الثَّقافة الشركسيَّة

بين الخصوصيَّة والعالميَّة

پريهان قُمُق[1]

 

ثمَّة عبارة تمرُّ مرورًا عَرَضيًّا في أحد المواقع الشركسية على الإنترنت[2] تقول:

ستكون شركسيًّا فقط في بلاد القفقاس

صدمتْني العبارة! وفي رأيي أنها بُعدٌ مأساوي يضيفه هذه المرة الأهلُ بأنفسهم – دون قصد منهم – لمأساة الشعب الشركسي في الشتات، عِبْر منطق الإقصاء هذا، في عدم الاعتراف بأهلية الانتماء للشراكسة ثقافيًّا، عِبْر ذاكرة جمعية متوارَثة على غاية من الأهمية تمتَّع بها المهاجرون طوال عقود طويلة. لكأن شراكسة الشتات ما كان ينقصهم من رحلات التيه والعذاب والمعاناة سوى مثل هذا الإقصاء!

لست في الوطن الأم الآن. وقد لا أصل إليه. فقد راحت عني غيمات كثيرات – لم أمتلك خيارها. ولكن مثل هذا الإقصاء الذي يستقبل به الموقعُ زوَّارَه يدفعني إلى حواف الألم بكلِّ عصارة قلب الحياة، عند تتبُّع تلك الخلايا السابحة في الشريان ولحظات تفتُّحها كزهرة لوتس عند الإصغاء إلى تراتيل الآلهة المنسابة نوتاتٍ موسيقيةً عالقةً في برزخ الروح. فنستعيد – نحن مَن في الشتات – ذاكرةً نديةً بكلِّ ألق حكايات هؤلاء الذين باتوا غبارًا مضيئًا في الطبيعة اليوم، لكنهم، بما تمتعوا به من سمات وقيم في غاية السمو الإنساني، تمكَّنوا من التغلغل في ثقافات الأمم الأخرى، كالإغريق مثلاً أو سكان بلاد الرافدين، ولكن بتسميات أخرى، وإنْ كانت بالروح ذاتها، في بدئها الطُّهْري النوراني الأول.

لا بأس! فسواء تم الاعتراف بـ"شركسية" مَن في الشتات أم لم يتم، فثمة جيناتٌ في خارطتها، العابقة بذاكرة يشقِّقها الرعدُ وأنينُ الأمهات، تستعيد، عِبْر وعيها وذاكرتها الجمعية، جبال الماضي والسهام الثلاثة المؤمنة بالقدر وتصاريفه، حسب رحلات كونية تتوالى، بالإضافة إلى نجمات الكون المكثفة، في اثنتي عشرة نجمة محمَّلة بأسرار الحياة.

أرقام الخلق وأسرار التكوين مخبوءة في جرار ستناي[3] وإنانا[4]. فمن ذا الذي سيفرق بين العظام ولهاث الوحشة؟!

سرب من الفراشات يعلو أنينَ امرأة تفكِّك الشمس بكفَّيها كلَّ مساء أجزاءَ صغيرةً ترشُّها في الصندوق الخشبي المطعَّم بدبابيس فضية قفقاسية سحرية، مرددةً أغنيات الليل العاصف في دم الهجرة القسرية، إذ رَمَتْ فراخَها الذين أصيبوا بالطاعون من على ظهر المركب العثماني الذي صادها كغيرها لرحلة التيه، واحدًا تلو الآخر، في بحر باتت مياهُه "سوداء" واسمُه "أسود" حتى اليوم. ماذا أقول لها؟ هل أنت، يا نينانج[5]، لست بشركسية؟!

***

إنانا أو النانا أو نينانج تمسِّد الصباحات والمساءات بابتهالات سكان قاع البحر...

وثمة صغيرة فضولية واقفة بالباب، تسترق النظر كي تحظى بسرِّ الصندوق الخشبي الموشَّى بفضة الليل العجيب. تنادي الجدةُ العجوزُ الصغيرةَ كي تقترب – تلك الصغيرة التي، حتى اللحظة، لم تبارح ذاكرتَها الدهشةُ من كلِّ هذه الأخاديد العجيبة المحفورة في وجه الجدة.

وما إن تقترب منها حتى تلتمع عينا العجوز المخبوءتان في عمق الجمجمة، فتضيء كلُّ الأجزاء والقطع الصغيرة في الصندوق. تعود كرةُ شمس مستديرةً بكفِّ العجوز، تمسِّد بها ضفيرةَ الصغيرة الفضولية منفلتةً للريح، وتهمس في حزم شركسي حنون: "لِمَ جديلتك مفكوكة، يا حانتسة جواشا[6]؟!"

فتستيقظ الغيمة ويهطل مطر تشرين...

تجتمع القبيلة على حكايات العجوز المشتبكة بأغصان البلوط وحبات الكستناء، ليغنوا مع الجدة التي تجيد العزف على الأكورديون. كالعادة، ترفض العزف بحجة الشيخوخة؛ ولكن سرعان ما تذعن للرجاءات، فتمسك الأكورديون بكلِّ الطاقات الكونية المعتملة فيها وبما تمتلكه من سلطة الأم الأولى، مستدعيةً كلَّ النارتيين[7] ليصطفوا أمام البيت الطيني القديم، كلاً يعانق جواده – كلهم / كلنا / أنا / أنت / نحن / هم – يبتهلون لـأرض النجوم السبعة[8]، لقديسة القديسات، الإنسانة الشفيفة – ستناي الجميلة، البعيدة، الحبيبة، الحلم، الساكنة في الصندوق السحري في أقصى الشمال هناك، البعيد القريب جدًّا في القفص الصدري، حيث أربع حجرات بحجم الكف، لكنْ في وسع الكون!

فتتيقن صاحبةُ الجديلة المفكوكة، اللاهثة في الريح، أن النارتيين دخلوا بجيادهم المجنَّحة صندوق الجدة وباتوا، عن طيب خاطر وبكلِّ محبة، أجزاء شمس متناهية في الصغر تبحر مضيئة في الشريان، يشتعلون ويشعلون سلالم الآلهة نجماتٍ تضيء وحشة الاغتراب والموت المجاني والأحزان القفقاسية كلَّها، كلما أصغى القلب إلى موسيقاهم هذه.

***

اليوم، ونحن نعيش القرن الحادي والعشرين، الذي يتسم في وضوح شديد بتجاوُزه قيود الزمكان وبانهيار الحدود الجغرافية بين دول العالم، وفي ظلِّ هيمنة المفاهيم الاقتصادية عِبْر نُظُم ونظريات تعدَّت تمامًا الحدود والمكان ومفاهيم الدولة القطرية، يصير الوطن الأم، بالتالي، قادرًا، أكثر من أيِّ وقت مضى، على احتواء شراكسة العالم كلَّهم، أينما كانوا، بوعي ومنطق جديدين، عِبْر ثقافة تتكئ على الرموز العظيمة التي يمتلكها وعيُنا للأجداد العظام، كـالنارتيين، الذين مازالوا في صناديق الشراكسة كلِّها شموسًا مضيئة، سواء كانوا في الوطن الأم أم في الشتات، حيث نتساوى في هذا الولع بهم ونتسامق.

اليوم، لم يعد من المبرَّر أبدًا ترديدُ عبارات الشعور بالذنب لانهيارهم أو لأنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بحديقة آلهة السماء، وباتوا – أي الشراكسة المهاجرين – خارج مساحاته الضوئية. بل لقد باتت من الأهمية بمكان الاستفادةُ من متغيرات العصر التي وضعتْنا اليوم في مواجهة جملة حقائق يمكن تطويعها لصالح الإثنيات والعرقيات المتعددة، بغية إثراء الثقافة والتنوع الحضاري الإنساني، عِبْر حضور شركسي فاعل، على الرغم من التخوفات التي تشيع عكس ذلك.

فمثلاً، من الضروري اليوم إجراء دراسات واعية معمَّقة لـ"حديقة السماء" من منظور ما بعد حداثي، ودراسة الإرث الأسطوري والثقافي في وعي شديد ودقيق الاختصاص للحفاظ عليه، ولكشف المزيد من أسراره الجمالية ومحمولاته المعرفية ودلالاته القيمية الإنسانية، لنشرها بين الأوساط الثقافية عالميًّا، مستفيدين من تعدد الأمكنة الجغرافية للحضور الشركسي، ومستفيدين أيضًا من أصوات ومطالب الشعوب الأخرى التي تُشاركنا همَّ الخوف من الامِّحاء أو التهميش، وذلك عِبْر أكبر هيئة ثقافية رسمية في العالم (اليونسكو)، تشديدًا على أهمية الحفاظ على التعدد والتنوع الثقافي الحي، بل وإيقاظ النائم منه لمواجهة ثقافة أحادية توغَّلت وتغوَّلت بما تمتلكه من وسائل اتصال حديثة وبإمساكها زمام مفاتيح القوة الاقتصادية، ضاربةً ثقافات الأمم والشعوب كلَّها بهدف حماية مصالحها الخاصة، مكرِّسة ثقافتها لخدمة أهدافها.

فلكي لا تذوب هذه الثقافات الإثنية، بما في ذلك ثقافة الشراكسة والقفقاسيين عمومًا، وتُمَّحى تمامًا من خارطة التنوع الثقافي العالمي، ولكي لا يصير الوطن الأم مجرد "ملحقية" توجد في كتابات متفرقة، دعونا نقفز من مقولات "الشركسي لا يكون شركسيًّا إلا في الوطن الأم" إلى ما هو مُجْدٍ ومؤثر وفاعل، عِبْر الاستفادة من تنوع الميديا الحديثة وتوظيفها للتقريب بين شراكسة العالم وللذهاب إلى العالمية قُدُمًا وبفاعلية.

فنحن نلحظ أن التقاليد المطبَّقة بحذافيرها – الأديغة خابزة – المتوارَثة شفاهيًّا عِبْر قرون طويلة من الزمن، لا تمجِّد الإنسان كفرد في حدِّ ذاته، بل تنظر إلى قيمة ما يتركه من إبداع وأثر. وهذا جوهر الإنسانية في حضاراتها المتعاقبة، القادرة على الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي. وبالتالي، فإن ما نسمِّيه "ضعفًا"، مثل التبعثر الشركسي اليوم، سيكون من أقوى وسائل العالمية، بالرغبة الحق في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنها طريق الأنا للتعامل مع الآخر بوصفه "أنا ثانية" – طريقها إلى جعل أنا ملموسة معروفةً ومهمَّة للثانية.

هي الفرصة، إذن، لشراكسة الداخل (في الوطن الأم) والخارج (في الشتات) لتقديم ثقافة شركسية غنية، عالمية الحضور، عوضًا عن أن تكون فقط للداخل، في الوطن الأم، لا يعرفها غير المختصين والشراكسة في الخارج الذين هم في تناقص عدديٍّ لا يستهان به قياسًا إلى أعداد سكان الشعوب الأخرى.

وبذلك يكون لـ"أرض النجوم" معنى واعتبار، وكذلك لشعبها الذي تسبح في شرايينه خلايا أول بشر في القارة الأوروبية، ممَّن وقفوا بقامتهم يطاولون قمم الجبال البيضاء، النقية كأرواحهم تمامًا. وبذلك ستشرق آلاف الشموس من صناديق الجدات الخشبية، ليسقط رذاذ مطر مضيء بروح ستناي، الأرض الجميلة، ليس فقط لِمَن هم في الوطن، بل أيضًا لِمَن هم مثلنا، بعيدين جغرافيًّا، ولكن ذاكرتهم مازالت نديةً للغاية، فنردِّد مع الشاعر الشركسي الكبير غوبجوقة ليوان:

إن أمجاد أولئك الذين قاتلوا من أجل ضوء الحياة

ستزيِّن بيارق مستقبلي إلى الأبد.

***

و"المستقبل" ليس الأنا الشركسية، بل "الأنا والأنا" في "نحن" الدافئة، وما قدَّمناه للثقافة الإنسانية ولكلِّ مَن يشاركوننا الهواء على الكرة الأرضية ويتقاسمون معنا ضوء الحياة.

أستذكر هنا مقولةً للشاعر الداغستاني القفقاسي العظيم رسول حمزاتوف:

عندما يسألونك مَن أنت، تستطيع أن تُبرِز وثيقة، أو جواز سفر، يحتوي على المعلومات الأساسية. أما إذا سألوا شعبًا مَن أنت، فإنه سيقدم علماءه، كتَّابه، فنَّانيه، موسيقييه، رجالاته، كوثائق.

فماذا صنعنا، كشراكسة، في الداخل والخارج، للإجابة عن سؤال كهذا؟!

وللحديث كثير من بقية...

*** *** ***


 

[1] كاتبة وإعلامية.

[3] ستناي: المرأة الجميلة، رمز الوطن والأرض لدى الشراكسة.

[4] إنانا: الأم الكبرى ورمز الحكمة.

[5] نينانج: الأم الكبرى، الجدة تحديدًا.

[6] حانتسة جواشا: إلهة المطر ورمز المحبة؛ استحالت بسبب قوى الشر دميةً خشبية.

[7] النارتيون: مقاتلون أشداء وسارقو المعرفة من السماء.

[8] أرض النجوم السبعة: بلاد القفقاس، كما يسمِّيها أهلُها.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود