مـونـتـاج

 

محمد العبدالله

 

بسيكو

وصل عبدالله إلى عيادة صديقه الطبيب النفسي الدكتور أنيس قبل الموعد بقليل. قبل أن يقعد في صالة الانتظار، شاهد، على المقعد المقابل، صديقه القديم نقولا. تعانقا وتبادلا القبلات وجلسا أحدهما قرب الآخر.

-       خير يا نقولا؟

-       والله يا رفيق متل منّك شايف عم بتبع علاج نفسي. وإنت؟

-       بصراحة يا رفيق أنا حالتي النفسية بالأرض. قلت ما في إلا صديقنا الدكتور أنيس وبيتراعى معنا بالسعر.

-       وصلتْ. أنا لولا الرفيق أنيس كنت فلّست.

-       لهالدرجة؟ ليش شو باك؟ خير؟

-       بصراحة، عقدة نفسيّة غميقة.

-       عقدة واحدة؟

-       لحدّ هلق اللي مبيّن هاي العقدة. فشكرًا لله.

-       وقديش غميقة يعني؟

-       صار لي عم بتعالج من سنة 1990.

-       بسّ بقا.

-       الله وكيلك. متل ما عم قلّك.

-       عقدة شو، ما علينا؟

-       باختصار. عقدة انهيار الاتحاد السوفياتي.

-       ما تقلّي إنك لوحدك متأثّر ومُحبط.

-       لأ. أنا غير شكل.

-       متل شو يعني. شو بتحسّ؟

-       بتوعى مرْتي بالليل بتلاقيني واقف بالتخت وعم بخطب.

-       ها. ها.

-       المسألة جديّة، ما تضحك. مرتي خافت كتير بالأول.

-       والولاد؟

-       بيوعو وبيصيرو يزقفولي.

-       شو بتخطب يعني؟

-       هيدي الخطابات اللي كنّا نقولها عالأكل والفودكا لمّن يعزمونا الرفاق بروسيا. كل كاس خطاب (كاسكم بالروسي) بالدور.

-       وبعدك عم تخطب. ما في تحسّن؟ المسألة صار لها 20 سنة وأكتر. ما في تحسّن عالعلاج؟

-       في تحسّن أكيد.

-       وليش بعدك عم تجي لهون؟

-       لأنو في تحسّن. وإلا لو ما في تحسّن شو بدّي إجي أعمل؟

-       والله معك حق. ووين صُرت بالتحسّن؟

-       هلّق وقّفت خطابة عالتخت. صرت عم غنّي النشيد الأممي. الأنترناسيونال.

-       عال. وأيمتى بيخلص العلاج؟

-       عم يقول الرفيق الدكتور أنيس، إنّو بس أوصل لمرحلة مارسيل خليفة وخالد الهبر ممكن وقّف العلاج. ليش؟ لأنّو، حسب التحليل، بكون رجعت لمرحلة الواقع ووقّفت نوستالجيا سياسية وبقيت النوستالجيا الغنائية، وهيدي ما فيها ضرر. بس شو؟ لازم أعمل نقد ذاتي. الحقيقة أنا بلّشت. ليك. وأظهر نقولا ملفًا ضخمًا عن جانبه.

-       هيدا كلّو نقد ذاتي؟

-       هيدا جزء من النقد الذاتي. بعد في جزء تاني. المهم نوصل إلى فهم لماذا انهار الاتحاد السوفياتي؟

-       ممتاز. مبيّن معك شي لحدّ هلق؟

-       لحد هلّق بيّن إنو الاسباب متشابكة ومعقدة.

-       رائع. يعني بتروح المسألة بعد شي 20 سنة.

-       لأ. بلّشت دندن لمارسيل خليفة وخالد الهبر

هنا خرج الدكتور أنيس من غرفة العلاج مودِّعًا الزبون الذي كان عنده والتفت:

-       أهلاً عبدالله. شو التقوا الرفاق؟ شو يا عبدالله؟ كنت مستعجل وموتّر عالتلفون؟

-       الحقيقة يا حكيم حالتي مستعجلة، بسّ الرفيق نقولا كان عم يستنّى قبلي. خلّيه يفوت بالأول.

ضحك أنيس وقال:

-       لأ الرفيق نقولا بيجي بيقعد هون قد ما بدّو وبلا موعد، وبندردش سوا بين زبون وزبون.

-       يعني بفوت أنا؟

-       تفضّل.

وتفضل عبدالله إلى الداخل معتذرًا من نقولا، وارتمى على كنبة العلاج على الفور.

*

-       روق يا عبدالله. مشتاقلك يا زلمي. خلّينا نحكي كلمتين. خمس دقائق.

-       ولا دقيقة. ولا كلمة. الآن يعني الآن، كما يقول الرفيق لينين.

-       هيأتك متقّل العيار؟

-       الله وكيلك يا حكيم، من شهر لم أقترب من الكحول أو أي شيء آخر.

-       ليش؟

-       زهقت. خلص. الويسكي سائل أصفر لم أعد أجد ما يبرّر الارتماء به على هذا النحو.

-       ممتاز. إذًا شو المشكلة؟

-       ولا شي.

-       قصدي شو إشبك؟ وليش جايي لعندي عَ العيادة؟

-       ما إشبني شي. وجيت لعندك لأنّو ما إشبني شي.

-       بدك تدخّن سيجارة؟

-       لا. شكرًا.

-       ليش؟

-       السيجارة شيء يتصاعد منه الدخان، ولم أعد أجد داعيًا لهذا الاصرار على المصِّ والمجِّ وإخراج الدخان من فتحتي الأنف والفم.

-       ممتاز. من الأول وجديد. شو إشبك؟

-       قلتلّك يا حكيم. ما إشبني شي.

-       قصدك إشبك إنو ما إشبك شي؟

-       أحسنت يا حكيم.

-       طيّب النساء. إشبك شي؟

-       أيّا نساء؟ أو الحبّ أو ولا شي.

-       الشعر؟

-       كبّر عقلك يا أنيس. متل الميّ بالغربال.

-       طيّب الطبيخ والفاصوليا مع الرزّ والكزبرة والموزات؟

-       زهقت منّي الفاصوليا.

-       ولا بيهمّك شي؟

-       ولا شي.

-       الموت يا عبدالله؟

-       ما تمزح معي يا رفيق. لا يستقدمون ساعة ولا...

-       أزمة الشرق الأوسط، الحروب، حقوق الانسان، السعي إلى وطن ممتاز؟

-       عقلي مسطّم يا رفيق من كتر التفكير، الله يوفّق الجميع، قصدي الله لا يوفّق الجميع.

-       هاي ياها.

-       لقيتها يا حكيم؟

-       عقلك مسطّم. العقل مثل الجسم بدو يتخلّص من النفايات والسموم وبقايا الطعام والشراب. يعني متل "البي بي" و"الكاكا". العقل بدّو يخرج عَ الحمّام.

-       فهمت يا حكيم. كيف بدّو يتخلّص؟

-       ما بعرف يا عبدالله. بس رح استعمل معك الطريقة الكلاسيكية.

-       استعملها.

-       طيّب يا عبدالله. وجع الضرس؟

هتف عبدالله: إلا هيدا دخلك يا حكيم.

-       بسيطة يا رفيق عبدالله. معك نوبة ولا شي ناتجة عن تسطيم العقل من كثرة التفكير. يلزم أن نتدبر لك إلتهابًا في إحدى الأضراس لكي تستعيد، سلبيًا، نكهة الحياة. الألم يعيد إنتاج نكهة الحياة. وأنت تستعيد ولَعَك بالشعر والنساء والحب والوطن و...

-       أحسنت يا حكيم. بس لولاك لما انتبهنا إلى هذا الأمر، ومن هنا التكامل بين فروع العلم ومنها فروع الطب.

ضحك أنيس وقال: يعني الفاصوليا ولا وجع الضرس؟

-       الفاصوليا طبعًا.

-       إذًا، إحتياطًا، لعند صديقنا الدكتور ريمون يتدبر لك شيء إلتهاب بشي ضرس.

-       قولك أيّا ضرس؟

-       طبعًا ضرس العقل.

-       ما في لزوم. خلص فهمناها بلا حكيم أسنان وبلا وجع. عَ الفاصوليا يلاّ. تفضل عالغدا.

-       ممنون. طابخين بامية اليوم.

*

هَبَاء
هباءْ
كلُّ شيءٍ هباءْ
مُنتهٍ للهباءْ
إنه سِرُّهُ، سِحرُهُ، إدمانُهُ
إنه ممتلئٌ بالهشاشةِ
والرعبِ من الانقضاءْ
الرعبُ الذي هو الرغبةُ بالانقضاءْ
ذلك هو سرُّهُ، سِحرُهُ، إدمانهُ
إنها زهرةُ النارِ
تشتعلُ من نفسها
باءٌ مثلُ بوالينَ فارغةٍ
تتوغلُ صاعدةً في حتفها
في الفضاء.

*

ذلك التيّار

بثلاث فشخات صرت في قلب التيار. أمسكتها ورفعتها فوق المياه لكي تستعيد أنفاسها. كانت موشكة على الغرق وقد ابتلعت كمية من الماء. شاهدتها تتخبَّط وتحاول الاستغاثة بصوت لا يصل إلى أحد. أدركت الحالة على الفور. إنها أسيرة التيار. عندي خبرة سابقة بذلك. أجيد السباحة منذ الصغر وأحب الشطآن الرملية. على هذه الشطآن تتكون التيارات حسب أنظمة الموج. التيار مجرى معاكس للموج، يجرف الرمل على عمق خفيف، فلا يستطيع السابح أن يقف على قدميه ولا يستطيع التقدم نحو الشاطئ ويبقى مكانه يكافح عبثًا حتى لو كان يجيد السباحة، ذلك أن قوة المياه المعاكسة أكبر وأقوى من آليات حركات الذراعين والجسم أثناء السباحة.

علقتُ بالتيار ذات مرة، فاستبسلتُ على مدى نصف ساعة، وهذا كثير، في محاولة للوصول إلى الشاطئ. عبث. كنت وحدي. نظرتُ مفتشًا عن أحد على الشاطئ، علَّه ينجدني بوسيلة ما. لا أحد. ثم بدأ المدى أمامي يظلم في عينيِّ وأنا عارف أنني نزلت إلى الماء صباحًا. أحب سباحة الصباح المبكر والمساء المبكر.

أنصب خيمة مطلع الصيف بمساعدة صديقي جرجي. وأقيم فيها حتى مطلع الخريف، حين تبدأ الدروس في الجامعة، وأعود إليها في العطل الأسبوعية حتى أواسط تشرين الثاني. يتوالى على الخيمة زملاء الجامعة شابات وشبانًا ويتأخر بعضهم إلى ساعة متقدمة، وقد يمكثون للنوم، فنمارس السباحة الليلية خصوصًا في الليالي المقمرة.

لم يكن أحد منهم عندما علقتُ في التيار تلك المرَّة الأولى. خارتْ قواي، وكان لا بد من الاستسلام واسترداد الأنفاس، فاستلقيتُ على ظهري مستسلمًا عائمًا، والاستلقاء على الظهر متعة من متع السباحة واستراحة بين الفترة والأخرى. استلقيتُ على ظهري فذهب بي التيار مسافة خلتها كثيرة وهي قليلة، ثم أحسستُ أنني ثابت في مكاني تهدهدني حركة الماء. أدركتُ على الفور أن التيار انتهى. نظرتُ إلى الشاطئ. لم يعد المدى معتمًا. انحرفتُ عن خط التيار ووقفت على رمل ثابت. تقدمتُ إلى الشاطئ ثم إلى الخيمة، فنمت نومًا عميقًا إلى أن ايقظني جرجي حاملاً معه جرَّة الماء العذب وسلَّة العنب المبكِّر على الساحل ومناقيش الزيت والصعتر وأصابع الديناميت لأجل صيد اليوم. ضحك جرجي عندما حكيت له ما حصل. قال: تعيش وتاكل غيرها. لحسن الحظ أنك تجيد السباحة. في ما بعد صرتُ اختار التيار لكي امتطيه إلى بعض العمق في البحر، مختصرًا المسافة المتدرجة العمق ابتداء من الشاطئ.

أمسكتُها وهي تتخبط يائسة، فتشبَّثتْ بعنقي بكلتا ذراعيها وأرخت جميع يأسها عليَّ، ففقدتُ القدرة على التصرف وصرت واياها مشدودين حتمًا إلى القاع. عبثًا حاولتُ افهامها ألاَّ تضغط عليَّ كل هذا الضغط وتتمسك بي برفق. أنها في هذه الحالة لا تسمع. بصعوبة أدرتها إلى الخلف واحتضنتُ جسمها بذراع واحدة وعمت بواسطة الذراع الأخرى. كان الزملاء على الشاطئ قد ادركوا الحالة، فقذفوا بدولاب كاوتشوك في التيار. وصل الدولاب على الفور فقرَّبته منها وساعدتها على الإمساك به وأنا ما زلت ممسكًا بها. اطمأنَّت بعض الاطمئنان ولكنها بقيت ملتصقة بي. القسم الأوسط من جسدها، الحوض، دافئ جدًا على رغم برودة الماء. أحسستُ بذلك وأظن أنها أحست أيضًا. انحرفتُ بها وبالدولاب عن التيار ووقفنا. أقدامنا على رمل ثابت. حملتها فوق كتفي إلى الشاطئ.

كان الزملاء ورفيقة لها متجمهرين هناك. مدَّدتها على بطنها وضغطتُ على ظهرها فاستفرغت ما ابتلعته من ماء. وعلى سبيل الاحتياط، أجريتُ لها بعض التنفس من فمي إلى فمها، حتى استعادت وعيها وانهمرت من عينيها السوداودين الواسعتين دموع كثيرة. قادتها رفيقتها بمساعدة بعض الزملاء إلى الشاليه. تابعتهم قليلاً. إنها ذات قوام ممشوق وترتدي مايوهًا أسود.

فهمتُ من جرحي أنها في حالة حداد على زوجها المتوفي منذ بضعة أشهر والذي يملك الشاليه وبستان البرتقال المحيط بها.

كانت حصيلة صيد السمك وفيرة ومتنوعة. عمدنا إلى إشعال النار وتنظيف السمك كالعادة. كان السمك المشوي والمقلي لذيذًا مع كؤوس العرق البلدي من شغل جرجي شخصيًا، إضافة إلى البطاطا المقلية والطرطور. وكان الراديو يبثُّ تلك الأغنيات الفرنسية الرومنطيقية، بينما دائرة من السلاطعين الشقراء الصغيرة تتحلق على مسافة حول النار، بينما القمر البدر يرخي جدولاً عريضًا من الفضَّة البرَّاقة من الأفق إلى الشاطئ ويضيء المكان بأسره.

راحت تتقدم من ناحية الشاليه بخطوات واثقة متهادية وروب خفيف تركوازي ينحسر ويرتدُّ عن جسمها الممشوق ويفترُّ بين حين وحين، عن مايوه أزرق سماوي بكيني، وفي يدها سلة صغيرة تطل منها قنينة نبيذ فرنسي من النوع الممتاز.

وقفت قبل دائرة السلاطعين ونظرت إليَّ:

-       نسيت قلّك: مرسي.

نهض جرجي مستأذنًا:

-       ينبغي أن أعود مبكراً هذه الليلة.

*** *** ***

14-07-2012

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود