الفرنسي لوران غوديه الحائز "غونكور" قبل ستة أعوام في لقاء مع النهار:
محاولة إدراك ماذا يعني أن يكون المرء إنسانًا لمسألة شائقة حقًا
أفتقر إلى التأكيدات والرواية مطرح البحث والاستفهام وليس اليقين

لوران غوديه

 

يقابل لوران غوديه من طريق قدرة درامية وأبهة لغوية، حاضنات الشغف الإنساني، فضلاً عن الإنجازات والنزوات. هذا الكاتب الفرنسي يسلخ المرء من علب الأحلام لجعله يجتاز الظلمات ويدوس فوضى العالم، في لحظة انكشافه لنفسه، في توكيد لحريته المتفاخرة وحبه وشجاعته ونزعاته الدموية الباطنية وبخسه المستتر. يفضل لوران غوديه بلا ريب وعلى ما يتراءى، تعرية الإنسان في برهات محددة، على الحقيقة الإنسانية البسيطة المنبعثة من تداخل الأكاذيب المجيدة وفق مالارميه، حيث تقصف مرجعيته فيترك مفتقرًا إلى عكَّاز معلَّقًا في الهواء، أكان ذلك يعني أن ينجرف في وسط إعصار أم في هدير الحرب أم في بؤس الهجرة. فاجأ أهلُ بيروت لوران غوديه لمعرفتهم العميقة بشؤون الحياة، على ما أسرَّ لنا، فيما تركته المدينة مذهولاً بجانبها "الكوزموبوليتي" المعولَم قبل العولمة الرسمية، كما أضاف قبيل محادثة جمعتنا به وتمحورت على الأدب وشجونه إبان "معرض الكتاب الفرنكوفوني" في بيروت الذي أقفل بوابة نسخته السابعة عشرة قبل أيام.

ر. ر.

***

رلى راشد: جرى تكريسك الأدبي رويدًا. حزت جائزة "غونكور" للطلاب في 2002 بفضل موت الملك تسونغور لتنال بعد عام جائزة أصحاب المكتبات عن الكتاب عينه، ثم "غونكور" عن شمس آل سكورتا في 2004. عند حصولك على هذا التكريم الأدبي، وجه النقَّاد تحية إلى المحكِّمين ذلك أنهم لم يختاروا تتويج كاتب "نخبوي للجميع" أو "شعبي للبعض" وإنما رواية شعبية حقيقية حيَّاها النقاد واحتفى بها الجمهور ودعمها أصحاب المكتبات. هل يفيد هذا التأطير لتحدٍّ ثلاثي انطوت عليه حكاية تسرد قدر أسرة من منطقة بوغليا من 1870 إلى الراهن؟

لوران غوديه: اعتبر جائزة "غونكور" هدية جميلة جدًا، سررت بها كثيرًا ولا يصدمني استخدام مصطلح "رواية شعبية" البتة عند الإشارة إلى مؤلَّفي. أؤكد لك أنه لا يزعجني ذلك البتة، إذا كان يعني الالتزام العميق للنوعية. أتحدَّر من المسرح حيث وضعت أول لبنة في مساري الكتابي، علمًا أنه برز خلال القرن المنصرم في فرنسا، مسرحيون كثر منحوا تعريفًا لافتًا للمسرح الشعبي. إذا تمت مقاربة مصطلح "رواية شعبية"، في ما يعني شمس آل سكورتا، بالمنطق عينه، أي بغية القول إنها عمل شعبي من حيث قدرته على أن يتقاسم فحواه مع الجميع، فهذا يلائمني تمامًا.

ر. ر.: ماذا عن التلاصق بين الكاتب والقارئ؟ تحضرني إشارة الفيلسوف الإسباني ميغال دي اونامونو في بحثه كيف تتشكَّل الرواية إلى أن "كل قارئ يهتم كيف تنتهي الشخصيات التي يتعرَّف إليها من دون أن يهتم بمعرفة كيف ينتهي، هو لا يستحق أن نلبِّي فضوله". هل يسهل العثور على هذا الطراز من القراء في رأيك؟

ل. غ.: يصيب دي اونامونو تمامًا في ما يقوله. أظنُّ الناس لا يعون هذه السمة للقراءة، أي أن السواد الأعظم منهم يقاربون كتابًا معينًا على نحو تلقائي، في حين يقوم بتبديلهم من دون أن يعوا ذلك، وهنا تكمن قدرة المؤلَّفات تحديدًا. ذلك أنها تترك في المرء رواسب لا يتنبَّه لها في اللحظة عينها، بيد أنه، بعد أسبوع أو اثنين أو ربما أكثر، يتذكَّر شخصية معينة أو يشعر أن وجهة نظره في ما يخص مسألة محددة على صلة بالعالم أو الإنسان، قد تغيرت فعلاً. إن الشكل المثالي في هذا السياق هو النجاح في جعل القارئ يغوص في الحكاية وأن نتمكَّن من مدِّه بالرغبة في اللحاق بالنماذج التخييلية في حين يدرك أنه وفي المسار عينه، آيل إلى التبدُّل شخصيًا أيضًا. غير أني لا أعتقد أن ذلك يجري في معظم الأحيان على نحو واع، وإنما بشكل باطني وداخلي وغير ظاهر.

ر. ر.: روايتك السادسة إعصار، تستعيد الكارثة التي ضربت نيو اورليانز الاميركية من دون أن تسمِّيها. عند دنو الإعصار يبتعد بعض سكان المدينة المهدَّدة في حين يمكث آخرون ليواجهوا غضب السماء، ومن ضمن هؤلاء سيدة تتحدَّث بلسانها لتكتب "أنا جوزيفين لينك ستيلسون زنجية منذ نحو مئة عام، فتحتُ نافذتي هذا الصباح فيما لا يزال الآخرون نائمين، تنشَّقت الهواء وقلتُ ثمة رائحة عاصفة مقبلة". من طريق تلك السيدة الحاملة لذاكرة الافرو أميركيين، يتراءى بحثك في المكتوب عن نقل لنمط شفوي وهو إحدى سمات أبناء العرق الأسود. كيف وفقت في تحدٍّ مماثل، أي أن تصوغ الشفوي مع المحافظة على الإيقاع والموسيقى؟

ل. غ.: أنت على حق في اعتبارها مفارقة، بيد أني أهتم بها كثيرًا ربما لأني كما أخبرتُك سابقًا، قادم من المسرح حيث تتم كتابة نص يصلح للصوت البشري، ذلك أنه موجَّه إلى مؤدٍّ يتعيَّن عليه أن يتلوه. لهذا السبب نقوم في نطاق المسرح بتثبيت الأفكار من خلال أداة الكتابة، وإنما مع ترك فسحة للصوت والشفوية. تأسَّست في المسرح حيث كانت بداياتي، وأظنني أحاول في الروايات أيضًا أن أفسح للشفوية. يروقني هذا الشدُّ بين النمطين، يروقني أن يتكلَّم شخوصي وهذا ما يفعلونه في معظم الأحيان، والحال أن جوزيفين تتكلَّم، بل وتثرثر! تقصُّ نفسها وتتوجه إلى العالم بأسره كذلك. في المقتطف الذي قرأته، نجد على مستوى علم التركيب وفي الموسيقى شيئًا من الشفوية. أهوى استخدام الشفوية لأنها تجنح في معظم الأحيان صوب الملحمة كما عندما تقول جوزيفين "أنا جوزيفين لينك ستيلسون"، لا يتحدث أحدهم على هذا النسق في الحياة اليومية، لا يمكن أن أقول "أنا لوران غوديه...". أتمتع جدًا بالانزلاق صوب الحسِّ الملحمي.

ر. ر.: الحديث عن النفس يمكن أن يبلغ قيمة الشهادة أو الاعتراف او الإقرار بالأسرار، فماذا عن جعل الآخرين يتحدَّثون خصوصًا عن آخرين قريبين منا كرونولوجيًا ولم تسنح الفرصة لأخذ مسافة منهم أو إعادة اختراعهم؟

ل. غ.: أجد سعادة مطلقة في ميدان الكتابة عندما أحاول أن أجعل أشخاصًا يتكلمون، لست منهم ولن أكونهم يومًا. لن أصير يومًا سيدة أو من سليلي العرق الأسود، غير أني أسعى من خلال الكتابة إلى أن أنسج حالاً من التعاطف مع هذه الحقائق النائية عني. إنه الجانب المذهل والساحر في الكتابة والقراءة على السواء. ذلك أن القارئ عندما يتسلَّل إلى قدر بعض الشخوص من طريق مقطع محدد، يروح يتقاسم مع الشخصية المتخيَّلة مشاعر وتجارب لم يختبرها في حياته الخاصة، في حين يسعه من خلال النص أن يدنو منها. هنا يكمن جمال الأدب، ذلك أنه السبيل إلى جعل حيواتنا أكثر ثراء.

ر. ر.: تتحرّك روايتك إلدورادو المتمحورة على الهجرة غير الشرعية صوب أوروبا، كما اعصار في الزمن المعاصر، في حين تصطحبنا موت الملك تسونغور إلى العصور القديمة. يجمع النفس الملحمي بين هذه الروايات فيما مبرِّرها الهجرة أو الحرب أو الإعصار. هل تعد الظواهر القاهرة منظورًا يسهِّل فهم الإنسان، على نسق مرافقة مفهوم الوباء التراجيديات الإغريقية وتلقفه في موت في البندقية لتوماس مان إلى حين صار مرض الإيدز يغذِّي الأدب راهنًا؟

ل. غ.: ثمة قاسم مشترك بين تلك الروايات وإن اختلف زمنها، ذلك أن الحرب والإعصار والهجرة تتقاطع عند قدرتها على جعل الإنسان ينجرف إلى لحظة تسلبه من حياته اليومية لأنه يفقد مهنته وجلَّ ما حاول انجازه إلى الساعة، ويخرج من رتابة اليومي ويضيِّع المرجعية. ففي حين يتم اختزال كل الكماليات، لا يبقى سوى ثلة أمور أساسية كالخوف والرغبة في البقاء على قيد الحياة والأخوَّة وسواها، وتلك موضوعات تلفتني فعلاً. أقرُّ بأني أجد صعوبة في قصِّ حكايات مغمسة بالتفاصيل الرتيبة المتكرِّرة، كأن أسرد أقدار مهندسين أو أطباء. أعجز عن ذلك فعلاً. يروقني إلقاء الإنسان في إطار غير اعتيادي من قبيل الهجرة، حيث يغدو لا أحدًا، بدءًا من برهة الرحيل. يسمح ذلك بأن أعرِّي الشخصية لتحتفظ بالأساسي فحسب. يسهِّل هذا الوضع تمامًا إنطلاق الملحمة، ذلك أن جميع الشخوص يصيرون عندئذ مرغمين على الانخراط في بحث تأسيسي.

                  

ر. ر.: شكَّل إعصار "كاترينا" الحجة الآنية لروايتك الأخيرة وهو حدث تداولته وسائل الإعلام عبر العالم في حين استندت في إلدورادو إلى قصاصات صحافية من عامي 1999 و2000. تداخل الصور هل يحفِّز السرد، هل يمكن الصورة أن تيسِّر استراق النظر إلى جغرافيا باعثة للقصِّ؟ في السياق عينه هل يمكن الإلهام أن يستسلم أمام الذكرى؟

ل. غ.: يروقني كثيرًا أن أشتغل بدءًا من الصور الفوتوغرافية، أحب الصور للغاية. والحال أني أبحث عن عدد وافر منها قبل الانكباب على الكتابة في شأن محدَّد. تمنحني الوثائق المرئية، خصوصًا تلك التي تبيِّن ملامح الوجه، سبيلاً إلى الانغماس في فعل التقرُّب العاطفي من ثيمة اتناولها. بعدذاك، يحين زمن الاشتغال العميق حيث أسعى خلال عملية الكتابة إلى إضافة قسط مني، فأغرف على هذا النحو من ذكرياتي ومن تجربتي. لا يستثني هذا تناولي موضوعات نائية عني، كالاهتمام بإعصار يجري في لويزيانا فيما أنا فرنسي. يتداخل الشقَّان في المحصلة إذًا. يستوقفني الشكل المرئي، وهذا واقع أقرُّ به.

ر. ر.: تقبل أن تصنَّف روايتك إلدورادو إنسانوية بمعنى التعاطف مع الشؤون البعيدة، لكن هل تدعو الرواية كنوع، إلى التفسير أو البحث؟ أفكِّر في "ايل كيخوتي" الخارج للقاء العالم، ليتبدى له لغزًا. أليس هذا إرث باكورة الروايات الأوروبية المعاصرة لتاريخ الرواية المقبل؟

ل. غ.: لا شك في أن البحث هو أساس النوع الروائي وليس تقديم الشرح. ذلك أن أي توجُّه من هذا الطراز يلمِّح إلى أن الكاتب بنى على نحو مسبق نظرته إزاء العالم وصار قادرًا على الكشف عنها تاليًا. في حين لا أتعرَّف البتة إلى نفسي في هذا الوصف، ذلك أني أشكِّك في أمور جمَّة إلى درجة أني لا أملك تأكيدات، والرواية في كل حال ليست مكان اليقين. إنها السمة التي تفصل بين الرواية والفلسفة حيث يجري في مرحلة أولى تشييد نظام يجري تشاركه مع الآخرين في مرحلة لاحقة. ليست الرواية كذلك، إنها مطرح البحث والاستفهام، ذلك أنهما المحور على اختلاف الموضوع والمكان واللحظة التاريخية. نستفهم ككتَّاب، من طريق المؤلفات، نرغب في إدراك تشعب المشاعر والأوضاع والتجارب الإنسانية. أظن أن محاولة إدراك ماذا يعني أن يكون المرء إنسانًا لمسألة شائقة حقًا.

ر. ر.: في مقدمة حكايتك الميتافيزيقية المنطوية على فانتازيا أيضًا بعنوان باب الجحيم، تكتب: "أنجزت هذا الكتاب كرمى أمواتي... علَّه يسلِّيهم. إن ما تمت كتابته ههنا حيٌّ هناك". نعثر مجددًا على ثيمة عزيزة على الساردين الإغريق: الجحيم معطوفة على الرؤى الكابوسية للمعاناة المطلقة. تدلِّل على تواصل محتمل بين عالم الأحياء وعالم الأموات. هل ترى أن ثمة وجودًا للأموات يختلف عن ذلك الذي يسعنا تخيُّله نيابة عنهم؟

ل. غ.: أجيبك على نحو شخصي جدًا. أنا ملحد ولا أؤمن بالحياة الأخرى، أي تلك اللاحقة للموت، بيد أن ذلك لا يثنيني عن الإيمان العميق بوجود صلة بين عالمي الأموات والأحياء. أما السبب فبسيط جدًا. عندما نفقد أشخاصًا نحبهم، لا يمكن سوى أن نعي هذا الرابط مباشرة. ذلك أننا لا نقوى على إغفال التفكير فيهم مرات عدة في اليوم، وهذا ما يجري لي عمليًا. تدلُّ هذه الحال التواصلية أنهم موجودن فيَّ. في المقابل، عندما نفقد أشخاصًا كنا متعلِّقين بهم وكانوا قريبين منا، فإنهم يحملون معهم جزءًا منا أيضًا. أنا مقتنع بهذه الأفكار إلى أقصى حدٍّ وهي تأتيني بالبرهان على أن ثمة صلة بين هذين العالمين. أحمل فيَّ قسطًا من أمواتي، فيما يصطحبون معهم فتاتًا مني. يا للأسف، لا يسعني أن أعلن أن ثمة جسرًا بين العالمين نظرًا إلى افتقاري إلى الإيمان، في حين أعتقد أن هذا الجسر ماثل عبر الذاكرة بلا شك. أتحدَّث هنا عن ذاكرة الأحياء الذين يحتفظون بحضور أمواتهم.

***

مقتطف من: إعصار

أنا جوزيفين لينك ستيلسون زنجية منذ نحو مئة عام، فتحتُ نافذتي هذا الصباح فيما لا يزال الآخرون نائمين، تنشَّقت الهواء وقلتُ ثمة رائحة عاصفة قادمة. يعي الله أني شهدت على عواصف صغيرة وأخرى آثمة، غير أن هذه ستتجاوز الأخريات، إنها كلبة حقيقية، لن تلبث أن تجعل المستنقعات تهذر كبقع المياه عند اقتراب القطار. سيحدث ذلك قبل إعلانه على شاشة التلفزيون، قبل أن يروح البيض يحركون أقفاءهم البيض ليخبرونا نحن الزنجيات العجائز المنهكات كيف ينبغي لنا أن نتصرَّف. مططت شفتيَّ عندئذ، شفتي فمي الجعدتين لأنهما لم تقبلا أحدهم منذ زمن طويل. تندَّمت لأن مارلي تركني أرملة وإلا لكنت دعوته ليسكب لكلينا كأسي شراب، وإن في الصباح، بغية أن نستمتع بلحظاتنا الأخيرة، قبل أن تغمرنا العاصفة. فكرت في أولادي الذين ماتوا قبلي، وتساءلت مثل ألف مرة في السابق، لماذا لم يسأم الربُّ من رؤيتي أجرجر هيكلي العظمي من صباح إلى آخر؟ زررتُ آخر زرِّين في فستاني وبدأت نهاري الشبيه بجميع النهارات المنصرمة. غادرت غرفتي ببطء، ذلك أن ساقيَّ باتتا بلا فائدة متصلبتين كالخشب العتيق، توجهت صوب المدخل ومشيت حتى محطة الباص.

أنا جوزيفين لينك ستيلسون زنجية منذ نحو مئة عام، استقل الباص كل صباح ولا يمكن سوى حمَّى المستنقعات، إحدى تلك التي يمكنها جعل البطن يلتوي وتتركك تتعرق حتى ثنيات الردفين، أن تثنيني عن فعل ذلك. استقل أولاً الباص المتجه إلى كانال ستريت، الباص البائس الذي يجتاز حي لويير نينث وارد حيث نتكدَّس منذ أعوام عدة في منازل بنيت من ألواح خشبية أربعة. استقل الباص الصدئ والتعس، لأنه الوحيد يقلنا نحن الزنوج أصحاب الأيادي المتأكلة والنظرات المتعبة إلى وسط المدينة. اصعد إلى متن الباص حيث تصدر علبة تبديل السرعات صوتًا يشبه ذاك المنبعث من الطناجر، غير أني لا ألبث أن أترجل منه، بعد ست محطات فحسب. يمكنه أن يقودني إلى كانال ستريت غير أني لا أرغب في اجتياز الأحياء الجميلة على متن هذه المركبة. أترجل منها ما إن تفسح أكواخ لويير نينث الصغيرة لمنازل وسط المدينة بطبقيتها والشرفة والحديقة أيضًا، أتمهَّل قليلاً وأنتظر الباص الآخر، باص الأثرياء. استيقظ في ساعة مبكرة لأستقله تحديدًا. يروقني أن أجول المدينة وأنا على متنه، على متن باص للبيض ينظرون إليَّ بريبة ما إن يروني لأنهم يدركون مباشرة أني لست من أبناء لويير نينث. إنه الباص الذي أريد، استيقظ مبكرة لأني أرغب في أن يكون مكتظًا عندما أستقله، يروقني أن أرى قبالتي جميع أولئك الذاهبين للعمل إلى حد الانهاك، جالسين في صفين شاحبين قليلاً. استوي في مقعدي. أفعل ذلك وأنا مبتسمة دومًا، وإن لم يعجب ذلك الشبان ينظرون إليَّ متسائلين عن السبب في أن تستقل كومة لحم عتيقة مثلي الباص في الصباح المبكر. غير أنهم في الواقع لا يهتمون لهذه الأمور فعلاً، ذلك أن السواد الأعظم منهم لا يكترث البتة بهذه المسألة كما لكل شيء. أما أنا فأفعل ما أفعله لأني اكتسبت الحق في ذلك، ولأني أريد الموت بعد أن أكون صرفت أيامًا عدة جالسة في مقدمة الباص، تزيد على تلك التي أمضيتها في القسم الخلفي منه، منكِّسة الرأس كأني حيوان خجل. أقوم بذلك عمدًا وأتمتع بتصرفي أكثر عندما يصادف وجود عجائز من العرق الأبيض. عندئذ أتمهل فعلاً. أعلم أنهم، وعلى الرغم من ادعائهم عدم الاكتراث، لا يسعهم سوى أن يتذكَّروا زمنًا، ليس بعيدًا، حيث لم يكن ثمة إمكان أن تضايقهم رائحتي الزنجية في هذه الساعة المبكرة. تراودني الفكرة عينها أيضًا فنتحدُّ بخواطرنا على الرغم من تنبُّه كل منا إلى عدم إظهار أي إمارة على ما يراوده. نحن متحدون أو على الأصح نقف وجهًا إلى وجه، وأنا أفوز في كل مرة. أجلس في أقرب مكان منهم وأترك قفاي، في حال استطعت، يستريح على قطعة من قماش سترتهم، لكي يضطروا إلى سحبها ويزداد انزعاجهم. لم يُجلسني مرةً أحد هؤلاء المسنين البيض مكانه عندما تكون جميع مقاعد الحافلة محجوزة. مرة واحدة فحسب وفيما كنت أتقدَّم بين صفَّي المقاعد، ابتسم لي رجل وتحرَّك صوب النافذة وأشار إليَّ يدعوني للجلوس إلى جانبه. بادرته ممازحة "ألا تخشى من البقرات السود العجوزة يا ابني؟". أجابني مبتسمًا: "انخرطنا في المعارك لنيل هذا الحقِّ". مذاك، عندما احتاج إلى شراء مسمار أو مصباح، وهذا لا يحصل غالبًا، أقصد المدينة وتحديدًا متجر الحديد "روستون اند صانز". ذلك أن المراهق هو الابن الأصغر للمسنِّ روستون ولا يهمني أن يكون سعر المسمار أغلى في دكانه، أقصد المكان باسم الصراعات القديمة ومذاق النصر الشهي. أنا جوزيفين لينك ستيلسون زنجية منذ نحو مئة عام، آثمة كبيرة بلا ريب، أقرُّ بذلك بصراحة، ذلك أني لا أسأم من الانتصار.

أجوب المدينة كل صباح على متن الباص لكأني أجول امبراطوريتي. أعرف جميع السائقين وهم يحبوني كثيرًا ويوجِّهون إليَّ التحية بتهذيب فائق. هذا الصباح، مثل الصباحات الأخرى التي تعود إلى زمن بعيد، استقللت أول باص. كان ثمة مقعد شاغر في الصف الأول، إلى يمين السائق حيث جلست. بادرني: "إنه ليوم جميل، أليس كذلك، آنسة ستيلسون؟". ولأني لا أهوى الكلام للتفوه بالترهات، ولأني لا أكترث برأي الآخرين، قلت وأنا أنطق بوضوح ليستطيع جميع الجالسين في الخلف سماع جوابي: "لا تصدِّق ذلك يا ابني. هبَّت الريح في طرف العالم الثاني وستجعل العاصفة المقبلة عظامنا السود تقرقع".

آه، يا لتعب الأيام يضغط على صدغيه ما إن يستيقظ، ما إن يفتح عينيه ليكتشف سقف الغرفة الصغيرة المصفر في هذا النزل في ولاية تكساس التي لم يغادرها منذ أربعة أيام. يا لحرارة الجو وثقل الجسد. ينظر حوله، فيشمُّ عند مستوى رقبته، رائحة تعرقه من جراء ملامسة المخدة التي خيطت بقماش صناعي وصارت مبللة. يدرك تمامًا أن التعب الذي يطارده سيدركه مجددًا، ليتركه يومًا بعد يوم أكثر هشاشة من الطيف. نقرت إحدى السيدات في الخارج على الباب للتو وجعلته يستيقظ، بيد أنها تبدو الآن مترددة ذلك أنها لم تعد تميِّز أي صوت. أصاخت السمع لتحاول أن تحدِّد إذا كان ترجَّل من السرير وإذا تنبَّه لنقراتها. تأخر بلا ريب، أكثر مما يظنُّ، لم يعد يهتم للوقت، لم يكن هناك وجود سوى لتعب لا يميِّز بين ليل ونهار. يرغب في أن تغادر المكان، بيد أنه لا يلبث ان يسمعها تسأل، من جنبة الباب الثانية بصوت متأسف وإنما مصمم: "يا سيدي، أيها الاستاذ كيانو بيرنز".

حوار وترجمة: رلى راشد

*** *** ***

النهار

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود