الفلسفةُ ليست من طَبْع العَرَب

إذا دخلت القوميةُ في الفلسفة قلبتْها رأسًا على عقب!

 

لقاء مع كامل مصطفى الشيبي

 

حين نحصي رجال الفلسفة العرب اليوم، يأتي اسمُ [العراقي] كامل الشيبي في طلائع هذه الأسماء التي عملت بجِدٍّ وإخلاص على أن تتبوأ الفلسفةُ العربية الإسلامية مكانتَها في حاضر الفكر العربي. وقد ألَّف في الفلسفة، كما ألَّف وحقَّق في الأدب الذي يقترب منها، ما يُعَدُّ اليوم علاماتٍ دالةًّ وبارزة في الثقافة العربية.

هنا، في هذا الحديث، توقف عند أسئلتنا. وتوقفنا أمام إجاباته في رحلة بحث معه عن البدايات الأولى والتكوينات التي قادتْه إلى ما كرَّس نفسه له من اهتمام. تابعنا معه درسَه الفلسفي، ودلَّنا على أكثر من مسار له على هذا الطريق: طريق الفلسفة.

أموري الرماحي

***

 

أموري الرماحي: لنتواصل مع البداية... فأسأل عن بداية اهتمامك بالفلسفة الإسلامية: من أين نبع؟ وما الباعث عليه؟

كامل مصطفى الشيبي: حتى الأربعينات من القرن الماضي، لم نكن في بلادنا نعلم شيئًا عن الفلسفة أو معناها أو فروعها أو أهدافها. فلما نلتُ بعثةً في اللغة العربية إلى مصر والتحقت بكلِّية الآداب في الإسكندرية، وجدت أن الدراسة في الصف الأول منها كانت تنبعث من اختيار الطالب للمواد التي يحب دراستها؛ وفوجئت بوجود مادتَي الفلسفة والاجتماع ضمن المواد الثلاث والعشرين التي يختار منها الطالبُ لدراسته. وجعلت أتساءل وأستشير، فنُصِحَ لي أن أجرب دراسة هاتين المادتين ضمن المواد الخمس المطلوبة.

وكان من حظِّي أن الأساتذة الذين كانوا يدرِّسونها كانوا من فطاحل العلماء، كالمرحوم الأستاذ الكبير يوسف كرم، والدكتور توفيق الطويل، والدكتور ثابت الفندي، والدكتور سيد أحمد البدوي. فشعرت بالسعادة الغامرة بالتلقِّي عنهم، فقررت أن أستمر في متابعة هاتين المادتين. وكان هذا أول عهدي بالفلسفة – وقد لازمتُه حتى الساعة. أما الفلسفة الإسلامية، فقد جاءت في مرحلة ثانية بعد التعلق بعمومية الفلسفة.

أ.ر.: وحين اهتممتَ بالفلسفة الإسلامية، عمَّ كنتَ تبحث فيها؟

ك.م.ش.: بدأ اهتمامي بالفلسفة الإسلامية بعد دراستي لها في السنة الثانية على يد د. علي سامي النشار، الذي صار صديقي فيما بعد. وكنَّا نتلقى منه علم الكلام الذي يدرس الركائز المنطقية والفلسفية للأسُس العقلية في الفكر الإسلامي. ويُعَد علم الكلام بمثابة الأساس الراسخ في الفلسفة الإسلامية. وكان علم الكلام مبعثَ دهشة وشوق إلى استكناه تفاصيل الدين الإسلامي، كظاهرة عقلية ومنطقية نتج عنها ظهورُ الفِرَق الكلامية المشهورة، ومن أعظمها الاعتزال.

أ.ر.: وماذا وجدت؟ وإلامَ توصلت؟

ك.م.ش.: وجدت في أثناء دراستي هذه أنها موضوع تفرَّعتْ عنه موضوعات أخرى هي: علم الكلام، والتصوف، وأصول الفقه، والفلسفة البحتة (المستقاة من الفلسفة اليونانية). واكتشفت أن هذه الموضوعات الأربعة متصارعة، متنافسة، متعادية، بحيث يعجز الإنسان عن جَمْعها في نفسه وعقله، ولا بدَّ له من الاختيار؛ وهو شيء سلبي، ليس فيه إيجابية إلا في الحياد الذي ينبعث من محاولة الاطلاع فقط، لا الاعتقاد.

أ.ر.: دَرَسْتَ الفلسفة، ودرَّستَها. فماذا أخذت عن أساتذتك؟ وماذا أعطيت لطلابك؟ وعند مَنْ مِنْ أساتذتك توقفتَ مدة أطول؟

ك.م.ش.: الحقيقة أنني سعيد جدًّا بموروث أساتذتي فيَّ، وباعترافي بأنهم، على تنوُّعهم، زرعوا فيَّ كثيرًا من أخلاقهم ومناهجهم. فقد كان الأستاذ يوسف كرم دقيقًا في التعبير والتحديد، إلى درجة "لا تُرى بالعين المجردة"، كما يقال في العلوم الدقيقة؛ وكان د. توفيق الطويل تلقائيًّا وواضحًا ومحببًا إلى النفوس، وعالمًا خطيبًا إلى درجة يصعب أن تُنسى؛ وكان الدكتور أبو العلا عفيفي دقيقًا في التعبير وفي الترجمة، فقيهًا في اللغتين العربية والإنكليزية، متعمقًا فيهما تعمقًا عصريًّا مثاليًّا يدعو إلى التعلم والمتابعة؛ وكان د. علي سامي النشار أبًا روحيًّا وصديقًا حميمًا، يقدِّر طلبتَه النجباء ويحبهم، بل ويأخذ عنهم في كثير من الأحيان.

هذه المؤهلات العلمية كلها رسخت في أعماقي، وحاولت أن أتَّبعها وأفيد منها وأجعلها ديدنًا لي في حياتي الأكاديمية وصلاتي بطلبتي، الذين أعد كلَّ واحد منهم ولدًا روحيًّا عزيزًا لا أتخلَّى عنه أبدًا.

الآفة الكبرى!

أ.ر.: كيف تجد حال الدرس الفلسفي في الجامعات الغربية اليوم؟

ك.م.ش.: تتَّجه الدراسات الفلسفية الغربية الآن في اتجاه الواقع الذي يعيشه الغربيون، فتركِّز على الرياضيات والمنطق الرياضي. وقد تتجه إلى الوجودية التي تعني حرية الإنسان المطلقة (وهو الداء الذي تشكو منه الآن). وتتجه أيضًا إلى المثالية التي ترعاها الجامعات الألمانية، وإلى حقوق الإنسان التي ترعاها أوروبا الشمالية. وهذا كله يشكل تنويعًا كثيرًا وتوجهًا متنوعًا، قد يتوحد وقد يتفرق. ولا خير في ذلك إذا لم ينعكس من توجهات المجتمع نفسه.

أ.ر.: وماذا عن وضع الفلسفة في الحياة الثقافية العربية؟ ولماذا لا يهتم العرب اهتمامًا كبيرًا بالفلسفة؟

ك.م.ش.: ينبغي أن نكون صرحاء في أن الفلسفة ليست من طبع العرب، لأنها تحتاج إلى تعمُّق ومتابعة وممارسة مبالَغ فيها للحرية الفكرية؛ وهو أمر يعسر في مجتمعنا العربي. ويبقى الاهتمام بالفلسفة عند العرب منحصرًا في دراستها وتدريسها من كتاب إلى آخر، دون أن تدخل في أعماق الإنسان العربي – مع أن عبد الرحمن بدوي اشتهر بالوجودية، وغيره بالوضعية المنطقية، وغيره بالأشياء الأخرى التي لا تُغني ولا تسمن. والآفة الكبرى هي شحُّ الحرية وضيق مجالها!

أ.ر.: لو طُلِبَ إليك أن تكتب تاريخ الفلسفة العربية، فعلى أيِّ نحو ستكتب؟

ك.م.ش.: قبل كلِّ شيء، ينبغي أن نعترف بأن "الفلسفة العربية" مصطلح ناقص في التعبير عن حقيقتها، لأن الأساس فيها الإسلام والمسلمون. وإذا دخلت فكرة القومية فيها فإنها تنقلب رأسًا على عقب، لأنه عندئذٍ ينبغي أن يُنطلَق فيها من منطلق جديد يبتعد عن منابعها الأساسية. فلهذه الفكرة رجالُها المعاصرون – ولست منهم؛ كما أني لست من أصحاب المنطلق الديني البحت.

أ.ر.: وما الفلسفة؟

ك.م.ش.: الفلسفة: التعمق في الأشياء الأساسية في حياة الإنسان وفيما يحيط به في أرضِهِ وكوْنِهِ. وقد ذكر القدماء أنها تتلخص في الجواب على السؤال: "لماذا؟" – أي ملاحظة المبادئ ومحاولة تعليلها. وقد قسَّمَ القدماءُ مباحثَها إلى الوجود وما وراء الوجود، والعلم وكيفية التعلم، والمنطق وفلسفة العلوم، وما إلى ذلك من موضوعات تبحث عن التعليل والتواصل بين المعارف المختلفة.

أ.ر.: ومَن هو "الفيلسوف"، في رأيك؟

ك.م.ش.: الفيلسوف هو الإنسان الفضولي المثقف الحر، الذي يتعمق في فهم القوانين الكبرى التي تحكم العالم، فيبحث عن منفذ جديد لتسهيل حياة الإنسان وتقوية الوشائج التي تقرِّب المجتمعات البشرية بعضها من بعضها الآخر، وذلك في إيجابية وحسب وحسن نية مطلقة.

أ.ر.: بهذا المعيار، هل لدينا اليوم "فلاسفة"؟

ك.م.ش.: لا، ليس لدينا فلاسفة... ليس لدينا فلاسفة حقيقيون للأسباب السابقة؛ ولكن لدينا باحثون في أشياء تحاول أن تخفف من المصاعب والشقاء اللذين يحياهما الإنسان العربي في الوقت الحاضر.

أ.ر.: وكتابك الصلة بين التصوف والتشيع؟

ك.م.ش.: كتابي هذا، في جزأيه، يتمثل في إشباع الفضول عند الباحث في موضوعات لم تُبحَث سابقًا، وذلك للدخول في أشياء "عويصة" متشابكة، ظنَّها المثقفون وقتذاك أشبه بالبحث عن "بيضة الديك"! ونحمد الله على تغيُّر هذه الفكرة بعد مضي نحو أربعين سنة على صدور الكتاب الذي جرَّأ بعض الباحثين على سلوك هذه الطريق ذات الشجون المعقدة![1]

أ.ر.: وآخر كتبك؟

ك.م.ش.: آخر كتبي الصادرة هو صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي، الصادر في بيروت في العام 1997. وقد أفرغت فيه تجاربي التدريسية في هذا الموضوع طوال خمس وثلاثين سنة. ولي كتاب – لعلَّه صدر الآن في بيروت – بعنوان ديوان السهروردي المقتول[2]، وكتاب ثالث سوف يصدر قريبًا في بغداد عن دار الشؤون الثقافية بعنوان أصداء وملامح عربية وإسلامية في رواية دون كيخوتي لثربانتس.

*** *** ***

قابَلَه في بغداد: أموري الرماحي

عن السفير، 30/07/2003


 

[1] مازال هذا الكتاب هو المرجع الرئيسي عالميًّا في الموضوع، لم يتم تجاوُزه حتى الآن! (المحرِّر)

[2] جدير بالذكر أن د. كامل الشيبي هو صاحب أول تحقيق جدي، مقرون بشرح متماسك، لديوان الحسين بن منصور الحلاج بعد تحقيق لويس ماسينيون وترجمته الفرنسية (المجلة الآسيوية، 1931)؛ وقد صنَّفه إلى أشعار الحلاج والأشعار المنسوبة إليه، مخالفًا ماسينيون في بعض ما توصَّل إليه. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود