فداءً للَّحظة القَادمَة

بنظرة واحدة، أرى الماضي كلَّه، منذ بداية الصمت الكوني

"جميلٌ أن تُزَحزِحَ الثبوتَ بأناملك، أيَّها الطِّفل!"

امرأتي لا أريدها إنسانًا، بل طبيعة

 

حوار مع فاتح المدرِّس

 

لم أجد أحدًا يشبه فنَّه كما يشبه فاتح المدرس لوحاتِه. حتى وجهه العصبي، القاسي القسمات، يأخذ في الذاكرة وفي الصورة شكلَ الوجوه التي نعرف بها لوحاتِه. وأنا لا أبالغ حين أقول "في الصورة"، لأنه يبدو أن وقوف فاتح المدرس أمام الكاميرا، أمام العين التي تسجِّل، أي تختار، أي تحاكم، يحوِّله إلى وجه عريض، بلا جبين، بلا رقبة. وهذه ظاهرة جسدية عنده (أكاد أقول "مَرَضية"). فقبل أن أقصده وأراه، كنت رأيت الكثير من الصور الشمسية له – وكلُّها يُظهِر وجهًا "دائريًّا" في الأغلب. وحين رأيته في المطعم الذي يقهي فيه المثقفون في دمشق (Lanterna، كما يسمِّيه الجميع، ولكن اسمه على الباب "قنديل")، رأيت وجهًا مختلفًا إلى درجة لا يمكن أن تفسِّرها المسافةُ الزمنية التي تفصلنا عن الصورة الأخيرة.

وتساءلت: هل هناك وجوه تتغير حين تحس بأنها مرئيَّة؟! وهل وجوه فاتح المدرس هي أبدًا في مثل هذا القلق؟ وهل هذا ما يعطيها شكلَ الوجه الذي أُخِذَ على غفلة ولم يستطع أن يلملم ذاتَه بعد؟

أفكر في هذه البساطة التي تبدو بها عيونُ أشخاصه زائغةً، كأن وراءها "شيئًا" لا تجرؤ على الالتفات إليه، وكأن نصف الالتفاف هذا هو الذي صَعَقَها وثبَّتَها على مساحة اللوحة. وجوه فاتح المدرس مهدَّدة بما وراءها لأنها لم تتجاوزه، بل حادت عنه: على عيونها خوفُ مَن يمشي بعد ما لا طريق بعده! كأنها تطرح نفسها، أبعد من نظام عَوْدِها الأبدي، "غيْرًا" لهذا الواحد، غيْرًا هو، بالتحديد، غير ما يُطرَحُ، أي ما لا يمكن طرحُه.

لذلك نجد في أعمال فاتح المدرس شيئًا أبعد مما قد يعده محلِّل فرويدي "رغبة في التكرار مستقلة عن تكرار الرغبة"؛ نجد هذه النظرة التي تجعل التكرار – كرغبة – مرتبطًا بالعابر، بما لا يعود. لأن التكرار شكل للنظر له جذور في ما اختفى.

بغير هذا الفهم قد يجد القارئ تناقضًا غير مقبول بين رغبة الفنان في "زحزحة كلِّ أشكال الثبوت"، من جهة، وبين وجوهه التي نعرف لها شكلاً "ثابتًا"، من جهة أخرى.

ولكن لم يكن الحديث كلُّه عن الفن مع فاتح المدرس. بل حاولنا، بالمراوحة بين أسئلة الذكريات وأسئلة الفن والشعر (لأن فاتح المدرس شاعر أيضًا، ومن غير شفاعة فنِّه)، أن نسلِّط الأضواء، بخاصة، على ما ليس معروفًا في حياة الفنان، أو على ما هو معروف، لسبب أو لآخر، معرفةً جزئية، أي خاطئة.

ج.أ.

***

 

جاك الأسود: [عن حياته كان السؤال الأول.]

فاتح المدرس: الوالد من أصل إقطاعي. كان أهلي يملكون مئة وعشر قرى، يبلغ قطر الواحدة منها خمسة عشر كلم. مات جدي باكرًا، فيتَّم ابنين وثلاث بنات. وكانت الأعراف تقضي بوصاية العم؛ فأصبح عمُّه وصيًّا عليه وعلى أخيه وأخواته. واستغل العمُّ وصايتَه، فزوَّج بنات أخيه الثلاث لأبنائه، وضمَّ أملاكهم كلَّها إليه بحيلة قانونية: بطرحها صوريًّا للمزاد العلني وشرائها بثمن بخس!

في هذه الأثناء، كان عبد القادر، أبي، ينهي دراسته في مدرسة الزراعة بحمص. وعبد القادر شاب شجاع، حين رجع لتسلُّم أراضيه، ورأى أنها انتُزِعَتْ منه احتيالاً، استعادها بالقوة. ونكايةً بأهله، تزوَّج أبي فلاحة كردية. وهذا أحد الدوافع التي برَّرت لأهله أن يقتلوه لئلا يتسرَّب الميراث إلى "الخارج"! فأرسل إليه عمُّه "الجتة" قَطَّاع الطرق. وهكذا سقط أبي في معركة غير متكافئة ضد خمسة عشر رجلاً من الأشرار. مات أبي عن ستة وعشرين عامًا.

ج.أ.: ومتى كان ذلك؟ في أي تاريخ؟

ف.م.: في العام 1925، في عهد الفرنسيين. والمعركة كانت، فيما يُروى، أشبه بما نشاهده في أفلام الـCowboys [رعاة البقر]. وأنا لا أشاهد شريطًا عن الغرب الأمريكي إلا وأتذكَّر والدي. كان مسلحًا لأنه التحق بقوة إبراهيم هنانو، مناضلاً في الثورة السورية ضد فرنسا المنتدَبة، وكان له من العمر إحدى وعشرين سنة. التحق والدي بالثورة في شمال سورية؛ وكان هذا الأمر دافعًا آخر إلى قتل أولاد عمِّه له. فقد نشأت إبان الثورة السورية عصابات مسلَّحة لا علاقة لها بالحافز الوطني؛ إذ لم يكن "الثوار" كلهم ثوارًا!

رُبِّيتُ مع أخي في كنف أخوالي. وفي الرابعة من عمري، أخذني أهلُ أبي من أمي، وأعادتنا جدتي (لأبي) إلى المدرسة. لكن الوالدة كانت "تسرقنا" إلى الجبال! وكم أنا غني الآن بما علَّمتْني الطبيعةُ في الجبال، بفصولها الأربعة، بعنفها القاسي وحنانها القاسي. في الجبال يختلف الليل عن النهار، لكن لا يختلف الخير عن الشر.

استطراد

قصيدة "وجه"، التي نَشَرَها فاتح المدرس في الستينات، تذكِّر بطقس يمارَس في بلادنا لإزالة السحر (أو "العين")؛ وهي نموذجية فيما يخص فلسفة الشفيف والكثيف المعروفة في المنطقة: إنها المانوية الشرقية، حيث الظلام هو الوجه الآخر للنور؛ بل حيث الظلام مرادف للنار – وجهنم نار، ومصدر النور نار.

وَجْه

وداعًا

الرصاصُ المصهورُ وجهُ جنِّي

هذا الإطار

النافذة

ألصقوها بسماء ليلي الدائم.

 

بلا حبٍّ تنام أشجاري

انظروا

أورقتْ مساميرَ وحروفًا.

 

ليُعِدَّ كلُّ نبيٍّ منكم بدوره

الوشاحَ الأسودَ وعليه قبلات حمر، حمر...

 

سيدتي، أغلقي النافذة الملصقة بالسماء

انظري، انظروا!

لقد احترق وجهُ الجنِّي.

لا يمكن أن نقرأ هذه القصيدة – وتحديدًا هذا التتابع: "الرصاص المصهور وجه جنِّي" – ولا نعتبر القائل شاعرًا حقيقيًّا، بل "مجربًا". القصيدة تذكِّر بطقس يمارَس في بلادنا لإزالة السحر: "الرصاص" للكثافة؛ و"النار" التي تصهره تحوِّله إلى "وجه" (أي شفيف)؛ ولكن هذا الوجه "وجه جنِّي". والجنِّي (كما يُفهَم من أصل الكلمة) هو "المحجوب"؛ ولكن احتجابه اختفاء، واختفاءه كلِّية حضور. وكلِّية الحضور لا يمكن للكثافة أن تغلبها؛ لكن يجوز أن تُغلَب في الكثافة استدراجًا، لأن الكثيف هو الثقيل، والثقيل هو المركز. هكذا يعبِّر الشاعر فاتح المدرس بأربع كلمات عن الحكمة غير المدوَّنة التي تستند إليها عادةٌ من عادات شعبنا.

بالطبع، لن أتوسع في قراءة باقي القصيدة. لكن لا بدَّ لي أن ألفت نظر مَن يهمُّه تاريخُ الحداثة إلى أن هذه القصيدة، في باب ما يُسمَّى بـ"القصيدة الدائرية"، هي من أفضل ما قدَّمه شعراءُ الستينات (تاريخ نشرها) الذين اشتُهِرَتْ بينهم هذه التسمية: هناك "وداعًا"، التي نحس أنه يجب أن نقولها بعد "احتراق وجه الجنِّي"، مع معنى "الشماتة" الذي لم يكن موجودًا في بداية القصيدة.

مارون عبود: "أنت جبران سورية!"

ج.أ.: وإلى متى استمرتْ فترةُ المراوحة بين المدرسة، التي يرسلك إليها أهلُ أبيك، وبين الجبال التي كانت "تسرقك" أمُّك إليها على ظهر الخيل؟

ف.م.: حتى بلغتُ الثانية عشرة من عمري. وكانت صعبةً هذه الحياة: فأنت تريد أن تتعلَّم؛ ولكن العلاقة تبقى مُرَّةً مع هذا التعليم الضروري الذي يأتيك عن طريق أهل أبيك "القتلة". وفي التاسعة من عمري، كنت قد حزت على الشهادة الابتدائية. ولم يكن ذلك بالأمر العادي في تلك الأيام (معظم رفاقي كانت لهم شنبات!). وقد اضطرتْ وزارة المعارف حينذاك إلى أن تُفِرَد صفًّا سادسًا خاصًّا بـ"الصغار": هذا ما سُمِّيَ حينئذٍ بـ"المدارس النموذجية"!

في الثانية عشرة، اشتريت أول ماندولين. وبين السادسة عشرة والسابعة عشرة، كنت صديقًا لعمر أبو ريشة. وفي التاسعة عشرة، تلميذًا لمارون عبود[1] في عاليه.

لم أرَ الماندولين في مرسم فاتح المدرس، ولكن رأيت البيانو. وفي إحدى السهرات، تحدَّثنا عن بيروت. كان حزينًا وساهمًا. فقام إلى البيانو الأسود وعزف مقطوعة. قال: "سمَّيتُها بيروت." ثم غيَّر قَعْدَتَهُ وعزف قليلاً، حتى وَجَدَ ثيمةً غاب فيها، وفي أضدادها. رأيت موسيقيين كثيرين قبله يرتجلون على آلات مختلفة، ولكن ليس كارتجاله: كان منكبًّا على الآلة كما ننكب على جسدٍ حبيبٍ، أو على عدوٍّ يصارعنا في شراسة، أو الاثنين معًا. وراء ظهره كلُّ ما يتعلَّمه العازفُ على هذه الآلة الرصينة من قواعد ولياقات تتعلَّق بالمظهر. لا فرق عند فاتح المدرس بين طريقته في الرسم وبين سائر أشكال الممارسة الفنية أو الحياتية: دائمًا يضع قلبَه خارجًا. ومثل كلِّ الذين يعطون كلَّ ما عندهم مرَّة واحدة، كان فرحُه، الذي يصل إلى أقصى حدود الفرح، يترافق مع أقصى ما يصل إليه حزنًا.

"وهذه لك، – قال – أيها القادم من بيروت!"

ج.أ.: يبدو أنك تحمل ذكرياتٍ طيبةً عن لقائك بمارون عبود؛ ففي مرسمك، على حائط المدخل، صورة معلَّقة له، أخذتَها من إحدى المجلات اللبنانية. أخبِرْني عن هذا اللقاء وعن حياتك في تلك المرحلة.

ف.م.: كان ذلك في عاليه، حيث كنت أتعلَّم في "الجامعة الوطنية". وأذكر كلمة مارون عبود. كان يقول لي: "أنت جبران سورية!" وكان يوسف الخال كذلك من أساتذتي.

ج.أ.: ظننت أنه كان من جيلك...

ف.م.: كان في الخامسة والعشرين آنئذٍٍ – ربما أصغر الأساتذة سنًّا. وكان يتميَّز بأناقته الدائمة: بذلته كانت بيضاء، صيفًا وشتاءً. على كلِّ حال، رسمتُ لوحة لمارون عبود، لوجهه؛ ويبدو أنها أعجبتْه، فأقلَّني بسيارته إلى بيروت، حيث عرَّفني إلى قيصر الجميِّل. وقد قال لي هذا الفنان اللبناني يومئذٍ: "ستكون رسامًا جيدًا في المستقبل."

ج.أ.: مارون عبود يشبِّهك بجبران – أفهم من ذلك اشتراككما في ازدواجية الموهبة. ثم يأخذك إلى قيصر الجميِّل. وكأني بك تعتز برأي قيصر الجميِّل فيك اعتزازَك برأي مارون عبود، إذ شبَّهك بجبران. هل أنت معجب حقًّا بهذين الفنانين؟ قيصر الجميِّل من روَّاد الفن التشكيلي في لبنان (الرعيل الثاني)، ونحن نعرف قيمته التاريخية. لكن عُدْ إلى رسمه...

ف.م.: أمَّا جبران، فكان في تلك الفترة يعجبني فنُّه؛ ولكن رأيي فيه الآن ليس في مكانه. كذلك الأمر بخصوص قيصر الجميِّل. لقد كان هذا الفنان، الذي ترك كيمياء الصيدلة ليتعاطى كيمياء اللون والضوء والظل، يتمتع بالشهرة التي استحقَّها. أما الآن، فيمكن أن نقوِّمه – عن بُعد – بصفته يمثل مرحلة ما يُسمَّى بـ"انحلال الانطباعية". هذا هو، في اختصار، رأيي في قيصر الجميِّل. لا تسجِّله! [...]

وإبَّان الدراسة في الجامعة بعاليه أحببت فتاةً درزية. ولم يكن ذلك العهدُ زمانًا للتسامح الطائفي؛ فهدَّدني أهلُها بالقتل إن لم أتخلَّ عن علاقتي بها! وعند ذاك عدتُ إلى سورية. ومن حسن حظِّي أنه كان الصيف، وكان تخرُّجي من الجامعة، فأُنقِذْتُ بأعجوبة!

ج.أ.: وهل تعرفها الآن إذا رأيتَها؟ إنها حبُّك الأول، على كلِّ حال.

ف.م.: التقيت بها في دمشق بعد ست سنوات. كانت قد تزوجتْ. وزوجُها من أطيب الناس، يعيش الآن في الكويت. لقد قامت بيني وبينهما علاقةٌ لطيفة. [...]

كل ما بقي الآن في ذهني من عاليه انطباعاتٌ وألوان، ولكنها زاد روح. شقائق النعمان على مدرَّجات عاليه، حقول القمح الصغيرة، كروم الزيتون – هذه الألوان الثلاثة، مازال لها طعمٌ في ذاكرتي.

أتذكر أيضًا بنات آوى التي كانت تقتات على فضلات مطعم الجامعة ونفاياته. وأذكر أني قفزت ذات ليلة فوق سور الملعب، فوقعت على ظهر أحد بنات آوى – ولست أدري مَن منَّا ارتعب أكثر يومئذٍ!

مازلت أذكر الأعمدة القصيرة في الدير المجاور الذي كان يسكن فيه مارون عبود. كما أذكر جيدًا جارَنا بالقرب من الجامعة الوطنية؛ إذ كان يمهِّد الأرض حول ساق شجرة "الأكي دنيا" عصرًا، وعاليه في أواخر الربيع. فقلت له: "العافية يا عم!" وفي اليوم التالي توفي الرجل! عند ذاك، قال لي زميلي رضا (وهو من الهرمل، ولا أذكر اسم عائلته اليوم): "عافيتك ما زبطت ها المرة، ما لاءمت الزلمي!"

كانت قرية عاليه في ذلك الزمان شامخةً، تطل على بحر من الضباب يصل إلى بيروت. كان المنظر صوفيًّا، يغلِّف بيوت الفلاحين الفقراء على ذلك السفح، من عاليه إلى وادي الشحرور، حتى البحر المتوسط، وحتى جبال الآمانوس في شمال سورية، حتى تخومها.

بهذه المناظر ارتبطتْ في خيالي صورةُ لبنان – ولبنان أجمله في الشتاء. كما ارتبطت بوقوفي أمام لوحات جبران (في تلك الفترة – قلت لك – كنت أرى فنَّه جميلاً) – في تلك الجرود والوديان السحيقة، والناس الذين هم أطهر الناس على الأرض، حيث الجمال والقوة والفقر – نوع من الفقر غنيٌّ بالآلهة!

ج.أ.: ما هذا إلا رأي شاعري...

ف.م.: كلا! فلبنان الذي عشتُه ليس هو لبنان الذي عشتَه أنت. كانوا جماعة تخلَّصوا من مآسي الماضي كلِّها. بعد ذلك عشت في إيطاليا وجبالها الداخلية، كما عشت في الألب، وعشت في السهوب الألمانية، وعلى السواحل السويدية. ولكن أعذب ذكرياتي تعود إلى مشهدين: الفلاحات في كروم منحدرات الآمانوس في الشمال السوري، والقرويات على منحدرات لبنان.

وحينما عشت في بيروت، بعد عودتي من روما، شاهدت هاتيك الفلاحات الجميلات بأنفسهن، في أروع مظهر ثقافي، وعلى أحلى ما تكون المودة، في مَعارضي التي أقمتُها في Gallery One. لعلك تعرف مقدار حبِّي للبنان: وقف ذات مرة أحدُ أصدقائي – وكان خليفاوي، رئيس مجلس الوزراء في سورية – أمام لوحة لي وسألني عن موضوعها. فقلت له: "اسمها بيروت." عندئذٍ أطرق خليفاوي حزينًا وقال: "اشتريتها." كلُّهم يحب لبنان، ولكن ما أقل الذين يعرفونه! كيف يمكن لك أن تحبَّ "شيئًا" حقَّ حبِّه إن لم تكن تعرفُه حقَّ المعرفة؟!

أول عهدي بالعنف

ج.أ.: تتحدث عن العنف أحيانًا وكأنه مرادفٌ للجمال. والعنف الذي تتحدث عنه ليس مثاليًّا؛ إنه حقيقي وملموس: هو الذي دمَّر طفولتَك، حَرَمَك منها بمعنى ما...

ف.م.: سأخبرك كيف عرفت العنف أول مرة: كنت في إحدى الظهيرات الحارة في القرية الضائعة بين الجبال "حربتا"، حيث يعيش أهل أمي. فجاء ضيفٌ مسلح، وجلس مع أخوالي الأكراد. أذكر أن عمري آنذاك كان خمسة أعوام، أي بعد مقتل والدي بثلاثة أعوام. وكان خالي الأصغر "قادو" (مختصر عبد القادر) أقرب أخوالي إليَّ لأنه لا يكبرني بكثير. فقال: "يا فتحي، هذا هو الذي قتل والدك. تعال اقتله!" فما كان منِّي إلا أن قبضت بيديَّ الصغيرتين على عنقه، فصار يضحك، وضحك كلُّ مَن حوله، وأبعدوني عنه...

ج.أ.: أتعجَّب كيف يستقبل أخوالُك قاتلَ صهرهم بهذه البساطة!

جاءهم ضيفًا – والضيف لا يُقتَل – فاستقبلوه كضيف وهم كارهون. كان هذا الرجل هو الذي أجهز على أبي. وقد جاء يبرِّر فعلتَه بقوله إن أبي أصاب حصانه في المعركة، وإن هذا ما دفعه إلى أن يصوِّب عليه الرصاصة القاتلة. فسأله أكبر أخوالي "عالو":

-       "لماذا بُلْتَ في فمه حينما كان يموت؟ ألم تستحِ؟!" فأجابه القاتل:

-       "كان يطلب ماءً، ولم يكن معنا ماء. لقد كان شجاعًا!" فسأله عالو:

-       "حينما تركتموه في البرية، هل كان حيًّا بعدُ أم ميتًا؟"

فلم يجب القاتل.

كان والدي جميل الوجه، أشقر الشعر، أزرق العينين، شجاعًا جدًّا. ولم يكن بدينًا، لا، بل كان نحيفًا، معتدل القامة. أذكر مما يُروى عن حوادثه في المقاومة أنه أغار ذات مرة بمفرده على الكامپ الفرنسي، فدخل على حصانه من أحد أطراف الكامپ، واختطف ثلاث بنادق كانت موضوعة أمام خيمة لجنود يأكلون، وخرج من الطرف الثاني! وكلما شاهدت بعض أفلام الغرب الأمريكي Western تذكَّرت ذلك المجنون، والدي عبد القادر، الذي حارب الإفرنسيين بينما كان أهلُه يلعقون أحذية المستعمر. لا أحد يذكر هذا الشجاع حين تُذكَر الثورةُ السورية – لا لشيء إلا لأنه ابن إقطاعي!

ج.أ.: أليس في ملاحظتك هذه شيء من المبالغة؟

ف.م.: اسمع، سأعطيك مثلاً أوضح: حينما طَرَدَني الحزب السوري القومي من صفوفه – وكان عمري يومذاك سبعة عشر عامًا – أردت بشكل من الأشكال أن أنضم إلى جماعة إيديولوجية ما، فقدَّمت طلبَ انتساب إلى الحزب الشيوعي في حلب. وبعد أسبوع، أخبرني الحزب في رسالة بأنه يأسف ويعتذر عن قبولي لأنني "ابن إقطاعي"!

ج.أ.: ولكن ما سبب طردك من الحزب السوري القومي؟ وهل عرفت الزعيم؟

ف.م.: كان الحزب في مراحله التأسيسية، وكنت أقترح أن تُضاف إلى شعاره كلمةُ "العربي"، كما كنت أنتقد نزعته العسكرية. لأجل هذين السببين طُرِدْتُ من الحزب. وما طردني الزعيم، بل على العكس: كان أنطون سعادة هو الوجه الذي يحبني في الحزب. قبَّلني ذات مرة بعد الطرد، وكان يعلم أنني "مطرود" (في حلب). كان ذلك مصادفةً، حين حضرت أحد الاجتماعات، لأنهم كانوا أصدقائي، وكنت أحنُّ إليهم دائمًا.

كل ذلك عندما كنت صغيرًا.

ج.أ.: تقول "صغيرًا". هل هناك حدود واضحة؟ هل هنالك عمر محدد لم يعد فيه فاتح المدرس "صغيرًا"؟

ف.م.: إذا كان لا بدَّ من تحديد عمر، فلنقل إنه الثامنة عشرة – علمًا بأن "الكبر" ليس مسألة سنوات. في الثامنة عشرة – أقول – لأنني عند ذاك بدأت أفكر تفكيرًا إنسانيًّا، أبعد من جميع التحزُّبات؛ بدأت أدرك "وحدة الوجود" وأدرس ابن عربي. وفي الجامعة الأمريكية، عرفت ييتس وشاتِّرتون، وقرأت شكسپير بالإنكليزية؛ كما قرأت المهابهارتا الهندية، وأحببت الشعر الياباني، وعشقت التجريدات في الشعر الجاهلي.

ج.أ.: وهل يعجبك بالذات الوقوف على الأطلال؟ إنه، في رأيي، أجمل وأعمق المواقف في الشعر العربي...

ف.م.: أنا معك، يا جاك، في أن أجمل الشعر العربي هو الوقوف على الأطلال. إنه يذكِّرني بفلسطين وبكاء أطفال فلسطين!

روما: الفورة الأولى للنجاح

ج.أ.: وكيف كانت بداية حياتك الفنية؟

ف.م.: بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، كانت مرحلة نضجي الفني. وأظن أن عمري كان عشرين أو إحدى وعشرين سنة حين أقمت أول معرض رسميٍّ لي. وقد قُدِّمَتْ إحدى لوحات هذا المعرض فيما بعد – وهي بعنوان "راقصة العصر" – في المعرض الدولي في جامعة ليكلاند (فلوريدا)، فحزت بها على جائزة استحقاق من المعرض.

ج.أ.: كنتَ في أثناء ذلك سورياليًّا (الديوان المشترك مع خزندار، ومقدمة السوريالي السوري أورخان ميسَّر)؛ ولا بدَّ أن لوحتك هذه لم تكن تمثِّل فاتح المدرس الذي بدأنا نعرفه منذ معارضه الأولى في Gallery One.

ف.م.: كانت اللوحة سوريالية في فكرتها: فهي تمثِّل راقصة، وفي القسم العلوي منها ساعة فيها أقسام من هيكل عظمي – ولكن بشكل مقبول لطيف، لا يحمل نزق السورياليين الأوائل واعتماد "الصدمة" كضوء للَّوحة.

ج.أ.: هل كانت لأورخان ميسَّر حلقةٌ يجتمع حولها الأدباءُ والفنانون الطالعون؟ وهل كنت من هؤلاء؟

ف.م.: كان أورخان ميسَّر إنسانًا رائعًا، مثقفًا، ومحبًّا للفنون. ولقد تتلمذنا عليه جميعًا، أنا وأدونيس وآخرون. كلُّنا تخرَّجنا من حلقات هذا الشاعر. [...]

لقد كانت جائزة ليكلاند في فلوريدا، إذن، هي أولى الجوائز التي حصلتُ عليها؛ وهي أول جائزة حاز عليها رسامٌ سوري في العالم الخارجي. الجائزة الثانية كانت من وزارة المعارف السورية. والثالثة: الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي في العام 1962. وبعدها جائزة شرف من Biennale ساو پاولو (1963). وأخيرًا جائزة الدولة السورية للفنون في العام 1968.

أما الوسام "الحقيقي" فلم أعطِه لنفسي، لأن أية صخرة صغيرة "ملحوشة" في البرية فيها من الجمال، والهندسة، والتغلُّف بالأضواء والألوان اللامرئية، ما يعجز أيُّ عقل، مهما كان خارقًا، أن يدرك روعتَه القاهرة. "البراعة" ليست فنًّا. والإنسان – اسمح لي أن أنزع صفةَ "فنان" عنه – بارعٌ فقط وليس فنانًا. الإنسان بارع وحسب. لأن الفن الطاهر مستحيل الوجود. إنْ سألتني عن السبب، أقلْ لك: أعطِني أثرًا فنيًّا واحدًا في تاريخ البشرية ليس متأثرًا بفنِّ مَن سبقه! هذه الحقيقة إدانة للعقل البشري الغبي. حقائق يكره الناسُ ذكرَها، ولكنها حقائق!

يبدو أن هذه الملاحظات عزيزة على فاتح المدرس؛ ولا بدَّ أنه يردِّدها في كثير من الظروف. فقد رأيتها مكتوبةً على قصاصات ورق معلَّقة على الجدار أو على أحد الأبواب، أو مكتوبة مباشرة على الحائط أو على الباب، أو على خشبة "ملحوشة" في مكان ما من المرسم!

في مرسم فاتح المدرس فوضى لا تذكِّرنا إلا بأسطورة مرسم جياكومِتِّي[2]. وقد يكون مرسم فاتح المدرس أكثر بلبلة و"بدائية" من مرسم Giacometti في باريس. فالاثنان يشتركان في أن الجدران عندهما عبارة عن لوحات فنية معتَّقة برسم فوق رسم، وحفر فوق حفر، وطلاء فوق طلاء، فوق شكل يُمَّحى ويظهر... إلا أن الفوضى في مرسم فاتح المدرس هي – ولا شك – أغنى المفاجآت: تشير إلى حياة صاخبة ومتنوعة إلى درجة يكاد الإنسان ألا يصدِّق معها أن الذي يعيش في هذا القبو الفسيح شخصٌ واحد! لا يمكن للمرء أن يسأم إذا تُرِكَ وحيدًا في هذا المرسم. ولقد بقيتُ فترةً لتصوير هذه "الفوضى" في مرسم فاتح المدرس، وطوال هذه الفترة (قبل ظهر أحد الأيام التي استغرقتْها المقابلة) لم أكف عن العثور على مكافآت صغيرة، مثل منفخ لحداد أو جزار، مقلاع لرمي الحجارة (مستعمَل طبعًا، وكان فاتح المدرس قد أخبرني أنه كان يرعى الغنم في الجبل صغيرًا، ويحمل لها في الجيب سكرًا تأكله مباشرة من يده؛ كما أخبرني أنه كان كثيرًا ما يتبع مع الأولاد آثار أقدام الذئاب، ويعود مذعورًا إلى بيت أخواله). كما ترى في المرسم ألبومًا للذكريات مبعثرًا على الحيطان والأبواب، وراديو عتيق يعود إلى أوائل الستينات، ومزهريات وأوراقًا وحجارة ومنحوتات، أكاديمية ونصف أكاديمية، ولوحات جديدة قد يغلب أن تكون لمناظر طبيعية. ("هذا ما يطلبه الجمهور" – قال لي – "وأنا أرسم هذه اللوحات على هامش ممارستي الفنية، لكي أكسب عيشي.")

على كلِّ حال، لوحات فاتح المدرس دائمًا جديدة؛ فهي تنفد في كلِّ معرض: من جهة، لأن فاتح المدرس هو مَن هو في الشهرة، ومن جهة أخرى، لأنه يبيع لوحاتِه بسعر لا يمنعه كونُه أعلى أسعار "السوق الفنية" في سورية من أن يكون رخيصًا جدًّا: ثلاثة آلاف ليرة سورية للَّوحة الزيتية ذات القياس العادي! وهذا، في لبنان مثلاً، سعر مخجل لِلَوحات حاز صاحبُها على ما لا يقدر فنان عربي بإطلاق أن يحصل عليه من النجاح والتقدير في العالم.

ج.أ.: ولكن ذهابك إلى روما، كيف تم؟ – وأنت فقير، وأمُّك أرملة أنت بكرها...

ف.م.: حين جاء وزير التربية السوري يهنِّئني على فوزي بالدرجة الأولى بين المتسابقين على منحة الدراسة في أكاديمية روما، سألني:

-       "متى ستسافر، يا فاتح؟" فقلت:

-       "أنتظر أمي أسبوعًا لتبيع "عفشها" لأنها سترافقني." – وكان عمري عندئذٍ أربعة وعشرين عامًا. فقال:

-       "ها هو مجنون آخر يصطحب أمَّه الفلاحة إلى روما!" فقلت له:

-       "وزوجتي أيضًا!" نظر إليَّ متعجبًا، فقلت:

-       "ولِمَن أترك الطفلة اليتيمة، ابنة خالتي؟" فقال لي:

-       "كيف ستعيشون على هذا الراتب الضئيل؟ هل فقدت عقلك؟!"

-       "سأرسم هناك." قلت له.

فابتسم ولم يعلِّق. لعله اكتفى بكلمة "مجنون"!

في روما، كان رصيدي في البنك لا يقل عن سبعة ملايين لير إيطالي وأنا طالب – كل ذلك من أعمالي. وقد قال لي فرانكو جِنتِليني[3]: "إنك تبيع أكثر من أيِّ فنان آخر في روما. ماذا؟ هل وجدت نيويورك في روما؟!" والتفت إلى صديقه الصحفي وقال: "هذا هو السنيور موندارس. إنه رعب الأكاديمية! إنه طاحونة ألوان!" وعندما طالب الصحفي صديقَه بإيضاح أكثر قال: "إنه أحد أعمدة الأكاديمية عندنا."

ج.أ.: وما رأيك الآن في جِنتِليني؟

ف.م.: إنه رجل تزوج اللون. لقد مات منذ عهد غير بعيد. كنت أرى في عينيه كلَّ أحلام الكارافاجيو[4]. فلقد كان il Caravaggio مقاتلاً، كان بجانب المسيح؛ أما جِنتِليني – رحمه الله – فقد كان إلى جانب الخطوط الصعبة التي كان يراها المسيح في المكان الذي يؤلِّف/يولِّد الزمان.

كان Gentilini في حياته يبيع لوحاته بأضعاف أثمان لوحات پيكاسو. ولكنه كان يرسم ستَّ لوحات في السنة فقط، بينما پيكاسو يرسم ألفًا وخمسمائة في السنة! ربما كان هذا من الأسباب التي جعلت جِنتِليني لا يتمتع بالشهرة التي يستحق. فما أقل الذين يعرفونه اليوم!

ج.أ.: وقد يكون وجود شاغال[5] هو الذي يكسفه؛ فبينهما مناخٌ مشترك، و"الاسم" لشاغال...

ف.م.: لا، ليس جِنتِليني، مثل Chagall، طفوليًّا؛ أو على الأقل، ليس فقط طفوليًّا. جِنتِليني من أشف الفنانين ألوانًا وألطفهم بناء. من هذه الناحية، يتفوق جِنتِليني على كثرة من الفنانين التشكيليين، مهما كانت أهمية "مضامينهم" – فالرسم كلُّه محاكمات. إنه عقل، عقل صافٍ.

مأساة الولدين الأولين

ج.أ.: اسمح لي أن أفتح جروحًا قديمة وأسألك عن أولادك من زوجتك الأولى (ابنة خالتك): لماذا كانوا مشوَّهين، أو معاقين؟

ف.م.: لقد حبلت زوجتي بأول طفل لي وأنا في روما. وشاء سوء الطالع أن يولد الطفل عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وفي مستشفى الجامعة. وهذه البنت "الغشيمة" لم تكن تعرف مكان الجرس وراء رأسها، فخرج رأسُ الطفل من رحمها وراح يختنق. وحينما أنقذوه بعد زمن، كان في حاجة إلى "بيت الأكسجين". وفي اليوم التالي، بعد أن رأيت ولدي شبه ميت في زجاجة الأكسجين، قلت لزوجتي:

-       "لماذا لم تقرعي الجرس؟!"

-       "لم يكن هناك جرس."

-       "من الصعب أن يكون لكِ ولد ذكي الآن... لقد أتلفتِ جمجمته!"

غير أن الطبيعة أعادت إلى الولد وعيَه. وكان بدأ يمشي ويقول Buongiorno، ويسمِّيه الناس il Romano (أي "الروماني")، حين وقع الحادث الثاني – القاضي.

كانت خالته الصغرى تُلاعِبُه على حاجز الحديقة. فناداها بعض الأولاد، فتركت الطفل، فسقط على رأسه وسكت... إلى الأبد! عشت معه ثمانية عشر عامًا من الحزن؛ وكذلك مع أخته التي سقطت، وعمرها عام، على رقبتها. لقد عشت معهما هذه الفترة كلَّها أقاسي شرَّ عذاب – حتى ماتا في سنة واحدة: هو في الثامنة عشرة من عمره، وهي في السادسة عشرة. ولقد دفنتُهما وحدي؛ لم يكن معي أي إنسان. ودفعت ثمن ذلك بأن خَرِبَ كبدي بالذات! قبل ذلك كنت، كلما رأيت الناس يعولون ويندبون ويأكلون الطعام حول جثمان الميت، أتساءل لماذا يصنعون ذلك. وقد تبيَّن لي أن هذه العادات الطقوسية ضرورية لأنها تمنع موت الأحياء...

ج.أ.: ولكن الذين كانوا يحدثونني عنك، قبل أن نلتقي، أفهموني أن العاهة في ولديك كانت تشويهًا خَلْقيًّا؛ فظننت أن لهذا التشويه علاقةً بزواج القربى – فأمُّ هذين الولدين هي ابنة خالتك...

ف.م.: على العكس من ذلك، فقد مشى الأول في شهره الثامن عشر، وكان يرافقني، ويمشي بلا مساعدة، ويرد التحية على مَن يحيينا في الطريق. أما أخته، فوقعت على رقبتها من المرجوحة وتشوَّه قفصُها الصدري – وكانت في سنتها الأولى؛ قبل ذلك كانت طبيعية. أما ثالث أبنائي من زوجتي الأولى (ابنة خالتي)، فقد ربَّيته باعتناء. ومؤخرًا، تخرَّج فادي – وهذا هو اسمه – من دورة مظلِّيين؛ وهو الآن شاب وسيم في التاسعة عشرة من عمره، وقد أعرِّفك إليه إذا أردت.

ج.أ.: مع ذلك، طلَّقتَها، وطلقتَ أخرى بعدها...

ف.م.: زوجتي الأولى هي ابنة خالتي: فهي، إذن، من "الأهل" أكثر منها زوجة – وأنا لا أزال أحبها حتى الآن. لكنها أرادت الطلاق، فكان لها ما أرادت. وكذلك الأمر بخصوص الثانية، وهي من حمص: كانت شديدة التعلق ببيت أهلها، ولم تحتمل جوَّ البيت عندي، فتركتُ لها حريةَ تركي. أما الثالثة، فلا تزال شريكة حياتي حتى الآن، ولي منها ولدان: شادي ورانية.

"ابنتي رانية"

ج.أ.: ما هذه العلاقة الغريبة بين فنان ومثقف مثلك وبين المرأة؟! تتزوج أولاً ابنة خالتك، ثم تتركها وتتزوج امرأة تكاد لا تعرف أن الزواج يعني تَرْكَ بيت أمِّها! هل هذا كلُّ ما يمكن انتظارُه من المرأة؟ أم أنك ما عرفت المرأةَ التي تملأ انتظارك؟

ف.م.: المكانة التي أخذتْها المرأة في عالمي لها علاقة بالطبيعة الجميلة والقاسية: فالمرأة التي أحب لها علاقة بالذكاء الطبيعي. وكلما ابتعدتْ في شروط وجودها عن شروط وجود الرجل، عن خصائص الرجل ومميزاته، فهي أقرب إلى النفس، لأن المرأة المتحذلقة عدوٌّ لدود لي...

ج.أ.: أردت أن أعرف ماذا تمثل المرأة كواقع في حياتك؟

ف.م.: هذا هو الأساس الذي بنيت عليه علاقاتي كلَّها مع النساء: بقدر ما تكون للمرأة أوصاف الشجرة والجبل والنهر، وخصائصهم، أحبها. هذا الشرط، على عكس ما تظن، كان يجعلني صعبًا في عيون النساء اللواتي عرفتهن. فقد كنت، في نظرهن، كالعاصفة الهوجاء، أو كالسيل الجارف. ما أكثر مَن عرفت من النساء، ولكن اللواتي ثَبَتْنَ كنَّ قليلات!

ج.أ.: ماذا تقصد حين تقول "ثبتن"؟ هل هناك مدة مثالية للعلاقة الثابتة؟

ف.م.: هنالك فقط مدة قصوى – وهي أربع سنوات – بزواج، ومن غير زواج... تعلقي الشديد بالأرض، ومحبتي لتباين الفصول الأربعة، كانا ينعكسان پسيكولوجيًّا على ما أتوقعه من المرأة: محبتي لهذا الصمت الموجود في الأرض كانت تقوم حاجزًا بيني وبين المرأة التي تشبه الرجل.

ج.أ.: ها أنت ذا تحدِّد الرجل بأنه "ثرثار"!

ف.م.: نعم، الرجل ثرثار بائس! أتوقع، إذن، من المرأة الرياح والشمس والليل، فأصاب بخيبة أمل إذا وجدت، بدلاً من ذلك، صفحاتٍ مكتوبة! امرأتي لا أريدها شبيهةً بالرجل، ولا أريدها إنسانًا حتى، بل طبيعة.

ج.أ.: كأنك تقول بأن الإنسان انحطاط للطبيعة، والرجل انحطاط للإنسان؟

ف.م.: أكثر من ذلك: إن الرجل عنصر معكِّر للطبيعة، طفيلي متعلق بثدي المرأة. إنه أشبه ما يكون بالكلب النهم متشبثًا بثدي الحسناء. يجب إبعاده وقتله! وأنا أتعجَّب كيف تتحمل النساءُ الرجال! لا أعرف ماذا كنت أفعل لو كنت امرأة! ليست هناك صورة هزلية وبشعة أكثر من صورة الرجل على المرأة! كم مرة تساءلت: كيف تتحمل الطبيعة هذا المنظر؟! إنني – للحقيقة – معجب بالحشرات التي تأكل إناثُها الذكورَ بعد أن تضاجعها. الرجال؟! حتى الحشرات أفضل منهم!

ج.أ.: ولكن كيف يكون هناك لقاءٌ حقيقي بين امرأة ورجل؟

ف.م.: لقاء الرجل والمرأة يجب أن يتم في منتهى اللطافة، في غفلة عن عالم الطبيعة، لأن الطبيعة لها عيون كثيرة – الطبيعة لها عيون من الداخل.

تناقض؟! على الأرجح، لا. فأن يتم اللقاء "في غفلة عن الطبيعة" قد لا يعني إلا أن يتم من دون إزعاج – أي تحريك – للطبيعة. اللقاء المثالي بين الرجل والمرأة، في نظر فاتح المدرس، قد يكون هو اللقاء الذي لا "تلاحظه" الطبيعة، لأنه في الطبيعة، منها، وبها.

على هذه النغمة ينتهي الجزء الأول من الحوار. في الجزء الثاني نقترب أكثر فأكثر من عالم فاتح المدرس، الذي سيكون أكثر انطلاقًا، وربما أكثر إشراقًا. كان يمكن لنا أن ننظِّم الحوار كتابةً بعقلانية أكبر، فلا نخلط ما هو تاريخي بما هو "نظري" (إذا كان يمكن لهذه الكلمة أن تنطبق على آراء وانطباعات وتداعيات و"شطحات" فاتح المدرس التي هي، بالدرجة الأولى، أسلوب حياة، وذلك على الرغم من ثقافته الواسعة، بل بفضل منها)؛ ولكننا آثرنا أن نحافظ على الطبيعة "الباروك" للحوار، ولو اضطررنا، في بعض الأحيان، إلى عدم حذف التكرار الذي قد يفرض نفسه في مثل هذه الحالات. فهذا أشبه بفاتح المدرس، الذي قد يستأذنك – حين لا تتوقع – ويذهب إلى إحدى حجرات المرسم، فيُتِم لوحةً بسرعته المعهودة، ويعود!

من نتائج هذه الفوضى أن فاتح المدرس، الذي كانت له في أواخر الخمسينات علاقةٌ جيدة بجان پول سارتر، يحتفظ الآن بترجمة فرنسية لقصيدة منه، نفَّذها وكتبها بخط يده هذا الفيلسوفُ والأديب الفرنسي الذي كان في أوج شهرته آنذاك. ولكن حين أردنا أن نقدِّم هذا النص للقرَّاء [...]، كان علينا أن نترجم القصيدة عن الفرنسية لأن النصَّ الأصليَّ ضائع!

البحر

البحر مليء بالدمع الأحمر

والرمل يحكي عن الفرح الماضي

المحار صحون العشاق الموتى

والنور – نور البحر – أنشودةٌ

غنَّاها أحدهم وترك الغناء

البحر

البحر أنشودة بلا غد

إنه معبد الخطوات الشاردة

أفق البحر قد قطع رأس البشر

والآن يمشون على الماء

والآن كلُّ عاشق مسيحٌ بلا صليب

البحر مكوَّن من الدمع.

حين انتهى الجزء الأول من الحوار، تركتُ مرسم فاتح المدرس، ولم تكن فيه إلا بعض المحاولات، بعض خربشات كلِّ يوم. ولم أغبْ شهرًا حتى عدت، وفاجأني مرسمُه بلوحات تكفي معرضًا! وبالفعل، كان قد أُعلِنَ عن معرض لفاتح المدرس بعد أسبوع.

لذلك كان سؤالي الأول:

ج.أ.: في بعض ما "تخربشه" على هامش نتاجك الفعلي، في هذا الجزء الذي لا تعتد به من نشاطك الفني، ملامحُ تظهر في لوحاتك الجديدة. هذه الحقيقة، مضافةً إلى السرعة – "المذهلة"، يجب أن أقول – في الإنتاج، تجعلنا نتساءل: كيف تصل إلى لوحاتك التي تمثل كلُّ واحدة منها رحلةً خاصة وتجربةً خاصة؟ هل تلجأ إلى دراسات قبل اللوحة؟ أم يجب أن نرى في هذه الأعمال الصغيرة المبعثرة دراساتٍ لِلَوحاتك "الحقيقية"؟

ف.م.: أكاد لا أدري متى "تجيء" اللوحة أو كيف تجيء! سمعتك تمدح "الفوضى" في مرسمي. هذه الفوضى لا يمكن أن تكون مقصودة؛ إنها حتى غير مقبولة. أحيانًا أتأفف منها! ولكن كيف أجد الوقت لأرتب كلَّ شيء؟! أحس أني دائمًا في سباق مع الوقت. الحياة قصيرة، ويجب أن نأخذها كلَّها. جوابي عن سؤالك يختصره هذا الواقع. أما الجواب المباشر فلا يختلف كثيرًا عن معاناة معظم الفنانين. اللوحة تفرض نفسها كاملة. أحيانًا ينقصها لونٌ أو تكوين. أحيانًا ينقصها توازنٌ يضم كلَّ العناصر التي تبدو بديهية ومتعذرة في آن. وكثيرًا ما تكون اللوحة في ذهني مجرد لون. وهذا صعب. اللون إحساس يفرض عليك أحيانًا أن تنقله بكل لون غيره. أصعب ما يكون، في "إنتاج" اللوحة، أن تصل إلى الدافع الأول، إلى "الدعوة" الأولى لهذه اللوحة. وقد يكلِّف ذلك عدة أعمال تبقى في الظل. هذا ما يجعل الانتقال من لوحة إلى لوحة يبدو شبه مستحيل، ولاعقلانيًّا نوعًا ما. لذلك، ربما كان يجب أن يُظهِر الفنان، أن يكشف، كلَّ المراحل التي أوصلت إلى اللوحة المعروضة. ربما، لست أدري.

عمليًّا، أنا لا أخطط لأعمالي. ولكن بعض اللوحات المركَّبة تُربِكُني أحيانًا، وتوقِفني كما على شفير هاوية، فأتراجع، أتركها قليلاً، وأرسم "إلى جانبها"، أو أرسم بعض أجزائها على حدة، دراساتٍ لبعض الأجزاء والتكوينات الصعبة فيها... أو "أنساها"، لأجد بعد وقت، بعد نوم ليلة ربما، أن هذا الإشكال الذي جمَّدني في مكاني لم يعد موجودًا، وأن "الحل" واضح وبديهي وضوحًا دامغًا، بشكل أتعجَّب معه كيف لم ألحظ ذلك قبلاً!

كيف يتطور فاتح المدرس؟

الفن الشرقي، الذي تنتمي إليه أعمالُ فاتح المدرس، والذي تمثِّله الأيقونةُ تمثيلاً أساسيًّا، هو في جوهره فن غير منظوري. والفن اللامنظوري، بطموحه إلى "الأبدي"، يلغي الزمن، لأن الزمني يدنِّس.

المسافة، في مثل هذا الفن، من اللوحة إلى مُشاهِدها هي غيرها من المُشاهِد إلى اللوحة – وبشكل نهائي. فالمسافة من غير زمن هي، تحديدًا، ما لا يمكن اجتيازُه. بعيدةً قد تكون، إلى الوراء أو إلى الأمام؛ ولكنها، مهما اقتربنا، تؤثِّر عن بُعد. "بُعْد بلا مسافة"، قد يقول النِّفري. وأول ما قد يتبادر إلى الذهن، حيال هذا النوع من الفن، أن كلَّ تقدُّم هنا مستحيل. لكن هذا الحُكْم لا يصيب إلا التقدم الأفقي؛ إنه يحيلنا إلى الاعتقاد بأن تقدمًا ما، عموديًّا، لا يزال ممكنًا. وهذا لا يعني أننا ألغينا صيغة خطِّية للتقدم بإحلال صيغة أخرى، خطِّية هي الأخرى، محلَّها، تعتمد الفوق والتحت عوضًا عن الأمام والوراء.

التقدم في هذه الحال، وبالتالي في أعمال فاتح المدرس، هو تقدم في مطلق لازمني ولامكاني. لذلك نرى أنه لا يستطيع أن يخلِّف الوراء. إن "الوراء" ليس كميةً قابلة للتحييد في مثل هذا الفن – مما يجعل خلفيات فاتح المدرس غير آمنة، شبه عدوانية. السائر هنا لا يمكن له أن ينظر إلى الوراء ويقول: هذه هي المسافة التي قطعت. إننا دائمًا في وضع السائر في الصحراء، الذي يعرف أن الطريق التي فقدتْ اتجاهاتها هي، في جوهرها، المسافة بينه وبين الحياة. هذا هو ما يراه النظر السادر – والنظر "السادر" هو ارتواء النظر مع بقائه عطشًا؛ هو القبض على ما لا يُطال، بوصفه دائمًا لا يُطال!

فاتح المدرس لا يبني على ماضٍ – وهذا ما تبيِّنه خلفياتُه غير الآمنة؛ وهذا ما تبيِّنه كذلك مراحلُه "السابقة" التي تبقى أبدًا أمامه. ينتج عن ذلك أن الفنان يصل إلى عكس ما نظن أنه متَّجه إليه – إلى تعددية لامتناهية، شبه ملزِمة. فعين فاتح المدرس لا تحمل خطابًا واحدًا: إنها تسجل الإيحاءات كما أُنزِلَتْ؛ وتسجِّلها مع الإبقاء على حدثيَّتها. الرهان الذي ترفعه كلُّ لوحة من لوحات فاتح المدرس هو إمكان التعبير عما هو، في الوقت ذاته، جوهري وعابر.

ج.أ.: ما الذي يجعل عددًا من اللوحات ألصق بصاحبها من غيرها؟

ف.م.: نظرةٌ تشحن الفن بالديمومة.

ج.أ.: هل تؤمن بأن الرسم يقدِّم الثابت؟ أليس الرسم هو ما بقي مما اختفى؟

ف.م.: أنا ضد المتاحف، ضد الأمور الثابتة – وهذه حقيقة تعلمتُها من الطبيعة. الطبيعة تكره الثبات. والرسم نوع من التثبيت، تثبيت الحوادث التي مرَّتْ. يبدو للناظر أنها موجودة، ولكنها مرَّتْ – ربما منذ ثانية فقط. هذا التناقض هو من جملة التشوه الخَلْقي والعقلي عند الإنسان: تثبيت الأشياء العابرة. البشرية، في حفاظها على تراثها بشكل ثابت، لا متحرك، تعبِّر عن واقع واحد هو: قبول الإنسان بفكرة الموت.

ج.أ.: وأنت، فاتح المدرس، لا تؤمن بالموت؟

ف.م.: الطبيعة لا تعرف شيئًا اسمه الموت. إنها تعرف التحول.

ج.أ.: كأنك تقول بالتقمص!

ف.م.: التقمص فكرة بدائية، لا تزال تحمل لطخة "الذاتية" في النظر إلى وحدة الوجود. التحول هو تحول الكل.

ج.أ.: نعود إلى سؤالنا: النور، الذي هو جوهري في عملية النظر، هو العابر بامتياز...

ف.م.: النور الذي نراه الآن، في لوحة، هو نور مرَّ منذ لحظة. الصورة التي استقرتْ على اللوحة هي من تكوينات المخيِّلة: صورة ميتة، أنا ضد تثبيتها. لكني مازلت خاضعًا للضعف الذي ولد مع الكائن الإنساني الذي توهم أنه "عاقل". (يبقى لنا، أحيانًا، أن نحمل إلى اللوحة شيئًا من اللاثبات الذي يميِّز الأشياء؛ أن نضع، مع ما نثبِّته على اللوحة، شحنةَ التحول التي تجعله غير قابل للتثبيت.)

ج.أ.: هذا يقود إلى الحديث عن الماضي: كيف يظهر الماضي للفنان؟

ف.م.: الفن تنظيم ذهني لإيجاد تطابُق ما بين الماضي والحاضر فداءً للحظة القادمة. المسيح نفسه عمل الكثير فداءً للَّحظة القادمة. أنا أعتبر تفكير المسيح من أسلم أنواع التفكير، لأنه تحدَّث عن المستقبل، – عن مستقبل الإنسان، – ولم يتحدث عن الغيبيات! تحدث عن الأطفال والحب، وعن اللحظة القادمة...

المسيح: "فادي اللحظة القادمة"

ج.أ.: وملكوت السماء!

ف.م.: وهنا أيضًا لم يكن المسيح يتحدث عن الغيبيات، بل عن تصوره لمستقبل مبنيٍّ على المحبة – وإنْ كانت المحبة نوعًا من المستحيل في حياة الإنسان، كما هو الفن الصحيح.

ج.أ.: لا أريد أن أحصر سؤالي بشكل أقرب: أنت الذي ترسم لوحات لا عودة منها (كما يجب أن يكون الفن)، بماذا تشعر حين تدرك أنك تعيش بعد لوحة لا عودة منها؟ – بعد تجربة لا شفاء منها.

المسيرة الجسدية للفكر تعاني من السالب والموجب: الأول هو انعدام وجود اللحظة الفائتة لأنك مسرع – وبسرعة الضوء؛ هذا هو الجانب السلبي. وفي الجانب الإيجابي للمسيرة الجسدية–العقلية، أرى نفسي على سلَّم حلزوني، وبنظرة واحدة أرى الماضي كلَّه، منذ بداية الصمت الكوني؛ وبنظرة واحدة أيضًا، أرى الأضواء الجميلة التي هي عدم الأبدية. فالمستقبل مهزلة رائعة، كالماضي طبعًا. والعقل يستشف المحسوسات من هذين الجانبين المتناقضين. لا أستطيع أن أتصور الإنسان إلا وحشًا خرافيًّا تائهًا نصف موجود!

ج.أ.: الماضي ليس واقعًا...

ف.م.: هذا هو واقعه!

ج.أ.: وبهذا الالتغاء السلبي يتم انتهاؤك من لوحة لا تنتهي إلى لوحة أخرى، من دون إغلاق الأبواب التي فتحتْها اللوحةُ الأولى...

ف.م.: التحول من لوحة إلى لوحة هو لعبة إلغاء القرارات، أو احتقار الماضي وتسفيهه. هذا، وغيره، يمنحنا الإطلاع على حقيقة لا مفرَّ منها، وهي أن الإنسان هو هذا الحيوان الذكي – الأبله جدًّا، والذكي جدًّا! – الذي يعرف الحقائق و"يطنش" عليها! هذا كله يبرهن أن الإنسان يعرف سلفًا مستقبلَ أيامه الآتية كلَّه، – حتى تلك الحفرة الرمادية التي سيمَّحى فيها، – تمامًا كما يعرف الماضي، بإحرازاته الصغيرة وخيباته الكبيرة. يعرف هذا كلَّه، – وبكل تأكيد، أكثر من الحشرة وأكثر من الحصان وأكثر من الشجرة؛ – ومع ذلك، يتحمس لأتفه الأشياء كما يتحمس لأعظمها! ما هذه الحركة الجميلة البلهاء التي هي مسيرة الإنسان الواحد؟! ها هو ذا، وقد وضع على رأسه تاجَ الذكاء والمعرفة، يبدو مضحكًا كآثار دجاجة في الوحل. هل قرأت انطباعات أقدام دجاجة على الطين؟ إنني قرأت ذلك.

وما حياة الإنسان؟ إنها مهزلة، موسيقاها عواء، وشفيعها وجه طفل: الوجه الذي حَزَرَ جمالَه المسيح – ولو لم يحزر لما صلبوه!

ج.أ.: مع كلِّ ما يمكن أن يقال حول الطرُق المتشعبة لتطورك، فإن هناك خطوطًا عريضة تشكِّل مراحل محددة في عمرك الفني، منذ بداياتك وحتى الآن. هل يمكن لك أن تحدِّد لنا هذه المراحل بنفسك؟

ف.م.: قضية "المراحل"، في سلسلة نتاج الإنسان على مدى العمر، لا تختلف كثيرًا عن تعلق الحيوان بحيِّز يُسمَّى "بيولوجيًّا" بالقهر المكاني. ومن ذلك علاقة العصفور بالشجرة التي يدافع عنها. فكثيرون من الفنانين ذوي الطابع المميَّز يشبهون هذا الدوري الشاطر الذي يدافع، ضد قوى أقدر منه، عن الحيِّز الجغرافي الذي لا حياة له خارجه. لكن من حسن الحظ أن العقول، في تكويناتها البيولوجية، تختلف وتتنوع، وأنها تمتلك طاقة سليمة للتحول.

"ثلاث فلاحات وطفل"

وأنا لم أخرج عن هذا الإطار، عِبْر مراحل تجربتي الفنية كلِّها: منذ بدأت برسم السهوب الشمالية، وانتقالي إلى معطيات سوريالية، إلى ولع فولكلوري باللون وبمأساة اللون في وجوه الفلاحات والأطفال في شمال سورية، ومراوحتي زمنًا طويلاً في هذا الحيِّز من جغرافية الفكر، والدفاع دفاعًا صريحًا عن أجمل المقهورين في العالم، ثم قفزي إلى مصطبة هوائية مشبعة بتلاشيات من الرموز، وبإيماءات سياسية غايتها الاتهام...

"المتسولة الصغيرة"

ج.أ.: لن أذكِّرك بأنك كنت أنت الوحيد الذي ارتفع صوتُه في الستينات ضد موجة فنِّ القبضات والبنادق المرفوعة، وضد فنِّ الأفواه الصارخة. ولكن بما أنك الآن ترى في السياسة درجةً عليا للفن، فأنت تضع نفسك على مستوى واحد مع الفولكلوريين والدعائيين!

ف.م.: أنا لا أتجاهل هذا التناقض القديم في موقف الفنان الذي يريد لفنِّه دورًا في المجتمع. أعرف تمامًا أن الطريقة التي "نصل" بها إلى الجمهور العريض هي، كما يعتقد سارتر، طريقة غير مباشرة، عِبْر النقَّاد والشرَّاح وأساتذة المدارس والمعاهد والجامعات.

مع ذلك، أنا فنان سياسي. فني كلُّه سياسي. وهذا لا يحط من قدره، كما تظن. إن المدلول "السياسي" للَّوحة لا يغيِّر شيئًا في مضمونها التشكيلي، في قيمتها الداخلية الذاتية الثابتة. وذلك، خصوصًا، لأن فني السياسي لا يلهث وراء الحَدَث المباشر. الشحنة الاتهامية الصريحة التي أتحدث عنها لا تفرض على فنِّي أيَّ تنازل جمالي.

"لاجئون" (من مقتنيات معهد العالم العربي، باريس)

فنِّي، إذن، اتهامي: إنه اتهام لمرض عقلي أصاب التشريع العربي كلَّه – الحسَّ الجمالي للتشريع العربي كلِّه. إن أكثر رسومي مؤاخذةٌ صريحة لاضطهاد الغد – الغد الذي يتمثل عندي بالطفل. والطفل الذي أقف بجانبه الآن، يقف بجانبه كلُّ شاعر وكلُّ عاشق لهذا الكوكب الذي يتفتت!

إنني شاهد على عصر مجرم مريض. ويدهشني كيف يتم هذا القتل في براعة. لعلها براعة مسكينة هذه البراعة!

ج.أ.: "البراعات" كلُّها بائسة في نظرك!

ف.م.: نعم... تصوَّرْ أن يكون للجرذان إله! تصور أن يكون للإنسان إله – وإله مبدع! تصور هذا الإنسان–الجرذ: جرذ همُّه أن يحصد آلاف الباقات من الورود. وحين تدق الساعة الحادية عشرة، يبول عليها وينام. كيف تريدني أن أصوِّر هذا العالم؟! كيف تريد أن أحدثك عن هذا العالم؟! لقد شوَّه إنسانُه – هذا الإنسان السفيه! – جمالَ أبعاد الكون، جمال حركة الجواهر في الذرة! إنه يكسر مرآتي كلَّ يوم.

بين أوراق الفنان، التي تكرَّم بتسليمي إياها على علاَّتها، هذه الخاطرة، التي كُتِبَتْ في أواخر الستينات:

ماهية الكارثة

لكي تدرك أزمةَ الإنسان، عليك أن تمرَّ بجانبٍ من تجارب هذا الإنسان مرورًا عميقًا. لأنك لن تدرك تمامًا عواء الكلب المصاب ما لم تكن أنت ذلك الكلب. على هذا الأساس، نرى كيف يسقط عاملُ الخيال المضلل في اقتراحاته حينما يصف العلاج للأذى. فالألم شيء، وتصور الألم شيءٌ آخر.

ذلك أن الألم المهيمن على الإنسان المعاصر هو الألم نفسه الذي نال الكثير من جِلْد الإنسان القديم وعَصَرَ عقله. إلا أن إسقاط المبرِّرات لهذا الأذى، بفعل التقدم العلمي واكتمال المحاكمات المنطقية على ضوء فهم دقائق خلايا الوجود، يجعل من الألم الناهش جلودَ البشر وعقولَهم أمرًا غير محتمل – إزاء تضخم المفاهيم الجمالية.

فهذا التضاد بين الإحساس الشديد بالآلام الجسدية والعقلية للإنسان المعاصر وبين إحساسه هو أيضًا بكلِّ ثقل دقائق الجمال يجعل صمودَه زمنًا طويلاً أمام الكارثة أمرًا مشكوكًا فيه.

وعلى هذا الأساس، نرى الثورات تتتالى لدى الشبان في العالم اليوم. إنهم موازين أشد دقَّة من آبائهم. أوليس في هذا التقويم عندهم قدسيته المباركة؟

فاتح المدرس

4/2/1969

يتبيَّن من هذا النص، الذي لم أرَ أن فاتح المدرس قد خرج عن روحه، أن القلق الذي يعبِّر عنه فنُّه "السياسي" ليس استلابًا سياسيًّا لهذا الفن. إنه قلق جسدي، محاولةٌ للقبض – جسديًّا – على "أزمة الإنسان". على هذا المستوى فقط، يلتقي فنُّ المدرس مع السياسة.

ج.أ.: إذا كان هذا ما تسمِّيه "سياسة"...

ف.م.: حينما يرسم الرسام، أو يكتب الكاتب، أو يشرِّع المشرِّع، فإنه يقول: أنا أرى العالم هكذا. تعالوا نتأمل. إنها نتف من الرؤيا، على درجات متفاوتة من الفعالية.

ج.أ.: للمرة الثانية أسمعك تتحدث عن "التشريع" كممارسة فنية. هل المشرِّع، في نظرك، فنان؟

ف.م.: ومَن قال لك إن الفنان، في المطلق، أكثر إبداعًا من المشرِّع؟! المشرِّعون الكبار كلُّهم فنانون. لأن من خصائص النظرة الفنية إعطاء تصور للعالم وفق رؤيا خاصة للغد، للمستقبل. ولكن الإبداع ليس معطى للفنان أكثر منه للمشرِّع؛ لأنه، في اختصار، ليس معطى لأحد من البشر على الإطلاق! إننا، حين نقول "هكذا أرى العالم"، لا نقول ذلك من دون العودة إلى مفاهيم مثل الخير والشرِّ في شكلها الأولي. لا، لأن عملية الإبداع "الطاهرة" غير موجودة أصلاً، غير موجودة في العقل البشري – مع الأسف! هذا العقل المسكين ليس عليه إلا أن يبني، لا أن يبدع. من بصيص نور يبني قلعة تنفث النيران! إنه عقل بنَّاء لعوب، وليس عقلاً طاهرًا مبدعًا. أليست هذه هي المأساة الحقيقية للعقل البشري؟ أتحدَّاك أن تجد لي عملاً طاهرًا واحدًا! ربما كان العصفور يحمل في منقاره الصغير طاقةً إبداعية أكثر مما يحمل الإنسان. والدليل على ذلك الحروب، وبحيرة الدم التي يسبح فيها العالم. إنني مضطر إلى أن أؤمن بذلك – وأتحداك أن تبرهن على العكس! لذلك، ليس عجيبًا أن يستسلم العقل البشري في المستقبل لعقل آليٍّ يريحه من هذه الكذبة التي اسمها "الإبداع"!

تعالوا نتعلَّم من الكتب السماوية لكي نمارس القتل – وبشكل جيد! كم أتمنى على مَن خرَّب تلك الإبرة أن يحمل الخيط الذي تُخاط به البشريةُ كلُّها في عقد واحد.

أيها السيد الجميل، أنت الذي حدَّثتَني عمَّن خرَّب الإبرة. أقف الآن بجانبك على قمة الجبل. تعال. لو سامحتَني، نُحصِ معًا أطفالَك الذين لم يُذبَحوا بعد.

ج.أ.: المؤلِّف – ما لم أكن مخطئًا في فهم رؤيتك للعمل "الإبداعي" – يبقى في عملية التأليف – رسمًا أو شعرًا – من ناحية القارئ...

ف.م.: أُعطِيتُ كوكبًا جميلاً، وحيِّزًا جغرافيًّا غنيًّا ومميزًا وخصبًا. هذا الجمال هو ثروتي كلُّها لأنني أعشقه ولأنني، حينما أرسم أو أكتب، لا أرسم ولا أكتب، بل أتأمل مندهشًا كيف تم بناء هذا العالم الجميل. هذه هي مهمتي: في إمكانك أن تسمِّي الفنانين أدلاء على الجمال – "أدلاء" مثل الدليل السياحي.

سؤالك يؤدي أيضًا إلى أن الوقوف في موقع "القارئ" في عملية التأليف الفني هو وقوف في موقع التعددية؛ لأن القارئ، أو المتلقي لأيِّ عمل فني، هو أنثى وذكر، كبير وصغير، ضعيف وقوي، غني وفقير، إلخ. ولكن، أليس الفنان هو ذلك كله معًا حين يرسم؟

ج.أ.: ينتج عن ذلك أن الجمال، في بعض لوحاتك، هو وليد التوازن الصعب، توازن أشياء ثقيلة تُخِلُّ به قشة...

ف.م.: أخبرتك كيف تتم عملية الرسم عندي: دائمًا على شفير الهاوية! في العمل الفني الذي كله محاكمات، المعرفة هي المادة فقط، مادة العمل. والنتيجة هي الاندهاش. الحب نوع من الاندهاش؛ وكذلك الرعد واحتضار البحر... النتيجة روعةُ ما يختصره الصفرُ من إلغاءٍ طريف لأنواع الثبوت كلِّها في العالم.

جميل أن تزحزح الثبوت بأناملك، أيها الطفل!

والآن، لماذا لا ننتهي من هذا كلِّه، ونتحدث عن شيء جميل؟! حدِّثْني عن بيروت! أنا مشتاق إليها وإلى أهلها...

ج.أ.: لا أظن أن الحديث عن بيروت اليوم يسرُّك – وأنت عرفتَها في أحلى أيامها...

ف.م.: بالفعل. فقد عشت في لبنان خلال فترة الستينات؛ وكانت هذه الفترة هي العصر الذهبي للشعر والأدب والفن... وقد علَّمتْني حياتي في لبنان أمورًا كثيرة. وها أنا ذا، بعد زمن طويل، قد عرفت لماذا قتلوا لبنان: قتلوه لأن الفقير فيه كان يعيش كالملك! كان للفقير كرامة – كرامة الملوك. والأزهار على مرتفعات إنطلياس مصنوعة بأيدٍ لبنانية: لم تُنبِتْها الطبيعة، بل كوَّنتْها الأيدي. كيف؟ لم أكن أعرف!

آنذاك، كان دأبي أن أضع وجوه الناس الصامتين في لوحاتي أمام أعين المتفرجين في الغاليريهات. وإنساني هذا – طفلاً، أو امرأة، أو مقاتلاً – كان يحمل الكثير من الذات اللبنانية العربية. أنا عشيق لبنان. أعرف جميع صخور سوق الغرب، وأعرف مخابئ الدير الذي كنت ألتجئ إليه عند أستاذي مارون عبود. كان يقول لي: "وله! كيف بتخاف من أهل البنت؟!" إن أول لوحة پورتريه رسمتُها كانت لشخص لبناني (توفيق رعد). كنت في صف البكالوريا طالبًا عند مارون عبود، وأذكر أنه كان يقول لي: "أنت مجنون، مثل جبران!" [...]

في النهاية، هذا الشعب لا يُخاف عليه. الكرة الأرضية كلُّها يمكن أن تضيع في البطين الأيسر من قلبه! وكيف أخاف على لبنان؟! هل رأيت أحدًا يخاف على الحب؟! إنه يخشى الحب، ولا يخاف عليه!

ألمانيا

ومرحلة ألمانيا كانت موازية لمرحلة بيروت. عندما كنت لا أعرض في بيروت، كنت أعرض في ألمانيا الغربية – في الستينات إذن.

الإنسان الجرماني كان فلاحًا مثقفًا ثقافةً عالية، مترعة بالمرح. وهذا التراوح ما بين السهوب الشمالية والمرتفعات الجنوبية والغابات الزرقاء الكثيفة، وهذا الجنون بالخط المستقيم والمنحني، وهذا التنظيم الشديد للطعام والوقت – هذا كلُّه يبدو طريفًا أمام عيني.

إلا أن الحقيقة يجب أن تقال: الإنسان الجرماني إنسان جميل جدًّا، يمكن في سهولة أن يكون نبيلاً: يكفيه القليل من المحبة. هذا الشعب لديه حدسٌ قوي في توخي الخير أكثر من الشر. إنه قليل الشك في الناس. أما الحروب السابقة، فليس له فيها أيُّ دخل: كان جنون الحرب عندئذٍ موجودًا في العالم كلِّه.

علاقتي كانت بطبقة العمال والمتعلِّمين. كلُّ ما أذكره أنهم أحبوا أعمالي كثيرًا. وحينما أقمت آخرَ معرض لي في بون، قال لي رئيس الجمهورية فالتر شيل: "إني أحب أعمالك!" بالطريقة ذاتها، قالت لي، منذ عشرين سنة، بنتٌ صغيرة من هناك: "أنا أحب أعمالك، إنها من الشرق!" أجل، إنني كنت زائرًا من الشرق. كانوا يسمُّونني der Syrisch (لفظها زورِشْ، أي "السوري" طبعًا).

ج.أ.: "الشرق"، في نظر الألمان، هو اليونان: اليونان–العقل، واليونان–الأسطورة...

ف.م.: هذا ما تقرأه في الكتب! وأنا أفضِّل أن أردَّ ذلك إلى أصله في حياة الناس. السلام الموجود في القرى الألمانية، مثلاً، يشبه كثيرًا السلامَ الموجودَ في قرانا، مع فارق لا أعده مهمًّا جدًّا: النظافة (المفتعَلة) والخط المستقيم.

الإنسان في ألمانيا مأخوذ بعفريت العمل، منذ السادسة صباحًا. وكنت أتأمل ساعة الراحة لديه وكأنها شيء نازل من السماء. عندنا ساعة العمل هي ساعة الراحة! كنت أُدهِشُهم بغزارة رسمي. ولعل هذا ما جعلهم يعدونني ألمانيًّا! فقد فتحوا لي أبواب بيوتهم.

في ذلك البلد، حاولت دراسة طبيعة الأرض والإنسان دراسة بسيطة. وأكثر أعمالي الجيدة موزَّعة بين بيروت وألمانيا الغربية – مئات اللوحات.

الألمان أقرب الناس إلى الشرقيين، لسبب غامض (ربما ليس علميًّا)، في اصطياد سوانح المرح. هذه الصورة تتجلَّى خصوصًا في أعيادهم.

لم يشأ فاتح المدرس أن يخبرني (بل عرفت من أرشيفه) كم كان محبوبًا ومقدَّرًا في ألمانيا، حيث كان يُعَدُّ –كما جاء على لسان بعض النقَّاد هناك – "ساحرًا من الشرق، يحمل في ألوانه وتكويناته سرَّانية الشرق كلَّها". ولم يكن ذلك مجرد تواضع، كما لم يكن من باب التواضع حصرُه الكلامَ على لبنان في وصف أهله ومناطقه، بينما لم يكن غريبًا عن الطليعة الثقافية فيه. السبب، في اختصار، هو أن الحياة هي أول ما يهم فاتح المدرس من الحياة – بل كل ما يهمُّه منها. لذلك، حين استوضحتُه عن الأمر، حين سألتُه لماذا تكون له، مثلاً، هذه العلاقة بالجوِّ الثقافي الذي قام في فترة الستينات، ولا يخبرني إلا عن الجبال والوديان والناس العاديين، حاول أن يجيبني، فذكر أقطاب مجلة شعر كـ"رفاق طريق" – ولكن لا إلى ثورة أدبية وفنية، بل إلى جبال ووديان وسماوات في الهواء الطلق لصداقة الإنسان العادي.

ف.م.: في لبنان، كنت أنام في بيت يوسف الخال، وأحيانًا في بيت أدونيس. كان ذلك في الفترة الممتدة من العام 1961 إلى ما قبل الحرب، أي العام 1973. وكان أصدقائي من جوِّ مجلة شعر: أنسي الحاج، فؤاد رفقة، شوقي أبي شقرا، نزيه خاطر. كما كانت لي صداقات بين النحاتين والرسامين والشعراء اللبنانيين. وكان لقاؤنا في الـHorse Shoe أو Gallery One، أو في القرى البعيدة الضائعة في الجبل. ولقد عرَّفني يوسف الخال إلى الجبل اللبناني، بعرضه وعمقه. كما عرفت البحر، حتى إنني كنت أرى في الشطآن والآفاق البحرية مكوناتٍ طبيعية لخيالي.

صورة "سوريالية" لفاتح المدرس مع أدونيس في معرض للوحاته في سورية (السبعينات)

كنت أحب سماع أصوات الباعة، وأحاديث سائقي الـservice، ومزحات نزلاء المقاهي في الحمراء أو على طريق صيدا، أو في عمق الجبل، حيث أحببت كلَّ صخرة على طريق اللقلوق. إنها عوالم لا مثيل لها! ولكن الذي أثَّر فيَّ كثيرًا هو ذاك الأخدود العميق الذي يقوم على كتفه متحفُ جبران. لقد زرته مع مارون عبود حين كنت طالبًا في عاليه؛ كان الثلج في كلِّ مكان. ورأيت جبران – رسومَه – في عزلته الصغيرة، كأنه عذراء مقدسة من نوع آخر.

***

ج.أ.: على هامش الفن، أسألك: لماذا لم تُعرَض لك حتى الآن عاريات؟

ف.م.: أنا فنان سياسي...

ج.أ.: ولكن العاريات – كغيرها – يمكن أن توظَّف سياسيًّا! هل تخاف أن تقول في صراحة إن الجمهور قد لا يكون مُعَدًّا لقبول مثل هذه "الجسارة"؟!

ف.م.: كيف؟

ج.أ.: كنت أسأل في الشارع عن مكتبة أشتري منها ورقًا للكتابة. والفتاة الوحيدة التي لم تتجنَّبني أشارت إلى أول شابٍّ رأتْه وقالت: "اسأله."

ف.م.: هذا حكم متسرع ومبني على حادثة بسيطة، لا يمكن تعميمها بهذه السهولة.

ج.أ.: ولكنك، مع ذلك، لم ترسم عاريات!

ف.م.: لا، والمانع ذاتي محض.

ج.أ.: سؤال أخير: التناقض بين السمعي والبصري يُحيلنا، في الغالب، إلى التناقض بين الديني واللاديني، بين المقدس le Sacré والمدنَّس le profane. فهل الرسم "تدنيس"؟ هل تحس، حين ترسم، بأنك في حالة المُقبِل على "تدنيس" بيت المقدس؟

ف.م.: هذا يقود إلى الكلام على السر في العمل الفني. في كلِّ عمل فنيٍّ حقيقيٍّ سرٌّ، به يتحدَّد العمرُ الفني للَّوحة. ولكن أين يكمن هذا "السر" من وجهة النظر المزدوجة لمؤلِّف العمل الفني ولمتذوِّقه؟ هذا سؤال طويل ومعقَّد، دعني أؤجِّله إلى جلسة أخرى!

*** *** ***

عن الكرمل، العدد السادس، ربيع 1982

حاوَرَه: جاك الأسود

تنضيد: دارين أحمد


 

[1] مارون عبود (1886-1962): قاص وناقد لبناني؛ اتسم أدبُه بالسخرية وباللون المحلِّي. (المحرِّر)

[2] ألبرتو جياكومِتِّي (1901-1966): نحات ورسام سويسري؛ أظهرتْ فترتُه "السوريالية" الأولى مواهبَه الرؤيوية، تلتْها فترةٌ "تعبيرية" نفَّذ خلالها منحوتاتٍ برونزية تتصف بتطاول مستدقٍّ شديد وبحيوية في التشكيل غارقة في الفضاء. (المحرِّر)

[3] فرانكو جِنتِليني (1909-1981): رسام إيطالي، أستاذ في "أكاديمية الفنون الجميلة" بروما، اهتم بالسينوغرافيا وزيَّن برسومه العديدَ من الكتب؛ اتصفتْ رسومُ مرحلته الأخيرة بتوازن حَذِر بين تمثيل الصورة وبين تفكيك مكوناتها. (المحرِّر)

[4] اسمه الأصلي ميكِلانجلو ميريزي (1573-1610): رسام إيطالي حوَّل واقعيةَ رؤياه إلى دراما باللجوء إلى تناقضات شديدة بين الظل والنور. (المحرِّر)

[5] مارك شاغال (1887-1985): رسام ونقَّاش ومزين فرنسي من أصل روسي، كلِّف تزيينَ سقف قبة "قصر غارنييه" (الأوپرا) في باريس؛ استلهم رؤى التصوف اليهودي (الحصيدي). (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود