النَّظرةُ إلى العالَم المهيمنةُ الحديثةُ ونُقَّادُها

 

بِلْ دوڤال[1] وجورج سِشُّنْز[2]

 

أقنعتْني اكتشافاتي أنَّ من الممكن أن نصل إلى معرفة تكون ذات نفع كبير في هذه الحياة، وأننا، بدلاً من الفلسفة التأملية التي تُدرَس الآن، نستطيع أن نجد فلسفةً عمليةً نعرف بواسطتها طبيعةَ النار والماء والهواء والنجوم والسماء وسائر الأجرام الأخرى التي تحيط بنا وسلوكها، وبالإضافة إلى ما نعرفه الآن من مهارات عمَّالنا المختلفة، نستطيع أن نستخدم هذه الموجودات وفق الأغراض المناسبة لها، وبذلك نجعل من أنفسنا سادةَ الطبيعة ومالكيها.
– رونيه ديكارت، خطاب المنهج (1637)

 

دفع استيقاظُ الوعي الإيكولوجي لدى أعداد متزايدة من الناس إبان القرن العشرين إلى نشوء الحركات البيئية الإصلاحية. ولكي نفهم المسألة فهمًا أوضح، نحتاج إلى تحديد النظرة إلى العالم المهيمنة – افتراضاتها الرئيسية ومقدماتها – ثم نستعرض بعض الانتقادات التي ما انفكَّت تُوجَّه نحوها.

1
النظرة إلى العالَم المهيمنة الحديثة

يُعرَّف بـ«النظرة إلى العالم المهيمنة» (أو «الأنموذج الاجتماعي» social paradigm) على أنها مجموعة من القيم والاعتقادات والعادات والمعايير التي تشكل إطارًا مرجعيًّا لجماعة من الناس، كالأمَّة على سبيل المثال. ووفقًا لما يقوله أحد الكتَّاب: «الأنموذج الاجتماعي المهيمن هو صورة ذهنية عن الواقع الاجتماعي ترشد التوقعات في المجتمع.» تتكوَّن النظرة إلى العالم، إذن، من عناصر متعددة في الفكر والعمل:

1.     هناك افتراضات عامة حول الواقع، تشتمل، في جملة ما تشتمل عليه، على مكانة الإنسان في الطبيعة.

2.     هناك «قواعد عامة للُّعبة» في مقاربة المسائل المتفَق عليها عمومًا.

3.     أولئك الذين يشتركون في نظرة إلى العالم يشتركون أيضًا في تعريف افتراضات مجتمعهم وأهدافه.

4.     ثمة قناعة ضمنية لا لبس فيها عند المؤمنين بإحدى النظرات إلى العالم، وهي أن حلول المشكلات توجد في سياق افتراضات هذه النظرة.

5.     تتأسَّس حُجَجُ العاملين في سياق نظرة إلى العالم ومناظراتُهم على صحة المعطيات كما شرحَها شرحًا معقولاً خبراءُ هذه النظرة – سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو رجال دين.

نادرًا ما تنعقد مناظراتٌ شعبيةٌ حول الافتراضات العامة للنظرة إلى العالم. فتُستبعَد المشكلاتُ غير القابلة للحلِّ أو لا تُدرَس التناقضاتُ دراسةً حرة، كما يجري دومًا نبذُ الذين يتساءلون عن هذه الافتراضات الأساسية. يكون هذا النبذ صارمًا وقاسيًا في بعض الأحيان؛ ومثال ذلك المحاولة التي استمرت ألف عام والتي قامت بها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كي تفرض نظرتها أو أصوليَّتها على المنقول المسيحي.

استنادًا إلى مصادر متعددة، لخَّص عالما الاجتماع وليَم كَتُّن William Catton ورايلي دنلاپ Riley Dunlap افتراضاتٍ أربعة أساسية للنظرة الغربية إلى العالم:

1.     يختلف الناس اختلافًا أساسيًّا عن جميع المخلوقات الأخرى على الأرض، ولهم عليها سيادة كاملة.

2.     الناس سادة مصيرهم الخاص، يمكن لهم اختيار أهدافهم وتعلُّم القيام بما هو ضروري لإنجازها.

3.     العالم ضخم وواسع، ولذلك فهو يؤمِّن للبشر فُرَصًا غير محدودة.

4.     إن تاريخ البشرية هو تاريخ التقدم؛ فلكلِّ مشكلة ثمة حل، ولذلك لا ينبغي للتقدم أن يتوقف أبدًا.

يقدِّم الإيكولوجي ديڤيد إهرنفِلد David Ehrenfeld بعض النتائج المستخلَصة من الافتراض الأخير، آخذًا في الاعتبار كيفية مقاربة المشكلات ضمن هذه النظرة إلى العالم:

1.     المشكلات كلها قابلة للحل.

2.     المشكلات كلها قابلة للحلِّ على يد الناس.

3.     الكثير من المشكلات قابل للحلِّ بواسطة التكنولوجيا.

4.     تلك المشكلات غير القابلة للحلِّ بواسطة التكنولوجيا، أو بواسطتها فقط، تجد حلولاً لها في العالم الاجتماعي (بواسطة السياسة، الاقتصاد، الخ).

5.     عندما نتَّجه لخسارة الرهان فسوف ننهمك بأنفسنا ونعمل سويَّة كي نجد حلاًّ قبل فوات الأوان.

في هذه النظرة إلى العالم، يُنظَر إلى الأرض في المقام الأول، إنْ لم يكن حصريًّا، كمجموعة من الموارد الطبيعية. بعض هذه الموارد غير محدود؛ وأما الموارد المحدودة فيمكن للمجتمع التكنولوجي أن يطرح بدائل عنها. وثمة إيمانٌ طاغٍ بأن الحضارة البشرية سوف تبقى، وبأن البشر سوف يستمرون في السيطرة على الطبيعة لأنهم أرقى من بقية الطبيعة وأسمى. وتُرى الطبيعةُ بأسرها من منظور متمركز بشريًّا، أو من منظور «المركزية البشرية» anthropocentrism.

في العلوم الاجتماعية، كما أثبت وليَم كَتُّون، تدفع هذه النظرةُ إلى العالم نحو موقف مفرط في تمركُزه البشري. فثمة أربعة أفكار تهيمن على منظور العلم الاجتماعي:

1.     بما أن البشر يمتلكون نوعًا من التراث الثقافي، بالإضافة إلى إرثهم الجيني وكتميُّز عنه، لذلك فهم لا يشبهون أبدًا المخلوقات الأخرى على الأرض.

2.     يمكن للثقافة أن تتنوع تنوعًا غير محدود وأن تتغير بسرعة أكبر بكثير من تغير السمات البيولوجية.

3.     لذلك، وبما أن الكثير من الخصائص البشرية مكتسَب اجتماعيًّا أكثر منه فطري، فيمكن لها أن تتبدل اجتماعيًّا أيضًا ويمكن أن تُحذَف الاختلافاتُ غير الملائمة.

4.     أيضًا، يعني التراكم الثقافي أن التقدم الاجتماعي والتكنولوجي يمكن أن يستمر بلا حدود، جاعلاً المشكلاتِ الاجتماعيةَ كافة قابلةً للحلِّ في النهاية.

بينما نشأت النظرة إلى العالم المهيمنة في أوروبا وشمال أمريكا إبان عدة مئات السنين الماضية، إلاَّ أن تعبيرها الأقوى ترسَّخ في الولايات المتحدة. وقد أجملَ كثير من المعلِّقين اللامعين شخصية الولايات المتحدة وثقافتها، بدءًا من الدراسة الكلاسيكية التي وضعها ألكسي دو توكڤيل Alexis de Tocqueville في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بعنوان الديموقراطية في أمريكا. يمكن أن يتضح لنا كيف استمرت جوانب عديدة من النظرة إلى العالم في أمريكا إذا ما قارنَّا تخمينات توكڤيل مع تلك التي قدَّمها عالم الاجتماع روبن وليامس Robin Williams ونشرها في العام 1970، ذلك العام الذي شهد ولادة «يوم الأرض»، اليوم الذي أصبح فيه «مرسومُ السياسة البيئية القومية» قانونًا.

من بين القيم التي وجد وليامس أنها بقيت ثابتة في هذه الثقافة الاعتقادُ بوجود فرصة للصعود الاجتماعي، أي الاعتقاد بأن الهدف من الحياة هو الرفاه والراحة، وكذلك استمرار الموقف العنصري والإيمان بالتكنولوجيا والتقدم. وقد جد وليامس، من خلال مراجعته لتصريحات الزعماء السياسيين الرئيسيين ولنتائج استفتاءات الرأي العام وللموضوعات السائدة في الكتب المدرسية ولمصادر أخرى، أنه ليس ثمة ذكر لأهمية «نوعية البيئة الطبيعية»، وليس ثمة عبارة حول أهمية الحفاظ على التنوع البيولوجي أو حول الأهمية الفطرية للأنواع الأخرى من غير البشر. ثمة إحساسٌ طاغٍ بالفردانية individualism، وتأكيد قليل على قيمة مجتمع البشر، وتأكيد أقل من ذلك على قيمة «مجتمع الأرض». كما وجد أن ثمة تقديرًا طاغيًا للربط بين الدراسة العلمية والتكنولوجيا بغية استغلال بعض جوانب الطبيعة واكتشاف أخرى – الطاقة، المعادن، إلخ – كي تخدم الاقتصاد المتنامي.

مقارنة النظرات إلى العالم

لخَّص المؤرخ موريس بِرمَن Morris Berman النظرة إلى العالم في القرون الوسطى في مقابل نظرة القرن السابع عشر:

 

النظرة إلى العالم في القرون الوسطى

النظرة إلى العالم في القرن السابع عشر

الكون

متمركز حول الأرض؛ الأرض هي مركز سلسلة من الكرات الزجاجية المتحدة المركز؛ الكون مغلق والإله، «المحرك الذي لا يتحرك»، يتوضع في الكرة الأبعد.

متمركز حول الشمس؛ ليس للأرض وضع خاص؛ الكواكب تدور في أفلاك بتأثير جاذبية الشمس؛ الكون لانهائي.

التفسير

غائي بلغة الأسباب الصورية والنهائية؛ كل شيء، ماعدا الإله، داخل في عملية صيرورة؛ المكان الطبيعي، والحركة الطبيعية.

صارم بلغة المادة والحركة، ولا وجود لأغراض عليا؛ ذرِّي بالمعنى المادي والفلسفي.

الحركة

قسرية أو طبيعية تحتاج إلى محرِّك.

توصف، لا تفسَّر، بواسطة قانون العطالة.

المادة

مستمرة، لا فراغ.

=

الزمن

دائري، ساكن.

خطِّي، تقدُّمي.

الطبيعة

تُفهَم عينيًّا وكيفيًّا؛ الطبيعة حية عضوية، نرصدها ونشتق استدلالات من المبادئ العامة.

تُفهَم تجريديًّا وكميًّا؛ الطبيعة ميتة آلية، تُعرَف بالمعالجة التجريبية والتجريد الرياضي.

وقد قام بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع بمحاولات واسعة لتقصِّي أصول النظرة إلى العالم المهيمنة وتطورها. فهذه، في نظر بعضهم، تُشتَق من أصول يهودية–مسيحية مؤسَّسة على افتراضات المركزية البشرية. وفي نظر بعضهم الآخر، تُرى قوتُها القائدة في ضوء نشوء اقتصاد السوق. وقد استكشف آخرون تأثير ظهور الرأسمالية. وهناك الكثير من الأدبيات التي تُرجِعُ هذه الأصول إلى المجتمعات البطريركية المؤسَّسة على سلطات السيادة الذكورية.

وصف عالم الاجتماع ماكس ڤيبر Max Weber عملية «نزع السحر عن العالم» باعتبارها مشروطة بظهور «العقلانية الأداتية». من هذا المنظور، فإن البيروقراطية هي التنظيم الاجتماعي الذي يساعد أكثر من غيره على استحضار هذه العقلانية الأداتية في العمل. ويكون الهدف الأولي هو استخدام الموارد استخدامًا فعَّالاً لتلبية غايات مقصودة ومخطَّط لها.

هدفنا هنا، ليس مراجعة شاملة لأصول هذه النظرة إلى العالم المهيمنة ولتطورها، بل تقصٍّ عام لأثرها على مجتمعاتنا الحالية وعلى مقاربتنا للواقع المطلق (الميتافيزياء) والمعرفة (الإپستمولوجيا) والوجود (الأونطولوجيا) والكون (الكوسمولوجيا) والتنظيم الاجتماعي.

2
النقد المتواصل للنظرة إلى العالَم المهيمنة

طوال الخمسمائة عام الأخيرة، خضع بعضُ افتراضات النظرة إلى العالم المهيمنة لتساؤلات وانتقادات في الغرب آتية من فلاسفة وشعراء وشخصيات دينية وآخرين انطلاقًا من أرضيات فلسفية مختلفة. من هؤلاء النقاد توماس مالتوس Thomas Malthus ووليم بليك William Blake والعديد من شعراء الحقبة الرومانسية وكثير من أصحاب التراث الأدبي الريفي ومفكرون من قبيل فيلسوف القرن السابع عشر باروخ اسپينوزا Baruch Spinoza وفيلسوف القرن العشرين مارتن هيدغِّر Martin Heidegger. وقد انصبَّ أحدُ جوانب هذا النقد على استخدام أعداد البشر المتزايدة للموارد الطبيعية استخدامًا مفرطًا.

قدَّم مالتوس، في العام 1803، حجَّة مُفادها أن النمو السكاني للبشر سوف يتجاوز تصاعديًّا الإنتاج الغذائي، مُحدِثًا «بؤسًا شاملاً»؛ لكن الموجة التفاؤلية التكنولوجية/الصناعية تجاهَلَتْ تحذيره. استمرَّ هذا التحذير وتوضَّح بلغة التفكير الإيكولوجي الرفيع المعاصر عند ج.ر. وليَم كَتُّون. يطبِّق كَتُّون المفهوم الإيكولوجي حول "استطاعة التحمل" carrying capacity، أي مقدرة بيئة محدِّدة على دعم حياة تجمُّع من أحد الأنواع الحيَّة على المدى الطويل، كي يحاجج بأن عدد سكان البشر قد دخل منذ فترة طويلة في طور خطير من دورة الانفجار السكاني المدوِّي والانحطاط.

كان الجغرافي الأمريكي جورج پركنز مارش George Perkins Marsh من أوائل الذين حذَّروا من أن ضغط الإنسان الحديث على البيئة قد يسبِّب ارتفاعًا في نسبة انقراض الأنواع الحية وكذلك انقراضًا محتملاً للبشر. وقد قام وليم ڤوغت William Vogt لاحقًا بتوضيح الأزمة الإيكولوجية (الطريق إلى البقاء، 1948)، بما عجَّل في ظهور أعمال «الإيكولوجيين الجذريين»، أمثال پول إهرلخ Paul Ehrlich في الستينيات.

وفي حين ركَّز علماء الإيكولوجيا والجغرافيا والبيولوجيا الذين ذكرناهم، مع كثير من زملائهم، على فرضيات التقدم، ركَّز نقادٌ آخرون على افتراض «سيادة الإنسان على الطبيعة». فمنذ القرن الثالث عشر حتى، حاول القديس فرانتشسكو الأسِّيزي Francis of Assisi أن يُبعد المسيحية عن افتراض المركزية البشرية المهيمن وينقلها نحو موقع روحاني سالف أكثر تمركُزًا على الحياة؛ وقد اقترح «ديموقراطية بين مخلوقات الله جميعًا».

وبينما تلكَّأ كثير من الفلاسفة الغربيين المحدثين في نقد النظرة إلى العالم المهيمنة، فإن أحد الفلاسفة في بداية القرن العشرين شنَّ هجومًا لاذعًا على التمركُز البشري للفلسفة الغربية وعلى نسخته المسيحية المهيمنة. ففي محاضرة «التقليد الأرستقراطي للفلسفة الأمريكية» التي ألقاها جورج سانتيانا George Santayana في جامعة كاليفورنيا في بركلي في العام 1911، شكَّل نقطة انعطاف تاريخية في نشوء البحث المعاصر عن نظرة إلى العالم بديلة وعن أخلاق بيئية لن تكون ذاتية متمركزة بشريًّا ولا مادية بالضرورة.

ففي محاضرته، أعلن سانتيانا أن رعاية وعي إيكولوجي، عبر الاتصال القريب والحميم مع الطبيعة البرية wild nature، سوف يساعدنا على إهمال الإرث الفكري البالي للافتراضات الشوڤينية البشرية:

لاحظ أحد الكاليفورنيين الذين تمتعتُ بمقابلته مؤخرًا أنه لو عاش الفلاسفة بين الجبال لكانت أنساقُهم الفكرية قد اختلفت عمَّا هي عليه. قطعًا لاختلفتْ جدًّا عن تلك الأنساق التي تبنَّاها التراثُ الأرستقراطي الأوروبي منذ أيام سقراط. فلأنَّ هذه الأنساق أنويَّة egotistical فقد أضحت، على نحو مباشر أو غير مباشر، متمركزة بشريًّا ومدفوعة بالفكرة المتبجِّحة حول كون الإنسان أو العقل الإنساني أو التمييز الإنساني بين الخير والشر هو مركز الكون ومحوره. وذلك ما ستجعل الجبالُ والغاباتُ المرءَ يتنكَّر له.

وفقًا لما يقوله سانتيانا، بينما نظرت [الپروتستانتية] الكالڤنية إلى أن كلاًّ من الإنسان والطبيعة آثمان ويحتاجان إلى الخلاص، فقد نظرت الفلسفة المتعالية Transcendentalism، ممثَّلةً برالف والدو إمرسون Ralph Waldo Emerson، إلى الطبيعة باعتبارها «سلعة وجميلة».

كانت الفلسفة المتعالية ذاتية نسقية، أو نوعًا من النسق الصوري الزائف للطبيعة. وكانت المشكلة، بنظر سانتيانا، أن الفلسفة والدِّين الغربيين أخفقا في كبح تنامي المجتمع المديني–الصناعي – «الإرادة الأمريكية»؛ بل كانا يقدمان تسويغًا لسيادة التكنولوجيا على الطبيعة. زعم سانتيانا أن الشاعر والت ويتمان Walt Whitman هو الكاتب الأمريكي الوحيد الذي نجا تمامًا من التراث الأرستقراطي والمركزية البشرية عندما وسَّع المبدأ الديموقراطي كي يشمل «الحيوانات والطبيعة الجامدة والكون بأسره». لقد تطلَّع سانتيانا قُدُمًا نحو ثورة جديدة في الفلسفة غير متمركزة بشريًّا – «ثمرة خيال أخلاقي نبيل» كان والت ويتمان من تباشيره.

في تلك الفترة التي ألقى فيها سانتيانا محاضرته، كان يعيش أحد الأمريكيين غير الأصليين الذي غالبًا ما اعتُبِرَ ممثلاً لهذا «الخيال الأخلاقي النبيل» غير المتمركز بشريًّا. إنه جون ميووِر John Muir (1914-1838) الذي تجاوز تنشئته الكالڤنية عندما كان يدرس العلم والفلسفة المتعالية في جامعة وِسكونسِن في ستينيات القرن التاسع عشر. خرج ميووِر عن نطاق سيرته العلمية كشابٍّ عبقري لامع في مجال التكنولوجيا وطوَّر فلسفته غير المتمركزة بشريًّا عندما كان يجتاز مسافة ألف ميل مشيًا على قدميه من إنديانا إلى خليج مكسيكو في العام 1867. وفي السنوات العشر التالية، تجول ميووِر عبر مقاطعة آسميت وسييرا العليا، دارسًا الجيولوجيا والنبات والتاريخ الطبيعي. كان يصقل وعيه الإيكولوجي عبر الاختبار الحدسي المباشر للطبيعة. لكن تنمية ميووِر للوعي الإيكولوجي أُسيء فهمُه وبُخِّس قدرُه. فعلى الرغم من أنه قد أشير إليه باعتباره «نصيرا شعبيًّا» لحركة حماية البرِّية، إلاَّ أنه تجاوز ذاتية الفلسفة المتعالية إلى مدى أبعد بكثير مما فعله هـ.د. ثورو H.D. Thoreau. فقد ناضل ميووِر ضد مشاريع الإنماء المائية غير الملائمة، وكذلك ضد تحويل المنظومات الإيكولوجية للغابة إلى «مزارع أشجار» خاضعة للإدارة. وقد دافع عن حماية البرية كضرورة حيوية للحفاظ، على الأقل، على بعض المناطق يمكن فيها للطبيعة أن تبقى سائبة طلقة.

لا يؤدي المجتمع التكنولوجي إلى تغريب البشر عن بقية الطبيعة، بل أيضًا إلى تغريبهم عن أنفسهم وعن بعضهم بعضًا. فهو يعزِّز بشكل أساسي تدمير القيم والأهداف، الذي غالبًا ما يؤدي، بدوره، إلى تدمير الأساس الضروري لإقامة تفاعُل مستقر وقابل للحياة بين المجتمعات البشرية والعالم الطبيعي. إذ تتصف النظرة التكنولوجية إلى العالم، كرؤية نهائية لها، بمطلب الإخضاع الشامل للطبيعة والهيمنة عليها وعلى السيرورات الطبيعية التلقائية – رؤية «بيئة مصطنعة شاملة» تعيد صياغة المواصفات البشرية وتدار بواسطة البشر من أجل البشر. وقد تحدث عالم اللاهوت المسيحي المعاصر هارڤي كوكس Harvey Cox عن هذه الرؤية عندما اعتبر أن هيمنة المدينة في المستقبل (وهو التعبير الأدل على انفصال الإنسان عن الطبيعة) سوف يجعل «الطبيعة في أيِّ شكل طليق لها توجد في شكل متناثر متفرق فقط لأن الإنسان سوف يسمح بذلك». إن الحكم القيمي النهائي الذي يستند إليه المجتمع التكنولوجي – أي تصور التقدم على أنه التطوير والتوسيع بعيد المدى للبيئة الاصطناعية والذي يتم بالضرورة على حساب العالم الطبيعي – ينبغي أن يُرى من منظور إيكولوجي على أنه تراجُع واضح لا لبس فيه.

في اختصار، لقد قدمنا عرضًا موجزًا للنظرة إلى العالم المهيمنة في الغرب ولبعض نقَّادها. يقود المنظور الإيكولوجي العميق، مستندًا إلى الانتقادات الجذرية، إلى موقف غير مهادن ضد القوة الدافعة الرئيسية للثقافة التكنوقراطية الحديثة.

*** *** ***

ترجمة: معين رومية


 

[1] بل دوڤال Bill Deval: أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة هَمبولت Humboldt، كاليفورنيا.

[2] جورج سشنز George Sessions: أستاذ الفلسفة في جامعة سييرا Sierra، كاليفورنيا.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود