الـمُــرَافَـعَــة

 

أميمة الخـش

 

القاعة غاصَّةٌ بالحضور. اللغط يعلو رويدًا رويدًا حتى يملأ أرجاء المكان. يضطرب كياني مع ارتفاع الأصوات والهمهمات. أطيل التحديق إلى المنصة الكبيرة. القاضي، نائباه، المعاونان. ووراء المنصة المجاورة رجلٌ ضخم الجثة، متلفِّع بالسواد، يتململ في جلسته وهو يقلِّب أمامه أوراقًا مهيأة، يمرِّر نظره على بعض سطورها تارة، ويتركه أخرى يقع على وجه رئيس المحكمة ومعاونَيه، ثم يستقر على وجهي الذي هجرتْه التعبيرات. أعرف، بطريقة ما، أنه المدعي العام.

تجول عيناي على الصفوف الأمامية. تستقران على محامي الدفاع بثيابه الرسمية تزيِّنها الشارة الأنيقة. أتلمس بزتي المتواضعة. لا أعثر على الشارة!

تهوي المطرقة على رأسي معلنةً بدء الجلسة. يتحرك المدعي العام وراء منصته. وفي لمحة، تنتصب كتلتُه الضخمة أمام ناظري، ويطرق صوتُه الحاد مسمعي كالطبل:

-       سيدي القاضي... ألا ترون إلى الذي يقف في القفص أمامكم كيف أساء إلى مهنة شريفة محترمة، متخذًا طريق النصب والاحتيال شريعةً في حياته، محطمًا بذلك أعرق القيم الأخلاقية والمهنية؟

تغزو جسمي الضئيل قشعريرة. أنا... نصاب، ومحتال، وفاجر! ترمقني عيون الرفاق. تبدو غرفةُ السجن أمام ناظريَّ مغطاةً بسحابة رمادية. تشدني النظراتُ إلى داخلها. تتغلغل الهمساتُ داخل أذني. تعلو شيئًا فشيئًا. تصير كلماتٍ واضحة: "أهلاً بالقادم الجديد! بالله عليك، ما هي تهمتك؟" تنطلق الأسئلة تغتال صمتَ الغرفة وبرودتَها. "سياسي؟ مجرم؟ فارٌّ من الخدمة؟" أتهالك على الإسمنت البارد. تنطلق الأصوات من الحناجر المبحوحة. "هل تعرف ما هي تهمتي يا أخ؟ اعتقلوني منذ أسابيع بتهمة الإلحاد!" تصلني قهقهتُه مشبعةً بالألم، بينما تمتد اليد الفتية إلى جيب السترة لتُخرِج منها "كتاب الله"!

يرتفع بصري ليثبت على الوجه الملتحي. أمدُّ يدي. أجذبه إلى جانبي. يقع على الأرض. يرتفع صوتُ ضحكنا، بينما تسقط من عيوننا دموعٌ نحاول مَسْحَها بأطراف السترة.

يندهني صوتٌ قريب. أرفع رأسي. يستقر بصري على الوجه المرضوض. تمتد اليد لتكشف عن الصدر والظهر والساقين.

-       لا تتعجب! الرضوض تغزو وجهي وجسمي. الغريب في القصة أني حتى الآن لا أعرف ما القصة! اعتقلوني منذ أيام وقاموا بواجبهم نحوي وهم صامتون. وبعد أن سألوني في اليوم الرابع عن اسمي ومهنتي جرُّوني في أصفادي إلى سيادة النقيب. اقترب أحدهم منه وهمس في أذنه شيئًا ما. علا ضحكُه صاخبًا وصاح بأعلى صوته: "حتى ولو كان في الأمر خطأ ما! هل يظن الأخ أن الخروج من الحمام مثل دخوله؟!" وهكذا دخلتُ الحمام ولا أعلم متى سأخرج. أما لماذا فعلمُه عند ربك!

تعاودني جملةُ المدعي العام: "محطِّمًا أعرق القيم الأخلاقية والمهنية"! تزداد الرجفة في جسمي. أغدو كوتر مشدود. يغيم المشهد أمام ناظري. أُنعِم النظر أمامي محاولاً أن أتميز شيئًا ما. يصطدم نظري بالوجوه الكالحة. أدقق أكثر. تطالعني النظاراتُ على العيون المرسومة. أراها بعدسات سميكة! أنقِّل نظري بين الوجوه بينما يستعد المحامي لبدء مرافعته. المحامي أيضًا يضع نظارةً سميكة العدستين! تجول عيناي على الحشد الحاضر. لا أرى من الوجوه إلا العيون بنظاراتها السميكة! تعتريني الدهشة والاضطراب. تتحول النظارات فجأة إلى ثعابين تلاحقني مادةً ألسنتَها يختبئ فيها السم. أحاول الهرب. أصطدم بقضبان القفص. أمد يدي عن غير وعي مني. أفتح باب القفص. أخرج مذعورًا. أرى نفسي أمام المنصة، في موقع المحامي تمامًا. أقف بقامة منتصبة فارَقَها الخوفُ دفعةً واحدة. يداي خاويتان من كلِّ شيء. أمد اليمنى بحركة مسرحية. تمتد أمامي، طويلةً طويلة، تكاد أن تلامس ذقن القاضي الكبير.

تموج القاعة وتصطخب. يعلو الهدير. ينتفخ صدري. يتورم. يتورم جسمي كله. يصير منطادًا محشوًا بغاز خفيف الوزن. أرتفع... أرتفع... أجوب فضاء القاعة. أحط على الوجوه وجهًا وجهًا. أحاول جاهدًا نزع النظارات عن العيون المخبوءة. لا أستطيع! أرى فجأة خيطًا واهيًا من الدخان يصلني بي، أنا الواقف أمام المنصة. أهبط في النقطة التي ارتفعتُ منها. ينطلق صوتي جهوريًّا يقرع الآذان:

-       حضرة القاضي العادل. هلاَّ نظرتَ إلى موكِّلي القابع في قفص الاتهام بعين بصيرة؟

أُنعِم النظر إلى وجهه، بينما كلماتي تقرع أذنيه. تضيع مني عيناه. أين عيناه؟! يصطدم بصري بشعاع منعكس من زجاج النظارة، ثم ينكسر حتى يلامس الأرض.

-       أقصد يا سيدي: هلاَّ نظرتَ إلى موكِّلي بعينين مكشوفتين؟!

تهتز القاعة مع ارتفاع أصوات اللفظ والاستنكار. تنطلق الأسئلة من الصدور تحملها الشفاه لتنهمر على الفضاء المسوَّر كالسهام: "مَن هذا المارق؟!" لا أبالي. ينسرق نظري إلى قفص الاتهام. أرى نفسي مهزومًا بين جموع رفاق السجن، وكلٌّ يضع يدَه على كتفي ويحملق في وجهي راجيًا مستغيثًا. يدفعني شيءٌ خفي إلى البقاء أمام المنصة.

-       أقصد، يا سيادة القاضي، لو تعطفتَ ونزعتَ نظارتَك السميكة لتنظر إلى وجه موكِّلي الضعيف. فربما ساعدَك ذلك على فهم حالته الحقيقية.

يبعدني المحامي عن تخوم دائرته. يصلني صوتُه لائمًا معاتبًا. لا أعيره التفاتًا.

-       موكِّلي، يا سيدي القاضي، لم يرتكب في حياته كلِّها جرمًا واحدًا. فهو منذ طفولته لا يعرف له ديدنًا سوى الدرس والتعلُّم وتلبية نداءات أسرته الكثيرة العدد. دون أية شكوى أو ضجيج، استطاع أن يرفع في نهاية الطريق صحيفةً بيضاء عليها توقيع حسن سيرة وسلوك بخط معاليك، يا سيدي. ألا تذكر، يا سيادة القاضي، تلميذك النجيب الهادئ، يجلس أمامك في قاعة المحاضرات، يتلقف من فمك كلَّ حرف تنطق به وكأنه كتاب مُنزَل؟ لقد علَّمتَه، يا سيدي، معنى العدالة والحق والخير، ثم قذفتَ به إلى الشارع. فغصَّ به الشارعُ على امتلائه. حاول أن يصرف القيم التي درسها في مدرستك عملاً صالحًا. لكن ما من يد امتدت لمساعدته! وهكذا عرف الوحدة والتشرد والضياع. وهكذا باع ما يملك من أجل كسرة خبز جافة. كان نداء المعدة لا يرحم!

وماذا فعل أخيرًا؟ وأي جرم ارتكب حتى يُدان، سوى أنه وقف في بهو بيت العدالة يسترضي فلانًا وفلانة من الناس كي يسيِّر لهم أمورَهم، راضيًا منهم بورقة نقدية يقذفونها في وجهه المهزوم؟ صحيح أنه تعوَّد أن يضع دائمًا الشارة المحترمة على سترته المهترئة. لكن هذا ليس عيبًا، وليس خطأً يحاسَب عليه هذا الحسابَ كلَّه!

يضغط المحامي على ساعدي، ويمسك بيدي محاولاً إعادتي إلى القفص مرة أخرى. أنتزع يدي من بين يديه بحركة عنيفة. أتابع:

-       الكلمة، يا سيدي... لقد عودتَني أن أحترم الكلمة، لأنها الجمرة التي تحرك السواكن، وتُضرِم النار في النفوس الميتة. فلِمَ سحقتْني الأقدامُ وأنا أرفع الكلمة شعارًا لدربي الطويل؟! هل يجب أن يكون الضحايا دائمًا من البسطاء؟! إذن أين هي العدالة، يا سيدي؟! وهل ستبقى تمثالاً تزيَّن به الدورُ والمنشآت، وتغفله النفوسُ في كلِّ زمن؟!

يصلني صوتُ المحامي خفيًّا، معلنًا تنحِّيه عن القضية. تغمرني الفرحة!

-       لقد رفضتْني دوائرُك، يا سيدي، وممالكُك، ومحافلُ قضائك... لا لشيء إلا لأني أحببت أن أتنشق الهواء نقيًّا، وأستدفئ بالشمس ساطعة. فلماذا تضيِّقون عليَّ في حق العيش؟! أنا لا أؤذي الناس. أنا أساعدهم... وأقنع من عطاياهم بالرغيف. لكني في كلِّ يوم أكتشف، يا سيدي، كم نحن عبيد الشرانق في داخلنا، وكم نحن عبيد الشعارات التي نجعل منها جثثًا محنطة تسوس حياتنا عن وعي منَّا أو إرادة.

نحن محكومون، يا سيدي. النظارات التي نضعها على عيوننا تحكُمُنا وتشد الخناق على صدورنا حتى نكاد لا نتنفس. النظارات لا ترينا من العدالة إلا شعارها فقط. وأنا أكره الشعارات منذ أن قذفتْني الحياةُ من رحم الكتاب، وأرضعني الشارعُ حليبَه المر.

أحسُّ بجسمي ينتفض كعصفور مقرور، وبلسع سياط تنهبه. ألتفت برأسي. تقع عيناي على أذرع ممدودة تجلدني. أقع أرضًا. تحوطني الهياكل. تمد أيديها. ترفعني، ثم تثبِّتني في نقطة من الأرض تروح تميد تحتي. تضع أمام عيني نظارةً بعدستين سميكتين. أمد يديَّ المرتعشتين. أنزعها بقوة. أنظر في اتجاه القفص. تندهني عيونُ رفاق السجن، تستحلفني أن أقاوم. يصدم سمعي صوتُ القاضي يُصدِرُ حكمَه:

-       يُطرَد المتهمُ المذنبُ من النقابة الشريفة، ويجرَّد من الشارة.

يهدأ انفعالي. تغزوني راحةٌ عجيبة. يكف جسمي عن الانتفاض. أرنو إلى باب القاعة. أعدو في اتجاهه. ينفتح أمامي. تلاحقني الصيحاتُ وهمهمات الاستنكار. ألتفت إلى الوراء. لا أرى إلا القاضي والمدعي العام بعيون مكشوفة! أقفز إلى الشارع. يستوقفني منظر يديَّ المضمومتين على نظارة. تسقط مني النظارة فجأة، فتدوسها قدماي.

أصيح بأعلى صوتي، فتردد معي أصواتٌ أسمعها وحدي: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!"

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود