لمحات عن الرواية الشطَّارية

(الپيكارِسْكية)

جميل حمداوي[1]

 

أ. الدلالات اللغويَّة والاصطلاحيَّة

لم تظهر لفظة "پيكارسكا" picaresca باعتبارها لفظةً إسبانيةً إلا في نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر، قبيل ظهور "الرواية الشطَّارية" الأولى في الأدب الإسباني، المنسوبة إلى روائي مجهول، ألا وهي: حياة لاثاريو دي تورمِس وحظوظه ومحنه[2]. وتدل هذه اللفظة على جنس أدبي جديد تشكَّل في إسبانيا لأول مرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وألمانيا وإنكلترا وأمريكا. وتشير هذه الرواية إلى ذلك المتن السردي الذي يرصد حياة الپيكارو أو "الشطَّاري" المهمَّش؛ ولذلك تُنسَبُ إلى بطلها "الپيكارو" picaro ("الشاطر" أو "المغامر") الذي يقول عنه قاموس الأكاديمية الإسبانية: "نموذج شخصية خالعة وحذرة وشيطانية وهزلية، تحيا حياةً غير هنيئة كما تبدو في عيون المؤلَّفات الأدبية الإسبانية"؛ أو هو: "بطل مغامر شطَّاري مهمَّش صعلوك محتال ومتسول."[3] وتعتقد الأكاديمية الإسبانية أن لفظة picaro مشتقة من فعل picar في معناه الشعبي المجازي، وهو الارتحال والصيد واللَّسع. وتشير صفة picaresque في اللغة الفرنسية إلى الأعمال التي تصف الفقراء والمعوزين والمعدمين والصعالكة والمتسولين والأنذال أو إلى قيم المتشردين والمحتالين واللصوص في القرون الوسطى.

و"الپيكارو"، باعتباره بطل الرواية الپيكارسكية، ليس بمقترف جرائم في معنى الجرائم الحقيقي، ولكنه ينتمي إلى طائفة المتسولين، لا يبالي كثيرًا بالقيم وبمسائل الأخلاق مادام الواقع الذي يعيش فيه منحطًّا وزائفًا في قيمه، يسوده النفاقُ والظلم والاستبداد والاحتيال، حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء ومدَّعي الإيمان والكرم والثراء. وما همُّ الپيكارو سوى البحث عن لقمة الخبز ورزق العيش؛ لذا فهو في حياته مزدوج الشخصية: جاد في أقواله ونصائحه ومعتقداته، ذكي يتكلم بالنصائح ويتفوه بإيمان العقيدة، لكنه، في الوقت نفسه، يسخر من قيم المجتمع وعاداته وأعرافه المبنية على النفاق والهراء. ويأنف الپيكارو من اتخاذ عمل منتظم لكسب رزقه، بل يتسكع في الشوارع ويتصعلك صعلكةً بوهيميةً وجوديةً وعبثية، يقتنص فرص الاحتيال والحب والغرام، منتقلاً من شغل إلى آخر كصعلوك مدقع يرفضه القانونُ وسنَّة الحياة والعمل، يفضِّل الارتحال والكسل والبطالة؛ وعلى الرغم من هذا كلِّه، يحصل على المال لا باغتصابه، بل بالذكاء والحيل والمراوغة واستعمال المقدرة اللغوية وفصاحة اللسان وبلاغة البيان والأدب؛ وبذلك يجعل الناس يُقبِلون عليه بسلوكياته ومواقفه ويرغبون في مصاحبته ومعاشرته إشفاقًا عليه وعطفًا واستطرافًا[4].

وتعتبر النصوص "الپيكارسك" بمثابة قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع؛ أي أنها قصص مغامرات الشطَّار ومحنهم ومخاطراتهم. لذا غالبًا ما تُكتَب في صياغة "سِيَرية ذاتية" autobiographique روائية واقعية، سواء بضمير المتكلم أو بضمير الغائب. لذا تُسمَّى أيضًا بالرواية "الأوتوبيوغرافية الپيكارِسْكية" التي تؤكد مدى اعتماد الرواية على تصوير البُعد الذاتي وتجسيد تقاطُعه مع البُعد الموضوعي. وتتخذ هذه الرواية صيغةً هجائيةً نقدية لأعراف المجتمع وقيمه الزائفة المنحطة، فاضحةً إياها فضحًا تهكميًّا ساخرًا، منددةً بالاستبداد والظلم والفقر. كما تتغنَّى الرواية الپيكارسكية، باعتبارها رواية شعبية، بالفقراء والكادحين والمهمَّشين الذين صودرت حقوقُهم وممتلكاتُهم وحرياتُهم، فباتوا يعيشون على هامش التاريخ.

ولقد أُطلِِقَتْ على الرواية الپيكارسكية في الحقل العربي الحديث عدةُ مفاهيم ومصطلحات وتسميات: فهناك مَن يفضل الاحتفاظ بالمصطلح الغربي ("پيكارِسْك") نفسه لنجاعته ودقة دلالته الوضعية والاصطلاحية؛ وهناك مَن يختار مصطلح "الشطَّار"، كما هو الشأن لدى محمد شكري[5]، الروائي المغربي، ومحمد غنيمي هلال[6] وإسماعيل عثماني[7]؛ وهناك مَن يستعمل مصطلح "الرواية الاحتيالية"، كعلي الراعي[8]؛ وهناك مَن يطلق عليها "الأدب التشردي" أو "أدب الصعلكة" أو "أدب الكدية" أو "أدب المهمَّشين" les marginaux، كالأديب والباحث التونسي محمد طرشونة[9]. وفي اعتقادي أن مصطلح "الاحتيال"/"المحتال" لدى د. علي الراعي لا ينطبق دائمًا انطباقًا دقيقًا على شخصية هذه الرواية، لأن هناك مَن يتمسك في هذه الروايات الشطارية بالقيم الأصيلة ويتشبَّع بالمثل العليا والفضائل السامية، ولا علاقة له بعالم "الاحتيال" وملابساته الدنيئة. ويمكن أن ينطبق الاحتيال، باعتباره خاصية أدبية أخلاقية، على بعض الشخصيات في العصور الوسطى، ولكن لا يجوز تعميمُه على العصور والأجناس والقصص والروايات الأدبية جميعًا.

شخصيًّا، أفضل استعمال مصطلح "پيكارِسْك" picaresque بصيغته الأجنبية أو ترجمته بـ"أدب الشطَّار"، أو أدب المغامرات والمحن الجريئة والمخاطر البطولية، أو بـ"أدب الصعلكة" والتمرد على الواقع الرسمي السائد الذي تتفاوت فيه الطبقاتُ الاجتماعية تفاوتًا غير عادل ولا شرعي.

ب. مميزات الرواية الپيكارِسْكية

من خصائص الشكل الروائي الپيكارسكي ومرتكزاته وثيماته الأساسية:

1.        الرحلة، بمغامراتها ومفاجآتها العديدة؛

2.        صعلكة البطل وعطالته وتمرده على الواقع الرسمي والمؤسساتي؛

3.        مواجهة البطل لمجموعة من المحن والمكائد؛

4.        الطابع الأوتوبيوغرافي (السيرة الذاتية)؛

5.        التمرد والتشرد والاحتيال الشطَّاري؛

6.        المعاناة من التهميش والاغتراب والفقر والظلم والانطواء على النفس؛

7.        التهجين الأسلوبي وشعبية الملفوظ والتقاط اليومي المبتذل؛

8.        الأسْلَبة والپاروديا (المحاكاة الهزلية) والسخرية والضحك الماجن والمفارقة؛

9.        الواقعية النقدية في هجاء الواقع والناس واعتماد الثورية في تحدي أعراف الواقع ومواجهة قيمه المبتذلة؛

10.   الإباحية والاحتيال وجدلية الذاتي والموضوعي؛

11.   الصراع بين القيم الأصيلة والقيم المنحطة؛ و

12.   الانطلاق من فلسفة العبث والسأم والقلق الوجودي والضياع التشردي.

ج. الخيال الپيكارِسْكي (الشطاري) في الغرب

ازدهرت الرواية الشطارية أو الپيكارسكية في أوروبا الغربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وخاصة في إسبانيا، حيث يُعرَف القرن السادس عشر (القرن الذي ظهر فيه "الپيكارو") في إسبانيا بـ"العصر الذهبي" Siglo de Oro لأنه

[...] عرف نشاطًا واسعًا في الحقل الثقافي. أما على الصعيدين السياسي والاجتماعي، فإن الطبقتين الحاكمة والوسطى كانتا تتمتعان بعيش رغيد على حساب الطبقة الدنيا التي كانت تعاني من قساوة الحياة وقمع السلطة. وأدبيًّا، كان يطغى على الكتابات الشعرية والنثرية والمسرحية طابعُ الرسمية، حيث قامت الكنيسة بدور الرقيب واتخذت إجراءاتٍ صارمةً ضد كلِّ مَن انحرف عن القانون المتبع في التأليف والكتابة Canon. وعندما ظهرت حياة لاثاريو دي تورمِس كان ذوق القراء في إسبانيا مطبوعًا على كتابات الرواية الرعوية والرواية التاريخية–المورِسْكية وروايات الفروسية والملاحم. ولما كانت حياة لاثاريو دي تورمِس تروي قصةً فريدةً وواقعيةً لبطل يختلف جذريًّا عن أبطال الروايات الآنفة الذكر، استرعى ذلك انتباهَ القراء الإسبان، على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والسياسية.[10]

هذا ويسافر الپيكارو الشطَّاري في هذا النوع من الرواية على غير منهج في سفره،

[...] وحياته فقيرة بائسة، يحياها على هامش المجتمع، ويظل ينتقل بين طبقاته ليكسب قوته. وهو يحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكمًا تظهر فيه الأثرةُ والانطواءُ على النفس وقصرُ النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية: فكل مَن يعارضه فهو خبيث، ومَن يمنحه الإحسان خيِّر.[11]

ولم تعد الرواية الپيكارسكية روايةً مثاليةً مجردة، كروايات الرعاة والفروسية (دون كيخوتي لثربانتِس مثلاً)، بل أصبحت روايات واقعية، قوامها الانتقاد والسخرية والتمرد على ما هو رسمي والتنديد بقيم المجتمع ومبادئه المتهرئة المزيفة. ويعني هذا أن الأدب الپيكارسكي في أوروبا ظهر كردِّ فعل على طغيان قصص الفروسية والرعاة، كما هو مبثوث في قصة أماديس دي غولا الإسبانية، وقصة سجن الحب La carcel de amor للكاتب الإسباني سان بيدرو San Pedro، وقصة ديكاميرون للكاتب الإيطالي بوكاتشيو. ومن القصص الرعوية أيضًا أركاديا للكاتب الإيطالي سنَّزارو Sannazzaro.

وقد انتقل هذا الجنس من القصص إلى الأدب الإسباني والإنكليزي، ثم إلى الأدب الفرنسي على يد أونوريه دورفيه Honoré d’Urfé في قصته المسماة أستريه Astrée، ثم الألماني، كما في موت الحب لغوته[12]. ولقد تأثر بالقصة الشطَّارية الإسبانية الروائي الفرنسي شارل سورِل Charles Sorel، صاحب قصة فرانسيون التي نشرها في باريس في العام 1622. وقصة فرانسيون

[...] هجاء للعادات والتقاليد والطبقات الاجتماعية في عهد لويس الثالث عشر. وينص هذا القاص على أن القصة الفكاهية أو الهجائية أَوْلى أن تعد أفكارًا تاريخية؛ وعليها بذلك أن تقترب من الحقيقة بوقوفها عند أحداث الحياة المألوفة. وبدت الحياة من ثنايا هذه الحقيقة في أنظاره – كما كانت في ملاهي موليير – أقرب إلى الشطط والجنون منها إلى الحكمة والاتزان. ولهذا كانت قصص الشطَّار – وهي قصص الهجاء ووصف العادات الاجتماعية – أداةً لتقريب القصة من واقع المجتمع.[13]

وقد ظهر تأثير الپيكارسك عند بعض الأدباء الفرنسيين واضحًا عند تيوفيل دو فيو Théophile de Viau وتريستان ليرميت Tristan l’Hermite، وأدى ذلك إلى ظهور "الرواية الشخصية" roman personnel، أو رواية الفرد التي تُعتبَر إرهاصًا حقيقيًّا للرواية الرومانسية ذات الرؤية "الأكثر واقعية إلى المجتمع من الرؤية الأسطورية"[14]. وكان لرواية تاريخ فرانسيون الحقيقي الهازل Vraie Histoire comique de Francion تأثير كبير على رواية لوساج Le Sage جيل بلاس دو سانتيان التي ظهرت طبعتُها الكاملة في فرنسا في العام 1747، وقصة غوتييه Gauthier موت الحب Mort d’amour التي ظهرت في باريس في العام 1616.

وعلى الرغم من أهمية الرواية الشطَّارية الفرنسية، تبقى الرواية الإسبانية، بكلِّ جدارة، مهدًا للرواية الإشكالية المثالية المجردة (دون كيخوتي لثربانتِس) والرواية الپيكارسكية (حياة لاثاريو دي تورمِس)، نظرًا للظروف المتردِّية التي عاشتْها إسبانيا على المستويات الاجتماعية (فقر، بؤس، تفاوت طبقي...) والاقتصادية والسياسية والثقافية التي كانت إفرازًا حقيقيًّا لأدب المهمَّشين والشطَّار والمنبوذين، ونظرًا لأثرها الكبير في انبثاق الرواية الپيكارسكية الغربية وتشكيلها، صياغةً ودلالة.

د. تأثُّر الرواية الپيكارِسْكية بالأدب العربي القديم

لم يظهر الأدب الپيكارسكي في إسبانيا إلا تأثرًا بالفن الشعبي العربي بالأندلس، ولاسيما مع ظهور طبقة اجتماعية من الشطَّار العرب المسلمين المهمَّشين المشردين الذين آثروا حياة الصعلكة والبطالة والتمرد على قوانين المجتمع والسلطة، وكانوا يعيشون على حافة المجتمع، سواء بالأندلس أم في ربوع أخرى من العالم العربي الإسلامي التي انفتحت عليها إسبانيا. ويصرف هؤلاء "الشطَّار" picaros حياتهم في التسول والارتحال والغناء وممارسة الكدية والاحتيال بقصد الإيقاع بالآخرين من أجل الحصول على المال أو الحب أو لقمة العيش. وكان هؤلاء الصعاليك المحتالون المرحون يسمون في الثقافة الإسبانية بـ"المورو" Moro. وتحضر صورُ هؤلاء كثيرًا في الرواية الشطَّارية الإسبانية. وفي هذا الصدد، يقول أستاذي د. محمد أنقار:

لم تكن الرواية الشطارية الإسبانية تتبلور، من حيث هي نوع سردي، بعيدًا عن التيارات والأنواع الأدبية، كالغنائية والمسرح الشعري والقصة المورِسْكية والقصة العاطفية أو الرعوية التي حفلت كلها بصور غزيرة للمسلمين والعرب والمغاربة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.

إلا أن مما يلفت النظر في الرواية الشطارية هو ضآلة صور المورو، على الرغم من أن الظاهرة المورِسْكية لم تكن قد تلاشت نهائيًّا خلال تلك الفترة. ويتعلق الأمر، على الخصوص، بالروايتين النموذجيتين لاثاريو وتاريخ حياة البوسكون.[15]

هذا وتُعتبَر رواية لاثاريو دي تورمِس

[...] نموذجًا شطاريًّا في إدانة المسلم وتصوير وضعيته الرديئة، حتى لدى الأوساط الدنيا، لكي يعلم الناس أن المورو لا يؤدَّب إلا بعقابه وتوبيخه وصدِّه عن غيِّه.[16]

ولكن السؤال الذي ينبغي طرحه، كما يطرحه الأدبُ المقارن، هو: هل تأثرت الرواية الپيكارسكية الإسبانية بأدب المقامات؟ للإجابة عن هذا السؤال، انقسم الباحثون إلى قسمين: فريق ينكر هذا التأثير وفريق آخر يؤكده ويثبته. ومن بين المثبِتين لهذا التأثير نذكر الدكاترة: محمد غنيمي هلال، سهير القلماوي، أحمد طه بدر، عبد المنعم محمد جاسم، وعلي الراعي، الذي يرى أن

[...] أثر المقامات، الذي يعترف به دارسون عرب وغربيون يأتي ذكرُهم في غضون الكتاب شخصية المحتال، ربما كان أقوى أثر مفرد تركه العربُ في الأدب الغربي. فعن طريق "محتال" المقامة، قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا، وامتد من بعدُ إلى فرنسا وألمانيا وإنكلترا، ليكون الأساس لصرح الرواية الواقعية التي أسهمتْ في خلقها أقلامُ كتَّاب مرموقين، من أمثال: دو فيو وفيلدنغ وديكنز في إنكلترا ولوساج وبلزاك وفلوبير في فرنسا. بل لا تزال هذه الرواية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين أولهما: فليكس ترول لتوماس مان الألماني، والثاني: مغامرات أوجي مارش للكاتب الأمريكي ساول بيلُّو.[17]

ولقد انتقل نموذج بطل المقامات العربية القديمة في العصور الوسطى (العصر العباسي)، كما يقول غنيمي هلال، إلى

الآداب الأوربية، فأثَّر فيها بخلق نموذج أدبيٍّ آخر، تطورت به القصة الأوروبية، بعد أن عرفت تلك الآداب المقامات العربية عن طريق الأدب العربي في إسبانيا.

وقد أثَّر نموذج بطل الحريري في الأدب العربي الأندلسي، ثم الأدب الإسباني بعامة؛ ثم تعاون هذا التأثير كله في خلق قصص الشطَّار الذي تُعَد قصة حياة لاثاريو دي تورمِس نموذجًا له.[18]

ويؤيد رأيَ الدارسين العرب باحثون إسبان، ذهبوا هم أيضًا إلى تأثر الرواية الپيكارسكية بأدب المقامة العربية. ومن هؤلاء مؤلِّفا دائرة المعارف الوجيزة في الحضارة العربية، حيث يقولان:

إن هذا النوع الأدبي [يعنيان المقامة] قد تسرَّب إلى الأدب الفارسي وغيره من آداب شرقية؛ ويبدو أنه قد أثَّر أيضًا، إلى حدِّ ما، على كتَّاب الرواية الأوائل في كلٍّ من إسبانيا وإيطاليا.[19]

وينفي الناقد الإسباني أنخِل فلوريس التأثير المباشر للمقامات في الپيكارسك، نظرًا لانعدام الطابع الأوتوبيوغرافي في مقامات الحريري، باستثناء مقامة واحدة هي "الحرامية"، ولأن الترحال كان موجودًا في الآداب القديمة، اليونانية والرومانية:

فإذا سلَّمنا جدلاً بأن بطل المقامات يقوم في كلِّ مقامة منفردة برحلة تورُّطه في شتى الملابسات مع أناس من مختلف الأوساط والطبقات الاجتماعية، فيجب ألا ننسى أن هذا التراث القصصي الذي يمثل البطل المتجول والذي يبدو واضحًا في رواية الپيكارسك الإسبانية هو في الواقع سابق لظهور هذه الرواية وسابق لانتقال أدب المقامات من الشرق العربي إلى المغرب وإلى الأندلس الإسلامية.[20]

ويجاري د. عبد المنعم محمد جاسم مذهبَ المستعرب الإسباني أنجِل فلوريس حينما يقول:

والذي أريد أن أقوله في نهاية هذا المطاف حول إمكانية التأثير العربي في الرواية الإسبانية هو أن هذا التيار العميق الغور والبعيد المدى من القصص والنوادر والطرائف الشعبية العربية كان ذا أثر أبعد في التمهيد لظهور رواية الپيكارسك الإسبانية من المقامات التي وقف عندها الباحثون مرارًا وتكرارًا وحاولوا إعطاءها دورًا لم تكن بطبيعتها مؤهَّلة له.

فالمقامات كانت تُكتَب للتداول في صفوف الضالعين والمتبحِّرين في علوم اللغة. وبما أنها كانت عسيرة اللغة وعسيرة الفهم وكثيرة المجاهل، فإنها لم تترجَم إلى اللغة اللاتينية أو اللغة الإسبانية.

وعلى كلِّ حال، فأنا لا أحاول في هذا البحث الاستدلالَ على أية فصول من الأدب الإسباني جاءت منقولةً أو واضحةً التأثر بأصول عربية، لكن القارئ قد يجد فيما عرضتُ إثباتًا جديدًا لوجهة نظر الكاتب والناقد أنخِل فلوريس القائلة بأن الرواية، بمظاهرها المختلفة، قد ظهرت في إسبانيا قبل أيِّ بلد آخر بسبب أثر الحساسية العربية في الآداب الإسبانية.[21]

ويذهب د. محمد أنقار إلى ضرورة التريث في الحكم على مدى تأثير المقامة في الپيكارسك الروائي حتى تتوفر الأدلةُ العلميةُ الدقيقةُ والحججُ القاطعة. ولكن هذا لا يلغي إمكانية مقاربة الپيكارسك في ضوء السرد العربي القديم ومن خلال قواعد فنِّ المقامة:

تلك صور نادرة للمورو في هذه الرواية [لاثاريو دي تورمِس] التي لا يعدم بعضُ النقاد الصلةَ بينها وبين الحكي العربي القديم على مستوى العلاقة بفنِّ المقامة أو ببعض النوادر وللحكايات. وإذا كانت مثل هذه الاحتمالات لا تزال في حاجة إلى تمحيص علميٍّ مقنع، فإن ذلك لا يلغي بتاتًا إمكانيةَ قراءة هذه الرواية الشطارية بالتوازي مع أعراف السرد العربي القديم وأساليبه، مثلما هو الشأن في دراسة محمود طرشونة.[22]

وليس الهدف من إيراد هذه الأقوال المتضاربة هو إثبات تأثير العرب على إسبانيا في إبداع الرواية الپيكارسكية أو نفي ذلك التأثير، لأن هذا كلَّه من اختصاص باحثي الأدب المقارن. لكن المهم، في رأيي، أننا في حاجة إلى الاستفادة من هذه الرواية الشطَّارية الإسبانية، مع استثمار الشكل القصصي العربي الأكثر فعالية (المقامة)، واتخاذهما وسيلةً لتمتين الأساس الواقعي للرواية العربية، وذلك بتوسيع نطاقها ومدى رؤيتها وموقفها من الناس، بحيث تحكي عن المنبوذين والمقهورين والخارجين عن المواضعات إلى جوار المطحونين والكادحين – وما أكثرهم اليوم في عالمنا العربي والإسلامي!

د. الخيال الپيكارِسْكي في الأدب العربي الحديث

في أدبنا العربي الحديث كثير من النصوص الروائية الشطَّارية، وإن كان أغلبها في المغرب الأقصى. وربما يعود ذلك لتأثر كتَّابها المباشر بالأدب الإسباني. وقد كتب هذه النصوص محمد شكري ومحمد الهرادي والعربي باطما وبنسالم حميش ومحمد زفزاف.

هذا ويصور محمد شكري في روايته الخبز الحافي[23] معاناة شابٍّ ريفي من شدة البؤس والظلم والفقر إبان احتلال الاستعمارين الإسباني والفرنسي للمغرب. لذا اختار التجوال والصعلكة والمغامرات الاحتيالية واللصوصية والعربدة الخمرية والجنسية بحثًا عن لقمة خبز من دون مرق أو إدام. وقد أبدع شكري نصًّا پيكارسكيًّا آخر يكمل سيرته الأولى، ألا وهو الشطار[24]؛ وهذه الرواية سيرة أوتوبيوغرافية پيكارسكية واقعية، تنقل واقع المنبوذين والمهمَّشين الصعالكة نقلاً مباشرًا وصريحًا، قوامها الصدق الفني والتلقائية والعفوية المطبوعة، وتستند في إيقاعها إلى تشويه الواقع وتعريته بكلِّ وقاحة وفظاظة.

ويُعتبَر محمد شكري، بحسب د. علي الراعي، رائدَ الأدب الشطَّاري أو الرواية الواقعية الاحتيالية في أدبنا العربي الحديث، وذلك بروايته الخبز الحافي التي يقول عنها:

وفي أدبنا العربي الحديث، ظهرت في السنوات الأخيرة سيرةٌ ذاتية روائية بعنوان الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري. وهي تحكي المغامرات الاحتيالية واللصوصية والجنسية لشابٍّ أمِّي في أدنى مراتب الفقر، يتنقل بين طنجة ومدن المغرب بحثًا عن لقمة الخبز الحافي. والسيرة تعود بالكتابة الروائية عندنا إلى النقطة التي كان ينبغي أن تبدأ منها الروايةُ العربية، مستندةً إلى المقامات، مطوِّرة إياها إلى فنٍّ روائي عربي الأساس. ولعلها، على المدى، أن تقود إلى فنٍّ روائي عربي يكون أكثر صدقًا وأحر طعمًا من كثير مما يُكتَب في حقل الرواية العربية، شريطة أن تتخلَّص من بعض ما يصدم الشعور بلا مبرِّر فني ويجعل السيرة، في بعض أجزائها، صراخ احتجاج طفوليٍّ ورغبةً في تحطيم المواضعات لمجرد التحطيم.

ومن الطريف اللافت للنظر أن تظهر هذه السيرة الروائية في المغرب، البلد المجاور لإسبانيا، التي أخرجت رواية لازاريللو دي تورمِس، وأن تتحرك في أرجائها شخصياتٌ من إسبانيا، ما بين شرطة ومحقِّقين ومدنيين أوجدهم الحكمُ الإسباني وأوسع لهم.[25]

ويصرح محمد شكري في إحدى شهاداته الروائية أنه يكتب رواية پيكارسكية ذاتية:

حافزي على كتابتها [الخبز الحافي] بهذا الشكل هو أنني حاولت، ضمن تجربتي حتى سنِّ العشرين، أن أسجل مرحلةً زمنيةً عن جيل الصعاليك في عهد الاحتلالين الإسباني والفرنسي والدول التي كانت لها هيمنة لا تقل عن الاحتلالين المباشرين، خاصة في مدينة طنجة الدولية. إنها سيرة ذاتية–روائية–شطارية novela-autobiografía-picaresca. إن الحياة التي عشتها حتى تلك السن في عشيرة البؤساء والشطَّار، عن لاقصدية شخصية، كنت أستمدها عن قهرٍ من كلِّ ما هو لاأخلاقي. ومازال هذا النموذج الهجين من الطفولة المغربية يفرزه مجتمعُنا المغربي حتى اليوم.[26]

ويضيف محمد شكري قائلاً:

إن الطفل المغربي من هذه الطبقة المهمَّشة يصبح رجلاً في سلوكه وملامحه في السادسة أو السابعة من عمره.

لقد حاكمت نفسي وأسرتي والمجتمعَ في هذه السن بقانون الشيطان الذي أوعاني باكرًا معنى الاستغلال والقمع اللذين أيقظا فيَّ التمرد والحرية. [...]

إن الأدب الشطَّاري ضد هذه الشيعة المضلِّلة [الذين يكتبون سيرًا ذاتية في شكل إنشاءات ديماغوجية]، خاصة السيرة الذاتية الشطَّارية التي هي وليدة طبقة شبه منفصلة الجذور عن أسرتها وأقاربها، مما يجعلها أقدر من السيرة الذاتية التقليدية على كشف المباذل إذا أتيحت لكتَّابها الإمكانياتُ الضرورية.[27]

وقد تأثر محمد الهرادي في أحلام بقرة برواية حياة لاثاريو دي تورمِس، إذ

[...] يَرِدُ ذكرُ هذه القصة مرارًا في صُلب الرواية، وكعنوان للفصل الثالث "لاثاريو في الجنة"، وفي الهوامش، مؤكدًا على العلاقة الخاصة التي تجمع بينهما.

وإذا كانت الرحلة بمغامراتها ومفاجآتها في الرواية الشطَّارية أهم ثيمة تتسلَّل إلى رواية الهرادي، فإن شخصية الأعمى المتسول تنم عن علاقة أمتن بين الروايتين. ومن المعلوم أن هذا الأعمى يقدَّم كشخصية خبيثة، عنيفة ومراوغة، في مشهد "ثور سالامانكا" في رواية حياة لاثاريو وفي فصل "كلام الليل يمحوه النهار" في أحلام بقرة.[28]

أما عن البناء الروائي لرواية أحلام بقرة

[...] فلا يتم تشييده عِبْرَ حشد أشكال سردية مختلفة يجيء فيها الشكلُ الشطَّاري بجوار الخيال العلمي، مثلاً، أو الشكل العبثي بجانب الشكل الشطَّاري؛ بل إن المعمار العام لهذا النص يتجاوز علاقة التجاور، مؤسِّسًا بين الأشكال السردية الصغرى علاقةَ تفاعُل تجعل هذه المردودية متميزةً على مستويَي الشكل والبناء في آنٍ واحد.[29]

أما سيرة العربي باطما – فيلسوف "فرقة ناس الغيوان" الغنائية وشاعرها الزجلي – فهي رواية، كيفما كانت التبريرات والمقاييس التي يقدِّمها المنكرون لذلك، ومهما تسلَّحوا بالقواعد الأجناسية والتخييلية. فالسيرة هنا رواية بمقاييس هذا الفن ومواصفات هذا الإبداع كلِّها. وهذه السيرة، في رأيي، تندرج ضمن الأدب الپيكارسكي، على غرار سيرة محمد شكري في جزأيها: الخبز الحافي والشطار. وثمة تشابُه كبير بين شكري والعربي باطما على مستوى الإبداع الشطَّاري؛ إلا أن شكري كان وقحًا في جرأته وصراحته الواقعية، بينما كان العربي باطما متأدبًا في واقعيته، مقتصدًا في البوح والاعتراف، الواعي واللاواعي.

وتتكون سيرة العربي باطما الشطَّارية من جزأين: الأول بعنوان الرحيل[30] والثاني بعنوان الألم[31]. وتصور الروايتان معًا (الرحيل والألم) حياة الفنان العربي باطما في صراعه مع ذاته وواقعه وألم السرطان. وهذه السيرة تقريرٌ عن الواقع المغربي، في مخلَّفاته السلبية وتبايُناته الطبقية المدقعة، وإدانةٌ للمجتمع الكائن ودعوة إلى الواقع الممكن. وهذه السيرة كذلك تسجيل أمين لحياة بعض مبدعينا وفنانينا الذين عاشوا على هامش المجتمع بين أنياب الفقر والطرد والصعلكة والحياة البوهيمية الشطَّارية، ليفرضوا أنفسهم على الواقع بكلِّ قوة، على الرغم من أنفة السادة وكبريائهم المتغطرسة.

وتُعَد رواية المرأة والوردة[32] لمحمد زفزاف روايةً شطَّاريةً تصوِّر طالبًا شابًّا بوهيميًّا ناقمًا على أساتذته، يقضي حياته في العبث والمجون والحشيش والجنس، مستمتعًا بملذات الغرب وأهوائه الشبقية. أما بنسالم حميش، في روايته محن الفتى زين شامة[33]، فيصور مجموعةً من الفتن والمحن التي عاشها طالبٌ شاب متناقض في سلوكياته في ظلِّ أنظمة الاستبداد، تدفعه فتوتُه وحبه لعشيقته إلى الثورة والانتقام من أعدائه الظالمين، ولو كان ذلك على مستوى الخيال واللاوعي والحلم السوريالي.

وهكذا استفاد محمد شكري ومحمد هرادي والعربي باطما وبنسالم حميش ومحمد زفزاف من الپيكارسك الإسباني؛ وبهذا عادوا بالرواية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، إلى جذورها التراثية، تجريبًا وتأصيلاً ورغبةً في كتابة رواية واقعية نقدية.

*** *** ***


[1] جميل حمداوي (عمرو)، ص ب: 5021، الناظور، المغرب؛ إيميله: jamilhamdaoui@yahoo.fr.

[2] أصدرها مؤلِّف مجهول سنة 1554 بعنوان: La vida de Lazarillo de Tormes y de sus fortunas y adversidades.

[3] Cf. Diccionario enciclopédico, Espasa 2, Espasa Calpe Madrid, España, 2 K/Z.

[4] Juan Hurtado, J. de Laserna y Ángel González Palencia, Historia de literatura española, Madrid, 1949, pp. 351-352.

[5] انظر: محمد شكري، "مفهومي للسيرة الذاتية الشطارية"، ضمن: الرواية العربية واقع وآفاق، دار ابن رشد للطباعة والنشر، ط 1: 1981؛ ص 322.

[6] محمد غنيمي هلال، الموقف الأدبي، دار الثقافة/دار العودة، بيروت، 1977؛ ص 55.

[7] إسماعيل عثماني، "الأدب الشطاري: تعريف جديد لأدب قديم"، آفاق، عدد مزدوج 61/62، السنة 1999؛ ص 131-132.

[8] علي الراعي، شخصية المحتال في المقامة والحكاية والرواية والمسرحية، "كتاب الهلال"، العدد 412، أبريل 1985.

[9] M. Tarchouna, Les marginaux dans les récits picaresques arabes et espagnols, Publications de l’Université de Tunis, 1982.

[10] إسماعيل العثماني، "الأدب الشطاري: تعريف جديد لأدب قديم"؛ ص 131-132.

[11] محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة، بيروت، 1983؛ ص 313-314.

[12] محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار العودة، بيروت، 1973؛ ص 505-506.

[13] المصدر نفسه، ص 508.

[14] حميد لحماني، الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط 1: 1985؛ ص 60.

[15] محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، مكتبة الإدريسي، تطوان، ط 1: 1994؛ ص 87.

[16] المصدر نفسه، ص 87.

[17] علي الراعي، شخصية المحتال...، "كتاب الهلال"، العدد 412، أبريل 1985؛ ص 8-9.

[18] محمد غنيمي هلال، الموقف الأدبي، دار الثقافة/دار العودة، بيروت، 1977؛ ص 47.

[19] علي الراعي، المصدر نفسه، ص 65.

[20] عبد المنعم محمد جاسم، "ألف ليلة وليلة في الآداب الأوروبية"، التراث الشعبي، العدد 3/4، السنة 10، 1979؛ ص 20.

[21] المصدر نفسه، ص 20.

[22] محمد أنقار، المصدر نفسه، ص 88.

[23] محمد شكري، الخبز الحافي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1982.

[24] محمد شكري، الشطار، دار الساقي، بيروت، ط 3: 1997.

[25] علي الراعي، المصدر نفسه، ص 9.

[26] محمد شكري، المصدر نفسه، ص 321.

[27] المصدر نفسه، ص 322-323.

[28] أحمد اليابوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط 1: 1993؛ ص 118-119.

[29] أحمد اليابوري، المصدر نفسه، ص 119.

[30] العربي باطما، الرحيل، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، ط 1: 1995.

[31] العربي باطما، الألم، دار توبقال للنشر، ط 2: 1998.

[32] محمد زفزاف، المرأة والوردة، الشركة العربية للناشرين المتحدين، ط 2: 1981.

[33] بنسالم حميش، محن الفتى زين شامة، دار الآداب، بيروت، ط 2: 1992.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود