... عن بيروت وأحوالها

الرَّقابَة والكتَابة والمُعَارَضة

أدونيس

 

1

مجلسٌ في بيتٍ، أو في مقهى:

تُصغي إلى صديقٍ أو أكثر، يتحدَّثون عن بيروت وأحوالها. بحماسةٍ. بغضبٍ. بضيقٍ. بهمسٍ: «كلامٌ بيننا»! تعرف ما تيسَّرَ. وتظلُّ أشياء كثيرة قَيْدَ الظنِّ والتخمين والسرِّ. تذهب إلى النَّوم وعلى كتفيك أعباءٌ لا تعرف كيف تتخلَّص منها!

صباحًا، تأخذ جريدةً. تقرأ ما يكتبه هؤلاء الأصدقاء، أو بعضُهم، عن بيروت وأحوالها. تعرف عنها شيئًا آخر مختلفًا، كثيرًا أو قليلاً. للمجالس أحاديثُها؛ وللجرائد أحاديثُها – سواء كانت الأحوال دينيةً أو اجتماعية، سياسيَّةً أو اقتصادية، داخليَّةً أو خارجية، خاصَّةً أو عامَّة.

هناك «ثقافتان»: ثقافة الصَّوت غير المكتوب، وثقافة الصَّوت المكتوب؛ ثقافة الكلام، وثقافة الكتابة. هناك نوعان من المسلكيَّة الفكريَّة، ونوعان من المسلكيَّة الأخلاقيَّة.

بالصَّوت، يفصح النَّاس عن أنفسهم بتلقائيَّةٍ وجرأة – غالبًا؛ بالكتابة، يفصحون بتعقُّلٍ وحذَر. الصَّوت مُجابهةٌ، الكتابة مُراعاة؛ الصَّوت مُباشرةٌ، والكتابة مُداوَرَة؛ والصَّوت وجهٌ، والكتابة قناع. بالصوت يعلنون الحضورَ ويستحضرونَ الغياب؛ بالكتابة يغيِّبون الحضور، أو بعضه على الأقل. اللُّغة، منطوقةً، تَميلُ إلى أن تكون كَشْفًا عن الواقع؛ اللُّغة، مكتوبةً، تميل، على العكس، إلى أن تكون حَجْبًا. الألفاظ، منطوقةً، تتوهَّج حيويَّةً وعافية؛ الألفاظ، مكتوبةً، تتعثَّر واهِنةً مريضة.

الصَّوت جريدةٌ ناطقة،

والكتابة جريدةٌ خرساء.

ما يكشف عنه الصَّوت تحجبُه الكتابة.

(ما كلُّ ما يُعرَفُ يُقال. ما كلُّ ما يُقال يُكْتَب.)

2

الكتابة، في أبعد ما تصل إليه، عن بيروت وأحوالها، إنما هي نوعٌ من «التَّمثيل»: تحت الواقع، أو على هامشه، أو فوقه؛ وليست الواقعَ، أو «الحقيقةَ» – أبدًا.

ولماذا لا تكون الكتابةُ عن بيروت وأحوالها إفصاحًا عن الواقع، حَتَّى عندما تزعم أنَّها «واقعيَّة»؟! أفلاَ تكون هذه الكتابة، إذًا، تمويهًا للحضور (للواقع)، حينًا، وتَشويهًا، حينًا؟

3

أهي الرَّقابَةُ؟ – من خارج؟ من داخل؟

أم أنَّ اللُّغة نفسَها هي الرَّقابة والرَّقيب؟!

هل «اللاقولُ» جزءٌ عضويٌّ من «القول» في اللُّغة العربيَّة؟!

4

عندما لا تقول الكتابةُ الواقعَ، أو «تعجزُ» عن قوله، لا تعود مجرَّدَ تمويه، وإنَّما تُصبح تَقْنيةً في العُنف: ضِدَّ اللُّغة ذاتِها، أوَّلاً، وضدَّ الوعي. اللُّغة غيرُ الحرَّة لا تُنْتج إلاَّ القيودَ وإلاَّ العبوديَّة؛ تُعطَّلُ عن الحركة، وعن العمل؛ تَأْسَنُ، وتصْدَأ، وتَهْترئ. إذا لم يُتَحْ للُّغة أن تهبَّ في الكتابة كما تهبُّ الرياح، تتقلَّصُ، وتنكمشُ، وتجمد؛ تتقلَّص معها الثقافة، وتنكمش، وتجمد – وينتهي الفكرُ والشعر.

تتحوَّل اللُّغة – هي الطبيعيَّة – إلى كلماتٍ وأصواتٍ ضدَّ الطَّبيعة، وتصبح الكتابة نوعًا آخرَ من العبوديَّة.

الكتابة اللبنانية (الكتابة العربية، بعامَّة)، اليوم، بفعل «القمع» و«الكَبْت» و«الرقابة الدينية–السياسيَّة»، إنما هي تَغييبٌ للواقع وللحياة وللإنسان. إنَّها عبوديَّةٌ أخرى. وهي، إذًا، شكلٌ آخر من الموت.

5

الكلام الذي لا يقدر أن يتنهَّد بكامل رئتيه، متفتَِّحًا، حرًّا، إنما هو كلامٌ «مريض»! ولا يزول هذا المرض إلاَّ إذا زالت الرَّقابة – بأنواعها جميعًا، الدِّينية والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، ومستوياتها جميعًا – الدَّاخليَّة والخارجيَّة.

الإصرارُ على إبقاء الرَّقابة إنما هو إصرارٌ على أن تظلَّ الكتابةُ «خيانةً» و«تزويرًا».

تخرج الكتابةُ من عالم «الثقافة» وتدخل في عالم «التجارة».

***

 

عن نيوتن وشجرة التُّفاح

شجرة التُّفاح التي صادف أنْ جلس تحتها يومًا إسحق نيوتن، العالم الفيزيائي البريطاني، واكتشفَ قانون الجاذبيَّة، في السنة 1665، سوف تُصنَّف قريبًا بوصفها «أثرًا تاريخيًّا». هذا، على الأقل، ما تأمل به وما تعمل له «جمعيَّة الشجرة» في بريطانيا.

والسؤال هو: بماذا تأمل، وماذا تعمل، «جمعية الشجرة» في لبنان؟ وهل لدينا «القدرة» على أن نعامِل «الأثرَ الحيَّ» (الشجرة، مثلاً) كما نعامِل «الأثر الميت» (المبنى، مثلاً)؟

*

 

المهمَّة الأولى للمُعَارَضة في لبنان والبلدان العربيَّة

لا تزال المسألة الدِّينية قلبَ الجدل في الحياة العربية.

وتزداد، اليوم، حِدَّةًَ، خصوصًا في كلِّ ما يتعلَّق بقضايا التقدُّم والديموقراطيَّة وحقوق الإنسان والتعدُّديَّة والمجتمع المدني، بعامَّة. وفيما يرى بعضهم أنَّ الدِّينَ هو المصدر الوحيد لجميع الحلول الممكنة، تُثبِتُ التَّجربةُ الحيَّة أنَّ هذه النَّظرة مُضَادَّةٌ للواقع، وأنَّها تزيد في تعقُّد المشكلات، إضافةً إلى ترسيخ التفتُّت والتمزُّق والضَّياع.

ولبنان شاهدٌ أوَّل، ودليلٌ أوَّل.

هكذا تتأكَّد الحاجةُ الملحَّة، اليوم، بالنسبة إلى المعارَضة، في لبنان، إلى اتِّخاذ موقفٍ ثقافيٍّ–سياسيٍّ من هذه المسألة، يمكن إيجازه في نقطتين:

-       الأولى: المطالبة بدولةٍ لبنانيَّة تحترم الدِّين، وتكون هي نفسها مَدنيَّةً عَلْمانيَّة – هويَّةً وتشريعًا، أجهزةً ومؤسَّسات.

-       الثانية: المطالبة بحريَّة الفرد، وبخاصةٍ في الإيمان بالدين الذي يشاء، أو بعدم الإيمان، بحيث يكون اللاتديُّن أمرًا طبيعيًّا، كمثل التديُّن، وبحيث يكون معيارُ المواطنة مَدنيًّا، لا طائفيًّا أو دينيًّا.

دون ذلك، ستظل المعارَضة اللبنانية، مهما كانت «تقدميَّة»، معارضةً «طائفيَّة»، هدفها «السُّلطة» في ذاتها، لا تحريرُ لبنان، ولا حرِّيته. إذ لا يمكن تحرير لبنان، ولا يمكن أن يكون حرًّا، مادامَ «طائفيًّا» - في تركيبه السياسيِّ–الاجتماعيِّ وفي ثقافته المؤسَّسيَّة. ولن تكون معارضة «تركيبٍ» طائفيٍّ قائمٍ بتركيبٍ طائفيٍّ آخر يحلُّ محلَّه إلاَّ تخلُّفًا آخر.

*

 

مَدٌّ يأخذه ويمضي

1

لم تَصِلْ إليكِ أيَّامي الماضية،

لم تَصلي إليها.

ولم يكن بين حاضري وحاضركِ أيُّ جسر –

فَبِأيِّ سرٍّ التقينا؟

وكيف حَدَثَ

أن يكونَ لجسدينا كلامٌ واحدٌ،

مع أنَّ لكلٍّ منَّا لغتَه المختلفة؟

وكيف صَحَّ في لقائنا

أن تكون الرِّياحُ لنَا، وليست مُلْكَنا؟

2

ها نحن، اليوم،

كلَّما أصغى إِليَّ الطَّريقُ إلى غيركِ،

تمرَّدتْ عليَّ خطواتي.

ليست شفاهُنا سُلَّمًا موسيقيًّا،

وليست قبلاتُنا أنغامًا –

فمِن أين لِدَمِنا هذا الرَّقص؟

3

قولي لجسدكِ:

أنتَ البحيرةُ المفردةُ

لِمَائنا المثنَّى.

وقولي له:

أنتَ المدُّ الذي يأخذه ويمضي،

ولن تكون له شُطْآنٌ إِلاَّ فيه.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود