاك شيء كان ومضى، وإن آثرتم تغيير الزي والدخول في زينا كان أصلح". فقالوا: "السمع والطاعة"، ثم غيَّروا زيِّهم ودخلوا في زيِّ المغول.

ينقل صاحب الفخري في الآداب السلطانية رواية أخرى لا تقل إثارة، وفيها أن هولاكو لما فتح بغداد

أمر أن يستفتى العلماء أيما أفضل: السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ ثم جمع العلماء بالمستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا (أي الفتوى) أحجموا عن الجواب، وكان رضي الدين علي بن طاووس حاضرًا هذا المجلس، وكان مقدمًا محترمًا، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا ووضع خطَّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده.

قلنا إن ابن الطقطقي أهدى كتابه إلى فخر الدين عيسى بن ابرهيم بن هبة الله النصراني، والي الموصل في عهد السلطان غازان محمود. بعد فترة وجيزة، قضى الملك المنصور نجم الدين غازي على عيسى بن ابرهيم لمّا وُلي الموصل، "وقطَّعه إربًا إربًا" كما نقل ابن الفوطي في مجمع الآداب في معجم الألقاب.

*** *** ***

النهار

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود