هَشيم

لغة تتعمَّد عدم كشف أسرارها

 

جمانة حداد

 

لا يتردَّد الشاعر والناقد الموسيقي السعودي أحمد الواصل في إسدال غيوم كثيفة على أفق قصائده كي يحجب المعاني ويلغِّزها ويوقِع بها. وديوانه الثاني هشيم،* بعد مجموعة أولى بعنوان جموع أقنعة، يدأب في ذلك دأبًا غريزيًّا، حتى يكاد يشكِّل مانيفست للاَّمعنى – لولا الوَجْد الناضح منه! كأن لغته تخشى هول الانكشاف الغنائي تحت ضوء الدلالات والتفسيرات والمعادلات، فتختار عباءة العَمَاء والضبابية والتبدُّد. وذاك شأن يطال مدى واسعًا من الصفحات، في قصائد تنسج تخييلاتِها وبواطنَها، من دون أن تهاب الارتطام بجدار اللاوصول، وعبر كلمات لا تقول غالبًا إلا صمتها وعبثيَّتها وعدمها.

 

من خلال هذا الصوت الذي يصلنا مكبوتًا، مبهمًا، بل منقوصًا أحيانًا، يبدو الشاعر كأنه يبغي إشعارنا بأنه ليس معنيًّا بنسيج المتاهة التي تغزلها كلماته، وبأن لغته الشعرية تهوى – وربما تتقصَّد – المكائد التي تُنصَب لمعانيها. صحيح أنها قصائد مفتوحة على "الآخر"، تُخاطبه وتستنجد به، إلا أنها دائمة البحث، في الوقت نفسه، عما يجعلها منيعة، مقفلة، غير قابلة لما قد يفكِّك المغزى المُضْمَر أو يفضح الرغبات المستترة.

كذلك شبكة العلاقات التي تقوم في بنى الجُمَل، توحي بأنه يُراد للمعاني أن تظلَّ في منأى عمَّا يعرِّضها للبوح والانكشاف. وأميل إلى الاعتقاد أن الواصل يراوغ ويتلاعب بتركيبة العبارات عمدًا كي لا تفصح لغتُه عن أسرارها الخضراء – إلا في بعض الواحات القليلة المزروعة في قلب صحراء الديوان الشاسعة. ولا أرى سببًا آخر يحول دون أن تنزع الأفكار أقنعتها، المصطنعة غالبًا والمفروضة عليها فرضًا، من أجل أن تتعرَّض لشموس التحقُّق التي قد تعرِّيها، تُنْعِشُها، وتمنحها هالة النضج ولذة الانفجار. أليست تلك الأقنعة ليلاً يتشبَّث به الشاعر ويتحصَّن وراءه، إمعانًا في الهرب من النور، كي يحول دون استسلام وجهه الحقيقي لنداء التجلِّي وظهور الصورة الفعلية لوجدانه وكيانه؟ ربما. فكأن كلماته لا تجد طمأنينتها الدلالية إلا إذا ظلت في مثل هذه المتاهة السلبية، أي خارج العلاقات الطبيعية التي ينبغي لها أن تقوم بين الدال والمدلول.

لكن هذه الغلالات، التي يُراد بها إنقاذ المعنى من براثن السهولة بنسيج الصعوبة والتعقيد، نادرًا ما تحمي الصوت الشعري وكثيرًا ما تخنقه. فخشية أن تسلِّم نفسها منذ اللحظة الأولى، تتوغل في نفق الغموض فتُصاب – وتصيب – بالحلكة المعمية. ولهذا السبب تحديدًا يحار القارئ كيف يعثر على درب تهديه إلى أرض "المقصود" أو إلى مفتاح لباب المعنى. من الواضح أن الشاعر يسعى جاهدًا في إخفاء هذين – بل إلى طمسهما أحيانًا – كي لا يصلا. لذا كلما لاح لهما ضوء، أو احتمال ضوء، أوقعهما في السرابات المتوالية.

غير أن الواصل لا يظل قادرًا على المضيِّ في مسعاه هذا طوال المجموعة. فمعانيه تزيل أقنعتها في بعض القصائد، فنراها مضرَّجة بدماء شفيفة ورقيقة وأكاد أقول رومنطيقية. هكذا نعثر في الديوان الكثير القول، حين تفقد المتاهة سيطرتها، على لحظات حالمة، عاشقة، حارقة، مثيرة لشجن الجسد والروح وجمرهما. ونعثر أيضًا على إيحاءات عشقية ومخاطَبة تهتف ولا تكشف نفسها، لكنها تنبئ بأن أحلامًا جمَّة هي قيد الانتظار، مثل "عناق يفجِّر صحراء الظن". وهي أحلام لا تخشى التعرِّي تحت "ندى الشهوة"، بل تتصعَّد حتى "يصير الشوق مدبَّسًا وسائلاً، ويفتح العروق طريقًا للوصول إلى الحبيب الذي لا بدَّ أن يكون أدرك الانتظار". إنها لحظات صوفية – وإن على تجسُّد – متحررة، متمردة، كأنها تحاول، باندلاعها، التعويض عن القمع الذي تعرَّضتْ له في قصائد أخرى.

وما تلك اللحظات المشتعلة سوى إنباء بالـ"هشيم" الذي سيلتهم الكلمات ويشكِّل المأدبة الجوهرية للمجموعة. وليت الشاعر ارتكب للتوِّ هذه "الحرائق" منذ الصفحات الأولى! ليته أبكر في استخدام ذاك "المفتاح المرمي خلف أبواب الحقيقة" لكي "يلتحم الشغف/ بخطى السحاب الوئيدة/ ويتولانا سهم البقاء/ قبل هشيم القصيدة [...]".

هكذا ينسج أحمد الواصل، في مجموعته الجديدة، من مثلَّث الصمت واللغز والتضليل ثلاثيةً تعدُّ لنا مائدة عامرة بالتأويلات. لكن ثمة فرقًا شاسعًا بين البكم والكتمان، بين التعقيد المطوِّق وذاك المطوَّق، بين المحجوب عن قوة والمحجوب عن عجز، بين ضيق الغموض المجاني وحرية الغموض السافر رغم لامرئيَّته.

وبسبب هذا الفرق بالذات نقول إنه كان ربما على الشاعر أن يتخلَّى عن "التقيَّة" الشعرية. أن يلبي نداء العري والشمس. أن يمارس طريق الأنهر، فيمنح قصائده سبل الذهاب إلى البحار – وإن كان ثمن ذلك أن تغرق. أليس الغرق غاية "الهشيم" الملتهب التوَّاق إلى إطفاء نيرانه في المياه التي تدمل الحروق أو تلك التي تؤجِّجها؟

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 4 نيسان 2003


* صَدَرَ عن دار النهار، 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود