الصفحة السابقة             الصفحة التالية

غاندي المتمرد 9: المَلِك غيرُ المُـتَوَّج

 

جان-ماري مولِّر

 

الشيءُ الحاسم الذي قدَّمَـتْه حملةُ العصيان المدني عام 1930 لشعب الهند هو إتاحة الفرصة له لاستعادة كرامته. فعندما تحدَّى المضطهَـدُ علنًا سلطةَ المستبِدِّ وعندما امتلكَ جرأةَ مواجهته مسيطرًا على كل خوف وعندما عصى أوامرَه ورضيَ بتحمُّـل الألم مِن دُون التفكير بالثأر، عندئذٍ أثبتَ ذلك المضطهَـدُ لنفسه أنه كائن ذو كرامة وحر واستردَّ اعتباره أمام نفسه واستعاد سلطتَه على حياته. ابتداءً من تلك اللحظة، ومهما كانت قوةُ المستبدِّ الماديةُ التي يمكن أن تتيحَ له فرْضَ قانونِه على المضطهَد لبضع وقت أيضًا، فإنَّ المضطهَد قد استعادَ أصلاً حريتَه. ولذلك فإنَّ استقلال الهند قد دخلَ أساسًا في التاريخ حتى وإنْ لم يكن مكتوبًا بعدُ في نص الميثاق الذي أُبرِمَ بين غاندي وبين السلطة البريطانية. وقد عرفَ الشاعرُ رابيندرانات طاغور تمامًا كيف يشير إلى هذا النصر الذي أحرزه شعبُه آنذاك:

الآنَ فهِمَ الذين يعيشون في إنكلترا أنَّ أوروبا قد فقدَت نهائيًا نفوذَها المعنوي القديم في آسيا. فهي لم يعُـدْ يُنظَرُ إليها على أنها سيدة النزاهة في العالَم ورافعة المبادئ السامية، بل أصبحَ يُنظَرُ إليها على أنها المدافعة عن سيادة العِرْق الغربي والمستغلة لمن هم خارج حدودها. وهذا في الحقيقة إخفاق أخلاقي خطير لأوروبا. وفي الواقع، على الرغم من أنَّ آسيا مازالت ضعيفةً ماديًا وعاجزةً عن الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء يهدِّد مصالحَها الحيوية، فإنه رغم ذلك يمكن القولُ بأنها قادرة على أنْ توفِّرَ لنفسها الفرصةَ لتنظرَ إلى أوروبا من أعلى نظرةَ اعتزاز في حين أنها كانت تنظر إليها في الماضي من الأدنى نظرةَ خضوع[1].

بتاريخ 17 آذار/مارس 1931، تكلَّم غاندي في بومباي أثناء اجتماع كبير ترأَّسَه جواهرلال نهرو. كان غاندي يدرك تمامًا أنَّ ميثاق دلهي ليس سوى تسوية وأنَّ عليه أنْ يبرِّرَ توقيعَه عليه:

لقد بدأَ عهدٌ جديد وهاأنا أمامكم هذا المساءَ لأعطيَكم من جديد رسالتي التي هي بالمقابل مختلفة جدًا عن الرسالة التي أعطيتُكم إياها المرةَ الماضية. ففي المرة الماضية كانت الرسالةُ بسيطةً، وهي اليومَ أكثر تعقيدًا مقارنةً بسابقتها. فخلال اثنَي عشر شهرًا، قمنا بنشر عقلية الحرب، وفكَّرْنا بالحرب، وتكلَّمْنا عن الحرب ولا شيء غير الحرب. والآن يجب علينا أنْ نغنِّيَ لحنًا مختلفًا كليًا. وأنا أعلمُ أنَّ مجرَّدَ ذِكْرِ كلمة «هدنة» يجعلُ البعضَ منكم ينتفض بدنُه. ذلك لأننا لم نفكِّرْ إلاَّ بالحرب ولأننا اعتقدْنا أنَّ أيةَ تسوية غيرُ ممكنة. لكنَّ ذلك لم يكنْ موقفًا يليق باللاعنفيِّ الحقيقي. فاللاعنفيُّ الحقيقي يجب عليه أيضًا أنْ يرغبَ في السلام رغبةً شديدةً في الوقت الذي يكون في مستعدًا دائمًا للكفاح. يجب عليه أنْ يرحِّبَ بأية فرصة مشرِّفة لإحلال السلام. وقد رأت لجنةُ حزب المؤتمر التنفيذيةُ أنَّ مثل هذه الفرصةِ قد سنحَتْ فاستغلَّتْها. (...)

والآنَ هذه كلمة تحذير. الاتفاقُ مؤقَّت بالطبع. لكنه يتطلَّب تغييرًا في منهج عملنا. بينما كان العصيانُ المدني أو السجن أو العمل المباشر هو المنهج المتَّبع قبل الاتفاق، أصبحَ من الواجب الآن اتِّباعُ طريق الحوار والتفاوض. لكنْ لا ينسَ أحدٌ أنَّ الاتفاق مؤقَّت وأنَّ المفاوضاتِ يمكن أنْ تتوقَّفَ في أي وقت. وبالتالي، علينا أنْ نُبقيَ بارودَنا جاهزًا وسلاحَنا برَّاقًا. يجب ألاَّ يُغافِصَنا الإخفاقُ [أيْ ألاَّ يأخذَنا على غِرَّةٍ منا]، بل أنْ يجدَنا مستعدِّين لحشد الطاقات عند أول أمر. وحتى ذلك الحين، فلنواصلْ التطهُّرَ بمزيد من العزْم وبإيمان أكبر، بحيث نتمكَّنُ من زيادة قوَّتِنا يومًا بعد يوم[2].

إنَّ ميثاق دلهي، وقد أشرْنا إليه سابقًا، يُبقي في السجن جميعَ الذين ينتمون – وهم عدة مئات – إلى "حزب العنف". لا شك في أنَّ غاندي قد دافع عن قضيتهم لدى نائب الملك، وذلك عندما كشفَ أنَّ إطلاق سراحهم من شأنه أنْ يساهمَ مساهمةً قويةً في إحلال السِّـلْم الاجتماعي، لكنه لم يكنْ يرى أنَّ عفوًا عامًا كان يجب أنْ يكون شرطًا للميثاق. مِن بينِ هؤلاء الوطنيين الذين بقوا في السجن، حُكِمَ على ثلاثة منهم بالإعدام.

أصبحَ أحدهم بطلاً قوميًا وعبَّأت حالتُه الرأيَ العام الهندي تعبئةً قويةً: إنه باغات [بهاﮔـات] سينغ Bhagat Singh. وبتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 1928، بعد شهر من موت لالا لاجـﭙـات راي Lala Lajpat Rai[3]، وفي اليوم نفسه، اغتيلَ السيد ساوندرز Saunders، ناظرُ شرطة لاهور. ودارت الشبهاتُ حول باغات سينغ على أنه مُنفِّذ هذا الاعتداء، لكنه تمكَّنَ من الإفلات اعتقال الشرطة. كتبَ جواهرلال نهرو يقول: "تتأتَّى شعبيةُ باغات سينغ كلُّها مِن كونِه اتَّخذَ لدى الجمهور شكلَ المنتقِم؛ فقد ثأرَ لشرف لالا لاجـﭙـات راي وبالتالي لشرف الأُمَّة. فأصبحَ رمزًا. ونُسيَ الفعلُ ولم يعدْ يُرى إلاَّ الرمزُ[4]." وبتاريخ 8 نيسان/أبريل 1929، ألقيَتْ قنبلتان من منصة الشعب في قاعة المجلس التشريعي في دلهي. فأُصيبَ برلمانيٌّ واحد بجروح خطيرة. واعتُقِلَ رجُلان هما: باغات سينغ وباتوكيشوار دوت Batukeshwar Dutt. وبتاريخ 12 حزيران/يونيو 1929، وخلال محاكمة أحدثَت ضجةً كبيرة، وعلى الرغم من أنهما أكَّدا أنهما لم يريدا أنْ يقتلا أحدًا، بل أرادا فقط أنْ يلفتا انتباهَ العالَم إلى الذل الذي ترزح تحته البلاد، فقد حُكِمَ عليهما بالاعتقال مدى الحياة. لكنْ كان يجب على كليهما بعد وقت قصير أنْ يمثلَ مرةً أخرى أمام القضاء. واتُّّهِموا، هما ومناضلون وطنيون آخرون، بالمشاركة في مؤامرة إرهابية. فقرَّرَ أغلبُ المتَّهَمين، احتجاجًا على ظروف الاعتقال، الشروعَ بإضراب عن الطعام دام عدةَ أسابيع. وبعد مرور شهر، حصلَ جواهرلال نِهرو على إذْنٍ بزيارتهم. "رأيتُ لأول مرة باغات سينغ وجاتان داس Jatin Das وآخرين. كانوا جميعًا في حالة ضعف قصوى وأُجبِروا على لزوم الفِراش؛ فكان من المستحيل التكلُّـمُ معهم وقتًا أطول. كان وجهُ باغات سينغ وجهَ مفكر، وجهًا جميلاً شديدَ الهدوء وديعًا. ولم يكنْ يبدو عليه أيُّ أثر للغضب. كانت عذوبةُ نظرته وكلامِه لا حدودَ لها[5]." ومات جاتان داس بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 1929 بعد إضراب عن الطعام دام واحدًا وستين يومًا. فسبَّبَ موتُه هذا أسىً في جميع أنحاء الهند. وفي النهاية، حُكِمَ على باغات سينغ مع اثنين من رفاقه بالإعدام.

بتاريخ 19 آذار/مارس 1931، التقى غاندي نائبَ الملك في دلهي. فطلبَ منه بإلحاح أنْ يخفِّفَ حُكْمَ إعدامِ باغات سينغ والمناضلَينِ الوطنييَّنِ الآخرَينِ، لكنَّ مُحاوِرَه أجابه بأنه بصراحة لا يرى وجوبَ الاستجابة لمطلبه. فحاول غاندي بتاريخ 23 آذار/مارس محاولةً أخيرةً من خلال الكتابة إلى نائب الملك:

صديقي العزيز،

قد يبدو من المؤلم فرضُ هذه الرسالة عليكم، غيرَ أنَّ مصلحةَ السلام تتطلَّبُ نداءً أخيرًا. فعلى الرغم من أنكم كنتم صريحين دفعتْكم صراحتُكم إلى أنْ تقولوا لي أنَّ هناك أملاً ضئيلاً في أنْ تقبلوا بتخفيف حُكْم الإعدام بحق باغات سينغ ورفيقَيه الاثنين، لقد قلتم أنكم ستأخذون بالحسبان طلبي الذي قلتُه يوم السبت. البارحةَ التقى بيَ الدكتور ساﭙرو Sapru وأبلغني أنَّ هذه المسألة تقضُّ مضجعكم وأنكم تتساءلون عن إيجاد الطريق الذي ينبغي اتِّباعُه. إنْ بقيَ هناك إمكانية في أنْ تعيدوا النظرَ بموقفكم، فإنني أطلب منكم أنْ توجِّهوا اهتمامَكم إلى ما يلي.

يطالبُ الرأيُ العام، سواء أكان مخطئًا أم مصيبًا، بتخفيف العقوبة. عندما لا يكون هناك مبدأ يُخشَى أنْ يُمَسَّ، فإن من الواجب في أغلب الأحيان أخذُ الرأي العام بالحسبان.

في الوقت الحالي، إذا مُنِحَ التخفيفُ فإنَّ مِن المرجَّح أنْ يفيدَ ذلك في تشجيع السِّـلْم الداخلي. وفي حال تنفيذ العقوبة فسيتعرَّض السلام بلا أدنى شك للخطر.

ونظرًا لأنني أستطيع أنْ أبلغَكم أنَّ الحزب الثوري قد أكد لي أنه سيضبط نفسه في حال أُبقيَ على حياة هؤلاء الأشخاص، فإن تعليق الحكم بانتظار توقف عمليات القتل الثورية يصبح برأيي واجبًا مطلقًا.

لقد أُعفيَ أساسًا عن جرائمَ سياسيةٍ. فمِن المهمِّ إنقاذ حياة هؤلاء الأشخاص إذا كان ذلك سيؤدِّي على الأرجح إلى إنقاذ حياة كثير من الأشخاص الأبرياء الآخرين وحتى إلى توقُّف الجرائم السياسية تقريبًا.

ولأنه يبدو أنكم تُوْلون أهميةً للتأثير الذي يمكن أنْ أمارسَه لصالح السلام فإنني أرجوكم ألاَّ تجعلوا بلا مبرِّرٍ موقفي، الذي هو بالأساس صعب، شِبْهَ مستحيل للعمل المستقبلي.

الإعدامُ فعلٌ يتعذَّر إصلاحه. فإذا كنتم ترون أنَّ هناك أدنى احتمال لوجود خطأ في الحكم فإنني أود أنْ أحثَّكم على تعليق الفعل الذي لا يمكن الرجوع فيه وذلك حتى القيام بدراسة جديدة.

إذا كان حضوري ضروريًا فبإمكاني المجيء. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع الكلامَ*، فيمكنني أنْ أسمعَ ويمكنني أنْ أكتبَ ما أريد قولَه.

البِرُّ لا يُخفِق أبدًا[6].

لكنَّ رسالة غاندي لم تقلب مجرى الأمور. فقد أبلغه اللورد إيروين على الفور رسالةً «سرِّية» جاء فيها:

لقد تمعَّنْتُ مرةً أخرى وبكل دقةٍ في جميع ما قلتموه لي – وقد يكون الشيء الأخير الذي يمكنني أنْ أتمنَّى فعلَه وخصوصًا في هذه اللحظة الحرجة هو أنْ أجعلَ مهمتَكم أصعب. ولكنني أخشى، وللأسباب التي حاولتُ أنْ أشرحَها لكم تمامًا أثناء حديثنا، ألاَّ أكونَ قد عرفتُ كيف أقتنع بأنه مِن المبرَّرِ اتِّخاذُ القرار الذي تطلبونه[7].

وفي مساء اليوم نفسه، شُنِقَ باغات سينغ وصاحِباه في سجن لاهور.

وعند الإعلان عن الإعدام، نشرَ غاندي البيانَ التالي الذي يحاول فيه مراعاةَ الأمور بين تكريم الضحايا وإدانةِ العنف:

لقد أُعدِمَ باغات سينغ وصاحِباه وأصبحوا شُهداء. يبدو أنَّ موتهم كان خسارة شخصية لكثيرين. وإنني أشارك في إجلال ذكرى هؤلاء الشباب. مع ذلك، ينبغي عليَّ أنْ أُحَذِّرَ شبيبةَ البلاد من غواية الحذو حذوَهم. علينا ألاَّ نستخدمَ طاقتَنا وروحَ التضحية لدينا وعملَنا وشجاعتَنا الجامحةَ في الطريق الذي استخدموها فيه. يجب ألاَّ تتحرَّرَ بلادُنا بإراقة الدماء.

أمَّا فيما يخصُّ الحكومةَ فلا يمكنني أنْ أمتنعَ عن الاعتقاد بأنها قد ضيَّعَت فرصةً ذهبيةً في كسب المتمرِّدين إلى صفها. كان من الواجب على الأقل، نظرًا لوجود الاتفاق، التخلِّي نهائيًا عن تنفيذ حُكْم الإعدام. لقد سدَّدَت الحكومةُ، بسبب سياستها، ضربةً قاسيةً للاتفاق وأظهرَت مرةً أخرى أنها استطاعت ألاَّ تحسبَ أيَّ حساب للرأي العام وأنْ تُظهِرَ القوةَ الوحشيةَ الكبيرةَ التي تملكها.

إنَّ ثقة الحكومة بالعنف ربما تكون نذيرَ شؤم وتوحي هذه الثقةُ بأن الحكومة لا تريد، على الرغم من تصريحاتها الطنانة والمخلصة، أنْ تتنازلَ عن سلطتها. لكن واجب الشعب واضح.

على حزب المؤتمر ألاَّ يحيدَ عن الطريق الذي رسمه لنفسه بالطبشور. وأرى أنَّ على حزب المؤتمر، على الرغم من هذا الاستفزاز ذي الخطورة الكبيرة، أنْ يوافقَ على الاتفاق ويُجرِّبَ قدرتَه في الحصول على النتيجة المرجوَّة.

علينا ألاَّ نجعلَ أنفسَنا مخطئين بانسياقنا إلى الغضب. وعلينا أنْ نفهمَ أنَّ تخفيفَ الحُكْم ليس جزءًا من الاتفاق. يمكننا أنْ نتَّهمَ الحكومةَ بالعنف، ولكنْ لا يمكننا أنْ نتَّهمَها بخَرْق الاتفاق. وأنا مقتنع بأنَّ الخطأ الجسيمَ الذي ارتكبَتْه الحكومةُ قد زاد من قدرتنا على الحصول على حريتنا، وقد عانقَ الموتَ من أجل ذلك كلٌّ من باغات سينغ ورفيقَيه. علينا ألاَّ ندَعَ هذه الفرصةَ تذهبُ من خلال فِعلِنا لأي شيء بدافع الغضب. سيكون هناك بالطبع إضرابٌ عام ولا يمكننا تكريمُ الوطنيين الذين قضوا نَحْبَهم بأفضلِ مِن الذهابِ للمشاركة في مظاهرات سِلْمية تمامًا وكلُّها كرامةٌ[8].

أُعلِنَ تاريخُ 24 آذار/مارس يومَ حِداد في جميع أنحاء الهند. وكان في كالكوتا مواجهاتٌ خطيرة بين المتظاهرين وبين الشرطة: فقُتِلَ 141 شخصًا وجُرِحَ 586 آخرين واعتُقِلَ 341 شخصًا[9]. وبتاريخ 25 آذار/مارس، حصلَت فتنةٌ في كاونبور [كاونـﭙـور] Cawnpore قُتِلَ خلالها غانيش شانكار ﭭـيديارتي Ganesh Shankar Vidyarthi، وهو أحد قادة حزب المؤتمر اللامعين، حينما كان يسعى لإيقاف العنف.

بتاريخ 25 آذار/مارس 1931، وصل غاندي إلى كاراتشي حيث كان ينبغي أنْ تُعقَدَ دورةُ حزب مؤتمر الهند والتي كان يجب أنْ تبتَّ في ميثاق دلهي. كان الجو متوترًا بصورة خاصة. وقد عُنِّفَ غاندي تعنيفًا شديدًا لعدم جعلِه تخفيفَ عقوبةِ الوطنيين الثلاثة المحكومين بالإعدام شرطًا لقبول ميثاق دلهي. فاستقبله عند وصوله شبابٌ بصيحات عدائية: «Gandhi go back» [«ارجِعْ يا غاندي»]، «Long live Bhagat Singh» [«يحيا باغات سينغ»]، «Gandhi's truce has sent Bhagat Singh to the gallows» («هدنة غاندي أرسلَت باغات سينغ إلى المشنقة»)، «Down Gandhism» («لتَسقُطِ الغاندية»).

وبتاريخ 29 آذار/مارس، عزمَ غاندي في قرارة نفسه على أنْ يقدِّمَ أمام حزب المؤتمر قرارًا يكرِّم فيه ذكرى باغات سينغ:

إنَّ حزب المؤتمر هذا، بإلغاء ارتباطه بالعنف السياسي تحت أي شكل كان وبشجبه لهذا العنف، يُعبِّر عن إعجابه بشجاعةِ وتضحيةِ ساردار باغات سينغ ورفيقَيه سوكـﭭـيد Sukhved وراجاغورو Rajaguru، ويشاطر العائلاتِ المحزونةَ بكاءها على فقدان هؤلاء الأشخاص. ويرى حزبُ المؤتمر أنَّ هذا الإعدام الثلاثي هو فعلٌ انتقامي لا مبرِّرَ له واستخفافٌ متعمَّد بإجماع الأمة على طلب تخفيف عقوبة الإعدام. كما يرى حزبُ المؤتمر أيضًا أنَّ الحكومة قد ضيَّعَت فرصةً مِن ذهبٍ لتشجيع الإرادة الطيبة بين الأمتين، وهي النصيحة العامة الأساسية في هذه اللحظة الحرجة، ولكسب الحزب الذي يلجأ بدافع اليأس إلى العنف السياسي ليكون ضمن منهج السلام[10].

فيما بعدُ، يأسف غاندي لاتِّخاذه مثلَ هذا الموقف فيقول:

لقد سبَّبَ تقديسُ باغات سينغ ومازال يسبِّبُ شرًا لا يُحصى للبلاد. وإني أرى الآن أنَّ هذا القرار كان خاطئًا[11].

بتاريخ 30 آذار/مارس، توجَّه غاندي إلى المندوبين محاولاً نزعَ الأسى الذي سبَّبَتْه عباراتُ ميثاق دلهي لدى كثير من أعضاء حزب المؤتمر:

إنَّ إخوانَنا الشبابَ وأَخَواتِنا الشابَّاتِ مستاؤون من الاتِّفاق. وأنا لا أُكِـنُّ لهم في قلبي إلاَّ الحبَّ. وأستطيع أنْ أتفَـهَّمَ حزنَهم. فلديهم كاملُ الحق في الشك بحكمة هذا الاتفاق. ومعارضتهم لا تغيظني. ولا أشعر بأي غضب. (...)

غيْـرَ أنَّ مِنَ الخطأِ عدمَ القيام بما تستوجبُ الظروفُ فِعلَه. فمِنْ مبادئِ اللاعنف وجوبُ محاولة التكلُّم مع الطرف الذي يكون اللاعنفُ ضده كلَّما سنحَت الفرصةُ لذلك. علينا السعيُ إلى أنْ نكسبَ بالحب الشخصَ الذي نَـعُـدُّه عدوًا لنا. يجب أنْ يصمِّمَ الذين اختاروا اللاعنفَ على استمالة الشخص بهذه الطريقة. (...)

إذا ما ذهبَ الوفدُ إلى المؤتمر فهذا لا يعني أنه سيضع الاستقلالَ التام في جيبه. وإذا لم يحصلْ على الاستقلال التام فهذا لا يعني أنه عاد مَهِيْضَ الجَناح [مكسورًا]. فليس الأمر على هذا النحو أبدًا. كلُّ ما نرى أننا قادرون على فعلِه هو أنْ نذهبَ ونقولَ للشعب البريطاني وحكومته ما الذي نريده، وإذا لم نحصلْ على ما يطالبُ حزبُ المؤتمر من الوفد قبولَه بحسب بنود القرار فسنُضطَرُّ إلى أنْ نرجِعَ بخُفَّي حُنَين ويُفترَض أنْ نتلقَّى منكم تطويبًا لا تأنيبًا. ولكنْ سيكون من حقكم أنْ تلومونا إذا عدنا وقد ضيَّعْنا مصالحَ البلاد. هذا الذي سيكون من حقكم تمامًا أنْ تفعلوه. (...) إنَّ كلَّ ما أعِدُكم به وعْدَ صِدْقٍ باسمي شخصيًا وباسم الوفد الذي قد ترغبون بإرساله معي هو أننا لن نخونَ حزبَ المؤتمر بأي شكل كان[12].

مِثلُ هذه الكلمات هل كان مِن شأنِها أنْ تُقنِعَ مندوبي حزب المؤتمر الذين كانوا يشُكُّون بصحة السياسة التي ينتهجها غاندي؟ هذا غير أكيد بتاتًا. ولكنْ قلَّما كان لديهم من خيار آخر غير أنْ يمنحوا مَن كان المُحاورَ الوحيد الذي تعترف به السلطةُ البريطانية الثقةَ التي كان يلتمسها منهم. في نهاية الأمر، وبما أنَّ المندوبين كانوا يريدون تجاهُـلَ التنازلات التي أتاحت توقيعَ ميثاق دلهي، فقد صوَّتوا لقرار يحدِّد حقوقَ الهنود التي ينبغي على دستور الهند المستقبلي أنْ يضمنَها، وهي:

1. حقوق الشعب الأساسية المتضمنة:

أ)- حرية المشاركة؛

ب)- حرية التعبير وحرية الصحافة؛

ج)- حرية المعتقد وحرية المجاهرة بالعقيدة وممارسة الدين ضِمْنَ احترامِ النظام العام والآداب؛

د)- حماية ثقافة الأقليات ولغتهم ومخطوطاتهم؛

هـ)- المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بدون أي تمييز بين ذكر وأنثى؛

و)- يجب ألاَّ يوصفَ أبدًا أيُّ مواطن بعدم الأهلية بالنظر إلى دينه أو طبقته أو معتقده أو جنسه وذلك فيما يخص الوظائف الحكومية وأعباء السلطة والوظائف الفخرية وكذلك في ممارسة تجارة أو مهنة.

ز)- حقوق متساوية لجميع المواطنين فيما يتعلق بالطرقات العامة والآبار والمدارس والأماكن العامة الأخرى؛

ح)- حق امتلاك وحمل الأسلحة بما يتوافق مع الأنظمة والقيود الموجودة بهذا الشأن؛

ط)- لا يُحرَم أيُّ شخص من حريته ولا يُعتدى على مسكنه أو ملكيته ولا تُحجَز ولا تُصادَر، إلاَّ بما يتوافق مع القانون.

2. الحيادية الدينية للدولة.

3. حق الاقتراع للبالغين.

4. التعليم الابتدائي المجاني.

5. راتب مناسب لعمال المصانع وساعات عمل محددة وظروف عمل صحية وحماية من النتائج الاقتصادية للشيخوخة والمرض والبطالة.

6. يجب أنْ يُحرَّرَ العملُ من العبودية أو من ظروف مشابهة للعبودية.

7. حماية النساء العاملات، وخاصةً وضع أحكام مناسبة تتيح لهنَّ التوقُّفَ عن العمل في فترة الأمومة.

8. منع الأطفال الذين هم في سن المَدْرسة من تشغيلهم في المصانع.

9. حق العمال في تأسيس نقابات لحماية مصالحهم ضِمْنَ إطارِ عملية مناسبة لتسوية النزاعات بالتحكيم.

10. تخفيض جوهري في الأجرة الزراعية أو الريع الذي يدفعه الفلاَّحون والإعفاء من الأجرة في حالة المَزارع غير الريعية ضمن الفترة اللازمة، ويُمنح إعفاء لصغار الملاَّكين العقاريين عندما يكون ذلك ضروريًا تبعًا لأي تخفيض في الدخل.

11. فرض ضريبة تصاعدية على العائدات الزراعية التي تتعدَّى حدًا أدنى محدَّدًا.

12. ضريبة متدرِّجة على التركات.

13. تخفيض الإنفاق العسكري إلى نصف المعدل الحالي على الأقل.

14. تخفيض كبير للنفقات والرواتب في الوزارات المدنية. يجب ألاَّ يُدفَع لأي موظف حكومي، ما عدا الخبراء المستخدَمين لمهمات خاصة، راتبًا يتجاوز مبلغًا محددًا يُفترَض عمومًا ألاَّ يتجاوزَ 500 روبية شهريًا.

15. حماية الأقمشة الوطنية من خلال منع استيراد أقمشة أجنبية وخيوط أجنبية.

16. المنع التام للمشروبات المُسْكِرة والمخدِّرات.

17. الإعفاء من الرسوم المفروضة على المِلْح المصنَّع في الهند.

18. مراقبة سعر الصرف والسياسة النقدية بهدف مساعدة الصناعات بهذه الطريقة والتخفيف عن الجماهير.

19. مراقبة الدولة للصناعات الرئيسية ولملكية مصادر المناجم.

20. ضبط الربا المباشر وغير المباشر[13].

وبهذا فقد أقرَّ حزبُ المؤتمر ميثاقَ دلهي مؤكِّدًا مرةً أخرى تأكيدًا واضحًا أنَّ هدفه الوحيد هو الحصول على استقلال الهند التام. فضلاً عن ذلك فقد فوَّضَ حزبُ المؤتمر غاندي ليمثِّـلَه في مؤتمر الطاولة المستديرة الذي من المفروض أنْ يُفتَتحَ في لندن بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر.

كتبَ إمِيل غاتييه Émile Gathier في [صحيفة] أيتود Études [دراسات] العدد الصادر بتاريخ 5 تشرين الأول/أكتوبر 1931 مقَـيِّـمًا حزبَ المؤتمر في كاراتشي:

راح غاندي فيه يواجه ثلاثةَ ضُروبٍ من الخصوم وينتصر عليهم، [وهُـمْ]: 1)- أولاً، مناصرو العنف الذين ربما يحاولون إدخالَ مناهجهم إلى داخل حزب المؤتمر ويجعلون عملَه مستحيلاً؛ 2)- خصوم الاتفاق مع الحكومة الذين يسْعون من داخل حزب المؤتمر إلى إلحاقِ فشلٍ بغاندي. ففي بداية الحملة، تمَّ التأكيدُ على عدم إمكانية أية تسوية وعلى إرادة الاستقلال بلا قيد ولا شرط. ألمْ يكن الذهابُ إلى دلهي ولندن عدولاً عن هذا القرار وإخلافًا للوعد؟ فلو استُؤنِفَ الكفاحُ غدًا فمنْ سيكون عنده ثقةٌ إذًا؟ 3)- تضمُّ المجموعةُ الثالثةُ عددًا مِنْ مالكي العقارات الذين كانوا في أشدِّ القلق من البرنامج ذي النزعة الاشتراكية الذي طرحَه الـﭙـانديت le Pandit [لقبُ شرفٍ هنديٌّ] جواهرلال نِهْرو.

بتاريخ 2 نيسان/أبريل 1931، نشرَ غاندي في مجلة الهند الفَـتيَّة مَقْطعًا طويلاً من مقالٍ كتبَه رئيسُ بلدية كاراتشي، جامشيد ميهرا Jamshed Mehra، في إحدى الصحف المحلية. هذا المقال مهمٌّ لأنه يتيح فهمًا أفضلَ للوضع و"المناخ" السائد فعلاً في الهند خلال هذه الأشهُر من التمرُّد. ويلقي ضوءًا شديدًا على حقيقة المشاعر المنتشرة انتشارًا واسعًا بين الهنود الذين يكافحون الاستبدادَ البريطاني. ويبيِّنُ كيف أنَّ هؤلاء الملتزمين في المقاومة التي نظَّمَها غاندي همْ نفسهم بعيدون كلَّ البعد عن الموقف اللاعنفي المطابق لتعاليم غاندي. لمعالجة هذه الحالة الواقعية، يوصي رئيسُ بلدية كاراتشي بافتتاح «مدارسَ لاعنفية حقيقية» في جميع أنحاء الهند. ما يمكن أنْ يثيرَ الدهشةَ هو أنَّ غاندي يبدو أنه لم يفكر أبدًا بتنظيم مثل هذا التعليم اللاعنفي، في الوقت الذي كان فيه هذا التعليمُ ضرورةً حيوية بلا أدنى شك. فخطاباتُ غاندي في كلِّ أنحاء الهند لم يكنْ في استطاعتها أنْ تكفيَ لإفهام الهنود رهاناتِ اللاعنف الروحيةَ والسياسيةَ على حد سواء. كتبَ جامشيد ميهرا في مقاله قائلاً بصورة خاصة:

إنَّ الكراهية التي ظهرَت وعُـبِّـرَ عنها بأقوال وأفعال لم يكنْ مِن الممكنِ التغاضي عنها إلى درجة أنه ينبغي التساؤلُ هل يمكنُ قبولُ تحرير قُوى الكراهية شديدةِ البأس إلى هذا الحد في جميع أرجاء الهند. فمنذ الصباح وحتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، كان المرءُ، عند سماعه المحادثاتِ والأغانيَ والشعاراتِ، يحسُّ بموجة الكراهية الجارفةِ إلى درجة أنَّ المرء يشمئزُّ من ملاحظة مثل هذا الانحطاط لدى عدد كبير جدًا من الناس. (...) فأنْ يُطلَبَ من إنسان عدمُ بيع سلعة ويُطلَبَ من إنسان آخر عدمُ شرائها شيء، ولكنْ أنْ يُرغَمَ إنسانٌ بجميع الوسائل الممكنة مِنْ شتْمٍ وخَلْقِ جميعِ ضُروبِ المتاعب له وجعْـلِ حياتِه مستحيلةً بألف طريقة شيءٌ آخر، وهنا علَيَّ أنْ أعترفَ بأنَّ اللاعنفَ قد فشِلَ فشلاً ذريعًا. لديَّ يقينٌ بأنَّ الكراهية المعُـبَّـرَ عنها والأعمال الوحشية المرتكَبة كانت بعيدةً عن اللاعنف وتتعارض مع جميع مبادئ المهاتما وجميع تعاليمه. كانت الممارسة الاعتيادية هي المضايقة والتعذيب بجميع أنواع الطرق لجعل حياة الناس مستحيلةً إذا كانوا في خلاف مع الخط العام للحركة. (...)

إذا كان بإمكاني أنْ أَدْلوَ برأيي بكل تواضع فإنني أرى أنَّ من المفروض الآنَ من بعض القادة ذوي التأهيل الصارم والمتحررين من كل كراهية أنْ يوقفوا كلَّ نشاط آخر ويأتوا يمضون عدة سنوات من حياتهم في الأقاليم والمدن والقرى لكي يوضحوا للناس ما هو معنى اللاعنف الحقيقي وكيف يمكن تطبيقُه ومتى يجب تطبيقه. أودُّ أنْ أقترحَ بتواضع أنْ تُنشأَ في كل إقليم مَدْرسةٌ حقيقية تُعَـلِّمُ اللاعنفَ حيث يتمكَّنُ أشخاصٌ ذوو نفوس نبيلة يحيطون بهذا الموضوع من كل جوانبه العلمية والدينية على حد سواء أنْ يُعَـلِّموا طلابَ العلوم السياسية الذين قد يصيرون بالمقابل مناضلين بدوام كامل يجوبون البلادَ يقدِّمون هذه الرسالةَ ويُـعَـلِّمون ما هي هذه الرسالةُ في الحقيقة. وهذا برأيي هو الإجراءُ الوحيد الذي يمكنه أنْ يحميَ البلادَ من المخاطر التي تُهدِّدها[14].

ثم علَّقَ غاندي على نصِّ رئيس بلدية كاراتشي. وبعد أنْ حيَّـاه على انخراطه في صفوف حزب المؤتمر، كتب يقول:

يجب علينا أنْ نوْليَ أهميةً قصوى لتحذير هذا الصديق الحقيقي للإنسانية ولبلاده وأنْ نستفيد منه. فما قاله عما جرى في كاراتشي صحيح على الأرجح إلى حد ما في أماكنَ أخرى.

لكي يكون اللاعنفُ قوةً فعَّالةً، ينبغي أنْ يتأصَّـلَ في الروح. فلاعنفُ الجسد بدون مؤازرة الروح هو لاعنفُ الضعيف أو الجبان، وبالتالي ليس له أية قدرة. إنه فعلٌ يسبِّب الانحطاطَ كما قال جامشيد مُـحِقَّـًا في ذلك. فإذا غذَّينا سوءَ النية والكراهيةَ في داخلنا وتظاهرْنا بعدم ممارسة أي انتقام فإنَّ ما غذَّيناه سيرتدُّ علينا مسبِّبًا دمارَنا. وحتى لا نكتفيَ بالتوقُّف عند اللاعنف الجسدي فقط وحتى لا نتلفَّظَ بأية شتيمة فمِن الضروريِّ على الأقل ألاَّ نغذِّيَ أيةَ كراهية، هذا إذا لم نتمكَّنْ من إظهار حب فعَّال. ينبغي إلغاءُ جميع الأغاني وجميع الكلمات التي تُعَـبِّر عن الكراهية. (...)

لو لم يكن انتقاد جامشيد متَّزنًا تمامًا بحُكْمِه الإيجابيّ، بمعنى أنه لو لم يكنْ المجموعُ الكليُّ للاَّعنفِ الحقيقيِّ يتغلَّبُ على اللاَّعنف المصطنع لما تقدَّمَت الهندُ إلى الأمام كما فعلَت. لكنَّ الأهمَّ أيضًا من حُكْم رئيس بلدية كاراتشي هو الفكرة التي لا مِراء فيها المتمثِّلةُ في أنَّ القرويين قد راعَوا فطريًا قواعدَ اللاعنف بطريقةٍ لم تكُ تخطرُ ببالٍ قطُّ. إنَّ لاعنفَهم هو الذي شجَّعَ نموَّ الوعي القومي.

ينبغي ألاَّ يقاسَ الأثرُ السحريُّ للاعنف بأثره المرئي. لكنْ يجب علينا ألاَّ نتراخى زمنًا يجعلُ سمَّ الكراهية يتغلغلُ في مجتمعنا. هذا النضالُ هو جهد هائل من الهدْيُ conversion. فهدفُنا الذي نسعى وراءه ليس أقلَّ من هداية الإنكليز. وهذا لن يتأَتَّى أبدًا مادمنا نغذِّي الضغينةَ متظاهرين باتِّباع طريق اللاعنف. وبالتالي فإنَّ الذين يريدون اتِّباعَ طريق اللاعنف وهم يغذُّون الضغينةَ يَـنْـكُِصون على أعقابهم ويندمون على الشر الذي فعلوه بأنفسهم وببلادهم[15].

يشارك غاندي إذًا رئيسَ بلدية كاراتشي في تحليله، ولكنْ للأسف لم يتَبنَّ اقتراحَه بإنشاء مدارسَ لاعنفية.

بتاريخ 18 نيسان/أبريل 1931، خلفَ اللوردُ ويلينغدون Willingdon اللوردَ أيروين نائبًا للملك في بلاد الهند وكان لهذا التغيير في الشخصيات انعكاسٌ على السياسة التي كانت تطبِّقها على الأرض السلطاتُ البريطانية المحلية. كان الموقفُ المتساهل من حيث الظاهر والذي أظهرَه اللورد إيروين تجاه غاندي وحزب المؤتمر قد أزعجَ إزعاجًا شديدًا الأغلبيةَ الواسعةَ من المقيمين الإنكليز ويشاطرهم اللورد ويلينغدون مشاعرَهم بالطبع. إذْ يشير، متأسفًا كما هو واضح، وذلك في رسالة إلى سكرتير الدولة الجديد في الهند، السِّيْر صموئيل هور Samuel Hoare، إلى أنه أصبح هناك في نظر الرأي العام الهندي «ملِكان في الهند[16]» منذ أنْ تفاوضَ غاندي نِدًَّا لنِدٍّ مع اللورد أيروين. وبسبب ذلك استقبلَ الموظَّفون نائبَ الملك الجديد كمن سيُنقِذ السلطةَ من الهزيمة وكمن سيضع حدًا لـ «النظام المخزي من حالات الضعف والمفاوضات مع المتمردين[17]».

وبدا سريعًا أنَّ السلطاتِ المحليةَ أظهرَت قلةَ اهتمام بتنفيذ الالتزامات التي أوكلها إليها ميثاقُ دلهي. وبتاريخ 13 أيار/مايو، التقى لأول مرة باللورد ويلينغدون وأبلغَه مخاوفَه من الطريقة التي يطبَّق فيها الاتفاقُ الذي وقَّعه مع سَلَفه. لكنَّ الوضع لم يتحسَّنْ. في هذه الظروف، أبلغَ غاندي عن عدم استعداده بعدُ للذهاب إلى لندن. وبتاريخ 13 آب/أغسطس، نشرَت اللجنةُ التنفيذية لحزب المؤتمر بيانًا أعلنَت فيه ما يلي:

تلاحظ اللجنةُ بأسف أنَّ هناك بحسب رأيها، وبسبب السلطات الإقليمية، مخالفاتٍ خطيرةً للشروط التي نصَّ عليها اتفاقُ دلهي. هناك حد قد تمَّ تجاوُزُه عندما لم يُـلَـبَّ طلبُ المهاتما غاندي الذي صادقَت عليه اللجنةُ التنفيذيةُ لإنشاء محكمة حيادية للتحقيق في الادِّعاءات المتعلقة بهذه المخالفات ولتفسير بنود الاتفاق. وقد رُفِضَ مثلُ هذا المَطْلب حتى فيما يخصُّ المصالحَ الحيويةَ للفلاَّحين. ولهذا وجدَت اللجنةُ التنفيذيةُ نفسَها مضطرَّةً على مضض للتوصل، استنادًا إلى بنود الاتفاق ووفقًا للمصلحة القومية، إلى نتيجةٍ هي أنَّ حزب المؤتمر لا يمكنه ولا ينبغي عليه إرسالُ ممثلين له إلى مؤتمر الطاولة المستديرة[18].

بتاريخ 14 آب/أغسطس 1931، وجَّهَ غاندي إلى نائب الملك رسالةً أوضحَ له فيها أنَّ هذا القرارَ الذي اتَّخذَتْه اللجنةُ التنفيذيةُ لا يعني، مِن وجهةِ نظره، قطيعةً مع اتفاق دلهي. وطلبَ منه أنْ يُبلغَه إنْ كان يرى من جهته أنَّ قرارَ عدم المشاركة في مؤتمر لندن يُبطِلُ هذا الاتفاقَ. فكتبَ نائبُ الملك في جوابه إلى غاندي ما يلي:

كانت نشاطاتُ حزب المؤتمر خلال هذه الأشهر الخمسة الأخيرة مخالفةً في مَناحٍ عديدةٍ لحَرْفية اتفاق دلهي ولروحه، وقد شكَّلَت تهديدًا مستمرًا ليس فقط لاستمرارية الاتفاق، بل لحفظ السلام أيضًا.

وقام بتـنبيه غاندي إلى أنَّ رفض تمثيل حزب المؤتمر في مؤتمر الطاولة المستديرة من شأنه أنْ يكون مخالفًا لأحد الأهداف الأساسية للاتفاق. وأوضحَ أخيرًا أنَّ موقف الحكومة سيكون مرتبطًا بنشاطات حزب المؤتمر. ورأى غاندي أنَّ هذا الجواب يترك الباب مفتوحًا للنقاش فطلبَ من نائب الملك إمكانيةَ لقائه. وبعدما وافقَ اللورد ويلينغدون، ذهبَ غاندي بتاريخ 25 آب/أغسطس إلى سِمْلا Simla، المقر الصيفي لنائب الملك، وكان يرافقه بصورة خاصة جواهرلال نهرو وعبد الغفار خان. وقد أدَّت محادثاتُهم إلى الاتفاق على بنود بيانٍ وُقِّـعَ عليه في مساء يوم السابع والعشرين من آب/أغسطس. وبموجب هذا «الاتفاق الثاني»، تم التأكيد على أنْ يبقى الميثاقُ الموقَّع بتاريخ 5 آذار/مارس 1931 ساريَ المفعول. إذًا، سيمثَّل حزبُ المؤتمر في مؤتمر الطاولة المستديرة. من جهة أخرى، تعهَّدَت الحكومةُ بإجراء تحقيق في الوضع السائد في منطقة بَرْدولي Bardoli.

لم يبقَ لدى غاندي إلاَّ ما يكفي من الوقت للذهاب بقطار خاص إلى بومباي ليركبَ، بتاريخ 29 آب/أغسطس 1931، باخرةَ الركاب راجـﭙـوتانا Rajputana التي كانت متَّجهةً إلى فرنسا. وقد نقلَت صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration أنَّ

غاندي، طيلةَ فترة الرحلة البحرية، لم يغيِّرْ شيئًا من نمط حياته. فبعد أنْ كان يستيقظُ في الساعة الرابعة صباحًا، كان يصعد إلى سطح السفينة ليؤدِّيَ الصلاةَ مع تلاميذه، ويتناول فطورًا بسيطًا مؤلَّفًا من حليب الماعز وتمْرٍ جافٍّ، ثم كان يأخذ دولابَ غزْلِه ويغزِلُ بعد أنْ يكون قد أدَّى صلاةً أخرى. كانت تسليتُه الوحيدةُ نزهةً يتجاذبُ خلالَها أطرافَ الحديث بكل سرور مع الركاب. وعند مغيب الشمس كان يعود إلى حجرته فلا يخرج منها حتى اليومِ التالي[19].

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ذكرَه لويس فيشر Louis Fischer، La vie du Mahatma Gandhi [حياة المهاتما غانديسبقَ ذِكْرُه، ص 253.

[2] المجلد 45، ص 305-306.

[3] راجِعْ: أعلاه، ص 58.

[4] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجنيسبقَ ذِكْرُه، ص 163.

[5] المرجع السابق، ص 177.

* كان يوم الاثنين، اليوم الذي لزم فيه غاندي صمتًا تامًا.

[6] المجلد 45، ص 333-334.

[7] المجلد 45، ص 334.

[8] المجلد 45، ص 335-336.

[9] راجِع: د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، سبق ذكره، المجلَّد الثالث، ص 74.

[10] المجلد 45، ص 363.

[11] ذكرَتْه سيمون ﭙـانتر-بريك، Simone Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 179.

[12] المجلد 45، ص 364- 370.

[13] المجلد 45، ص 370-371.

[14] المجلد 45، ص 387-388.

[15] المجلد 45، ص 389-390.

[16] تارا شاند Tara Chand، History of Freedom Movement in India [تاريخ حركة التحرُّر في الهندسبق ذِكْرُه، ص 164.

[17] إدمون بريـﭭـا Edmond Privat، Vie de Gandhi [حياة غانديسبقَ ذِكْرُه، ص 141-142.

[18] ذكرَه تيندولكار Tendulkar، Mahatma, [المهاتما،سبق ذكره، المجلَّد الثالث، ص 105.

[19] صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration، 19 أيلول/سبتمبر 1931.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود