في انتظَارِ المُخَلِّص

 

فاطِمَة ناعُوت

 

في انتظار المخلِّص

 

بينَ يديِّ النَّاسكِ

سكبتْ دموعَهُمْ.

 

خلفَ الحائلِ الخشبيِّ

جَلَسَ قَصَاصُ مَنْ أحَبَّوْها

يُصلِحُ عُوَيْناتٍ فوقَ أنفِهِ

فيما تؤدِّي اعترافَها الأخيرْ.

 

الراهبةُ التي

تدثرتْ في عُزلتِها

زرعتْ بصَدْرِها أُقنومًا،

ثمَّ ارتقتْ برجَ الكنيسةِ

تنظرُ الشَّاخصينَ إليها

عِبْرَ عشرينَ سنةً.

 

ما مسَّ لُعابَها المِلحُ

ولا

عيونُها شَهَقَتْ

وقتَ تَسَاقَطَ المصلوبونَ

فوقَ مَذبَحِها

تسيلُ القرابينُ من أحداقِهم –

فقط أرشَفَتْهم في صِحَافِها

أسماءَ وتواريخَ.

 

لها الآنَ

أن تَطْوي كِتابَها

كقُربانٍ أخيرٍ

للرَّاهبِ الذي

قَرَعَ الأجراسَ كلَّها

في غيرِ يومِ أحَدْ،

بعدما وقَّعَ

سِفْرَ عَذابِها العادلْ.

 

ستخبِّئُ الكتابَ في دِثارِها

تُغَلِّقُ الأبوابَ

ثمَّ تُشْهِدُ الأخواتِ

على الذي لُمْنَها فيهِ.

 

تعتمرُ حيادَها

في محرابٍ ليس يَقْربُه الزجاجْ،

تُطعمُ النارَ كبرياءَها

تمزجُ المِلحَ بالأنا

ثمَّ ترقدُ في سلامٍ

في انتظارِ

تناسُخٍ مُحْتَمَل.

8 أبريل 2002

 

موقفُ بحرْ

 

الكوخُ

مازالَ هناك

يُرجِعُ صوتَ فيروزَ

فتموءُ القططُ

ويتساقطُ الطِّلاءُ عن جدرانٍ

أجْهَدَها المِلحُ والسكونْ.

 

المكانُ هنا

على مرمى رغبةٍ

تُخايلُ المرأةَ والرجلْ

فيصدِّقُ المحلَّفونَ

على قرارِ السيَّارةِ

برفع مؤشِّرِ الحرارةِ إلى الدَّرجةِ القُصوى

تمهيدًا لتوقفٍ حتميٍّ

في محاذاةِ البحرْ.

 

لكنَّ المرأةَ

تخافُ تصدُّعَ المرايا

وضياعَ الحُلم القديم من الأصابعِ

فتكملُ مسيرةَ الملحِ

صوبَ القاهرةْ.

 

هناكَ المكانْ –

والرجلُ تأخذُه العِزَّةُ

فيمضي

لينموَ فوق السَّطحِ

خطٌّ متعرِّجٌ جديد

ويزداد خوفُ امرأةٍ

تدركُ أن كلَّ تصدُّعٍ في المرآةِ

يتلوهُ انسلالُ خيطٍ

من حرير العباءةْ.

 

الواحِدُ

يفضِّلُ أن يكونَ واحدًا

والواحدةُ

تنكمشُ في المدى.

ستغدو صفرًا

حين يمسُّ الماءَ

حبلُ البالونِ الأزرقْ.

 

المكانُ الطيِّبُ هناكْ

والسلاحفُ

لا تعبأُ بانكسارِ الظلِّ

لأنها تعودتْ أن تموتَ مبكرًا

قبلَ أن يصحو الصيادون

وتكنسَ الشمسُ السواحلْ.

 

البحرُ ينتظرُ عند الحافةِ

والمكانُ في مكانِه

يقاومُ الإزاحةَ كعادته

بينما الكلابُ والقططُ والصحونُ والنِّفَّريُّ

مازالوا صابرين.

لكن شيئًا غابَ في الرملِ

فحرَّكتِ المرأةُ الكوخَ بإصبعِها

إلى خانَةِ الفكرةْ

كي يظلَّ في مأمنٍ

من عواملِ التراكمْ.

 

البنتُ التي علَّقتْ فستانَ العُرْسِ

على سورِ الحديقةِ

كي تسكنَهُ القططُ ثَلاثَ ليالٍ

لم تعدْ تقايضُ على دفاترِها بالفرَحْ،

ولم تعدْ تبيعُ للصغارِ أكياسَ الحلوى

في انتظار عودةِ الأبِ المغدورْ،

وكفَّتْ منذ الأمسِ

عن سؤال الحَواريين حولَ القيامة –

فقد تعلَّمتْ

أن المرايا المشروخةَ

تشتعل غضبًا

إذا ما رمقَها المارَّةُ في الضَّوءْ،

لكنَّها في الليلْ

تنامُ وادعةً

في حقائبِ النساءْ،

مُطْرِقةً

على صُدوعِها.

القاهرة، 5 مارس 2004

 

جلبابٌ أزرق

 

أن تحدِّدَ خانةً تشغلُها

كي لا يراكَ أحدْ –

خانةً بيضاءْ،

على مسافةٍ معقولةٍ

من حصواتٍ رابضةٍ في قاعِ النهرْ –

حصواتٍ

ترصدُ الواقفةَ على الشاطئ،

مشجوجةَ الرأسْ،

تسَّمي الأشياءَ بأسماءٍ جديدة

حيثُ معجمُها

– الذي جلبتْهُ من التيبِت –

لا يناسبُ سكانَ المدينة.

 

حبيبُها،

الواقفُ عند باب البيتِ الريفيِّ،

يسألُها من فوق ظَهْرِ الملكة:

"تأمرينَ بشيء؟"

فيما جلبابُه

يؤكدُ نظريتي القديمةَ

عن علاقةِ الزُّرقةِ

بالجمالْ.

 

"شكرًا!"

فمضى،

فيما شيءٌ دافئٌ

بحجمِ قبضةِ اليد

يسقطُ

داخلَ القفصِ المتعَبْ.

 

في آخر الحكايةِ

ستهبُني الملكةُ قميصًا واسعًا،

سريرًا من شَبَكِ الصَّيْد،

وقوقعةَ أسرارٍ

حُبلى بأصواتِ نسائِكْ.

 

أضعُ الهِدْفون في أذني

لأغرقَ في النوم

وكافكا

فوق صدري.

القاهرة، 19 يوليو 2003

 

شيخُ الطريقةِ

 

كان يعلِّمُنا في الليلْ

المواقفَ، والبكاءَ في حضرةِ الحاجةِ،

ويفسِّرُ

كيف أنَّ المخاطباتِ الداديَّةَ

تفرِّغُ ساعةَ الرُّدهةِ من الأرقامْ،

وتُحرِّضُ صبيَّ البوابِ

أن يدفعَ الجريدةَ تحتَ بابِ البيتِ،

يركضَ صوبَ الحديقةِ

ليلحقَ أباه الذي بَارَحَ موقعَه

كي يراقبَ الشرفةَ من زاويةٍ أفضلْ.

 

الشَّيخُ

الذي تعلَّمَ على ديكارتْ

أوقفَنا في الليلِ وقالْ:

"الذي دَمَجَ الهندسةَ بالجَّبرِ كان مُغفَّلاً

لأن الأتربةَ التي تتكونُ

في الفراغِ بين الفستانِ والجلدْ

تقدِّمُ برهانًا مقبولاً

على جوازِ الإدانةِ بأثرٍ رجعيٍّ

وتضعُ الفلاسفةَ في حَرَجٍ بالغْ

لأنهم عجزوا عن تفسيرِ دموعِ البنتِ

يومَ عُرسِها."

بناءً على مقولتِهم:

"الاستقراءُ يشدُّ الخطَّ البيانيَّ

ويكسرُه عند نقطةِ الخضوعْ."

فمَرَّةً،

كتبتْ في ورقةِ الإجابةِ:

"المسافةُ بين العُنُقِ والقدمين

نتوءاتٌ في النصِّ

لا بدَّ من اختزالِها ما أمكن"،

فمالت الأمُّ عليها

وتكلمتْ بإيجازٍ

عن نَوْلِ الرَّجلِ وراءَ البحرِ الأحمرْ،

ثمَّ نظرتْ في ساعتِها،

ومضتْ إلى "أحمد عكاشة"

حيثُ محاضرةٌ

عن "إلكترا والعُصابُ الفُصامي".

ومرَّةً،

كان يأتي كلَّ شهرٍ

بمجموعةٍ شعريةِ وفتاةْ،

ويؤكِّدُ

أن اصطدامَ عالَميْن متناقضيْنِ

ينطوي على فلسفةٍ لا تخلو من متعةٍ

وأن لحظةَ الكَشْفِ

يهونُ أمامَها

اندثارُ البشريةْ.

 

لكنَّ البنتَ الطوباويةَ

– بعد أن عقرتْ عقاقيرُ الاكتئابِ ذاكرتَها –

قدَّمتْ أطروحةً أخرى:

"لن أكونَ رقمًا

لأنني أكرهُ الإحصاءْ،

ولا عنزةً

لأنني لا أؤمنُ بالنشوءِ والتطور،

ولا صفحةً في كتاب

لأنني أسخرُ من فكرة التناسخْ."

الأنسبُ

أكونُ لصًّا

لعشرِ سنينَ قادمةْ،

وفي تمام الأربعينْ،

أدفعُ بالرَّصاصةِ إلى سقفِ الحَلْقِ

بعد كتابةِ وصيَّةٍ مؤثرةٍ

ورسمِ انطباعٍ دراماتيكيٍّ

على الوجه.

القاهرة، 23 أبريل 2003

 

الطَّريق

 

إلى نجيب محفوظ

 

لن أصفحَ

برغم أصابعِك التي تجمدتْ على قبضةِ القلم،

عند سفح المقطَّم.

 

لأن تعثري،

في سنواتي التسع،

بين مقاعدِ مقهًى مقصوصٍ من العاصمة

وبين أميالك التسعة من النهر إلى البحر،

أفلتَ التاجَ من الوجوديين

ليستقرَّ في يدِ صبيَّتيْنِ

تحملان لَقَبَ العائلة.

 

تعلمتُ أن أكرهَك

برغم "سيد سيد الرحيمي" –

حسنتِكَ الوحيدة

التي زمَّلتْني بدثارِ الولد الباحثِ عن هويَّة،

وبرغم أبي

"سيد حسن ناعُوت"

الذي أطلقتَ إسارَه في منتصفِ المسافةِ

ليمسحَ جدائلي برهةً،

فيما يحكي عن أنثى العقربِ

وصندوقِ الحذاءِ المسحورْ،

ثم يمضي

قبلَ أن يكتبَ تعويذتي

وقبل أن يسمعَ

نقرتي الوحيدةْ.

 

الكلابُ كثيرون...

لكنَّك لن تراهم

لأنك ابتلعتَ نصفَ التاريخِ

فتكورَّتْ أمينةُ

على سُلَّم البناية الخشبيِّ.

ماتتْ

وتوزَّعتْ هزائمُها علينا

وأعضاؤها

على أهل الهوى

والشطَّار.

 

لا شيءَ يُغريني اليومَ

لأن أدَّخِرَ قروشي

من أجلِ رحلةِ نهايةِ الأسبوعِ

إلى سورِ الأزبكيةْ،

لا شيءَ شريفًا فوقَ الأرففِ

سوى الغبارْ.

 

اِبحثْ عن خُدعةٍ أخرى –

فالجلالُ

مشارفةُ النهايات،

انفصالُ الشبكيةِ.

وحتى عصا الأبنوس الحزينة

لن تجعلَني أحبُكَ

جدًّا –

على الأقلِ الآن.

 

لا شيءَ ينجيكَ من غضبتي

سوى تحريرِهنَّ

من ثنائيةِ الوَيْل،

أو

أبقى في صمتي

حتى أجدَها

جدَّتي الجميلةَ

التي وَأدْتَها بين سطورِك.

المقطَّم، سبتمبر 2003

*** *** ***

 

موقع فاطمة ناعوت

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود