للتذكير

هيئة تحرير معابر تتحدث!

توحيدُ المعرفة الإنسانية ضرورةٌ قَدَريَّة

التجارب دلَّتنا على وجود قارئ متعطِّش إلى خطاب جديد لا يختزل وجودَ الإنسان إلى بُعد واحد

الحوارُ يتطلَّب نزول المُحاوِر ضيفًا على مُحاوِره

 

لقاء مع معابر

 

مجلة معابر مجلة فصلية[1] إلكترونية تصدر في سوريا وتختلف بامتياز عن غيرها من المجلات والمواقع الإلكترونية العربية.

تتميز مواضيعها بالسعي الحثيث في إدراك كنه الإنسان والوجود من خلال مختلف أبوابها: "منقولات روحية"، "قيم خالدة"، "أسطورة"، "علم نفس الأعماق"، "طبابة بديلة"، "إيكولوجيا عميقة"، "اللاعنف والمقاومة"، بالإضافة إلى الأدب والفن ومراجعات الكتب والـ"مرصد" إلخ.

جاكلين سلام

تورونتو، كندا

***

 

جاكلين سلام: كيف تسنى لكم رصدُ هذه الأبواب وتقديمها للقارئ عِبْرَ مجلة إلكترونية؟

معابر: لنقل أولاً – وهذه كانت نقطة البدء والمنطلق – إن معابر هي وليدة شعور عميق بحالة مأزقية متفاقمة وصلت إليها البشريةُ اليوم، نحن جزء منها، في مستهل القرن الواحد والعشرين، – تلك الأزمة التي تطال مناحي الحياة كلَّها بلا استثناء، – حيث لا يمكن لنا اليوم الكلام على أزمة سياسة أو اقتصاد أو ثقافة دون فهم الأزمة الروحية والوجودية العميقة التي يعاني منها الإنسانُ المعاصر، أزمة الاغتراب عن عالم لم يعد يُنظَر إليه كمهاد للإنسان، بل كحلبة صراع. وهذا، من باب التأمل، يعيدنا إلى ماضٍ يبدو لنا اليوم سحيقًا...

حينما كان يُنظَر إلى الإنسان، من حيث وجودُه الجوهري، ككيان واحد، فاعل في وجوده العَرَضي من خلال أبعاد متعددة، يختص بكلٍّ منها منهجٌ من مناهج المعرفة. كانت تلك الأبعاد متواشجة، بحيث إن كلَّ خلل في بُعد من الأبعاد ينعكس عليها جميعًا. وهذه كانت علَّة ارتباط سائر العلوم ومناهج المعرفة في العالم القديم بعضها ببعض، من حيث إنها كانت تزاوَل جميعًا على خلفية الوحدة الجوهرية للكيان الإنساني، المرتبط ارتباطًا عضويًّا بالكون والوجود. وكان هذا ما جعل "العالِم" القديم – وابن سينا، الفيلسوف والطبيب والفلكي والشاعر إلخ، مثال جيد على ما نرمي إليه – يحاول أن يحيط بعلوم عصره ومعارفه كافة، دون أن يختص حصرًا بعلم واحد.

ونتفكر في أن هذه النظرة "الكلانية" holistic إلى الإنسان والعالم والكون (ثالوث "الإنسان والأرض والسماء" في الفلسفة الطاوية الصينية، على سبيل المثال لا الحصر)، التي تربط معرفة الإنسان بمنظومة أخلاقية كونية، هي التي كانت تعين الإنسان على إيجاد موقعه وتوازُنه في عالم متحرك، وتؤمن له الصحة البدنية والنفسية والذهنية، وتشكل الأرضية النظرية للتحقق الروحي الفعلي الذي هو قَدَرُه الحقيقي. بهذا المعنى كانت الكوسمولوجيا القديمة التي تضع الأرضَ في مركز الكون تؤوَّل فلسفيًّا بإيلاء الإنسان – الذي كان يُعتبَر "كونًا مصغرًا" تتمثل فيه أبعادُ الوجود كافة – مكانةً روحيةً رفيعةً متأتيةً من كونه الكائن المؤتمَن على المعرفة، المعرفة الوجودية الكلِّية التي ينتفي معنى الوجود من دونها. آنذاك، كان الإنسان إنسانًا بمقدار ما يحقق ذلك الدور الكوني المنوط به. ذلكم هو الأنموذج الپروميثي، حيث المعرفة وظيفة وجودية تجد تحقُّقها في سبر سرِّ العالم.

ج.س.: بعض الدراسات التي تنشرونها تجمع ما بين الوعي والعلم المادي في وشائج متداخلة. هل يشكل هذا "معبرًا" إلى ثقافة مختلفة تسعى إلى توازن لم تستطع العلوم والنظريات السائدة تحقيقه؟ ثم كيف انعكس هذا الاختلالُ في التوازن أزمةً على أصعدة العلم والثقافة والمجتمع؟

هذا التوازن بدأ بالاختلال مع الثورة الكوپرنيكية بحلول الكوسمولوجيا الجديدة التي، وإنْ نزعتْ عن الأرض مركزيتها، فقد أحلَّت محل الكوسمولوجيا السابقة مركزيةً من نوع جديد، هي "المركزية البشرية" anthropocentricity التي كرَّست الإنسانَ محورًا للعالم، وكرست العقل الفردي سيدًا عليه، وأطلقت يد الإنسان يحوِّل وجه الأرض بما يخدم سيطرته على مقدَّراتها.

لقد كان المأمول من هذه الكوسمولوجيا الجديدة أن تحرر عقل الإنسان من سيطرة المرجعية الدينية المتحجرة آنذاك، وتسترجع له كرامته ومبادرته المعرفية الحرة. لكن الذي حصل في الواقع هو أن هذه الكوسمولوجيا الجديدة – التي تزامن ظهورُها مع اكتشاف العالم الجديد، بكلِّ ما انطوى عليه هذا الاكتشافُ من كمونات اقتصادية – جُيِّرَتْ سلبيًّا بترجمتها إلى قيم "سياسية" – بمعنى أن منظومة الأخلاق الكونية في الأنموذج السابق اختُزِلَت إلى منظومة جديدة قائمة على قيم الأنانية والنزاع والسيطرة والاستغلال. ذلكم هو الأنموذج الفاوستي، الذي يحكم فيه المعرفةَ منطقُ القوة والسيادة.

هذا، بدوره، أدى إلى تجزئة المعرفة إلى قطاعات كتيمة، يقوم على كلٍّ منها اختصاصيون محترفون. ومع تقدم العلم وتطبيقاته، تفرعت الاختصاصات، بحيث صار الاختصاصي يعرف تفاصيل أكثر فأكثر عن أشياء أقل فأقل. وهكذا، حتى على مستوى السلطة السياسية، بات "الخبير" expert الاختصاصي هو المرجعية الاستشارية، بعد أن كان "الحكيم" الذي يلم بأطراف المعرفة كلِّها هو الذي يضطلع بهذا الدور.

المشكلة، كما نرى، ناجمة عن "أنموذج إرشادي" paradigm، فكري ونفسي، ساد على التيار "الرسمي" للثقافة الإنسانية بضع مئات من السنين، فتسبب في هذه الأزمة التي تطال الجميع، بهذا الشكل أو ذاك، إلى هذا الحدِّ أو ذاك. ويقوم هذا الأنموذج على عدد من المفاهيم والقيم السائدة، التي من أهمِّها: اختزال الكون إلى منظومة ميكانيكية مكوَّنة من لبنات بناء أولية؛ النظر إلى الأجسام الحية كآلات؛ اعتبار العلم الوضعي، التحليلي التخصصي، الطريق الأوحد إلى المعرفة، واعتبار كلِّ ما عداه من خبرات ثقافية وروحية من قبيل "الترف الفكري"؛ النظر إلى الحياة في المجتمع كصراع تنافسي على البقاء؛ والمراهنة بكلِّ شيء على التقدم المادي غير المحدود الواجب إحرازه عبر النمو الاقتصادي والتكنولوجي. فنشأ، كردِّ فعل مفهوم على ما سبق، ذلك التيار السلفي الذي يبدو وكأنه، في المآل، من خلال نفيه لكلِّ علم وتخصص وتقدم، يُرجِع كلَّ شيء إلى إرادة تسمَّى بـ"السامية" ويعتقد، في جملة ما يعتقد، أن مجتمعًا يضع الأنثى في منزلة دون منزلة الذكر هو مجتمع يمتثل لقانون إلهي وطبيعي.

ج.س.: يتم التركيز في المجلة على كلانية وشمولية في الوعي والمعرفة. وفي الوقت نفسه، نجد أن المجتمع والمؤسسات والمشاريع مازالت قائمة على تقسيم في العمل والتخصص. كيف تقترحون "معبرًا" يؤسس للتوازن الذي تتوخون الخلوص إليه؟

الانقلاب الثقافي

الأزمة الراهنة ناجمة عن كون غالبيتنا الساحقة – وخصوصًا مؤسَّساتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية – ما تزال تقرُّ وتعمل بمفاهيم وقيم أنموذج قديم لم يعد قطعًا يصلح للتعامل مع قضايا عالمنا المكتظ سكانيًّا والعالمي الترابط والكلِّي التشابك. لقد أمسى اتخاذ القرار في المؤسَّسات المذكورة عملية منطقية محض خطِّية linear، خاضعة، في أغلب الأحيان، لاعتبارات المنفعة الاقتصادية القريبة المدى ولمتطلبات الاستهلاك الآنية.

لم تعد القيم الإنسانية اعتبارًا يؤخذ بالحسبان كمقياس لصواب التفكير والعمل وكشرط لازم وكافٍ لتحقيق إنسانيتنا، ولم تعد طرفًا في المعادلة إلا بمقدار ما يتم توظيفُها توظيفًا مشوَّهًا – ومشوِّهًا – يخدم مآرب فئة عالمية متنفِّذة همُّها المزيد من الربح والنفوذ والسيطرة. لقد بتنا، في تحليلنا للأمور، قلما نأخذ دينامية الحياة بعين الاعتبار، ضاربين كشحًا عن قدرتها المتجددة على الانتظام والتوازن الذاتيين self-organization and self-regulation، إنْ على صعيد الطبيعة النازفة أو على صعيد الإنسان المختل التوازن، فردًا وجماعة.

فلا عجب، إذن، أننا نعيش اليوم في مجتمع تسوده الفوضى والهلع واللامبالاة وانعدام المسؤولية. ومن هنا صار توحيد المعرفة الإنسانية إلزامًا يتاخم الضرورة القَدَرية.

ج.س.: هل ترون من أمل للخروج من هذه الأزمة الشاملة؟ وكيف؟

معابر: لقد بلغ الإنسان المعاصر من تطوره الفردي والاجتماعي شوطًا يقتضي منا أن ننمي فينا نظرة أوسع، نظرة منظومية systemic نستطيع من خلالها أن نبصر الكل حتى نفهم الأجزاء. فالخطوة الأولى في التخفيف من حدة الأزمة هي الإقرار بأن الانقلاب الثقافي العميق المطلوب تحقيقه للتغلب عليها قد أضحى واجبًا وأضحى ضرورة.

ونلاحظ، ثانيًا، أن باحثين على التخوم المتقدمة للعلم، وشبكات معرفية بديلة، وحركات اجتماعية متنوعة، بدؤوا يستلهمون تلك النظرة الكلانية القديمة، بتطوير رؤية جديدة للواقع ستصبح قاعدة للعمل الإنساني في سبيل التحول التدريجي نحو أنموذج جديد، ينطوي على مفاهيم وقيم جديدة. وهذا الانقلاب هو ثمرة خبرة روحية عميقة تُترجَم عمليًّا إلى نقلة نوعية في الوعي وفي النظرة إلى العالم: نقلة من رؤية "آلتية" mechanistic للواقع، محدودة الأفق، إلى رؤية كلانية وإيكولوجية الآفاق، تبيَّن أن المفاهيم والقيم التي تتبناها هي عينها المفاهيم والقيم التي توصلت إليها الحكمةُ الإنسانية المعبِّرة عن النضج النفسي والروحي للإنسان العاقل Homo sapiens sapiens فيما يتعدى الزمان والمكان.

تتلخص هذه المفاهيم في التحول عن العقلانية المفرطة إلى الحدس والكشف، عن التحليل analysis إلى التركيب synthesis، عن الاختزال reduction إلى التكامل integration، عن التفكير الخطِّي إلى التفكير "اللولبي"، عن الإمعان في التخصص إلى العبرمناهجية transdisciplinarity، وعن مُراكَِمة المعلومات إلى المعرفة كوظيفة وجودية. وهنا نشير إلى أن القصد من هذه التحولات ليس استبدال مفهوم جديد بمفهوم قديم، بقدر ما هو التحول عن التشديد المفرط على أحد المفهومين إلى توازن أعظم بينهما.

أما على صعيد القيم، فهناك تحول ملحوظ عن التوسع والاستغلال إلى الاستدامة sustainability والتكافل interdependence، عن الكم إلى النوع، عن الفردية المنتفخة واللامبالاة غير المسؤولة إلى الغيرية السمحاء والمسؤولية الواعية، عن الصراع والتنافس والاستئثار إلى التعاون والمشاركة والإيثار، وعن التعالي على الآخر والسيطرة عليه إلى احترام الآخر باحترام حقِّه المطلق في الحياة والحرية والتفتح على إيقاعه الخاص، عن فرض النمط الثقافي الواحد إلى الاغتناء بالتنوع كشرط لا بدَّ منه للتطور، عن الجمود الفكري والتعصب والظلامية إلى الدينامية الفكرية وانفتاح القلب والوعي الكوني. وبالتالي...

فلنقل، ثالثًا وآخِرًا، إن معابر هي محاولة – مجرد محاولة – لمواكبة هذه الثقافة الإنسانية الصاعدة، في جوهرها، من خلال إيجاد "معابر عربية" بين مختلف مناهج المعرفة الإنسانية، وصولاً إلى معرفة كلانية، عبرمناهجية، تتعدى هذه المناهج (من فلسفة وعلم وميثولوجيا وفن إلخ) وتشملها جميعًا. وهي، بالتالي، من هذا المنظور، تُعتبَر إسهام القائمين عليها والمشاركين فيها في فتح آفاق جديدة لوعي المثقف العربي، لعلَّه يبدأ بالتغلب على عطالته النفسية والفكرية، أسوة برفاق له عديدين في كلِّ مكان من العالم، فيدخل الألفية الثالثة بمعرفة (وجودية) أرسخ، وثقة أكبر، ويدلي بدلوه في تيار الوعي الجديد المنبثق من ظلمة عالم قديم بدأ بالأفول.

من هذا المنظور، إذن، يجب قراءة أبواب المجلة المتنوعة التي تصب جميعًا في هذه النظرة الكلانية والعبرمناهجية.

ج.س.: هل لكم بتقديم نبذة تعريفية بهيئة تحرير المجلة وبكيفية تنسيق العمل ضمنها؟

معابر: ما نسميها "أسرة تحرير" معابر مؤلَّفة من لفيف من الأصدقاء، من مختلف الاختصاصات والمشارب، يقيمون في أماكن عدة من العالم ويشتركون في هذه الرؤية ويحاولون، كلٌّ بخصوصيَّته، أن يعيشوها في قلب العالم. أسماء الأشخاص ليست هي الأساس، وأسرة التحرير تغتني بمشاركة كلِّ مَن يود الانضمام إليها، شريطة أن يشترك في رؤيتها وأن يساهم في العمل بقدر ما يستطيع من جهد. فالمهم، في نظرنا، هو المشاركة.

أعضاء أسرة التحرير الحاليين أبعد ما يكونون عن "احتراف الفكر" والتفرغ؛ إنهم مجرد أناس عاديين، يتحملون مسؤوليات مهنية وأسرية ويعانون همومًا يومية تحدُّ من إمكانيات تطوير العمل والارتقاء به إلى مستوى احترافي لائق.

لهذا السبب فإن العمل الفعلي، من تنضيد وترجمة وتحرير النصوص ومراجعتها، وبخاصة العمل التقني في إعداد الموقع (الذي يتطلب درايةً خاصة وصبرًا هائلاً)، مازال حاليًّا يقع على عاتق ثلة صغيرة جدًّا، بينما لا يتعدى جهد الأعضاء الآخرين والأصدقاء الكتابةَ للمجلة واقتراح المواد واستكتاب المساهمين والتداول حول جودة مواد معينة وحول "سياسة" المجلة عمومًا، بالإضافة إلى التأييد المعنوي طبعًا (الهام جدًّا في نظرنا) والقليل من الدعم المادي. ومع أن البريد الإلكتروني يوفر إمكانية هائلة لاختصار الوقت والجهد، يجب أن نعترف هنا بأن استمرار معابر في هذه الظروف أمر صعب للغاية ويتطلب الكثير من التضحية بالوقت وبالمال.

نحتاج، إذن، إلى مترجمين محترفين من الإنكليزية والفرنسية وبالعكس (يقوم بالترجمة حاليًّا ثلاثة منهم فقط)، وإلى أشخاص ذوي خبرة في تحرير النصوص (الذي نوليه عنايةً فائقةً بالقياس إلى المواقع العربية الأخرى على الشبكة)، وآخرين ذوي كفاءة في الأمور التقنية الخاصة بالإنترنت (لتخفيف العبء عن شخص يقوم بمفرده بهذا الأمر[2])، بالإضافة إلى كلِّ ما ذكرنا سابقًا.

تكريس خطاب إيديولوجي

ج.س.: كثيرًا ما يتردد القول، عبر صفحات ثقافية عربية، أن هناك أزمة قارئـ(ـة). هل تعتقدون أنها أزمة قارئ نوعي، أم أزمة تتعلق بما يقدَّم لهذا القارئ المتخبِّط في عصر عولمة الاقتصاد والثقافة، في عصر يحكمه منطقُ القوة والسلطة، بكلِّ أشكالها؟ – وأعتقد أن لـمعابر روادها من القراء والمحتفين بفرادتها.

معابر: إن غالبية ما يُنشَر من أبحاث في الدوريات الثقافية العربية يندرج – بكلِّ أسف – تحت أحد بابين: فإما أن يكون تكراريًّا، يجتر أفكارًا مفرغة من مضمونها، وكثيرًا ما يكون موظفًا لتكريس خطاب إيديولوجي يروِّج لسلطة معينة، سياسية أو دينية؛ وإما أن يكون مغرِقًا في الأكاديمية، بحيث تظل قراءتُه مستعصيةً على مَن لا يمتلك طاقم المصطلحات الاختصاصية؛ أو يكون هاجسه مجرد التماسك المنطقي واللغوي أو الفرادة في الطرح (التي يمكن أن تلتبس بالإبداع الحقيقي) وحسب، بصرف النظر عن الخبرة الحية التي هي جوهر الإبداع.

خبرتنا دلَّتنا على أن هناك قارئًا عربيًّا متعطشًا إلى خطاب "مختلف"، يخاطب في الإنسان أبعاده كلَّها، ولا يختزل وجوده إلى بُعد واحد، سياسي أو اقتصادي أو غريزي، أو حتى "ثقافي" (بالمعنى المبتذل). ولو لم نكن على يقين من أن التوجُّه الفكري الإنساني الذي جعلنا من معابر منبرًا له يعبِّر عن حاجة فكرية وروحية مغروسة عميقًا في النفس البشرية، في معزل عن الإيديولوجيات السائدة كلِّها، ومن أن هذا التوجُّه سيجد أصداء لدى بعض القراء العرب، لما كان لعملنا المتواضع من قيمة أصلاً.

إن استمرارنا مرهون بوجود قرَّاء يعتمل في نفوسهم توقٌ إلى الأنبل والأجمل والأعمق، قراء يشعرون بأن للوجود الإنساني غاياتٍ تتعدى مجرد الاستهلاك – استهلاك الأشياء والبشر والأفكار – إلى اكتشاف "المعنى" المكنون في الإنسان وتحقيقه.

فيما يتعلق بالعولمة، لا نعتقد أنها تتعارض، في حدِّ ذاتها، مع تحقيق الإنسان لإنسانيته، وهي لا تلغي أية خصوصية ثقافية بما هي كذلك. إنها صيرورة تاريخية حتمية ناتجة عن الثورة المعلوماتية، مثلما أن العلم الحديث نتج عن الثورة الكوپرنيكية–النيوتنية؛ وهي، بهذه المثابة، ليست "فكرة" أو "عقيدة" قابلة للقبول أو الرفض أو الدحض، بل تيارٌ عالمي جارف لكلِّ ما هو متحجر، وبتعبير آخر، لكلِّ ما هو غير أصيل وخلاق ولا جذور عميقة له. المهم هو مدى مشاركتنا فيها بإبداع معرفي جديد – ولنأمل أن ترتقي معابر إلى مثل هذا الإبداع.

ج.س.: كل إصدار ثقافي إبداعي مستقل تعترضُه صعوبات شتى. وقد تمكنتم حتى الآن من إصدار العدد التاسع من المجلة[3]. إلى أين، يا ترى، تمتد أحلامكم؟ وهل من مأزق حقيقي يعترض عملكم أو طروحاتكم، وخاصة أن هناك – كما وجدتُ – مواضيع حساسة وجريئة يجري تناولُها بتحليل "مختلف" في هذه المرحلة المتوترة التي يمر بها الشرق الأوسط تحديدًا والعالم عمومًا؟

معابر: إذا كنت تقصدين بكلمة "حلم" ذلك التوق إلى بناء إنسان حرٍّ، واعٍ، محقق لإنسانيته في مجتمع أكثر عدالة وإنسانية، فنحن "حالمون" من غير شك! لكننا، بالمعنى العملي، "واقعيون" جدًّا. فنحن نعرف حدود إمكاناتنا وهامش الحرية الفكرية المتاح لنا، ونحاول قدر الإمكان التقيد بهذه الحدود للاستفادة قدر المستطاع من هذا الهامش المتاح. ليست لدينا أوهام بهذا الخصوص، و"المصاعب" التي نواجهها ناجمة عن محدودية إمكاناتنا المادية والبشرية.

فمثلاً، لم يسمح لنا الوقتُ حتى الآن بإصدار الملفَّات الخاصة التي كنَّا خططنا لإصدارها بالتوازي مع الإصدارات الفصلية[4]؛ كما لم نشرع بعدُ في مشروع "مكتبة" معابر[5] التي ستضم، في الحدِّ الأدنى، الكتب التي تتساوق مع منحى المجلة وننشر مراجعاتٍ عنها ضمن باب "كتب وقراءات" – هذا ناهيك عن التأخير بضعة أيام في صدور العدد الجديد – وهو، بنظرنا، إخلال بالتزامنا أمام القراء.

من جهة أخرى، هناك صعوبة في تقبُّل العقول الاتباعية، التقليدية، للأنموذج الفكري الذي تمثل له معابر. فأحد المواقع العربية الهامة التي تُعتبَر "بوابة" إلى العالم العربي قيَّمها بـ"نخلتين" على سلَّم تقييم يتراوح بين نخلة واحدة وخمس نخلات، وعرَّف بها بأنها "موقع شخصي بالعربية لفرد من سوريا، معني بنشر القصص القصيرة والقصائد المختارة بالعربية"!

أما بخصوص "جرأة" طروحاتنا، فلعلك تلمِّحين إلى باب "اللاعنف والمقاومة" الذي اندرج في أبواب المجلة مع الاجتياح الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية بعيد قمة بيروت. في الواقع، ليست الدعوة إلى اللاعنف خطًّا جديدًا طارئًا على معابر، بدأ مع الإصدار السابع، بل خط التزمتْ به المجلة منذ البداية، حرصًا من أسرة التحرير على نشر نصوص (كلاسيكية وظرفية) تعرِّف بالمقاومة اللاعنفية – روحيَّتِها وفلسفتها واستراتيجية عملها وأساليبِها – عمومًا، مع تقصِّي إمكانية تطبيقها في حالة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين خصوصًا، بعد أن تبين فشل الوسائل العسكرية والسياسية في إيجاد مخرج من أيِّ نوع. وما كان إيجاد هذا الباب، في ظلِّ الأجواء المأساوية السائدة في الأراضي المحتلة، غير قرار من أسرة التحرير بتسجيل موقف قاطع، ينأى عن مجاراة الخطاب الإعلامي السائد الذي يزيد الناس إما هياجًا وإما كرهًا وإما يأسًا، وفي كلِّ الأحوال، يعميهم عن فهم ما يجري ويحول بينهم وبين فتح أفق للمستقبل.

لقد حرَّض فتح هذا الباب تساؤلاتٍ لدى عدد من القراء، وأثار نقاشًا حاميًا، حتى ضمن أسرة التحرير نفسها. لكننا نعتبر أن مثل هذا الحوار ظاهرة صحية، ومن شأنه أن يبلور أفكارًا ورؤى جديدة فيما إذا سادَهُ احترامُ التعددية والاختلاف وإعلاء الحقيقة فوق الرأي الشخصي. أما أساليب المنع والقدح والاتهام، وحتى "التخوين"، في التعامل مع الأفكار، فهي، للأسف، لا تعبِّر عن نضج فكري ونفسي كبير لدى محترفيها!

ج.س.: في المقال الافتتاحي الأول "لماذا معابر؟" تشيرون إلى أن "معابر وليدة حاجة قديمة، عميقة لدى فريقها الحالي، إلى التواصل مع الآخر، المختلف بالضرورة...". إلى أيِّ حدٍّ تجدون أن لهذا "الآخر"، سواء كصاحب رأي أو كتجمع ثقافي فكري، مازالت له كوة تمكِّنه من أن يكون، وبطريقته؟

معابر: إذا قبلنا بأن الإنسان لا ينفصل في الجوهر عن أيِّ شيء في هذا العالم، فإن "الآخر" – أي آخر – ليس منفصلاً عن الذات، بل هو مكوِّن أساسي من مكوناتها، لا تنضج ولا تكتمل إلا به. قانون وجودنا على الأرض هو قانون الوحدة في التنوع: جوهر واحد في مظاهر وخصوصيات وألوان لانهائية!

من هنا لا نميل في معابر إلى مفردات من نحو "التسامح" و"التعايش"، لأنها تنطوي على الكثير من الاستعلاء، وكأن الآخر "شر لا بدَّ منه"! الآخر، مرة أخرى، هو الذات في صورة أخرى وخصوصية مختلفة وتلوين متميز، وقبوله لأنه مختلف – وليس "التسامح" معه – ركن أساسي في مناقبيَّتنا. ومن هنا نحاول أن نجعل من معابر فضاءً مفتوحًا للجميع، ممَّن يشاركوننا الرؤيا، وليس الأفكار أو المعتقدات، في زمن ترفض فيه غالبيةُ الناس كلَّ ما هو مختلف عنهم، لا بل يشعرون بأنه يشكل تهديدًا لوجودهم!

لذلك قلنا في جوابنا على أحد "الأسئلة المتكررة": "موقع معابر مفتوح لمشاركات الجميع، دون أيِّ اعتبار مبدئيًّا للانتماء الفكري أو الطائفي أو القومي أو للجنس – على ألا تعكس هذه المشاركات، لا ظاهرًا ولا باطنًا، أيَّ لون من ألوان الانغلاق الفكري أو التعصُّب المذهبي والعقائدي أو الشوفينية أو العنصرية، بمختلف تعبيراتها. فمهما يكن مقترَب مَنْ يودُّ الكتابة للمجلة، يُشترَط فيما يكتبه أن يعبِّر عن توجُّه إنساني أصيل، ينأى عن كلِّ ما سبق، ويتصف بحدٍّ أدنى من العمق والتماسك والجدية في التناول...".

منبر حر

ج.س.: الهيئة الاستشارية للمجلة تتضمن أسماء كبيرة ومعروفة في مجال البحث الفكري والأدب والأسطورة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: فراس السواح، أدونيس، ندره اليازجي، إلخ. إلى أيِّ مدى يتم تفاعلهم الحقيقي للبتِّ في نهج معابر والمشاركات المنشورة من خلالها؟

معابر: الأساتذة الذين ذكرتِهم، وغيرهم من مستشاري المجلة، يشتركون أصلاً في الرؤية المؤسِّسة لها ويساهمون فيها بنصوصهم. وبعضهم، مثل فراس السواح (أسطورة) ويوسف اليوسف (أدب) وبَسَراب نيكولسكو (إپستمولوجيا)، وخصوصًا ندره اليازجي ("الأب الروحي" لـمعابر)، على اطلاع مستمر على ما يُنشَر، ويُستشارون في جودة بعض النصوص الواقعة في حقل اختصاصهم، ويُبدون رأيهم في نهج المجلة، ناهيك عن دعمهم المعنوي والروحي.

المشكلة هي أن معظم هؤلاء – باستثناء نيكولسكو ومصطفى المرابط – من جيل لم يدنُ من مجال التكنولوجيا المعلوماتية، وبالتالي لا بدَّ من اللقاء الشخصي بهم من أجل "استشارتهم" – وهو أمر ليس متاحًا دومًا بسبب بُعد المسافات، ولا يتوافق مع روحية النشر على الشبكة (نخص بالذكر أدونيس الذي لا نلتقي به إلا مرة واحدة في السنة أو مرتين نظرًا لسفره المستمر). وهذه من المصاعب التي تواجهنا، لكن ما باليد حيلة!

ج.س.: "معابرنا"، منتدى المجلة، هل تجدونه فاعلاً ومنطلَقًا لحوار ديموقراطي جاد؟

معابر: أنشئ "معابرنا" لكي يكون منبرًا حرًّا يلتقي فيه محرِّرو المجلة وكتَّابها وقرَّاؤها ليتحاوروا في الموضوعات المنشورة فيها أو في موضوعات موازية، مستفسرين، مستوضحين، معلِّقين، ناقدين، متخالفين، مستكشفين – معًا –، لعل هذا اللقاء يتمخض عن أفكار أو اكتشافات أو لمحات تتخطاهم جميعًا كأفراد، وتتعدى الاتفاق الفكري أو العقائدي العقيم.

يلتزم أعضاء المجموعة، المفتوحة هي الأخرى للجميع، بالشروط عينها التي يجب على الكتَّاب للمجلة أن يلتزموا بها، من انفتاح وأريحية ودافع حقيقي إلى المعرفة – هذا نظريًّا. أما عندما حاولنا أن نعيش هذا عمليًّا، هبَّ كل منَّا يطرح ما عنده وحسب، منطلِقًا من خلفيَّته الفكرية ومخزون معتقداته – وهذا بالتأكيد ليس حوارًا! لقد تبيَّن لنا أن الحوار فعالية إنسانية شديدة الصعوبة والنبل، تقتضي من المرء أن يتخلَّى عن أفكاره ومسلَّماته الشخصية مؤقتًا – وبشكل كامل – فينزل ضيفًا على مُحاوره، ويسمح لنفسه بأن يُخترَق من خلال فعل إصغاء كامل يتجاوز الحساسيات والأفكار المسبقة.

الحوار يتطلب من المرء تربية للذات على أسُس جديدة مختلفة بالكلية؛ إذ هو ليس مشروعًا للاتفاق المسبق يسوده النفاق والمحاباة والتصفيق المتبادل – ولا ديموقراطية بغير هذه التربية. الحوار يتطلب استعدادًا حقيقيًّا للتعلم الدائم. هذا ما أدركناه، وما سنحاول تطبيقه من الآن فصاعدًا.

ج.س.: أترك لكم مساحة لكلمة حرة تريدون إيصالها للآخر، كمتتبِّع أو مساهم في الحركة الثقافية العربية.

معابر: معابر مشروع ثقافي جاد، يتلمس طريقه وسط الفوضى الفكرية والنفسية الحالية السائدة في العالم العربي وفي العالم إجمالاً. ولا نظننا نبالغ إذا قلنا إنه ربما كان من إرهاصات ثقافة جديدة في العالم العربي، ثقافة تقوم على النسق المؤسِّس لمناهج المعرفة الإنسانية كافة – تلك المعرفة التي تتخلَّل هذه المناهج وتتخطاها في آن معًا –، ثقافة لا تشكل قطيعة مع الذرى الإبداعية التي بلغتْها الثقافةُ الإنسانية عبر تاريخها، على اختلاف الحضارات التي أنتجتها، بل قطيعة مع كلِّ تحجُّر وجمود وظلامية. وهذا المشروع الذي بدأ حلمًا، حتى يستمر، ينبغي أن يستنهض همَّة المهتمين به و"نخوتهم".

لم يقع محرِّرو المجلة، حتى الآن، على أية جهة "مشبوهة" تموِّلها! إنما بعيدًا عن التهكُّم، وانطلاقًا من إصرار أصدقاء معابر، بما لا يقبل المساومة، على حرية مجلتهم واستقلاليتها الفكرية عن أية إيديولوجيا من أيِّ نوع، وعلى رفضهم، من حيث المبدأ، لأيِّ تدخل خارجي في توجُّهها الإنساني الذي هو علَّة وجودها أصلاً، فهم لا يخشون من الترحيب بأية معونة خارجية غير مشروطة، سواء من برامج التنمية الثقافية التابعة للجامعة العربية، أو من منظمات الأمم المتحدة، أو من بعض المنظمات غير الحكومية المعروفة، إلخ. كما أن هناك أيضًا محاولة جادة لإصدار المجلة على الورق نرجو أن تثمر عن شيء[6].

أخيرًا، نود أن نشكرك، جاكلين، على اهتمامك الحقيقي بإيصال صوتنا إلى أصدقاء جُدد.

*** *** ***

عن أسرة التحرير: أكرم أنطاكي وديمتري أفييرينوس

http://www.maaber.org

http://maaber.50megs.com/index.htm

التقت بهما على الشبكة: جاكلين سلام

عن الزمان، العدد 1389، 17/12/2002


[1] تحولت معابر بعد مضي ثلاثة أعوام على بدء صدورها من الإصدار الفصلي إلى الشهري. (المحرِّر)

[2] انضمت إلى هذا الشخص مؤخرًا متطوعةٌ من أسرة التحرير تقوم مشكورةً بجهد كبير. (المحرِّر)

[3] احتفلت أسرةُ تحرير معابر مؤخرًا بالعام السادس على صدورها. (المحرِّر)

[4] صدرت حتى الآن تباعًا أربعة "إصدارات خاصة" مفتوحة، خُصِّصتْ للمفكرة السورية الراحلة إكرام أنطاكي و"التطورية" وابن عربي وكريشنامورتي، يغتني بعضها بما يضاف إليه من مواد تصدر شهريًّا وتصب فيه. (المحرِّر)

[5] صدرت المكتبة في أول العام 2007. (المحرِّر)

[6] لم تثمر هذه "المحاولة" عن شيء حتى الآن! (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود