لم يعدْ يعرفُ الليلُ كيف يُحيِّي قناديلَنا*

 

أدونيس

 

1

خَرَجَ الوردُ من حَوْضِهِ

لمُلاقاتها،

كانتِ الشَّمسُ عُريانةً

في الخريفِ، سِوَى خَيْطِ غيمٍ على خَصْرها.

هكذا يُولَدُ الحبُّ

في القريةِ التي جئتُ مِنها.

 

2

نهضتُ أسألَُ عَنكِ الفجرَ: هَل نَهضَتْ؟

رأيتُ وجهَكِ حولَ البيتِ مُرتَسمًا

في كلِّ غصنٍ. رميْتُ الفجرَ عن كَتِفي:

جاءَتْ

أمِ الحُلمُ أغواني؟ سألتُ ندًى

على الغُصونِ، سألتُ الشَّمسَ هَل قرأتْ

خُطاكِ؟ أينَ لمستِ البابَ؟

كيفَ مَشى

إلى جوارِكِ وَرْدُ البيتِ والشجرُ؟

أكادُ أشطرُ أيامي وأنْشطرُ:

دَمي هناكَ وجسمي هَا هُنا – وَرَقٌ

يجرُّهُ في هَشيمِ العالمِ الشَّرَرُ.

 

3

صامتٌ ليلُنا.

مِِن هُنا زهرٌ ينحني،

مِن هنالك ما يُشبه التَّلعثُمَ.

لا رجَّةٌ، لا افتتانْ.

ليلُنا يتنهَّد في رئتَينا

والنوافذُ تُطبِقُ أهدابَها.

-       تقرأين؟

-       ضَعِ الشايَ. ضوءٌ

يتسرَّبُ مِنْ جسدينا إلى جسدينا

ويغيِّر وَجْهَ المكانْ.

 

4

هكذا – في عِناق الطَّبيعةِ والطَّبْعِ، نعصفُ أو نَهْدأُ،

لا قرارٌ، ولا خِطَّةٌ – عَفوَ أعضائِنا

ننتهي، نَبدأُ.

جسدانا

كوكبٌ واحدٌ.

نتبادَلُ أحزانَنا،

نتبادَلُ أحشاءَنا،

جسدانا دَمٌ واحِدٌ.

نحن صِنْوانِ في الجرحِ: مفتاحُ أيامِنا

ومفتاحُ أفراحِنا وأحزانِنا،

جَسدانا.

 

5

فَكَّتِ الأرضُ أَزرارَها، وسارَتْ

حُرَّةً في خُطانا،

عندما سألتْنا وقلنا:

نعرفُ الحبَّ يا أرضَنا. جَبَلْنا

طينَنا مِن هَباءِ مسافاتِهِ، وجَبَلْنا

فتنةَ القمرِ المتشرِّد في طَمثهِ بأوجاعِنا،

ورسَمْنا

كُلَّ ما لا يُرى مِن تقاطيعهِ،

بتقاطيعِنا.

هي ذي أرضُنا، –

نتوقَّعُ أن يعشقَ الحبُّ أسماءَه

كيفما دُوِّنَتْ

في دفاتر أيَّامِها.

 

6

نَهَرٌ – مِنْجَمٌ

نَهَرٌ غامرٌ

يتلبَّسُ أعضاءَنا

ويسافرُ فيها –

يدخلُ البحرُ فيه

تخرجُ الأرضُ منه،

والبقيةُ لا تُفهَمُ.

لا أحدِّدُ لا أرسمُ:

الدخولُ إلى ليل حبِّي مضيءٌ

والخروجُ هو المُعتِمُ.

 

7

علَّمتْني مَراراتُ أيَّامِيَ الرائيهْ:

ليس للحبِّ إلاَّ طريقٌ عموديةٌ

لا تُسمَّى –

وإنْ قيلَ عنها

لغةٌ في الهبوطِ إلى آخرِ اللَّيل،

في نارِه العاليهْ.

 

8

كيف لي أن أسمِّيَ ما بيننا ماضيًا؟

ليس ما بيننا قصةً،

ليس تُفَّاحَ إنْسٍ وجِنِّ

أو دليلاً إلى موسمٍ،

أو مكانْ –

ليس شيئًا يؤرَّخُ: هذا

ما تقولُ تصاريفُ أحشائنا.

كيف لي أن أقول، إذًا، حبُّنا

أخذتْه إليها تجاعيدُ هذا الزمانْ؟

 

9

تركتِ في جسدي وَرْدًا، تركتِ ندًى

تركتِ غابةَ ألوانٍ – تُراهُ غدي

يُضيئُها؟ أم تُرى أمسي يُضيِّعها؟

أفي عروقيَ ورْدٌ آخرٌ؟ شهقتْ

إلى ترابكِ أعضائي – نُمازِجُه،

نفيضُ فيه، ونستقصي، ونبتكرُ.

دمٌ هَوًى لهبٌ ماءٌ مدًى – أبدٌ

لا بالحياة ولا بالموتِ يُختَصَرُ.

 

10

ربَّما،

ليس في الأرض حبٌّ

غيرُ هذا الذي نتخيَّلُ أنَّا

سنحظى به، ذات يومٍ.

لا تَقفْ –

تابِعِ الرَّقصَ يا أيُّها الحبُّ، يا أيها الشِّعر،

حتَّى وَلو كان مَوْتًا.

 

11

لا أحبُّ الرسائلَ، كلاَّ

لا أريدُ لحبِّيَ هذا الأرقْ

لا أريدُ له أن يُجَرْجَرَ في كلماتٍ.

لا أحبُّ الرسائلَ، كلاَّ

لا أريدُ لأعضائنا

أن تسافرَ في مركبٍ من ورقْ.

 

12

آهِ، كلاَّ

لا أريد لعينيَّ أن تَسْبحا في فضاءٍ

غير عينيهِ. كلاَّ

لا أريد لحبِّيَ وأشيائه وضوحًا

لا أريدُ انتماءً ولا نسبًا أو هويَّهْ.

لا أريدُ سوى أن نكونَ لغاتٍ

للجموح، وأعضاؤنا أبجديَّهْ.

 

13

لا تَقُلْ، لا تُسمِّ:

الخليقةُ، يا حبُّ، أشياؤها وأعمالُها

صُوَرٌ في كتابٍ من الظَّنِّ. خُذني

أعطني أنْ أسافِرَ في الوهم،

في ما تخيَّلتُ أو أتخيَّلُ –

أن أتمادَى

وأُشهِّيَ شَكِّي بنفسي

وبتمزيق ما تَنْسجُ الكلماتُ وما أتَقرَّاهُ فيها،

وما أشتَهيهِ

وأَنذرُ جسمي لمعراجهِ.

أعطِني أن تكون حياتي طريقًا إلى لا قرارٍ.

 

14

جالسٌ قُربَها

والستارُ الذي نسجتْه تباريحُنا مُسدَلٌ.

قامةُ الأفقِ مكسورةُ الخَصْرِ،

والشَّمسُ تمضي إلى نومِها.

مِشطها، قلمُ الحبر، كرسيُّها، الفراشُ

على الأرض، أكداسُ أوراقِها –

كتبًا ودفاترَ – بستانُ وَرْدٍ

تتناثرُ أكمامُهُ.

أتذكَّر حتَّى كأني أرى الآنَ: ها بيتُها

يَتنهَّدُ، هَا شُرفاتُ النوافذ تُسلِمُ أحضانَها

للمُريدِ المولَّه،

والشَّمسُ في أوَّل اللَّيل،

تخلعُ آخِرَ قمصانها.

 

15

لا الزمانُ سريرٌ ولا الأرضُ نومٌ،

شجرُ الحبِّ عارٍ

والمكانُ الذي شاءَه الحبُّ دونَ غطاءٍ.

أتُرى، أيقظَ اللَّيلُ أحلامَهُ

وهي الآنَ تركضُ في شارعِ الشَّمسِ؟ ظنِّي

أنَّ هذي الشموسَ التي تتثاءبُ

في فلكِ الحبِّ

ليست على الأرض إلاَّ جراحًا.

سأُغني لهذا المكان المُضاءْ

بحُطامِ المحبِّين قبلي:

ليسَ هذا الوجودُ سوى فُسحةٍ للغناءْ.

 

16

يدُها في يدي

وكلانا غريبٌ

وكلانا غدًا ميْتٌ

في فراشٍ بعيدٍ.

سَرْبِلينا بأوهامنا

وبأشباحنا،

يا أساطيرَ أيَّامنا،

واضطربْ واقتربْ

أيُّهذا البعيدُ الجميلُ الأَحدْ،

أيُّهذا الجسدْ.

 

17

غالبًا أتفقَّدُ بيتيَ في اللَّيلِ أُشعلُ ضوءَ المصابيحِ،

لكنَّها لا تُضيءُ/ النوافذُ؟ أبدأ فَتْحَ

النوافذِ لكنَّها لا تُضيءُ/ لعلِّي في البابِ

ألقى ضياءً، أقولُ لِنفسي،

وأُسرعُ للبابِ أرْجوهُ،

لكنَّهُ لا يضيءُ/ الظَّلامُ هنا مثلُ جُرحٍ

يظلُّ، على بُرئه، نازفًا،

يقولُ ليَ الحبُّ –

يا حُبُّ مِنْ أينَ يأتي الضِّياءْ،

والسَّماءُ تخونُ السَّماءْ؟

 

18

ها هو السَّهرُ المُرُّ يأتي ويُشعِلُ قنديلَهُ.

هل أُعيدُ رسائلَ حُبِّي إلى حبرها؟

هل أمزِّقُ تلكَ الصُّوَرْ؟

أقرأ الآنَ جسمي،

وأملأُ بالحُزنِ قنديلَ هذا السَّهَرْ.

 

19

أفتحُ البابَ، يأتي هواءٌ يزورُ الرسومَ التي تتدلَّى

ويُداعبُ أطرافَها.

بَغتةً، تتثاءَبُ، يمضي حانيًا ظهرَهُ.

لَمْ يكن حبُّنا هنالِكَ، أطيافُهُ

حملَتْ كلَّ ما رَسَمَتْهُ

في السَّريرِ، وفوقَ الوسائِدِ، في قبضةِ البابِ،

في قُفلِهِ وغابتْ.

أتَخيَّلُ؟ لكنْ

كلُّ هذا تؤكِّده غيمةٌ –

غيمةٌ تعبُرُ الآنَ، غابتْ.

لا هواءٌ يزورُ، ولا مَنْ يقولُ لتِلكَ الرسومْ

كيفَ تُروَى أساطيرُنا

كيفَ يُكتَبُ تاريخُ هذي الغيومْ.

 

20

ما الذي سوفَ يبقى

ويُشعِلُ للعاشقين قناديلَ أيَّامنا؟

ما الكلامُ الذي سوفَ يَبقى

من مَعاجِمِ أحشائِنا وأعضائِنا

مِن أساطيرِنا البعيدهْ؟

ما الذي سوفَ يَبْقى

غيرُ ما قالَه قاتِلونا:

كَتَبْنا بحبرِ مَرَارتِنا هَوانا

وعِشنَا بلا حِكمةٍ

وسَكَنَّا قَصيدَهْ.

 

21

سأزورُ المكانَ الذي كان صيفًا لنا

بعدَ ترحالِنا

بَينَ شطآن يوليسَ، في ليلِ دِلفي،

وفي شمسِ هِيدْرا.

وسأمشي مثلما كُنتُ أمشي

هائمًا بينَ أشجارهِ.

سأذكِّرَ أزهارَهُ ورياحينَهُ

بأريجِ لقاءاتِنا.

وأكيدٌ سَتسأَلُني عَنكِ: ما صِرْتِ؟

أينَ تكونينَ؟ ما وجهُكِ الآنَ؟ لكنْ

ما تُراني أقولْ

والفصولُ مَحَتْها الفُصولْ؟

 

22

عاشقٌ

لم يعدْ بين عينيه غيرُ الفراغ،

يقولُ الخرابَ، ويدعو

كلَّ شيء إليه احتفاءً به،

ويغنِّيه في كلِّ شيء.

أيُّها العاشق الذي صَدِئَتْ قدماهُ

صَدِئَتْ راحتاهُ

من دروبٍ عقاقير، ماذا

يفعل الآن تاريخُك القتيلْ؟

قُمْ تجرَّأ على الصمت، مزِّقْ رسائلَ أسرارِه،

قُلْ لهذا المقام: انكسرتُ،

وأعضائي الآن مهزومةٌ

وقُلْ للرحيلْ.

 

23

رسمَتْكِ على جسد النيل، بين يديه

عندما كنتِ تمشين كالضوء في ظلِّ أحزانهِ

لغةٌ

لم يكن لإيزيسَ أن تتوقَّع فيها

قيامَ أدونيس من موته

كي يبرِّئ من دمِه قاتليه.

وتظلُّ الأنوثةُ بدءًا.

رسمَتْكِ على جسد النيل، في غيمها وفي صحوها،

أبجديةُ أمواجه.

 

24

أخذتْنا الحياةُ إليها رمتْنا

في شباك أعاصيرها وأعطتْ

صَدْرَها لنوافذ أيامنا.

حين أسألُ نفسيَ: ماذا أخذنا؟ وأرى. لا أرى

في النوافذ إلا شباكًا.

أتُرانا وهمْنا

مثلَ أسلافِنا

أننا خارج الشِّباك؟ تُرانا

مثل أسلافنا

لم نزلْ نعشقُ الحياةَ التي عشقتْ قيدَها؟

 

25

ما أمرَّ وما أوجعَ الحنينَ إلى بيتها

واضعًا وجنتيَّ على كتفِ الليل، مستسلمًا إليهِ

تحتَ قوسِ الصَّنوبر، والليلُ يقرأ أعمالَهُ

حارسًا بابَه والنوافذَ. لا نار إلاَّ

ما يُصلصلُ في الجسد الحرِّ، أو ما يشبُّ

على أرضه.

(قاتمٌ ذلك الممرُّ إلى أرضه، اليوم،

والريحُ هوجاء من كلِّ صوبٍ.)

ما أمرَّ وما أوجع الحنين إلى ما تبقَّى

من أساطير حبِّي،

ما أشقَّ الكلامَ عليها، ولا نار عندي لهذا الحطامْ

غيرُ نار الكلامْ.

 

26

هل أقولُ: اغسلي قاعَ حوضِكِ مما ترسَّب فيه

من تعاليم أمْرٍ ونَهْيٍ؟

هل أكرِّر من أولٍ:

أغلقي بابَ ليلي عليكِ

افتحي للعواصف أبوابَها حيث شاءتْ

لتكنسَ أنقاضَها،

وتُسَمِّيَ هبوبَك في كلِّ عضوٍ؟

هل أُسميكِ من أولٍ؟

 

27

شاهدٌ أنكِ الجذرُ. حاولتُ أن أقرأ

المتبقيَ منه، وان أُنطِقَ الصمتَ:

لا صوت. من أين جاء إلينا

خَرَسٌ يتراءى، كأنَّ الصمَمْ

لغةٌ فيه؟ وجهي

ووجهُكِ، هذا المساءَ، محيطٌ

لسفينةِ جرحٍ،

وجهُ ربانِها باردٌ

ليس فيه مكانٌ لِلا أو نعمْ.

 

28

بعد هذا التشرُّد ملءَ المدائن،

بعد السنين التي أرهقتْ كاهليَّ،

أغنِّي لنا، لطفولاتنا.

لا أصدِّق أني شيَّختُ، أمشي غريبًا

لا عزاءٌ ولا أتشكَّى. لحبِّي وموتي

فلكٌ واحدٌ – وأُغوي

مَن يجيئون بعدي،

أن يضيئوا بنور الجسدْ

ظلماتِ الأبدْ.

 

29

لم يعدْ حولَ رأسي

أيُّ تاجٍ سوى حبِّها:

حبُّها زَهَرٌ ذابلٌ.

سأغنِّي حروبي فيها إليها

أنا المرهقَ المنقسمْ.

وأمجِّدُ أهوالَها

وأغنِّي، وصوتي جراحٌ:

صبواتيَ لا تنثني

وجراحيَ لا تلتئمْ.

 

30

قلت: أسهرُ حتى الصباح لأكتبَ، لكن

ما أقول؟ انكببتُ أخطُّ وأمحو

وأبدأ. لا شيء. كيف تغيرتُ؟

أنَّى، وكيف توارى

كلُّ ما كان عندي؟

نِمْتُ – كلا، رمى النومُ أثقالَهُ

فوق رأسي.

في الصباح، شعرتُ كأني شُطِرْتُ،

وأصبحتُ غيريَ، شخصًا

بعيدًا يسيرُ إلى ذاته البعيدةْ

كاتبًا هذه القصيدةْ.

 

31

ما الذي ضاعَ منَّا وما زال فينا؟

ما الذي فرَّقتْنا مسافاتُهُ

ويوحِّد ما بيننا؟

أترى لم نزلْ واحدًا

أم كلانا تشتَّت؟ ما ألطف الهباءْ

جسمُه الآن، في هذه اللحظاتِ،

وجسمي سواءْ.

 

32

ها هنا نحن، وجهًا لوجهٍ

في جحيم جراحاتِنا.

البرودةُ بيتٌ لنا، وما بيننا

فلكٌ آفلٌ –

فلكٌ يكتبُ الذبولُ مراثيَ أزهارهِ.

لم يعدْ يعرفُ الليلُ كيف يحيِّي قناديلنا.

 

33

هل يعزِّيكِ أنَّ الغيوم تجيء وتذهبُ في لحظةٍ،

ثم تأتي غيومٌ سواها؟

هل يعزِّيك أن القبور بيوتٌ

يتساوى البَشَرْ

بين جدرانها؟

هل يعزِّيك أن النَّظَرْ

لا يرى غير ما رسمتْه الغيوم؟ عزائي

أن هذا المكان الذي جئتُ منه

لا يزال يوشوشُ أسرارَهُ

للزمانِ، وأن الزمانَ الذي أنتمي إليهِ

لا يزال يجدِّد ألوانَه

ويقلِّب أوراقَهُ

في كتابِ الشَّجَرْ.

 

34

ألغروبُ،

تُرى ساعةُ اللارجوعِ إلى مشرقِ الحبِّ

حانتْ؟

غرفةٌ والمآذنُ من كلِّ صوبٍ

تتحاورُ في ظلِّ جدرانها.

يتذكَّر: موتٌ

في الوسائد تحت الغطاء

يقلِّب أوراقَه. غبارٌ،

وخطاطاتُ حلمٍ،

ومعاجمُ للواقع الميْت. حبٌّ غروبٌ.

آه، ما أبعدَ الشروق عن الحبِّ، عن شمسِه الوارثهْ،

آه، ما أجمل الكارثهْ!

 

35

لم يكن أورفيوسُ سوى صوت قيثارِه،

لماذا

شحبتْ وردةٌ وهي تصغي إليه؟

ولماذا

فهمتْ صوتَه الوحوشُ، ومالَ إليه الشجرْ

ولماذا –

مثلما قيلَ – حنَّ الحجرْ؟

أهو الحبُّ حقًّا؟

مُرَّ في حيِّنا

قُلْ لليلى، وقُلْ للنخيلْ:

لم يمتْ بعدُ قيثارُ قيسٍ

كن صديقًا كريمًا، أيُّهذا الإلهُ الغريبُ الجميلْ.

 

36

بعد أن شربتْنا مفاتنُ أعضائنا

وشَرِبْنا الشموسَ، دياجيرَها وقناديلَها،

لنقلْ: إننا نَضَجْنا

مثلَ عنقود كَرْمٍ.

يعشقُ الكرمُ بعدَ العلوِّ الهبوطْ

حيث ينحلُّ، يهدأُ في الدَّنِّ، ينساب في

الجسد الآدميِّ، ويعلو

من جديد إلى ربِّه.

نضَجَ الحبُّ فينا نضجْنا،

فسقوطًا سقوطًا، يا عناقيدَ أيامنا

ما أحرَّ النضوج، وما أكرم السقوطْ.

 

37

طِلَّسْم

طاء لام سين ميم/ s

أكتبُ لكَ أكتبُ إليكَ

لكي تخرجَ من الكتبِ التي تسكنُ في أعشاشِ طيورٍ ماتتْ

لكي لا تنسى الأشجارَ التي كنتَ تتسلقُها في طفولتك

لكي تعطيَ ضوءكَ لنجمةٍ تكادُ أن تنطفئ.

أكتبُ لكَ أكتبُ إليكَ

بحبرٍ يتشبَّه بدمعٍ سكبتْهُ عيناك في لقائنا الأول الذي كان غامضًا على جسدينا،

وأكتبُ لكي أحيِّيَ ذلك الغموض.

أكتبُ لكِ أكتبُ إليكِ

لأقول رئتي تغيَّرَ مكانُها حين يلتقي جسدانا، ولكي أسأل: هل تعرفين الطريق التي تسلكها؟

ولماذا يتحول جسدكِ آنذاك إلى بحرٍ يتموَّجُ في أعضائي، ولا شاطئ له؟

ولماذا تصبحُ هذه الحروفُ الثلاثةُ – جيم سين دال – أكبر من الأبجدية، وأكثر اتساعًا؟

نكتبُ لنا نكتبُ إلينا،

القدمُ وأصابعُها: مشطٌ للأرق،

الكاحلُ: عروةٌ في حافة

درجةُ سلَّمٍ نحو

عقدةٍ نافرةٍ في ما يشبه الفراغ

كلمةٌ تُلمَسُ لا تُلفَظ

أنا وهي قارئاكَ أيها الكاحل.

الساقُ: لذةُ انزلاقٍ

يظنُّ إيكاروس أنها هي كذلك معراجُه.

تاريخُ غرفٍ بلا نوافذ.

(يجبُ أن نعرفَ كيف نُبقي الحلمَ يتأرجحُ بثقله كلِّه بين أهدابنا.)

نعم، في نهاية السَّاق، من جهة الفخذ، يهبُّ نسيمٌ آخر،

والطبيعةُ كحرفِ الألف.

الركبةُ: خادمةُ أميرة

والجوابُ دائمًا: لا أتعب.

الفخذُ: إلى المثلث بعد ثوانٍ

تصلين أيتها الأصابع، ترى الكيمياءَ تبني لكَ مسرحَ الظلِّ أيها اللاعب.

اذهبْ هانئًا إلى موعدك هنا. من الشمس يخرجُ

الرعدُ، من التراب يخرجُ قوس قزح

للزَّغب كذلك جنونُه.

السُرَّةُ: لا بدَّ من وسيلةٍ لزرعِ الحياة كمثل

وردةٍ في حوضِ كمثلِ السُّرَّة.

الثديان: السقوط دائمًا من الثديين إلى ما

تحت السُّرَّة:

هذا هو النصُّ الذي أعطيناه عهدَنا لكي نتخذه دليلاً، ولكي نغطيَ به أماكن العبادة، ونصنعَ منه، وفقًا لأحوالنا، شرابًا أو خبزًا.

سقوطٌ نتنفسُ فيه، أينما اتَّجهنا، في دوائره وأشكاله الهندسية الأخرى، هواءً يرتجلُ أزهارَ الأنوثة والذكورة وفراشاتِها. ونصغي إلى الخلايا تتهامسُ، والى البشرة تُوَسْوِسُ وتُوَشْوِشُ أشياءَ لا نعرفُ عنها أكثر من أن الحلمَ يَقْطرُها في عرباته.

ونباركُ التفاصيلَ التي تتفتحُ كالنوافذ

مأخوذين بهذا الكلِّ الذي لا يُلغي من حضوره

إلا الملائكةُ وأوراقَ اعتمادهم.

سقوطٌ نتمسكُ فيه بقلادةٍ أو أكثر يمدُّها لنا عنقُ الشهوة فاتحًا لكلِّ حركة أفقًا وتكون أخطاؤنا بين أجمل أعمالنا لأنها تتيحُ لنا تكرارًا يتيحُ لنا أن نكرِّر الذوقَ الضدَّ

وذوقَ الغرابة.

سقوطٌ تضيق فيه على جسدينا الفراديسُ كلُّها، حتى تلك التي تتحدثُ عنها كتبٌ يحفظها الناس عن ظهر قلب، وتبدو هذه الفراديس كأنها ليست أكثر من حساءٍ دهنيٍّ (يمكن أن تقرأ الدال ذالاً).

ثم نقول لطبعنا: انثُرْ بذاركَ.

ونرى إلى البشرة التي يلتصقُ بها كيف تنبهرُ وتزدهر،

ونصغي إليها تتوسلُ لكي يتحوَّل يقينُ القطافِ إلى احتمالٍ، واحتمالُه إلى يقين

طاء لام ميم سين

.

*** *** ***


* صدرتْ عن دار الساقي (2003) مجموعةٌ شعرية لأدونيس بعنوان أول الجسد آخر البحر، هذه مقاطع منها. وقد ظهرتْ مختارات من هذه المجموعة باللغة الإيطالية بعنوان مئة قصيدة حب، بترجمة فوزي الدلمي (غواندا، ميلانو، 2002)؛ وكنا قد نشرنا 10 قصائد منها في الإصدار العاشر من معابر، بعضُها وارد هنا، لكنْ في صيغته النهائية. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود