الشِّعر والفلسفة

أودُّ ألاَّ يخلو أيٌّ من أبعاد وجودي من نظرة شعريَّة

حوار مع جان كلود پنسون

 

هو شاعر لا يتنازل عن كينونته الشاعرة ذرَّة واحدة. لكنه تخلَّى اليوم عن أوهام الإيمان بقدرة الشعر على تغيير العالم في عمق. وهو باحث وأستاذ للفلسفة أيضًا، ويكتب الشعر على خلفية يتقاطع فيها الأدبُ مع الفلسفة.

ولد جان كلود پنسون Jean-Claude Pinson في العام 1947 في إحدى ضواحي مدينة نانت الفرنسية. أقبل إلى الشعر في بداياته إثر دراسته الأدب في السوربون وإنجازه مقالاته الشعرية الأولى في إطار نشاط مجموعة Tel Quel. انخرط فترة طويلة في العمل ناشطًا يساريًّا، وأنظارُه متوجهة نحو الصين. تلا ذلك انقطاعٌ مديد عن كلِّ علاقة مع الأدب؛ إذ صرف ما يقارب العشرين عامًا في مدينة سان نازير. ومن هذه التجربة ولد كتابه الشعري الأول أسكن هنا.

أسكن هنا

تعمق لاحقًا في دراسة الفلسفة، فنال الإجازة العليا فيها Agrégation في العام 1982، ثم شاء أن يكون هيغل موضوعًا لأطروحته للدكتوراه (1987).

هيغل والحق واللبرالية

يعيش في نانت منذ العام 1991، حيث يحاضر في الجامعة، مدرِّسًا فلسفة الفن بصفة خاصة. من عناوين أعماله الشعرية خطبة على ضفة الماء وعاطفية وساذجة وموجز الفلسفة الأخلاقية، حيث يعالج بالشعر موضوع السعادة.

خطبة على ضفة الماء

عاطفية وساذجة

موجز الفلسفة الأخلاقية

جان كلود پنسون جاء إلى بيروت، حيث حاورناه.

***

 

حنان عاد: أنت تعتبر الشعر نوعًا من العلاج الذاتي أكثر منه أداةً لتغيير العالم. هل هذا القول يلائمك بالفعل شاعرًا؟

جان كلود پنسون [ضاحكًا]: اسمعي، حلمت في مرحلة من حياتي بأن الشعر قادر على أن يكون أداةً لتغيير العالم. لكني عدلت عن هذا الوهم. واليوم، أعتقد أنه، أولاً، وسيلة لمن يكتبه، ولمن يقرأه أيضًا، للعناية بنفسه. ويمكن، بالتالي، تشبيه الشعر بنوع من العلاج. ثمة أشخاص كثر يكتبون الشعر في هذا السياق ولا ينشرون. ذلك أن حقل النشر لا يتسع إلا لعدد معيَّن من الكُتاب، ولاسيما الشعراء منهم.

جان كلود پنسون، الشعر علاجًا. (ت. حسن عسل)

ح.ع.: لكن ألا ترى معي أنك تنحو قليلاً – بل كثيرًا – في اتجاه تحجيم دور الشعر؟ وهل تُعقَل مساواةُ الشعر بالعلاج النفسي؟!

ج.ك.پ.: لا، أنا لا أخلط بينهما! لكن في بساطة، ولكي أكون شفافًا، خرجت باستنتاج مفاده أن الأوهام التي قام عليها الشعر، منذ العصر الرومنطيقي إلى القرن العشرين، وخاصة عبر السوريالية، والقائلة بتغيير العالم وطُرُق العيش في عمق من خلال الشعر، أوهام فيها مغالاة. لكن، في المقابل، يمكن لمن يكتب الشعر أن يجعل لكتابته الشعرية تأثيرًا على طريقته الخاصة في رؤية الأمور وعلى طريقة وجوده.

الفن بعد الفن العظيم

ح.ع.: أليس التأثير الذي تتحدث عنه نوعًا من التغيير غير المباشر الذي يحققه الشعر؟

ج.ك.پ.: بلى، أنت محقة. وقد كتبتُ عن هذه الناحية في أحد أبحاثي. أظن أن متلقي الشعر وقرَّاءه والمتأثرون به أقدر على مقاومة الخطاب السائد، أي خطاب النفعية والمال والسلعة، من الذين لا يقرأون الشعر. أولئك يكونون يقظين، من خلال معرفتهم الشعر، لدقة الفكر، ويعرفون أن ثمة شيئًا آخر ممكنًا.

ما جدوى الشعر اليوم؟

ح.ع.: تمزج أحيانًا كثيرة بين كاتب الشعر وقارئه، حتى إنهما يكادان أن يبدوا واحدًا، أو على الأقل متماثلَين. لماذا؟

ج.ك.پ.: اليوم نقرأ الروايات ونكتب الشعر. في صورة كاريكاتورية بعض الشيء، ليس ثمة مَنْ يقرأ الشعر فعلاً سوى مَنْ يكتبه وينشره! أما قراء الشعر فقلة – ويا للأسف – خارج الوسط الشعري. لعل ثمة أسبابًا اقتصادية وإعلامية لذلك. في فرنسا، ينبغي البحث عن كتب الشعر في المكتبات.

ح.ع.: كذلك الأمر خارجها، وعندنا أيضًا. إذ يقال إن الشعر ليس سوى خيال وحلم وابتعاد عن الواقع!

ج.ك.پ.: صحيح، لكن ثمة فوارق صغيرة يمكن ملاحظتها بين بلد وآخر في هذا الموضوع. في البرتغال، مثلاً، ثمة مكان للشعر في المكتبات، على الرغم من أنه أصغر بكثير من المساحة الخاصة بالرواية.

ح.ع.: كيف تفسِّر هذا الاهتمام بالشعر في البرتغال؟

ج.ك.پ.: أعتقد أنه يعود إلى كون بطلَي الثقافة البرتغالية، وحتى التاريخ البرتغالي، هما الشاعران كاموينس وپيساو. هما وجهان يمثلان في قوة الثقافة البرتغالية. ولأن اللغة لعبت دورًا أساسيًّا في الهوية البرتغالية والبحث عنها، فإن البرتغاليين عرفوا أنفسهم من خلال شعرائهم.

ح.ع.: دعنا نتكلم قليلاً عن بعض التيارات الشعرية المعاصرة. بعض الشعراء يُقْصِرون جمالية الشعر على الفصاحة واللغة، وبعضهم الآخر يأخذ الشعر إلى اليومي وتفاصيله العادية جدًّا. ما رأيك؟

ج.ك.پ.: ثمة أسلوب بلاغي تفخيمي في فرنسا يراه الناشرون اليوم أسلوبًا أخذ قسطه وتخطَّاه الزمن. ولو استمعنا إلى تسجيلات لشعراء من هذه المدرسة، لوجدنا أن قراءتهم لقصائدهم "خطابية" جدًّا! أما اليوم فلم يبقَ هذا الأسلوب مقبولاً، ولم نعد نحتمله لأنه متكلف.

ح.ع.: كيف ترى إلى التقاطع بين الفلسفة، التي هي مجالك المهني باحثًا وأستاذًا، وبين الشعر في نصِّك؟

السكن شاعرًا

ج.ك.پ.: أحببت هذا السؤال! أود عميقًا ألا يخلو أي بُعد من أبعاد وجودي من نظرة شعرية. أردت أن أكتب عن مهنتي. وأتذكر هنا سؤالاً لشاعر أمريكي حول كيف نُحيل عملَنا شعريًّا؟ فإن لم يكن شعريًّا لا نربح عيشنا عندئذٍ، بل لا نربح سوى الموت. وضعتُ كتابًا أتكلم فيه عن الجامعة حيث أدرِّس، وجعلت من هذا الموضوع مادةً شعرية.

جاز حر

ح.ع.: لكنك لم تقل لي بعد ما تأثير الفلسفة على شعرك؟

ج.ك.پ.: لا أنظر إلى الشعر والفلسفة كأمرين مختلفين من حيث خواتيمهما. يختلفان في طريقة استخدام اللغة. الفلسفة تهمني أيضًا لناحية مساهمتها في جعل الوجود أكثر اعتبارًا وقوة. والشعر يهمني بقدر ما هو رافعة لا تقل أهمية عن الفلسفة بوسيلة أخرى. إنه "رافعة" لئلا يختنق الوجود بسبب جميع ضغوط المجتمع الراهن. من هنا، أحاول أن أجعلهما يتلاقيان في كتبي.

ح.ع.: هل تعتقد أن ما يدور من مناقشة راهنة حول وضع الشعر كفيل بأن يخدمه ويخدم قضاياه؟

ج.ك.پ.: أهمية المناقشة الخاصة بالشعر تكمن في أنه يضاعف مستويات مقاربة الشعر. وثمة دراسات أكاديمية معمَّقة تترك آثارًا لوقت طويل. وتصوري أنها تساهم في إعادة التفكير وتعزيز الأبحاث المتعلقة بالشعر.

ح.ع.: ماذا تتوقع شاعرًا؟ أو إلامَ تتطلع، لنفسك ولعالم في حالة غليان دائم؟

ج.ك.پ.: أن يتمكن هذا العالم من تخطِّي الفوضى والحروب التي تتهدده. نأمل ذلك. لكن تحقيقه ليس سهلاً. وفي ما يخصُّني، آمل أن أبقى شابًّا، على الأقل في عقلي، وأن أتمكن دائمًا من رؤية ما يحيط بي.

* * * * * * *

حاوَرَتْه: حنان عاد

 

من شعر ج.ك. پنسون

مثقلاً بشكوك كثيرة

وقطعة أرض لامتناهية

على مقربة من البحر

وفضاء فسيح بغيوم

مفتوحة القبر

أسكن مكانًا رعويًّا جدًّا

كي أفكِّر في رحيل الأرواح

في استحالة تحوُّل السمكات الشقراء

حوريات

وفي لامعقولية تحوُّل الغَرْقى

شحارير.

 

كنت أسبح

حين العاصفة تهدر

وزخَّات المطر ترسل وعيدها

فجأة رشقت بحبَّاتها

مساحة البحر

وكنت أسبح

على الطريقة الهندية

أذنًا في الماء

وأخرى في الهواء الطلق

من ناحية قرقعة صماء

من الأخرى خشخشة

أكثر حدَّة على السطح

كنت أسبح كأنني اثنان في شخص

وبدا الكون فجأةً غريبًا جدًّا

وفكرتُ في وضعنا المعلَّق

بين السماء والماء.

 

وبضخامة سؤال الهندسة الحديثة

المنشغلة هي أيضًا

بمزج السماء والماء

وبأن كون المرء شاعرًا

كان على صلة متينة

بقصة الطائرة المائية تلك

فإن كان الأمر الكبير

في حياتي أولاً هو الهبوط

("اهبطْ قليلا" كان يقول لي والدي)

فإنني فهمت لاحقًا

بواسطة كآبة لغوية جدية

أن الترنيمة الصحيحة ربما تكون:

إقلاع/ إبحار/ إقلاع.

ترجمة: ح.ع.

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 14 حزيران 2005

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود