التزامُن والغائية 2

عِبَرُ التزامُن في الحياة اليوميَّة

 

ديمتري أفييرينوس

 

خبرات الحياة بين السببيَّة والغائية

في السنوات السابقة لإشراقه، ألزم البوذا نفسَه بنظام زهديٍّ صارم جدًّا، راجيًا منه بلوغ الانعتاق الروحي النهائي. غير أن هذه الرياضات المطوَّلة التي انصرف إليها ما لبثت أن أنهكتْه، حتى هَزُلَ جسمُه وخارت قواه. وبينما هو جالس ذات يوم على جانب الطريق، متفكرًا فيما ينبغي أن يفعل، أقبل رهطٌ من المغنين والراقصين. وقد غنَّت امرأةٌ هذه الكلمات القَدَرية:

ما أجمل الرقص عندما يكون السِتار[19] موقَّعًا!

وقِّعْ لنا السِتار لا في القرار ولا في الجواب.

ولسوف نرقِّص قلوبَ البشر.

 

الوتر المفرط الشد ينقطع والموسيقى تتلاشى،

والوتر الرخو أخرس والموسيقى تموت.

وقِّعْ لنا السِتار لا في القرار ولا في الجواب.[20]

قرأ البوذا من فوره في هذه الأبيات رسالةً جاءتْه في أوانها حول المخاطر الكامنة في التطرف غير الصحيح لرياضته الروحية، فبانت له ضرورةُ ممارسة الاعتدال في كلِّ شيء، حتى في السلوك نحو الإشراق الداخلي. وهذا الموقف المتوازن بإزاء معطيات الحياة هو ما أطلق عليه فيما بعد اسم "الطريق الوسط".

في المنقولات الروحية للشرق الآسيوي، تُعزى أهميةٌ عظيمة إلى مفهوم كَرْما karma الفلسفي الذي مفاده أن حياتنا الراهنة هي النتيجة المتحتِّمة عن أفعالنا ومشاعرنا وأفكارنا الماضية.[21] ومع ذلك، فإن هذه المنقولات عينها، ومنقولات باطنية أخرى، تقول بوجود قوة أخرى تشكِّل حياتنا وتصوغها، قوةٍ فاعلة باتجاه تفتُّح آنيٍّ لممكنات ما تزال كامنة فينا أكثر منها باتجاه "حتمية" فرضناها على أنفسنا في الماضي. فكما أشار الربَّاني موسى حاييم لوزاتو في كتابه الطريق إلى الله، "يمكن للأشياء أن تحدث للفرد في آنٍ معًا كغاية في حدِّ ذاتها وكوسيلة لشيء آخر". في عبارة أخرى، يفعل قانون كرما "أفقيًّا" من أجل جعل الأشياء تبلغ نقطة توازن يكون فيها الفعل التام (أي الذي ليس ردَّ فعل) ممكنًا، بينما تعكس حياتُنا تأثير مبدأ "عمودي" من شأنه رفع سوية وعينا إلى مراتب وجودية أعلى فأعلى، كما جرى لدى مصادفة ظهور المغنية على الطريق عند مفصل حَرِج من مفاصل حياة البوذا سِدهَرتا غوتاما.

في اليونان القديمة، وجد هذا المبدأ تعبيره الأسمى في مفهوم telos ميل الأشياء إلى التقدم باتجاه هدف غائي. إن البلوط مثال ممتاز على المبدأ الغائي: إذا شئنا أن نفهم طبيعة البلوط ووظيفته بمعناها الأتم، يجب علينا ألا ندرس تركيبه الكيميائي ومظهره وتاريخه الماضي وحسب، ولكن أيضًا الغاية المبطونة فيه، أو وضعه المتفتح تفتحًا تامًّا كشجرة سنديان. إن الحالة "السنديانية"، إذا جاز التعبير، يمكن لها أن تُعتبَر الغاية النهائية من البلوطة التي تدفع بها قُدُمًا في تطورها نحو مراحل أعلى من التنامي.[22]

على غرار ذلك، يرى العالِم الباطني أن فهم حياة إنسان فرد لا يقتصر على مجرد النظر إلى القوى السببية الماضية والحالية التي أثَّرت فيه، بل كذلك إلى النتائج النهائية التي تسعى باتجاهها خبرتُه. فالبشر، مثلهم كمثل البلوط، ليسوا محصلة التأثيرات والشروط القابلة للرصد وحسب، بل هم أيضًا جوهر ممكنات مستقبلية. لذا فإن فهم الوجهة التي يقصدها البشر، فرادى وجماعات، من حيث تطورُهم الجسمي والذهني والروحي لا يقل أهمية عن فهم ماضيهم.

على صعيد عملي، يستلزم المبدأ الغائي أن كلاً منَّا خاضع لمبدأ تطوري روحي يفعل دائمًا لكي يسير بنا إلى التحقق بالألوهية الكامنة فينا. يطلق الأديب الفيلسوف ميخائيل نعيمه على هذا المبدأ التطوري تسمية "الموجِّه الأعظم" ويرى فيه القوة التي تُناغِم بين الحركات الجزئية اللانهائية في الكون في حركة واحدة كلِّية تنسحب على الموجودات والكائنات جميعًا وتسير بها نحو غايتها؛ وهو يرى أن الإنسان، بمقدار ما تقل مقاومتُه للحركة الكلِّية، تنسجم حركتُه الجزئية معها ويتفتح عن الممكنات والقوى الهاجعة فيه:

بالتجربة [سـ]ـتدركون أنكم إذ تطاوعون القوى الكونية إنما تطاوعون قوى مماثلة في أنفسكم. ولكنكم تجهلون اليوم مصادرها ومداها مثلما يجهل الطفلُ القوى الكامنة فيه. [...] ومثلما نوجِّه الطفل إلى المشي والنطق والتمييز ما بين الخير والشرِّ مستندين إلى قدرة كامنة فيه على المشي والنطق والتمييز، هكذا يوجِّهنا الموجِّه الأعظم مستندًا إلى قوى كامنة فينا ريثما نبلغ أشدَّنا ونملك كل قوانا فنوجِّه أنفسنا بأنفسنا. ونحن لن نملك كلَّ قوانا حتى نملك معرفة مقامها من القوى الكونية ومعرفة استعمالها لخيرنا وخير الكون.[23]

في سبيل هذه الغاية، يستعمل الدفعُ التطوري كلَّ الوسائل المتاحة له، بما فيها رموز حياتنا وظروفها وإشاراتها، إنْ في الصحو أو في المنام. يقول ناغارجونا، الحكيم الهندي الذي عاش في القرن الأول، ما مفاده إن "الكائنات المستنيرة" موجودة في كلِّ مكان، تلبث منتظرةً الكائنات الحاسَّة الناضجة للإرشاد الروحي. فعندما تحين لحظةٌ مناسبة، يمكن لها أن تتجلَّى كحيوانات، أو أشياء، أو عشاق، أو لصوص، أو معلِّمين روحيين، أو كلِّ مَن/ما من شأنه أن يدفع الكائنات أو يشدها نحو حالة أرفع من التفتح الروحي.[24]

يقع المرء على تعبيرات عن هذا المبدأ في المنقولات الروحية الكبرى كافة. ففي البوذية، على سبيل المثال، استهللنا هذا الجزء من البحث بمثال البوذا والمغنية العابرة. ومع ذلك، فإننا سوف نستقي من حياة البوذا مثالاً آخر شهيرًا على هذا المبدأ هو قصة "المَشاهد العابرة الأربعة":

بما أن غوتاما الشاب ولد ابنًا لأسرة أميرية، فقد تمنى أبوه أن يراه يسمو منزلةً حتى يصير ملكًا عظيمًا. وإذ شاء أن يدرأ عن ابنه خيبات العالم الخارجي، أمر بأن يُحال بينه وبين مشاهدة أية إشارة إلى المظاهر المؤلمة للحياة. غير أن بوذا المستقبل ضاق ذرعًا بحياته المحمية، فقرر أن يقتحم العالم خارج أسوار أبيه، حيث شاهد إبان طلعاته أربعة مَشاهد غيرت حياته إلى الأبد: رأى أولاً رجلاً طاعنًا في السن؛ ثم شخصًا نَخَرَه المرض؛ ثم جثة ميت؛ وأخيرًا حكيمًا زاهدًا في الدنيا. لقد أدت مشاهدة هذه الإشارات على التوالي إلى استيقاظه على الطبيعة الزائلة للحياة، وفي الوقت نفسه، إلى إيقاد شوقه إلى البصيرة الروحية وإلى الانعتاق. هذا التوالي في المَشاهد ليس اعتباطيًّا في نظر البوذي، بل هو بالحري تعبير ذو مغزى عن عبقرية الحياة المتخلِّلة كلَّ شيء، التي [على حدِّ تعبير عالِم الهنديات هاينرِش تسِمَّر] تبث كلَّ المُسارَرات والكشوف والرسائل طوال الوقت.[25]

لعل المظهر الغائي للحياة يتخذ صورته الأكثر تشخيصًا في مفهوم "العناية" الديني، بما هي قدرة الفطنة الإلهية على توجيه الكائنات كلِّها وتوفير رزقها. ففي حين وصف الفلاسفة الإغريق الأقدمون مفهوم الغاية بمصطلحات غير تشخيصية أساسًا، أضفى الفكرُ الديني على "العناية الإلهية" خاصيةً شخصية، لا بل "أبوية". أما في الإنجيل – إنجيل يوحنا بالأخص – فيُلمَح المنظورُ الغائي في مقاطع عدة منه، كما في قصة "شفاء الأعمى منذ مولده":

بينما هو سائر رأى رجلاً أعمى منذ مولده. فسأله تلاميذه: "رابي، مَن خطئ، أهذا أم والداه، حتى ولد أعمى؟" فأجاب يسوع: "لا هذا خطئ ولا والداه، ولكن كان ذلك لتظهر فيه أعمالُ الله." (9: 1-3)

في عبارة أخرى، لا يجوز النظر إلى حال الأعمى كنتيجة لعِلَل ماضية (كرما) وحسب، إنما كجزء من تنفيذ مخطط أعظم وأبعد مدى. لقد اختبر الرجلُ نتيجة شفائه تحولاً روحيًّا، بحيث كان شفاء العينين كنايةً عن شفاء النفس وانفتاح البصيرة، اللذين هما الغاية الأساسية من اتِّباع تعاليم المسيح الروحية: "إني جئت هذا العالم لإصدار حُكْم: أن يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون." (9: 39) بذلك يمكن لحالة أحدهم الصحية أن تلعب دورًا حيويًّا في المخطط الروحي لحياته بخاصة، ولحياة المقربين إليه بعامة.

تعاليم الحياة اليومية

في وسعنا أن نميِّز في حياتنا بين مستويين (على الأقل) يمكن لمبدأ الغاية أن يتجلَّى من خلالهما: مستوى مباشر وقصير المدى، وآخر طويل المدى.

يمكن للمبدأ الغائي للحياة، في صورته الضيقة، أن يعبِّر عن نفسه من خلال أية أحداث تفيد في توجيهنا نحو مستويات أعلى من التعلم واليقظة العقلية. مَن منَّا لم يتفق له، في وقت من الأوقات، أن يواجه موقفًا أو يقابل شخصًا، يدرك فيما بعد أن "القصد" منه كان التمهيد لشوط جديد هام من أشواط نموِّه الداخلي؟ هذه "المُسارَرات الحياتية"، إذا جاز التعبير، تتخذ صورًا لا حصر لها – جملة بسيطة حتى، نسمعها من أحدهم ونحن نمشي في الشارع! لقد روى لنا صديق أنه بينما كان يسير وسط زحام سوق الحميدية في دمشق، ينوء تحت وطأة التردد في اتخاذ قرار مصيري يتوقف عليه مستقبلُه، سمع رجلاً "مجذوبًا" يرفع عقيرته ملحِّنًا عبارة "الاتكال على الله! الاتكال على الله!" لقد أعان سماعُ العبارة صديقَنا، في تلك اللحظة بالذات، على اتخاذ القرار الذي كان مترددًا في شأنه؛ وقد فتح اتخاذُ هذا القرار له سُبُلاً للتفتح الخارجي والداخلي ما كان آنذاك ليحلم بها.

قد يظهر لنا المبدأ الغائي في مناسبات نادرة من خلال أحداث أو اقتران ظروف تُتاخم المعجزة. يروي رِيْ غراسي، في الفصل السابع من كتابه حلم اليقظة[26]، حكايةَ رجل وصف له فترةً من شبابه كان فيها، على حدِّ تعبيره، "غير مكترث" بمشاعر الرأفة والتعاطف مع المهضومي الحقوق والأقل حظًّا في العالم، صابًّا جلَّ اهتمامه على مصالحه الشخصية. وفي ليلة عاصفة، بينما هو يقود سيارته عبر منطقة مشجَّرة، انتفض لدى رؤية ما بدا له كرة برق تحوم عِبْر الطريق أمام سيارته بعدة مئات من الأقدام. تمهَّل وهو يراقب الكرة تواصل انسيابها البطيء خارج الأوتوستراد في طريق جانبية وَحِلة غير ممهَّدة، حيث انفجرت فجأة في ضياء مكتوم. فوجئ الرجل بالأمر. لكنه كان ذا ميول علمية، فقرر أن ينتحي ليرى عن كثب هذه البقعة، لعله يبصر أية آثار باقية من تلك الظاهرة الملفتة للنظر. وبينما هو يقود نزولاً في الطريق الجانبية، لمح سيارة جانحة على ما يبدو، فيها راكبان: وجد بداخلها امرأة وابنها المعوق عقليًّا الذي كان في خطر في تلك اللحظة وفي حاجة إلى معونة طبية فورية.

وهكذا وصل الرجل بفضل الضوء على الطريق في اللحظة المناسبة لأداء خدمة إنسانية، فأوصل الأم وابنها إلى أقرب مستشفى، حيث تلقَّى الفتى الإسعاف الضروري. ولقد كان لتسلسل الظروف برمَّته، ولاسيما إنقاذه حياة الفتى، وقْعٌ على موقف الرجل الإجمالي أدى به إلى تغيير مسلكه في الحياة: كان الحدث حافزًا له على تعلُّم الرأفة بالإنسان وعلى الانخراط لاحقًا في العمل الطوعي في حيِّه.

كذلك يروي ميخائيل نعيمه حادثًا مدهشًا مما وقع له في خلال خدمته العسكرية في فرنسا وسط أوار الحرب العالمية الأولى المستعر:

كنَّا في طريقنا من المؤخرة إلى الجبهة. وكنا نقطع المسافة آنًا على الأقدام وآنًا في قطارات بطيئة للشحن. [...] وبتنا ذات ليلة في قرية من القرى الفرنسية حيث بقينا حتى عصر اليوم التالي، إذ صدرت الأوامر بالانتقال إلى نقطة ثانية تبعد عن تلك القرية نحو العشرين من الكيلومترات. وكان علينا أن نقطع المسافة مشيًا على الأقدام وعددنا نحو الألف أو أكثر. وكأن القيادة أشفقت علينا من قطع تلك المسافة وعلى ظهر كلٍّ منا عُدَّة تبلغ زنتُها عدة أرطال. فرأت أن تنقل العُدَد في سيارات شحن لتخفف عنا مشقة السير في الظلام.

وعُدَّة الجندي الأميركي في تلك الأيام [...] كانت تُلَفُّ في شكل أسطواني بأسيار خاصة، وتُشَدُّ بأسيار أخرى إلى الظهر والكتفين [...] وكان لكلِّ جندي رقمُه الخاص يحمله في عنقه مطبوعًا على قرص صغير من الألمنيوم ويرقِّمه بالحبر الهندي على عدَّته وثيابه.

مشينا عصر ذلك النهار وليس في أكتافنا غير البندقية وعلى أجنابنا غير الحربة. ونحن لا نعرف إلى أين نمشي وأين نبيت ليلتنا. وعند الغروب أخذت السماء تمطرنا رذاذًا ما لبث أن تحوَّل مطرًا هطالاً. ونحو الساعة التاسعة، وفي ظلمة تكاد تنشر بالمنشار، وفي بحر من الوحل، بلغنا أكمةً عليها بضع بنايات خشبية عرفنا أنها ثكنة أميركية حديثة وأننا سنبيت ليلتنا فيها. وكان محظورًا علينا تحت طائلة العقاب الصارم أن نشعل في الليل نارًا [...] خشية طيارات العدو. [...]

وارتفع صوت ضابط من ضباطنا [...] فهمنا منـ[ـه] أن حقائبنا التي حملتْها الكميونات مكدسةٌ في كومة واحدة على مقربة منا، وأن على كلِّ جندي أن يقترب من الكومة فيأخذ منها أول حقيبة تلمسها يده في الظلام ويحملها إلى أقرب بناية حيث يجري فرزُ الحقائب في ضوء المصابيح فيعرف كلٌّ حقيبته من الرقم الذي تحمله. وكان أني عندما رزمت حقيبتي الأسطوانية استعصى عليَّ سيرٌ من أسيارها، فاستعنت بدبوس لسدِّ ثغرة تَرَكَها السيرُ العاصي في أسفلها.

وقبل أن أتقدم من كومة الحقائب لآخذ منها واحدة وأمضي في سبيلي خطر لي خاطرٌ ما أظن أن مثله خطر لجندي غيري. أما كيف جاءني ذلك الخاطر، ومن أين، ومَن أوحى به إليَّ فلا أدري. فقد قلت في نفسي: إذا اتَّفق وكانت الحقيبة التي سأرفعها بيدي حقيبتي بعينها فذلك سيكون لي علامةً بأنني لن أصاب بأذى في الحرب. [...]

خطر لي ذلك الخاطر في لمحة الطرف وقبل أن أخطو خطوتي الأولى نحو الحقائب. وما إن خطر لي حتى رحت أؤنب نفسي. [...] فنصيبه من النجاح ما كان أكثر من واحد في الألف. [...]

أخيرًا تناولت حقيبةً وطرحتُها على ظهري ومشيت مع الماشين وأنا أحاول أن أصرف فكري عن ذلك الخاطر الغريب فلا ينصرف. وإذا بيدي، وأنا سائر في الظلام وتحت المطر، تتحسَّس الحقيبة على ظهري فأزجرها وأردُّها المرة بعد المرة. ولكنها في النهاية تتغلب عليَّ فتنحدر من أعلى الحقيبة إلى أوطأ فأوطأ. ما هذا؟ إنه السير الذي استعصى عليَّ شدُّه... ويخفق قلبي خفقةً بعيدة القرار. ولكن فكري يبقى في شك. فقد يكون في حقيبة غيري سيرٌ استعصى على صاحبه. وتعود يدي مرة أخرى إلى الحقيبة فتنحدر إلى أسفلها حيث تلمس الدبوس الذي سددتُ به الثغرة. فينقشع عن فكري كل شك ويرتقص قلبي في داخلي. وتعتريني رعشة من الرهبة والدهشة والخشوع. إن الحقيبة التي على ظهري كانت حقيبتي! وأظنني كنت الوحيد في الفيلق كلِّه الذي كان له مثل ذلك الحظ [...].[27]

على أن الأعم الأغلب هو أن تتخذ المُسارَرات الكبرى في حياتنا صورة أكثر تواضعًا أو اعتيادًا – وإن لم يكن الأثر الذي تخلِّفه في حياتنا أقل درامية. من نحو ذلك الأزمات والمآسي الطاغية التي تفيد في إيقاظ بصيرة محجوبة أو مقدرات هاجعة. فكما كتب الشاعر راينر ماريا ريلكه: "غاية الحياة أن ننهزم أمام أشياء أعظم فأعظم." يمكن لهذا الأمر أن يتخذ صورة إخفاق ذريع في الحياة المهنية: هَبْ أن رجلاً ترقَّى في منصب عمله بحيث امتلأ عجبًا بنفسه وتعاليًا على الآخرين. يمكن لزوال النعمة في حالة هذا الرجل، تعجِّل فيه فضيحةٌ مالية مثلاً، أن يكون مجلبةً لتمزيق ضروريٍّ للقناع الاجتماعي الذي وَضَعَه ولتقويض جملة القيم السطحية التي أعمتْ بصيرته العقلية، ومخاضًا يمهِّد لولادة حساسية روحية أرقى. فكما عبَّر حكماءُ الماضي، وتصادى معهم صوتُ يونغ في الأزمنة الحديثة، غالبًا ما يتخذ انتصار الروح صورة هزيمة نكراء للأنا. إن الفوز بحياة الروح لا بدَّ أن يقترن بأزمة أو بإفلاس داخلي يمثِّل، بالمقاييس الدنيوية، مأساةً أو إخفاقًا ذريعًا.

كذلك يمكن للمرض أن يكون معلِّمًا، من حيث إنه قد يقود الناس في مسالك أكثر اتساقًا مع قَدَرهم الروحي أو يحملهم على النظر إلى حياتهم الداخلية نظرةً أكثر جدية. من الأمثلة الصارخة على ذلك سيرة حياة القديس فرنسيس الأسيزي الذي تحول، بعد مرض شديد، من أسلوب حياة دنيوي إلى طريقة أكثر حساسية وروحانية في إدراك العالم. وكلنا سمع، أو ربما عايش، قصصًا من هذا النحو، اضطر فيها أناسٌ في أعقاب هجمة قلبية، أو أية أزمة صحية أخرى، إلى إعادة نظر جذرية في سلوكهم في الحياة.

ضمن هذه الفئة يجب أن نزج بمرض أو "جرح" الشمَني، الحكيم الطبيب لدى الشعوب القَبَلية، بما فيها العشائر الأفريقية والشعوب الأمريكية الأصلية. فالشمَنية غالبًا ما يُسارَرون بدورهم بواسطة اجتياز مواقف عصيبة (كمرض يتهدد حياتهم) تفيد في إيقاظ مهارات هاجعة وذائقة روحية. ففي كتابه الشافي الفطري، يورِدُ أحد الشمَنية المعاصرين رصفًا مفصلاً للأزمات التي خَبِرَها في مطلع حياته والتي هيأتْه لتلبية دعوته: ثلاث خبرات على تخوم الموت NDE، حمَّى شديدة، حادث سيارة، وحادث غرق. ولقد جهزَّته هذه المحن بقوى وحساسيات جديدة وجعلتْه أكثر تبصرًا بالغيب. ولقد جاء في كتابه:

تأتي الدعوة على هيئة حلم، أو حادث، أو مرض، أو إصابة، أو داء، أو خبرة على تخوم الموت، أو حتى على هيئة موت فعلي.

فمثل هذه الأحداث مدرسة للحكمة الشمَنية:

في مدرسة من هذا النوع نخبر الخوف والغضب والكره والحيرة. نخبر قوتنا وضعفنا، نخبر السطوة والحب والواقع والشفاء والحياة نفسها. نتعلم أن هناك بالفعل عالمين للوجود، منفصلين لكنهما متواصلان: عالم الأجسام وعالم الأرواح.[28]

بين الوسائط الأخرى التي يمكن للحياة كمعلِّمة أن تفصح عن نفسها من خلالها نجد أيضًا الكلمة المطبوعة. ففي لقاءاتنا الاتفاقية مع الكتب والمجلات أو المراسلات قد نقع على دروس أو تلميحات نكون في أمسِّ الحاجة إلى تعلُّمها. في مقالته "الموجِّه الأعظم" يروي ميخائيل نعيمه "المصادفة" التي أدخلتْه إلى عالم الحكمة الصينية التي لم يكن يعرف عنها شيئًا قبلها:

كنت مرة في مدينة فيلادلفيا في مهمة خاصة. وأنجزت مهمتي قبل الظهر وبقي لديَّ نصف ساعة على موعد القطار الذي سيعود بي إلى نيويورك. فقلت أتمشى قليلاً في الشارع الكبير ثم أذهب إلى الفندق ومنه إلى المحطة. فلم يَرُقْ لي المشي في شارع مكتظ بالناس والعجلات. وإذا بي أدخل مخزنًا من المخازن الشهيرة في المدينة ولا حاجة لي أبتاعها أو أبيعها هناك. فقد كان فكري منصرفًا عن كلِّ ما حولي من البشر والأشياء إلى أمور أبعد من المعيشة ومشاكلها وأوصابها. حتى كنت أمشي كمن يمشي في المنام. وإذا بي أبصر عن يمين المدخل طاولات عليها كتب. منها طاولة عُلِّقتْ فوقها لوحةٌ عليها هاتان الكلمتان: "الفلسفة الشرقية". فأتقدم من الطاولة وأتفرس في الكتب التي عليها. وأكثرها ما سمعت به من قبل. وما أزال أرفع كتابًا ثم أضعه إلى أن وقع في يدي كتابٌ صغير عنوانه: "لاو تسو – طاو ته كنغ". وكان العنوان، كعناوين الكثير من الكتب حواليه، غريبًا عن كلِّ ما احتوته ذاكرتي. لكنني أخذت الكتاب ودون أدنى تردد دفعت ثمنه وعدت إلى الفندق. وبدلاً من أن أنطلق إلى المحطة دخلت غرفتي وأوصدت بابي ورحت ألتهم الكتاب التهامًا. فما وضعته من يدي حتى أتيت عليه من الدفَّة إلى الدفَّة. قرأته وكأنني ما قرأت كتابًا بل وجدت رفيقًا أمينًا في بيداء شاسعة كنت أسلكها وحدي، وفي حين كنت في أمسِّ الحاجة إلى رفيق أمين. فقلت في نفسي: سبحان مَن بعث إنسانًا مات في الصين منذ ألفين ونصف الألف من السنين ليكون رفيقًا لإنسان وُلد في لبنان وما كان يعرف عنه شيئًا! ثم سبحانه يجمعهما في فندق بمدينة فيلادلفيا من الولايات المتحدة الأميركية! حقًّا إنه الموجِّه الأعظم وما من موجِّه سواه.[29]

نحت الكاتب والإپستمولوجي آرثر كوستلر مصطلح "ملاك المكتبة" لوصف هذه الظاهرة الشائعة التي يقتحم فيها كتابٌ ما حياتنا بالسقوط من على رفِّ مكتبة أو بأية وسيلة أخرى في وقت نكون في أمس الحاجة إلى الاطلاع على محتواه. تروي سارال بوهم، زوجة الفيزيائي الكبير ديفيد بوهم، مثل هذه "المصادفة" التي قادت زوجها إلى لقاء الحكيم ج. كريشنامورتي:

كان من عادة ديفيد أن يحدِّثني عن عمله، عن أفكاره الأكثر فلسفية، لأني، وإنْ لم أكن عالمة، كنت مهتمة بها. [...] وهكذا كنت أعلم أنه في النظرية الكوانتية، التي كانت الشيء الرئيسي الذي يشتغل عليه، هناك مسألة تعذُّر فصل الأداة الراصدة عن الشيء المرصود. وذات يوم، كنا في المكتبة العمومية في بريستول. (وما أغرب التفكير في كيفية حصول الأشياء!) كان لديهم قسم فلسفي جيد جدًّا، يضم مختلف أنواع الكتب، كتب لغورجييف وأوسپنسكي وأناس آخرين من أضرابهما؛ وكان ديف يستعرض هذه الأشياء كلَّها. ثم اتفق لي أن سحبت كتابًا من على الرف، فسقط مفتوحًا على صفحة وقرأتُ عبارة "الراصد هو المرصود". وهكذا مرَّرتُه إلى ديف قائلة: "ديف، لا بدَّ أن لهذا صلة ما بالنظرية الكوانتية." فقرأ الكتاب برمته من فوره. [...] كان منبهرًا تمامًا بهذا الكتاب، الحرية الأولى والأخيرة. [...]

لقد شعر بالضبط بأنه عثر على ما كان يفتش عنه. [...] لم نكن سمعنا بكريشنامورتي من قبل قط. لم نكن في ذلك الجو. كنا أكثر اهتمامًا بالعلم والفلسفة والمسائل الاجتماعية. هذا الرجل كريشنامورتي كان يقول ما كان ديف يفتش عنه في حقول أخرى [...].[30]

يلتمس بعضهم مددًا من هذا "الملاك" بفتح الكتاب المقدس أو المصحف عشوائيًّا للانتصاح بخصوص مشكلة تواجهه. يروي ميخائيل نعيمه – وكان عقد العزم على ترك الولايات المتحدة والعودة إلى لبنان دون أن يكون قد كلَّم أحدًا في ذلك على الإطلاق – أنه في 31 كانون الثاني 1931، إذ كان يحتفل بليلة رأس السنة مع صديقة لجبران صارت صديقة له، طلب إليها، على سبيل التسلية والتفكه،

أن تفتح التوراة [يريد الكتاب المقدس] بعهديها القديم والجديد، وأن تضع إصبعها على سطر من سطور الصفحة التي تنفتح لها، فيكون ما في ذلك السطر بمثابة دليل على ما ينتظر[ه]. وإذا بها تفتح الكتاب وتضع إصبعها على الآية التالية: "ارجع إلى بيتك وحدِّث بما صنع الله إليك." [إنجيل لوقا 8: 39][31]

من الوقائع التزامُنية الغريبة التي جرت في حياة كاتب هذا البحث أنه، فيما هو بصدد إعداد محاضرة في رمزية الخنثى (أحدي الجنس المقدس) في المنقول القديم، بلغ من المخطط الذي وضعه لها فقرةً تتناول من العقائد الكوسمولوجية القديمة نشأة الوجود عن "نكاح حَرام" hieros gamos ميتافيزيائي بين المبدأين المذكر والمؤنث، الفاعل والمنفعل، الكامنين في أحدية المبدأ الإلهي، بحيث تبقى صورُ الموجودات مستمرة ومتماسكة من خلال "تلقيح" دائم للكثرة التي يقتضيها ظهورُ الكون (محيط الدائرة) بالوحدة التي يقتضيها بُطون المبدأ (مركز الدائرة). وقد وقع في سهولة على نصوص من المنقولات المشرقية تأتي على ذكر هذه المسألة، لكنه لم يكتفِ بها وأراد أن يعزِّز محاضرته بمادة مستقاة من التصوف في الإسلام. ولما أعياه البحث عن نصٍّ يشي بما يبحث عنه، رأى نفسه في الحلم يتلمس طريقه ليلاً في زقاق مظلم من أزقة دمشق القديمة. وما عتم أن رأى من بعيد مصباحًا مضيئًا. ولما اقترب من الضوء وجد شيخًا جالسًا القرفصاء تحت المصباح وكأنه غارق في غيبة روحية عميقة. دنا أكثر، وبدا له أن الشيخ يخرج رويدًا رويدًا من غيبته. ثم ما لبث الشيخ أن التفت إليه وحدَّق فيه وكأنه يسبر منه أعماقه. من هذه النظرة النافذة تعرَّف صاحبُنا في شخص الشيخ إلى محيي الدين بن عربي! ودون أن يبدر منه أي استغراب لهذه المفارقة الزمنية، انتهز الفرصة لسؤال الشيخ عن ضالته، فاستأذنه أن يجلس أمامه وعرض عليه مشكلته بلغة عامية معاصرة، فردَّ عليه الشيخ بالحرف الواحد: "عليكَ بالكاشاني، يا بني!" وعاد إلى استغراقه. واستيقظ صاحبنا.

ذهب صاحبنا من فوره إلى المكتبة الوطنية وفتش في فهرس المؤلِّفين عن اسم الكاشاني الذي كان سمع باسمه فقط، فأذهله أن يجد للرجل عدة تصانيف، منها كتاب بعنوان اصطلاحات الصوفية، انتابه على الفور إحساسٌ غريب بأنه سوف يجد فيه ضالته. وعندما طلب الكتاب وفتحه "عشوائيًّا" عند منتصفه تمامًا (عدد صفحات الكتاب 224 صفحة)، قرأ في الصفحة التي انفتحت له ما نصه الآتي:

النكاح الساري في جميع الذراري: هو التوجُّه الحي، المشار إليه في قوله: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف". فإن قوله "كنت كنزًا مخفيًّا" يشير به إلى سبق الخفاء والغيبة والإطلاق على الظهور والتعيُّن سبقًا أزليًّا ذاتيًّا؛ وقوله "فأحببت أن أُعرَف" يشير إلى ميل أصليٍّ وحبٍّ ذاتي هو الوصلة بن الخفاء والظهور المشار إليه: "بأن أُعرَف". فتلك الوصلة هي أصل النكاح الساري في جميع الذراري. فإن الوحدة المقتضية لحبِّ ظهور شؤون الأحدية تسري في جميع مراتب التعيُّنات وتفاصيل كلِّياتها بحيث لا يخلو منها شيء. وهي الحافظة لشَمْل الكثرة في جميع الصور عن الشتات والتفرقة. فاقتران تلك الوحدة بالكثرة هو وصلة النكاح، أولاً في مرتبة الحضرة الواحدية بأحدية الذات في صور التعيُّنات، وبأحدية جميع الأسماء، ثم بأحدية الوجود الإضافي في جميع المراتب والأكوان بحسبها، حتى في حصول النتيجة من حدود القياس والتعليم والتعلُّم والغذاء والذكر الأنثى. فهذا الحب المقتضي للمحبِّية والمحبوبية، بل العلم المقتضي للعالِمية والمعلومية، هو أول سريان الوحدة في الكثرة وظهور التثليث الموجب للاتحاد بالتأثير بالفاعلية والمفعولية. وذلك هو النكاح الساري في جميع الذراري.[32]

من الأمثلة المشابهة، إنما الأكثر شأنًا من حيث أثرُها على حياة صاحبها، ما حصل في حياة الشاعر الإيطالي پتراركا (1304-1374). ففي العام 1336، انطلق پتراركا متسلقًا جبل فنتو في إيطاليا، حاملاً في جعبته نسخة من اعترافات القديس أوغسطينوس التي قرأها للمرة الأولى في باريس وهو في غمرة "أزمته" الوجودية المعروفة. ولدى بلوغه القمة، فتح الكتاب عشوائيًّا ليقع بصرُه على الكلمات التالية:

ويذهب الناس إلى التمتع بقمم الجبال وأمواج البحر الطامية ومجرى الأنهر الواسع وشطآن المحيط المتعرجة ودورات الكواكب – ولا يهتمون بأنفسهم.[33]

وإذ صُعِقَ پتراركا للتوافُق العجيب بين المقطع الذي قرأ وبين وضعه النفسي، أبحر في رحلة استبطان أدَّت به إلى تحول روحي حاسم تمخض عن كتاباته السرَّانية الهامة التي يشير إليها بعضُهم بوصفها النقطة التي انطلقت منها ثقافةُ عصر النهضة، بتشديدها على النفس الفردية وباطن الإنسان.[34]

الحياة كمعلِّمة: المنظور الأوسع

فيما يتعدى الصورة الأضيق لتعليم الحياة، تكشف خصائصُه القصدية عن معلولاتها عِبْر امتداد عمر كامل، وربما عدة أعمار. على هذا المستوى، نشهد النفس الفردية مقودةً في نموها قُدُمًا ليس بالأحداث والرموز الفردية وحسب، بل وبواسطة التأثير المكوِّن للخبرات المتحصَّل عليها على مرِّ سنين طويلة. ينقل عالِم الميثولوجيا اليونغي جوزِف كمبل عن الفيلسوف شوپنهاور في مقالته البديعة في القصد الظاهري في مصير الفرد قوله إنك

عندما تتقدم في العمر وتستعرض ما فات من عمرك، قد يبدو وكأن له نظامًا ومخططًا متسقين، كما لو أنه كان من تأليف أحد الروائيين. إن أحداثًا بَدَتْ طارئةً وقليلة الشأن لدى وقوعها يتضح أنها كانت عوامل لا غنى عنها في نسج حبكة متماسكة. فمن ذا الذي ألَّف تلك الحبكة؟ يقترح شوپنهاور أن حياتك برمَّتها، مثلها كمثل أحلامك المكوَّنة من مظهر من مظاهر نفسك لا تعقله واعيتُك، مكوَّنةٌ أيضًا من الإرادة المبطونة فيك. وكما أن الناس الذين التقيتَ بهم ظاهريًّا بمحض المصادفة أصبحوا أدوات رائسة في تنسيق حياتك، كذلك أنت أيضًا كنت من حيث لا تدري تخدم كأداة، مانحًا المعنى لحياة الآخرين. والأمر برمَّته يتعاشق مثل سمفونية واحدة عظيمة، كل ما فيها ينسِّق كلَّ ما فيها من حيث لا يعي. ويخلص شوپنهاور إلى القول بأن الأمر كما لو أن حيواتنا هي معالم حلم واحد عظيم يحلمه حالمٌ مفرد وتحلم فيه أيضًا كل شخوص الحلم؛ بحيث إن كلَّ شيء مشدود إلى كلِّ شيء آخر، تحرِّكه إرادةُ الحياة الواحدة التي هي الإرادة الكلِّية في الطبيعة.[35]

ويعلِّق جوزِف كمبل قائلاً:

إنها لفكرة بديعة – فكرة تظهر في الهند في الصورة الأسطورية لشبكة إندرا، التي هي شبكة من الدُّرر، فيها عند تقاطُع كلِّ خيط مع خيط آخر درَّة تعكس الدرر العاكسة الأخرى كلَّها. كل شيء يظهر في علاقته المتبادلة مع كلِّ شيء آخر [...]، حتى ليبدو أن هناك نيةً مفردة من وراء ذلك كلِّه تضفي نوعًا من المعنى، مع أن لا أحد منَّا يعرف كُنْه هذا المعنى، أو إن كان قد عاش الحياة التي توخاها تمامًا.[36]

بالطبع، هذا الحس بوجود "مخطط إجمالي" قلما يكون مرئيًّا لنا ونحن نحيا الأحداث، فلا نتبيَّنه إلا باستعراض ماضينا على مدى عقود طويلة.

اقترح عالم النفس اليونغي إدوارد وِتمونت منظورًا مماثلاً لكيفية نظرنا إلى الرضوض النفسية التي تعرَّضنا لها في طفولتنا. إذا أجَزْنا لمفهوم "القَدَر" أن يدخل تأويلنا لسير حياتنا، فإن ما سبق لنا أن رأينا فيه رضوضًا تؤدي بالمرء إلى اختبار مصاعب ذهنية أو عاطفية فيما يلي من حياته يمكن له، عوضًا عن ذلك، أن يُرى كأشواط حيوية ضمن نموذج حياة يفصح عن ذاته. ويقول وِتمونت إن

الأحداث الرضِّية للطفولة التي نربطها بمنشأ العُصاب أو الذُهان، ونعتبرها بالتالي شبه عارضة أو قابلة للتجنب في ظروف "مثالية"، يمكن لها أن تُرى ربما كنقاط علام في تحيين نموذج للكلِّية.

ويتابع وِتمونت، مشبهًا تفتح شروط الحياة بمراحل مأساة إغريقية: ففي الفصل الأول، توضع الشروط الأساسية التي توطد أسُس القصة برمَّتها، وفي الفصل الثاني، تندرج تحديات أو مصائب في الوضع، بينما في الفصل الثالث يُسار بالتحدي إلى نتيجة نهائية. فعلى الرغم من أن "مصائب" الفصل الثاني يمكن أن يُنظَر إليها من حيث دينامية العلة–المعلول الناجمة عن الفصل الأول، فإنها، من وجهة نظر مسار الحياة الأوسع، يمكن أن تُرى أيضًا بوصفها أشواطًا في نموذج نموٍّ لا يتضح إلا في الفصل الأخير للمسرحية. على غرار ذلك، يقترح وِتمونت بأن التحديات التي تظهر في مستهل حياتنا قد تحملنا على صرف ضروب من العمل يكمن القصد منها في ثنايا مخطط نمو أوسع، هو سيرورة التفردُن Individuation Process، شريطة أن نكون قادرين على إدراج درايتنا وبصيرتنا الوجدانيين في القضايا الأوسع التي تنجم عن تلك الأشواط التأسيسية من العمر.[37]

يزودنا التاريخ بالعديد من الأمثلة المتنوعة التي توضح مدى تأثير المبادئ الغائية في العمل. فلنذكر، على سبيل المثال، حياة الخطيب الإغريقي القديم ديموسثينِس الذي عانى في مستهل حياته من صعوبة بالغة في التواصل مع الآخرين. غير أنه، من خلال المجاهدة للتغلب على إعاقته (بما فيها رياضات، كالصياح في موج البحر والتدرب على النطق بفم مليء بالحصى)، أفلح أخيرًا في أن يتبوأ منزلةَ واحد من أفصح الخطباء الذين عرفهم التاريخ. وفي عبارة أخرى، صار كدحُه فيما يتعدى محدوديته الشيءَ الذي مكَّنه من الامتياز في الخطابة. وهناك أيضًا حالة هلِّن كلِّر، العمياء الصماء، التي أفادت فيها الإعاقةُ الحواسية في قدح العظمة الكامنة في هذه المرأة المعجزة من حيث لم يكن هذا الأمر ممكنًا، ربما، لو أنها كانت طفلة تتمتع بحواسها كلِّها.[38]

يزخر الموروث الروحي الشعبي بالإشارات إلى قصدية الحياة البعيدة المدى. من هذه الحكايات حكاية "فاطمة الغزَّالة والخيمة" التي تستحق أن نوردها بشيء من التكثيف (نقلاً عن كتاب حكايات الدراويش لإدريس شاه[39]):

كان يا ما كان في قديم الزمان فتاة تدعى فاطمة، كانت ابنة غزَّال موسر. ذات يوم سألها أبوها أن تصحبه في سفر طويل إلى جزيرة في عرض البحر كان له فيها عمل؛ فلعلها أن تجد لنفسها زوجًا هناك. وبينما هم مبحرون هبَّت عاصفة هوجاء حطَّمت السفينة على الصخور وأوْدت بحياة الأب. حمل الموج فاطمة إلى الشاطئ مغشيًّا عليها، تكاد لا تتذكر من ماضيها شيئًا. عثرت عليها أسرة حائكين مدقعة الفقر، فرقَّت قلوبُهم لحالها واستضافوها في بيتهم. ومكثت هناك سنتين تعلَّمت خلالهما فنون كارهم.

ذات يوم، سَطَتْ عصابةٌ من النخاسين على بيت الأسرة، فاسترقَّت فاطمة ورفاقها الجُدُد وأخذتْهم إلى اسطنبول حيث عُرِضَتْ للبيع كجارية. وتلك هي البلِّية الثانية التي نزلت بها. كان بين الشارين في السوق رجل يفتش عن عبيد يعملون عنده في صنع الصواري للسفن. وعندما رأى الرجل انكسار فاطمة المنكودة الحظ عزم على شرائها جاريةً لزوجه، ظنًّا منه أن في وسعه أن يؤمِّن لها حياةً أفضل مما لو اشتراها غيرُه. بيد أن صانع الصواري اكتشف لدى عودته إلى البيت أن القراصنة الشطَّار سرقوا مالَه ونفائسَه كلَّها. وبذلك وجدت فاطمة والرجل وزوجه أنفسهم مضطرين إلى القيام بالصنعة بمفردهم، فتعلَّمت فاطمةُ صنع الصواري. كان جميل الرجل دينًا في عنقها، فبذلت كلَّ ما في وسعها لإرضائه. ومقابل إخلاصها في العمل، أعتقها الرجل وأصبحت يده اليمنى الموثوق بها.

قال لها ذات يوم: "أريدك أن تكوني عاملتي في جاوة فتبيعي الصواري هناك." وبينما هي مبحرة بحذاء ساحل الصين، هبَّ إعصارٌ على السفينة. وهكذا، للمرة الثانية، جرفها الموجُ إلى الشاطئ، حيث وجدت نفسها لا تملك شروى نقير، بعيدة عن بلادها. وإذ شعرت بالحيرة والقنوط من مثل هذا الحظ العاثر، انطلقت تضرب في البلاد. كانت في الصين أسطورة تقول بأن امرأة غريبة سوف تقدم من بلاد نائية وتصنع خيمة للملك، وكان الناس متلهِّفين إلى تحقق الأسطورة لأنه لم يكن بينهم مَن يعرف كيف تُصنَع الخيام. وعلى مرِّ السنين، بعث الملوك الذين تعاقبوا على حكم الصين كلَّ سنة برسل في طول البلاد وعرضها يطلبون أن يُبعَث بالغرباء إلى قصر الملك.

وهكذا عندما حطَّ الرحال بفاطمة في إحدى القرى أخبرها الأهالي أن عليها أن تمضي إلى قصر الملك. ولما مَثُلَتْ فاطمة أمامه، سألها إن كانت تعرف كيف تصنع خيمة. فأجابته: "أظنني أستطيع." طلبت أولاً ألياف كتان، وغزلت منها حبالاً كما تعلَّمت من أبيها. وبما أن المنطقة لم تكن تصنع القماش السميك، فقد استفادت من الفنِّ الذي تعلمتْه من أسرة الحائكين لحياكة بعضه. ولما احتاجت إلى أعمدة لنصب الخيمة تذكرت الوقت الذي أنفقتْه في اسطنبول متعلِّمةً صنع الصواري واستفادت من هذا الفنِّ لصنع الأعمدة. وإذ جمعت هذه العناصر بعضها إلى بعض تمكَّنت من صنع خيمة تليق بالملك.

سُرَّ الملك بما صنعت فاطمة، وسألها أن تتمنَّى عليه أيَّ شيء. فاختارت أن تعيش في الصين، حيث وقع هواها في قلب أمير وسيم تزوَّجها. وهناك عاشت في سعادة وأنجبت أولادًا بَرُّوا بها حتى وافاها الأجل.

نستخلص من هذه الحكاية أن مواجهة الفرد المتكرِّرة لمآسٍ ظاهرية أمرٌ لا بدَّ منه لتحقيق قَدَر أمجد، يخدم فيه كلُّ فنٍّ أو عِبْرة نتعلَّمها على طول الطريق هذه الغايةَ النهائية. إن قَدَر فاطمة هو أن "تفطم" نفسها بالتدريج عن الاتكال على غيرها وترسم بنفسها دربَ تفردُنها الخاص. إن انتهاء رحلة فاطمة المرصودة بالمعاثر بزواج "ملكي" إشارةٌ إلى أننا نتعامل في هذه المادة الميثولوجية مع رموز "نموذجية بدئية" archetypal، على حدِّ اصطلاح يونغ. والزواج الملكي من الثيمات الميثولوجية والباطنية الخالدة التي ترمز إلى الإشراق أو التحقق الروحي الكامل. وهذه الحكاية، في معناها العريض، تتكلَّم على المخطط التطوري المتشابك الذي تقوم عليه حياتُنا الفردية والجماعية ونحن نمضي نحو "زواجنا الملكي" الذاتي، بما هو رمز إلى الجمع بين الأضداد المضمَر في تحقيق الذات أو الروح فينا. إن عثرات الحظ وسوء الطالع الذي ينزل بنا، منظورًا إليها في سياق أوسع، لا تبوح بمغزاها إلا عندما تُرى على خلفية نموِّنا الروحي البعيد المدى، الذي هو عينه سيرورة تفردُننا.

إن وجهة النظر الفلسفية هذه لا بدَّ أن تستثير الكثير من التشكيك والتساؤل، مما يذكِّر بما كالَه فولتير مِن تهكُّم على التفكير الجبري الساذج في روايته الفلسفية كانديد: "كل شيء على أحسن ما يكون في أحسن العوالم الممكنة جميعًا." لا بدَّ أن كلاً منَّا تساءل عن "الحكمة" من موت طفل من الجوع، أو عن "الغاية" من تحول إنسان طيب إلى الإجرام، أو عن "العِبْرة" من قصف أبرياء عُزَّل – والأمثلة بغير عد. إن مفهوم المخطط في حياة الفرد قد لا يشير، على ما يبدو، إلى مخطط روحي حصرًا؛ إذ إن حيوات الناس، على كونها بمعنى ما متناسبة مع طبع الأشخاص الذين يختبرونها، كثيرًا ما تنأى عن الإفصاح عن أيِّ اتجاه تطوري بالمعنى الروحي للكلمة. إن الأحداث التي جرت في مستهل حياة هتلر، بما فيها فشله كفنان، والعديد من الحوادث التي نجا فيها من الموت بشقِّ النفس، يمكن أن تُبدي حتمية ما في وقوعها؛ إلا أنها أبعد ما تكون عن استحقاق تسميتها بمخطط تطوري "روحي"!

غير أن العالِم الباطني يتناول مسائل كهذه بالفهم من منظور نظرية العَوْد للتجسد أو التقمص reincarnation. ففي حين أن البُعد الروحي لقصدية الحياة قد لا يكون جليًّا في سياق عمر واحد، تتخذ البلايا والعثرات ومصاعب القَدَر ومنعرجاته، في سياق أعمار عديدة، مغزى مختلفًا بوصفها مراحل في رحلة التطور العظيمة. إن ذاتنا الحقيقية Self أو كياننا الفردي العميق يدرك الحوادث الأرضية إجمالاً إدراكًا يختلف بالكلِّية، من حيث سعة الرؤية والحس الزمني، عن أنيَّتنا الشخصية ego، ويتطور، من حيث نموُّه الروحي، على كرِّ دهور من الزمن بالقياس إلى السبعين سنة التي نحياها على الأرض.[40]

كمثال على ذلك، تروي الاختصاصية الذائعة الصيت في الموت والاحتضار إليزابيث كوبلر–روس قصة "حوار" دار بينها وبين كائن غير متجسِّد تصفه بأنه واحد من مرشديها. لقد قال لها "المرشد" إياه: "عندما أولد من جديد في جسم بشري أريد أن أموت جوعًا كطفل." ولأن كوبلر–روس لم تكن آنذاك ممَّن يؤمنون بالأثر المطهِّر للألم وبآفاق النموِّ الداخلي التي من شأنه أن يفتحها فقد أجابته في صراحة قاسية: "أية بلاهة هي بلاهتك حتى تختار أن تولد لتموت جوعًا؟!" فأجابها مرشدها معقبًا بمحبة فائقة: "إليزابيث، من شأن هذا أن يعزِّز فيَّ الرحمة."[41]

استحضار تعليم الحياة

من أكثر مظاهر المبدأ الغائي إبهامًا إمكانيةُ استحضاره إراديًّا. فلنتذكر المسلَّمة المتعارف عليها في الحياة الروحية: "عندما يكون التلميذ على أهبة الاستعداد يظهر المعلِّم." من هنا يمكن لنا، بتنمية الاستعداد للتلقي والشعور الدائم بـ"إجلال الحياة" (التعبير لألبرت شفايتسر)، تسريعُ سيرورة التعلم كما تبدو ليس من خلال معلِّمين أحياء وحسب، ولكن من خلال أحداث وأحلام ورموز متنوعة. لقد عبَّر الكاتب إسحق دينسن في كتابه خارج أفريقيا عن شعور مماثل بهذه الكلمات:

يظن الكثير من الناس أن توقُّع إشارة أمر منافٍ للمنطق. ذلك لأن القدرة على القيام بذلك تتطلب حالة ذهنية خاصة، ولم يجد الكثير من الناس أنفسهم في مثل هذه الحالة. إذا طلبتَ إشارة، وأنت في هذا المزاج، لا بدَّ للجواب من أن يأتي؛ وهو يتبع بوصفه النتيجة الطبيعية للطلب.[42]

إن عملية التِماس إشارات وتعاليم روحية يمكن لها أن تتيسر بواسطة الرياضة الروحية، كالصلاة العميقة والتأمل والصوم الروحي، مما يضع المرء في حالة طنين قصوى مع الفطنة الخفية التي توجِّه حياتنا ("الموجِّه الأعظم"، كما يسمِّيها نعيمه). ومن الأمثلة الدرامية على هذه الفكرة "طلب الرؤيا" في الموروث الروحي الأمريكي الأصلي (تقابله "الاستخارة" في التراث الإسلامي)، حيث يزهد المشارك في الحياة الدنيوية وينتبذ بصفة مؤقتة مكانًا معزولاً في الطبيعة على أمل تلقِّي رؤيا خاصة أو تعليم حياتي. ومع أن الاعتقاد الشائع هو أن الكشف المطلوب يجب أن يتخذ شكل رؤيا من نوع ما، فإنه كثيرًا ما يأتي على هيئة حدث طبيعي درامي أو حادث تزامُني يتعلق بحيوان أو طير أو نبات أو حتى جماد – إذ إن كل شيء حي، بحسب الموروث الروحي للهنود الحمر.[43]

ومع أن اقتطاع جزء من حياتنا اليومية الرتيبة "طلبًا للرؤيا"، إذا جاز التعبير، أمرٌ مطلوب، في مرحلة من حياتنا على الأقل، فإن المرء لا يحتاج بالضرورة إلى الخروج إلى العراء طلبًا لها. إن تنمية روح التلقي من شأنها أن تثمر عن نتائج في سائر البيئات إطلاقًا، أحيانًا على هيئة رمزية غير متوقَّعة ومباغتة. حتى قاطن المدينة الحديثة يمكن له أن يشرع في طلب الرؤيا من خلال صيام معتدل وفترات منتظمة من التأمل اليومي وشحذ انتباهه إلى أحلامه وغيرها من الرموز التي تتراءى له. ففي أثناء فترات كهذه، يمكن لكلِّ مكالمة هاتفية، أو حلم مستعاد، أو لقاء مع غريب، أو دعوة – وحتى الإعلانات في الطرق! – أن تكون محمَّلة برسالة ذات سطوة تخص المرء في حياته أو خياراته الروحية.

نتائج

سوف نأتي هنا على ذكر بعض التحديات التي ينطوي عليها التزامُن لنظرتنا الاعتيادية إلى العالم، كما سوف نخلص إلى بعض النتائج التي نقدِّر أنها هامة.

تجاوُز الزمكان: بعض خبرات التزامُن يتكشف عن معرفة تتحدى مفاهيمنا التقليدية عن الزمن والمكان. فلنقف عند مثال "لأم الجراح القديمة" (الجزء الأول من البحث) ولنتفكر في أبعاده. لم يكن الرجل قد حلم في حياته قط بأبيه الغائب حتى طرأ عليه أمر لم يحسب له حسابًا: قبل أن يُخبَر بمرض أبيه الأخير، رأى حلمين قويين صوَّرا له أباه تصويرًا طيبًا، كما يقول. يمكن لنا، بالطبع، أن نقول إن الأمر كلَّه كان مجرد مصادفة، وإن من السهل تفسير الحلمين بكونه هو الآخر صار أبًا (ذلك كان تفسيره هو لأول وهلة). غير أن تفردُن الرجل تطلَّب أن تنحلَّ عقدة الغضب والسخط والمرارة على أبيه. من هنا يبدو وكأن بمقدور الذات أن تتحصَّل على معلومات تتجاوز حدود الزمكان المعتادة، وأن تتصل بـ"معرفة مطلقة"، على حدِّ تعبير يونغ، على علم بموت أبيه الوشيك وبأن تفتُّح الابن تطلَّب قيام المصالحة في نفسه مع أبيه السكير.[44]

السببية: من أعظم تحديات التزامُن للفكر الخطِّي طبيعته اللاسببية. فبما أننا مكبَّلون بسببية الفيزياء النيوتُنية أو الاتباعية، يكاد الاعتقاد بأن الأحداث والوقائع الداخلية والخارجية قد ترتبط ارتباطًا لاسببيًّا يكون ضربًا من ضروب المستحيل. فلو أن احتضار الأب، على سبيل المثال، لم يتسبب في حلمَي الابن، إذ ذاك لأخطأنا في الاعتقاد بأنهما كانا من قبيل المصادفة. وحتى إذا قبلنا بواقعية ارتباط تزامُني بين الأحداث الداخلية والخارجية، فإننا، بسبب من عبوديتنا اللاواعية للسببية، نرتكس تلقائيًّا إلى تعليل سببي: إما "العفاريت" وإما أي بديل غير مادي آخر!

الصلة الوثيقة بين النفس والمادة: هناك عائق أكبر من التزامنا المفرط بالسببية، ألا وهو اعتقادنا المتأصِّل بوجود شرخ بين العقل والمادة. إننا نعتقد عادة بأن العالم الداخلي للشعور والخيال والوَجْد والتوق مختلف اختلافًا جوهريًّا عن العالم المادي اللاشخصي الذي تنتظمه قوانين آلتية. غير أن الارتباطات ذات المغزى بين العالمين الذاتي والموضوعي في خبرة التزامُن تنطوي على صلة وثيقة بين النفس والمادة. يصعب القبول بهذا مادام الكثيرون منَّا، من حيث يعون أو لا يعون، ثنويون ديكارتيون، يعتقدون بأن العقل مبدأ ذهني قائم بذاته، يحكم ذاته بذاته، ويطل على عالم مادي مختلف عنه جذريًّا. تضرب هذه النظرة بجذورها في استلاب الذات واعتزالها العالم المادي الأوسع – استلابٍ عن الطبيعة بتنا نحس به في زماننا إحساسًا شديدًا. وعلاوة على ذلك، تجعل مثل هذه النظرة الضيقة فهمَ الارتباط المعنوي اللاسببي بين العقل والعالم المادي، وانطواء التزامُن على وحدة النفس والمادة، أمرين متعذرين. ومع أن قصور الثنوية الديكارتية بات في الآونة هدفًا لنقد علمي وفلسفي متماسك، سيبقى فهم التزامُن مستعصيًا علينا مادام وعيُنا أسيرًا لهذه الثنوية الفاتنة.

إن طبيعة التزامُن المتجاوزة للزمكان، إلى جانب لاسببيَّته والصلة الوثيقة التي يتبطن عليها بين العقل والمادة، تتحدى جزئيًّا نظرتنا إلى العالم لأنها، على ما يبدو، تزعزع أفكار "حسِّنا المشترك" common sense وتصوراته المتأثرة إلى حدٍّ بعيد بفيزياء ديكارت ونيوتن الاتباعية. غير أن المفاهيم الحديثة عن الزمكان النسبوي (الخاص بنظرية النسبية لأينشتاين) والتواصل العميق للعالم الكوانتي اللاسببي، كما يبين مؤلِّفا كتاب التزامن: العلم والأسطورة والألعبان بشيء من الإسهاب[45]، تجعل من استيعاب هذه التحديات واستيعائها أمرًا ميسورًا. لا نقصد بذلك أن الفيزياء الجديدة تبرهن على صحة التزامُن، لكنها تتيح قطعًا إطارًا مرجعيًّا أنسب بكثير لفهمه.

على أن أكبر تحديات التزامُن لفكرنا المنحصر في الدنيويات ليس في كلِّ ما ذكرنا. إذا كنَّا ممَّن يقبلون بإمكانية تفتُّح الإنسان، في سيرورة للتفردُن شخصية، عن عمق هو عمق الحياة والوجود، فإن المعنى المنطوي في الخبرات التزامُنية يتصل اتصالاً وثيقًا بتفردُننا. ولكن هل لنا أن نكون أدق في إفصاحنا عن نوع المعنى المبطون في هذه الخبرات التي لا تُنسى؟

من الأمثلة التي أوْرَدْنا، يتبين لنا أن أكثر خبرات التزامُن دراميةً في حياتنا تنبثق من جراحنا، من هشاشتنا الروحية على مدى عمرنا وضعفنا البشري، لكي تشدِّد الإنسانَ الباطنَ فينا وتسير به نحو تحقُّقه التام. إن تدبُّر عِبَر الخبرات التزامُنية في حياتنا يبين لنا أن الرضوض والجراح هي الرحم الذي تنمو فيه أعمق تبصراتنا النفسانية والروحية؛ وإن أعمق التحولات في حياتنا تنجم عن هذه الكلوم النابضة التي لا تلتئم. ولا عجب في ذلك، بما أن الأوقات التي تكون فيها أنانا على أشدها، الأوقات التي نكون فيها قديرين، "ناجحين"، ليست قطعًا هي الأوقات التي يمكن فيها للـ"معرفة المطلقة" أن تخترق حياتنا. وبالعكس، فإن اختبارنا لوضاعتنا وعارنا وعجزنا وهشاشتنا وضعفنا البشري – بلايانا التي لا بُرء منها – هو الذي يكشف لنا الباب إلى نفسنا العليا وكنوزها التي لا تنضب. في ضوء هذا المبدأ نستطيع أن نفهم قول القديس بولس: "إذا ما كنت ضعيفًا كنت قويًّا." (الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 12: 10)

خاتمة

إن المبدأ التطوري الذي يدفعنا إلى التفتح الروحي لا يستمد فاعليَّته من معطيات اللحظة الراهنة وحسب، بل ومن تأثيرات الماضي والمستقبل. فإذا شبَّهنا دراما حياتنا بنوع من السيناريو، فإن سيرتنا قصةٌ تتواشج فيها عوامل "كَرْمية" (نسبة إلى كرما) تعود إلى وقت سابق مع المؤثرات القصدية للممكنات المستقبلية. مثلها كمثل البلوطة، التي هي في آن معًا نتاج مؤثرات ماضية (قيود وراثية، بيئية، كيميائية، إلخ) ومؤثرات مستقبلية أو ممكنات بيولوجية مشفَّرة، تمثل حياتُنا وظروفُنا تشابُكَ مؤثرات ماضية ومستقبلية معًا، تشاهَد في الرموز البارزة من خبرات الحياة اليومية. وهذه تتفاعل في سيرورة ديالكتيكية، لتعيد حياكة الموروث من الـكرما الماضي في إمكانات الضرورات المستقبلية، وتدنينا بذلك أكثر فأكثر من إشراقة تحقيق الذات.

*** *** ***


 

[19] آلة موسيقية هندية ذات أوتار.

[20] Sir Edwin Arnold, The Light of Asia, Jaico Publishing House, Bombay & Calcutta, p. 93.

[21] للوقوف على مفهوم كَرما فلسفيًّا، راجع في مكتبة معابر كتيِّبنا مقالة في التقمص في ضوء التعاليم الثيوصوفية، الحكمة 2، دمشق، 1998، ص 22-25، 93-103، 105-111.

[22] مع أن صورة البلوطة كـ"سنديانة في الإمكان" صورة مفيدة في وصف مبدأ الغائية Teleology، يجب ألا تؤخذ على محمل الحرف. إننا نتكلم على البلوطة بوصفها "مشدودة إلى الأمام" نحو تحقيق كمونها كسنديانة، وكأن هذا المستقبل موجود من الآن ويُعمِلُ تأثيرَه إلى الخلف من خلال الزمن. غير أن في الوسع، كما يبيِّن البيولوجي البريطاني روپرت شِلدريك، إتلاف بلوطة معينة، والحيلولة بذلك بينها وبين بلوغ هدفها "الغائي"، مما يدحض حجة أن "قَدَر" البلوطة كسنديانة يوجد بمعنى ميتافيزيائي ما. كذا فإن أيَّ مصير ينتظر البلوطة يبدو وكأنه جملة من الإمكانات الوراثية التي قد تبلغ الإثمار وقد لا تبلغه.

[23] ميخائيل نعيمه، النور والديجور، مؤسسة نوفل، بيروت، 1988، ص 154-155.

[24] Cited by Glenn Mullin, “Personal Glimpses,” the Quest, Winter 1993, p. 96.

[25] Heinrich Zimmer, Myths and Symbols in Indian Art and Civilization, Princeton University Press, 1962, p. 159.

[26] Ray Grasse, The Waking Dream: Unlocking the Symbolic Language of Our Lives, Theosophical Publ. House, Wheaton, Ill., 1996.

[27] النور والديجور، ص 146-149.

[28] Medicine Grizzlybear Lake, Native Healer, Theosophical Publ. House, Wheaton, Ill., 1991, p. 27.

[29] النور والديجور، ص 153-154.

[30] Saral Bohm, “David Bohm’s First Meeting with K,” The Link, Issue N° 25, 2005-2006, p. 30.

[31] ميخائيل نعيمه، سبعون... حكاية عمر: المرحلة الثانية، مؤسسة نوفل، بيروت، 1983، ص 328-329. جدير بالذكر أن هذه الفتاة نفسها، قبل أن تعرف شيئًا عن تصميم نعيمه على العودة إلى الوطن، رأته في الحلم وفي يده معول يشق به الأرض. وعندما سألتْه عما يفعل، أجابها من غير أن يلتفت إليها، ومن غير أن يتوقف عن عمله: "إني أشق طريقًا لي في هذا الجبل." وقد فهمتْ من هذا الجواب أن الطريق الذي يشقه هو له وحده، وأنها لن تسلكه معه، وأنه بعد اليوم لن يصرفه عن شقِّ طريقه حتى النهاية أي صارف (المصدر نفسه، ص 328).

[32] عبد الرزاق الكاشاني، اصطلاحات الصوفية، بتحقيق وتقديم وتعليق د. عبد الخالق محمود، دار المعارف، القاهرة، 1984، ص 111-112.

[33] اعترافات القديس أوغسطينوس، بترجمة الخوري يوحنا الحلو، التراث الروحي 1، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص 203.

[34] Cited by James Hillman in Re-Visioning Psychology, Harper & Row, New York, 1975, pp. 195-196.

[35] Schopenhauer, quoted by Joseph Campbell in The Power of Myth with Bill Moyers, Betty Sue Flowers, ed., Doubleday, New York, 1988, p. 229.

[36] Joseph Campbell, The Power of Myth, p. 229.

[37] Edward Whitmont, “The Destiny Concept in Psychotherapy,” Spring, James Hillman, ed., Analytical Psychology Club of New York, 1969, pp. 73-92.

[38] See: Helen Keller, My Religion, Swedenborg Foundation, New York, 1927.

[39] Idries Shah, Tales of the Dervishes, E.P. Dutton & Co., New York, 1969, pp. 72-74.

[40] راجع بهذا الصدد: ديمتري أفييرينوس، مقالة في التقمص، ص 36-39.

[41] William Elliot, “Love, Life, and Cosmic Consciousness,” A Conversation with Dr Elisabeth Kübler-Ross, the Quest, Autumn 1994, p. 84.

[42] Quoted by Ray Grasse in The Waking Dream, Chap. 7.

[43] Black Elk Speaks, Being the Life Story of a Holy Man of the Oglala Sioux as told by John G. Neihardt, University of Nebraska Press, Lincoln and London, 1992, pp. 177-187.

[44] نعترف هنا بعدم كفاية هذا المثال للبرهنة على أن الخبرات التزامُنية غالبًا ما تتجاوز حدود الزمكان؛ لكنه، والأمثلة الأخرى التي أوردنا، يشير على الأقل إلى "مطاطية" مفهوم الزمكان وعدم انطباقه على تصوراتنا "الخطِّية" عنه.

[45] آلن كومبس ومارك هولند، التزامن: العلم والأسطورة والألعبان، بترجمة ثائر ديب، آفاق 1، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 2000.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود