ميثَاق عربي إسلامي–مسيحي

لا يُبنى حوارٌ على مجامَلة

الاختلافُ آيةٌ من آيَات الله في الكون

 

انعقد في القاهرة بين 18 و20 كانون الأول 2001 لقاءٌ لفريق الحوار العربي الإسلامي–المسيحي، ضمَّ شخصياتٍ من لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان والإمارات العربية المتحدة، وخرج بوثيقة عن العيش الواحد بين المسلمين والمسيحيين، تنشرُها معابر لأهميتها وجِدَّتها على الصعيد العربي، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول.

بين الذين حضروا اللقاء نذكر: د. طارق متري، د. سعود المولى، السيد هاني فحص، محمد السماك، القسيس رياض جرجور، د. رضوان السيد، عباس الحلبي، كميل منسَّى، الأرشمندريت حنا عطا الله، د. محمد سليم العوا، د. طارق البشري، د. حسن مكي، وليد سيف، متري الراهب، جميل حمامي، والأنبا موسى.

وفي ما يأتي نصُّ الوثيقة:

 

1.    يرى الفريق العربي للحوار أن العمل من أجل توطيد العيش الواحد ضرورةٌ تُمليها الهمومُ والأهدافُ الوطنية والاجتماعية الواحدة، والسياقُ التاريخي والحضاري الواحد، ووحدةُ المصير. وهي قضايا جوهرية جامعة، لا يختص بها طرفٌ دون آخر، من حيث الواجباتُ والحقوق والنتائج. وإن الاختلاف الديني لا يلغي حقيقة الانتماء الواحد للحضارة العربية الإسلامية، التي تَشارَكَ في صُنْعِها المسيحيون والمسلمون، جنبًا إلى جنب.

2.    ويرى الفريق ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية في وجه التدخلات الخارجية ومشاريع الهيمنة على العالم العربي. ومع الإحساس بدور التدخلات الخارجية في ما يمكن أن يقع من توترات داخلية، تتخذ أحيانًا طابعًا دينيًّا، فإنه لا يصح التهوينُ من دور العوامل والظروف الذاتية التي تمكِّن القوى الخارجية من توظيفها واستثمارها لخدمة مصالحها.

ومعالجة الوضع الداخلي وحلُّ مشكلاته بجهود أبناء الوطن الواحد، من مسلمين ومسيحيين، من خلال الحوار والعمل المشترك، يمثلان الشرط الذاتي للحيلولة دون التدخل الخارجي الذي يزيد الوضع تفاقمًا، ويعزِّز الشكوك والمخاوف المتبادلة. وإذا كان التهوين من دور المشكلات الداخلية يفضي إلى أضرار كبيرة على صعيد الوحدة الوطنية، فإن تهويلها يفضي إلى أضرار مماثلة، ويثير في أوساط المسلمين والمسيحيين من أبناء الوطن الواحد حالةً عامة من الذعر والخوف والانكفاء على الذات.

وكل ذلك يقتضي تعزيز الحوار وتواصُله، وترجمته إلى برامج عملية تصبُّ في ترسيخ العيش الواحد ومعالجة جذور التوترات الدينية الطائفية وأسبابها – والكثير منها يقع في الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة، التي تسهم في إنتاج مناخ من الاحتقان العام، يمكن له أن يعبِّر عن نفسه بأشكال شتى، منها التوترات الدينية. ولا شكَّ أن هذه الظروف الموضوعية لا تخص أبناء دين دون آخر، وإنما يقع ضررُها وعبءُ مواجهتها على المجتمع بمجمله.

3.    إن من دواعي الحوار، كذلك، أنه سبيل إلى دَفْع الالتباس بين التديُّن الصحيح والغلوِّ المذموم الذي يؤدي إلى العنف والتطرف. فالغلو (وهو تشدد فكري نابع عن رؤية الذات دون سواها) والعنف (وهو انحراف سلوكي يرمي إلى فرض الرأي بالقوة على غير صاحبه) لا يتلازمان مع التدين بالضرورة ولا يختصان به؛ إنما هما حالة تسهم في إنتاجها جملةٌ من الظروف والشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العامة. ويمكن، من ثم، أن يستعلن الغلوُّ أو العنف بأشكال مختلفة وعقائد متباينة. إلا أن الفهم الخاطئ للتدين يقوِّي دافع الاستجابة لتلك الظروف، فيخرج به عن حدِّ الاعتدال، إلى صور من السلوك لا يقبلها التدينُ الصحيح والقيم الدينية الحقة. وعليه، فإن من أهداف الحوار، في سياق تعزيز العيش الواحد، تزكية "المجادلة بالتي هي أحسن"، وإبراز قيم التدين الروحية والإنسانية الرفيعة، وتوجيهه إلى مقاصده العليا لتحقيق المصالح العامة والتصدي للمشكلات الاجتماعية والتنموية التي يواجهها المجتمع بكلِّ فئاته، والتأكيد على أن الفهم الصحيح للدين يتضمن قبول الآخر المختلف دينيًّا، والعيش معه، واحترام قناعاته الدينية وخصوصية شعائره وشرائعه.

4.    وإذا كان الحوار ضرورة تقتضيها متطلباتُ العيش الواحد والمصالح الوطنية الواحدة والتفاعل الاجتماعي البنَّاء بين أبناء الوطن الواحد، فإنه كذلك مطلب روحي وأخلاقي وثقافي، يتوِّجه مبدأ التعارف المتبادل بين المؤمنين. ومن شأن ذلك أن يسهم في ترسيخ قيمة الاحترام المتبادل، وتمتين أواصر المودة، وتصويب الصور المشوَّهة أو الخاطئة، التي تؤدي إلى التفاصُل والمخاوف المتبادلة.

إن الاختلاف والتنوع حقيقة إنسانية؛ بل هما من آيات الله في الإنسان والكون. ومن شأن الحوار والتعارف واستباق الخيرات أن يجعلهما مصدر غنى للجميع، ويمنع تحولهما إلى مصدر للخلاف والتنابذ والصراع والإقصاء المتبادل.

5.    كذلك ينطلق الحوار الإسلامي–المسيحي من الوعي بأخطار منطق "الحدود الدامية" بين المسيحية والإسلام في العالم – وهو المنطق الذي يتأسَّس على فكرة "صراع الحضارات"، وعلى تخفِّي مشروع الهيمنة الغربية وراء قناع ديني. وفي مواجهة ذلك، يسعى الحوار العربي الإسلامي–المسيحي إلى تأكيد الموقف العربي الموحَّد، الإسلامي والمسيحي معًا، على الصعيد العالمي، دفاعًا عن القضايا العربية المشتركة، وفي مقدمتها قضية القدس. وفي هذا السياق، يمكن للحوار العربي الإسلامي–المسيحي أن يسهم في حوار الثقافات والحضارات والأديان في العالم. على أنه ينبغي التمييز بين الحوار العربي الإسلامي–المسيحي، والحوار بين العرب، مسلمين ومسيحيين، من جهة، وبينهم وبين الحضارات الأخرى، الغربية وغيرها، من جهة أخرى.

6.    ويكتسب الحوار العربي الإسلامي–المسيحي أهمية مضاعفة في ظلِّ عدد من الظواهر والعوامل والمعوِّقات التي تترصَّد العلاقات بين المسلمين والمسيحيين العرب، وتمثل – في نظر الفريق – حافزًا إضافيًّا للحوار والعمل المشترك.

7.    إن عدم احترام الخصوصيات الثقافية والدينية، وسوء إدارة التنوع في المجتمعات العربية، أدى إلى انحسار نسبي لمساحات الاختلاط والتمازج واللقاء والتفاعل والتعاون بين المسلمين والمسيحيين، في بعض البلدان العربية، بدرجات متفاوتة. وأصاب هذا الانحسار الأحياءَ السكنية والمؤسَّساتِ التربوية، ولاسيما الخاصة منها، والمؤسَّساتِ النقابية والثقافية والسياسية والأندية، وزاد من حدة تأثيره ضعفُ مؤسَّسات المجتمع المدني، التي يُفترَض فيها أن توفر حيزًا جامعًا لأبناء الجماعة الوطنية. ولعلاج ذلك، يسعى الحوار الذي يرعاه الفريق إلى دعم المواطَنة، وتحرير المشاركة في الحياة العامة من الأسْر الطائفي، الذي من شأنه زعزعة الوحدة الوطنية وفتح أبواب التدخل الأجنبي وإعاقة التطور الديموقراطي.

8.    وإن ما تشهده بعض البيئات العربية من تراجع ثقافة المعرفة المتبادلة، والتعارف المبنيِّ على الحوار الهادئ والجادِّ، والاتصال بالمصادر الموثوقة المباشرة، في مقابل تنامي الخطاب الديني السِّجالي والتخريبي والتحريضي المثير للشكوك والمخاوف، الذي يفتقر إلى قاعدة معرفية جادة، وتصاعُد العنف اللفظي والرمزي – هذه الظاهرة تقتضي مواجهة مبنية على المصارحة الصادقة والمواجهة الجريئة والتوعية المستمرة والتعارف البنَّاء بين أبناء الدينين. وإلى ذلك يدعو الفريق، ومن أجله يعمل، في نشاطاته كافة.

تعطيل التوظيف الخارجي

9.    ومن الظواهر الملحوظة أن الخوف من المستقبل، بسبب جملة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي من أهمِّها العدوان الإسرائيلي، وغياب الديموقراطية، وقمع الحريات، والأزمات المعيشية – هذا الخوف يجري إسقاطه، في الكثير من الأحيان، على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ليتحول إلى خوف مضخَّم – بل متوهَّم – بأن مصير إحدى الجماعات الدينية مهدَّد من الأخرى – وتستوي في ذلك الأغلبية والأقلية. وفي مواجهة هذا الخوف، كان توجُّه الفريق إلى العمل المشترك في معسكرات الشباب الصيفية، الذي يتيح لكلٍّ التعرفَ إلى الآخر في بيئة طبيعية، توافرتْ في الماضي في المجتمع كلِّه، فحالت دون ظهور الخوف المتبادل بآثاره الضارة على العيش الواحد.

10.                       ويلاحَظ أيضًا اتجاهُ البعض إلى إسقاط الصراعات القومية والطائفية في العالم على العلاقات الداخلية بين مكوِّنات الجماعة الوطنية من مسلمين ومسيحيين، بحيث يصوَّر الوضع المحلِّي وكأنه امتداد لمواجهة عالمية مفترَضة بين المسيحية والإسلام؛ مما يعمق الشكوك والمخاوف بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا العربية. وقد يفضي ذلك إلى التعامل مع الشريك في الوطن والمواطَنة باعتباره متهمًا بالتواطؤ الديني، ما لم يتنصلْ علنًا من مواقف معينة يتخذها بعضُ أهل عقيدته الدينية في صراع قومي أو طائفي خارجي. ويرى الفريق أن الحوار الإسلامي–المسيحي يمكن له أن يسهم في درء أخطار انعكاس الصراعات القومية والطائفية في العالم على حالة العيش الواحد في واقعنا المحلِّي، وفي الحيلولة دون توظيف القوى الخارجية لها لتعميق الشكوك والمخاوف المتبادلة، أو كشف هذا التوظيف، بحيث يفقده أثره الهدَّام على علاقة أخوان الوطن من أبناء الإسلام والمسيحية.

11.                       ولا يُبنى هذا الحوار على المسايرة والمجاملة التي تغيِّب الفروق، أو تتغافل عنها، أو تنزلق إلى الرياء والخداع. فليس من مستلزمات الحوار الفاعل البنَّاء، ولا من متطلبات العمل المشترك، أن يتنازل أيُّ طرف عن شيء من عقيدته وإيمانه.

12.                       ومعيار النزاهة الفكرية في مقدمة المعايير التي تؤسِّس لصدقية الحوار. ولا تغنينا بداهةُ هذا المطلب عن التأكيد عليه. وهو يفترض استعدادًا، عند الحاجة، للتحرر من بعض الصور الموروثة والنمطية عند كلٍّ منَّا عن الآخر، ومن مؤثرات المخيِّلة الشعبية، كما يستدعي اطلاعًا جادًّا على تراث الآخر من مصادره وتعريفاته لذاته. ويتطلب ذلك النظرَ في مصادر الصور المشوَّهة عن كلٍّ من الطرفين، ويقتضي تحليلاً علميًّا جادًّا للعوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية والنفسية التي تسهم في خلق مشاعر الخوف والشكِّ المتبادل.

13.                       ويتصل بذلك السعيُ إلى اعتماد لغة واحدة في معالجة العلاقة المسيحية–الإسلامية، لا لغتين، تتوجَّه إحداهما إلى الجماعة التي تنتمي إليها، والثانية إلى الجماعة الأخرى. ومن شأن المصارحة واجتناب الرياء أن يحرِّر أطراف الحوار من دواعي اللجوء إلى اللغة المزدوجة التي تطعن في صدقية الحوار وتذهب بجدواه.

14.                       ويرى الفريق أنه لا يصح فصل الدين عن الشأن العام، ولا الانتقاص من دوره البنَّاء فيه؛ بل ينبغي الاستهداء بقِيَمِه في إدارة شؤون الناس وتحقيق المنافع وتعزيز الحريات وتوفير العدالة وعمارة الأرض؛ إذ هو عاصم من الفساد والانحراف، وحافز للعمل الوطني والقومي. ومع ذلك، فإنه لا يجوز استغلال الدين لخدمة المصالح السياسية والفئوية الضيقة، أو في تغذية الصراعات السياسية والاجتماعية، مما يتناقض مع رسالته وروحه وجوهره، ويجعله أداة تابعة، لا مرجعًا مرشدًا وهاديًا.

15.                       ولا يستقيم الحوار والعمل على تعزيز العيش الواحد بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية. ولا يقتصر ذلك على سلوك كلٍّ من أبناء الدينين تجاه الآخر، وإنما يعبِّر عن نفسه كذلك في وقوف الطرفين معًا ضد أيِّ امتهانٍ لمقدَّسات أيٍّ منهما، أيًّا كان مصدرُه.

16.                       وفي الوقت الذي نؤكد فيه على الحريات الدينية بوصفها حقوقًا إنسانية تقرِّرها الشرائع الدينية نفسها، فإننا نقف – مسلمين ومسيحيين – ضد كلِّ أنواع الضغط المادي والمعنوي ووسائل الابتزاز والإغراء التي يمكن لها أن تمارَس بدعوى الحرية الدينية لإبعاد المسلمين أو المسيحيين عن دينهم. ونحث علماء الدين والمثقفين والمفكرين المسلمين والمسيحيين على البحث عن القيم الروحية والإنسانية المشتركة في تراث الدينين وفي سلوك أتباعه، وعن النماذج الإيجابية المشرقة لتجارب العيش الواحد والتضامن والتراحم والتوادِّ، وإبرازها لإشاعة روح الحوار والسماحة في الأوساط الاجتماعية العامة.

فـ"الحكمة ضالَّة المؤمن"، وهو مدعو إلى أن يَزِنَ الأمور بميزان العدل والقسطاس المستقيم، وألا يبخس الناس أشياءهم.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود