رؤية أوري أفنيري للصراع والتسوية

الفلسطينيين–الإسرائيليين

 

جورج طرابيشي

 

مَن يقرأ كتابات أوري أفنيري [ومنها أسبوعيات داعية سلام إسرائيلي في أثناء "الانتفاضة" – تشرين الأول 2000-أيلول 2002] يراودُه حالاً الشعورُ بأن العقل مازال له دورُه في تاريخ الشرق الأوسط، رغم كلِّ جنون العنف والعنف المضاد الذي لا يفتأ يغلِّف هذا التاريخ، إن لم يكن منذ قيام إسرائيل، فعلى أيِّ حال منذ وصول شارون – أكثر جنرالاته بطشًا وأحبُّهم لسفك الدماء – إلى سدة الحكم عن طريق الانتخاب "الديموقراطي".

أوري أفنيري هو، بحدِّ ذاته، كإنسان وككاتب وكمناضل سياسي، نموذج نادر لعقل أنجبَه جنونُ التاريخ. فهذا اليهودي الأشكنازي الأصل، الذي رأى النور في ألمانيا في العام 1923، في بداية صعود الجنون النازي، اضطر إلى الهرب مع أفراد أسرته من مسقط رأسه في العام 1933، بعد بضعة أشهر على وصول هتلر، كبير ممثلي اللاعقل في التاريخ، إلى سدة الرئاسة، هو الآخر، عن طريق الانتخاب "الديموقراطي".

كان لا يزال في العاشرة من العمر عندما وطأت قدماه، مع أبيه وأخيه البكر، أرض فلسطين. ولم يكن قد جاوَزَ الخامسة عشرة من العمر عندما انتمى، تحت تأثير الافتتان بالإيديولوجيا الصهيونية، إلى منظمة "الإرغون" القومية المتطرِّفة، ثم أدى في العام 1942 خدمته العسكرية داخل وحدة للمغاوير تابعة لمنظمة "الهاغانا"، التي اقترفت حينئذٍ أعمالاً "إرهابية" لا تقع تحت حصر ضدَّ المدنيين الفلسطينيين، كما ضدَّ مؤسَّسات الانتداب البريطاني. وقد شارك في "حرب الاستقلال" وجُرِحَ مرتين، قبل أن يُصدِر، ابتداءً من العام 1950، مجلة هاعولام هازه. ثم انتُخِبَ ثلاث مرات على التوالي نائبًا في "الكنيست" الإسرائيلي. وكان أول إسرائيلي يتصل منذ العام 1975 – وبصفته صهيونيًّا – مع المسؤولين الفلسطينيين من ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية. وفي العام 1976 أسَّس مع الجنرال ماتي بيليد، الرئيس السابق للأركان الإسرائيلية، "المجلس الإسرائيلي للسلام الإسرائيلي–الفلسطيني". ثم كان بعد ذلك أول إسرائيلي يلتقي ياسر عرفات في بيروت المحاصَرة في العام 1982. ورغم الحظر الرسمي الذي أصدرته الحكومة الإسرائيلية، تكررتْ زياراتُه لعرفات؛ وكانت آخرها تلك التي قام بها لمقرِّه المحاصَر في رام الله في كانون الثاني 2002.

 

وبصفته مؤسِّسًا لحركة "غوش شالوم" (كتلة السلام)، أشهر المنظمات السِّلمية الإسرائيلية وأكثرها جذرية، فإنه لا يفتأ ينشر، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000، مقالة أسبوعية يعلِّق فيها على الأحداث الساخنة من موقع غير "أرثوذكسي" بالمرة، إلى حدِّ اتهامه بالخيانة القومية وطلب تقديمه إلى المحاكمة. ومن هذه الأسبوعيات اختار 66 مقالاً جمعها في كتابه هذا، معتزًّا بترجمتها إلى الفرنسية،* لأن فرنسا هي النواة الصلبة لأوروبا، ولأن أوروبا هي المؤهَّلة وحدها في نظره – دون الولايات المتحدة الأمريكية – لأن تتخذ موقفًا عقليًّا وأخلاقيًّا من النزاع الإسرائيلي–الفلسطيني، وبالتالي، موقفًا نقديًّا من سياسات إسرائيل التوسعية والاستيطانية.

 

لماذا هذا الحكم بتعجيز الولايات المتحدة الأمريكية عن اتخاذ موقف عادل – بل محض موقف منطقي ولامتحيِّز – من الصراع المركزي في الشرق الأوسط؟ إن أوري أفنيري لا ينكر وجود ضغوط سياسية داخلية يمارسها اللوبي اليهودي الأمريكي أو الجماعات الإنجيلية الأصولية؛ كما لا ينكر وجود مصالح اقتصادية أمريكية تتعلق، لاسيما في عهد الرئيس بوش ذي حاسة الشمِّ النفطية القوية، بالسيطرة على منابع البترول في الشرق الأوسط. لكنه يضيف إلى هذه الأسباب، وفي ما وراء هذه الأسباب، ما يسميه بـ"النَّفْس الأمريكية" التي يطيب لها أن تتماهى مع إسرائيل بقدر ما يبرِّر الحاضرُ الإسرائيليُّ الماضيَ الأمريكيَّ نفسه: فعن وعي أو عن غير وعي، يُماهي الأمريكيون بين الفلسطينيين وبين "الهنود الحمر"؛ وشارون يتلبَّس في وجدانهم شخصية "صياد الهنود"؛ والضفة الغربية المحتلة تمثل لهم ما كان يمثله الغرب البعيدFar-West ؛ والمستوطنون اليهود – وكثيرون منهم من أصل أمريكي أشبه ما يكونون بـ"الرواد". والأمريكيون، إذ يبرِّرون ما يفعله إسرائيل حاليًّا، يبرِّرون الجرائم التي اقترفتْها الأجيال السابقة من الأمريكيين – وهي جرائم لم يتم قط الاعتراف بها فعلاً.

وفي الوقت الذي تقف فيه الولايات المتحدة عاجزة – رغم توفر القدرة لديها – عن أداء دور إيجابي في فرض حلٍّ سلمي وعادل للنزاع الإسرائيلي–الفلسطيني، فإن أوروبا تتهرب بيأس من أداء واجبها – مع أن قدراتها، هي الأخرى، لا يُستهان بها. والحق أن ما يشلُّ أوروبا عن التدخل، أو حتى عن التوسُّط، هو رزوحها تحت عقدة ذنب "المحرقة": فستة ملايين من ضحايا الهولوكوست يُثقِلون على ضمير أوروبا. لكن المحرقة اليهودية لا يجوز أن تكون مبرِّرًا للمحرقة الفلسطينية؛ بل على العكس تمامًا: فحتى لا ترزح أوروبا تحت وطأة عقدة ذنب جديدة فإن عليها أن تضطَّلع بواجبها السياسي والأخلاقي معًا لوضع حدٍّ لعملية تحويل الفلسطينيين إلى "ضحايا للضحايا". ولا ينبغي لأوروبا أن تخضع ههنا للابتزاز بتهمة العداء للسامية. فبقدر ما ستفلح في الضغط من أجل تحقيق المصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين فإنها ستخدم إسرائيل نفسه. إذ ليس لإسرائيل من مستقبل آخر سوى الاندماج في محيطه – وهو، في الأحوال جميعًا، محيط "سامي".

ورغم ما جُبِلَ عليه أوري أفنيري من تفاؤل، "بالفطرة وبالوراثة" كما يقول، فإنه لا يماري في أن مستقبل السلم والعدل الذي يراهِن عليه تغلِّفه الآن سحبٌ سوداء: فقوى الحرب والحقد والخوف قد سيطرت اليوم على مقاليد الأمور في دولة إسرائيل؛ وهي تصرُّ على الزجِّ بالإسرائيليين، على نحو أعمق فأعمق، في دوامة صراع لا مخرج له. ومما يزيد في سواد هذه الصورة أن معسكر السلام داخل إسرائيل نفسه قد تفكَّك منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، وأن الحدود بين اليسار واليمين الصهيونيين، كما بين حزب العمل وحزب ليكود، قد امَّحتْ. وهذا الانسداد في الداخل الإسرائيلي يقابله تعاظُمُ القنوط واليأس في الجانب الفلسطيني. ومن هنا غلبة التطرف الديني والقومي على القوى الطالبة للحوار من كلا الجانبين. ومن هنا أيضًا الحاجة إلى إعادة بناء معسكر السلام في إسرائيل، كمقدمة لا بدَّ منها لإعادة بناء معسكر الحوار في الجانب الفلسطيني.

ويردُّ أوري أفنيري أحد أسباب تفكُّك معسكر السلام الإسرائيلي إلى كونه قد قام، في شقٍّ واسع منه، لا على أساس سياسي، بل على أساس أخلاقي ووجداني. فالسِّلميون الإسرائيليون ظلوا يتجاهلون، لمدة طويلة من الزمن، القضية القومية للشعب الفلسطيني، ولم يتعاطفوا مع الضحايا الفلسطينيين إلا لإعلاء صورتهم الأخلاقية في نظر أنفسهم.

ولكن حالما كفَّ الفلسطينيون عن أن يكونوا مجرَّد ضحايا وتحوَّلوا، مع اندلاع الانتفاضة الثانية، إلى مقاتلين يوقِعون الضحايا في صفوف الإسرائيليين أنفسهم، انكفأ السِّلميون الإسرائيليون على أنفسهم، وغسلوا أيديهم، معتبِرين أنهم قد أدَّوْا واجبهم، وأن مهمتهم، بالتالي، قد انتهت. والحال أن أوري أفنيري يرى النزعة السِّلمية الإسرائيلية ليس أمامها من خيار آخر، حتى تكون فاعلة حقًّا في المجتمع الإسرائيلي، سوى أن تكون "سياسية". وأن تكون سياسية فهذا معناه أن تفهم أن "المصالحة التاريخية" بين الإسرائيليين والفلسطينيين ليس لها من طريق آخر سوى الاعتراف بالطابع القومي لمَطالب "الأمَّة الفلسطينية".

ففي فلسطين اليوم – وهذا هو جوهر الواقع السياسي القائم في هذه المنطقة الضيقة من العالم – شعبان وأمَّتان؛ وليس أمامهما من خيار آخر – خلا الدوامة الجنونية للعنف والعنف المضاد – سوى أن يتعايشا، أي أن يقبل كلٌّ منهما بالوجود السياسي للآخر، وهذا عبر حدود مفتوحة لا مغلقة. فوحدها الحدود المفتوحة – وهذه عبارة يطيب لأوري أفنيري أن يستعيدها عن إسحق رابين – هي حدود آمنة. ومثل هذه الحدود المفتوحة والآمنة معًا يمكن أن تجد رمزيتها في مدينة القدس نفسها التي ينبغي أن تبقى عاصمة مشتركة للدولتين ضمن نطاق حدود "الخط الأخضر" للرابع من حزيران 1967.

وفي الوقت الذي لا يماري فيه داعيةُ السلام الإسرائيلي في أن أزمة المعسكر الذي ينتمي إليه تعود، في حلقة رئيسية من حلقات سلسلتها السببية، إلى "عسكرة الانتفاضة" الثانية وتصاعُد وتيرة العمليات الانتحارية الفلسطينية، فإنه يصرُّ على رؤية سياسية وعلاج سياسي لظاهرة "الإرهاب". وفي ذلك يقول، في سياق تعليق له على إعلان الرئيس بوش "الحرب على الإرهاب":

إن الإرهاب كان ولا يزال أداة سياسية؛ والطريق الأفضل لمحاربته هي، على الدوام، سياسية. حلُّوا المشكلةَ التي تولِّد الإرهاب، تتخلَّصوا من الإرهاب. أوجدوا حلاً للمشكلة الإسرائيلية–الفلسطينية ولسائر الدمامل المتقيِّحة في الشرق الأوسط، تتخلَّصوا من "القاعدة". فلسوف تذوي وتفنى كزهرة قُطِعَ عنها الماء.

ويختم قائلاً إن المشكل مع حكومة شارون، المتشبثة بحلِّ بوليسي للإرهاب، هو أنها، بدلاً من أن "تقطع الماء بهذا المعنى عن الإرهابيين، تقطعه فعليًّا عن سكان القرى والبلدات الفلسطينية. وعلى هذا النحو تسوق الماء إلى طاحونهم وتحوِّلهم إلى أبطال قوميين".

*** *** ***

عن الحياة، الأحد 6 تموز 2003


* Uri Avneri, Chronique d’un pacifiste israélien pendant l’Intifada, L’Harmattan, Paris, 2003 ; 310 pages.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود