حول جبـلة وقصَّـابين والشَّـاطئ وحقوق الإنسـان في سـورية

 

أدونيـس

 

تحية–رسالة إلى أنطون مقدسي وميشيل كيلو وفايز ساره

 

1

اعتدتُ، منذ أن تيسَّر لي الأمرُ، أي منذ فترة قريبة، أن أقومَ كلَّ سنة في الصيف بزيارة إلى قصَّابين، القرية التي ولدتُ فيها. أقول: «منذ فترة قريبة»، لأنَّ هذه الزيارة لم تكن ممكنةً قبلها بسبب من الأوضاع الشخصية والعامة: فقد بقيتُ مُبعَدًا عن سورية عشرين سنة كاملة لم تطأها قدماي (1956-1976)؛ ثم أضيفتْ إلى هذه السنوات سنواتُ الحرب الأهلية في لبنان، حيث اضطررتُ للسفر إلى پاريس والإقامة فيها.

أدونيس ووالدته المعمِّرة في قصابين، القرية التي وُلد فيها.

زرت قصَّابين، هذه السنة [2005]، مبكرًا، في الشتاء، لكي أشاركَ الأخوة والعائلة جميعًا في إقامة احتفال لمناسبة مرور مئة سنة على ولادة أمِّي واستقبال عامها الأول بعد المئة. وقد فوجئتُ برفضها الفكرة كليًّا. ولم أشأ أن أسألها عن سبب هذا الرفض، احترامًا لرغباتها وأسرارها. ربما رأت في هذا الاحتفال، بفعل حكمتها القروية، نوعًا من الوداع الصاخب لا تريده. كأنَّها تُحبُّ أن تذهب إلى الموت، أو أن يأتي إليها، في صمتٍ كاملٍ يكون استمرارًا لصمتها هي، ولصمت أيامها.

2

يبلغ طولُ الطريق الساحلية بين بيروت وقصَّابين حوالى مئتي كيلومتر. نقطة الحدود اللبنانية–السورية، «العريضة»، هي منتصف الطريق تقريبًا. الحدود، جغرافيةً أو إنسانية، ماديةً أو معنوية، سجون أخرى. وليس بيننا، نحن العرب، للمناسبة، غير الحدود!

3

على امتداد الشاطئ السوري، يكاد الزائر أن لا يرى إلاَّ صحراء من البيوت الپلاستيكية، خصوصًا بين طرطوس وبانياس. «ذروةٌ» في البشاعة! يحلُّ الپلاستيك محلَّ البحر والجبال والحقول، محلَّ الشمس والفضاء. هكذا لا يضربُ البصرَ وحده، وإنما يضرب كذلك البصيرة.

إنها صحراء تخنق البيئة (التي نتغنَّى بها!) وتسمِّم الطبيعة (التي نعشقها!)؛ وهي، إضافةً إلى ذلك، تدبيرٌ خاصٌّ ليس إلاَّ نوعًا من «التفنن» في قتل الإنسان نفسه قتلاً بطيئًا.

كدتُ أن أسمع شهقات الحقول، وكدت أن أرى الشجر يبكي، في صحراء هذه «الجيوش» الپلاستيكية الزاحفة.

أليس هذا «غزْوًا» لأحشاء الطبيعة والأرض و«تدميرًا» لها من داخل؟! ولقد خُيِّل إليَّ، فيما أنظر إلى هذا «الغزو» الفاتك الذي يُسَرْطِنُ قلبَ هذه الأرض–الأمِّ، أن أصحاب هذه «الجيوش» – هذه البيوت الپلاستيكية – لو استطاعوا أن يلتهموا الأرض، بما عليها ومَن عليها، لما تردَّدوا!

إن الاستهزاء بالأرض (كمثل الاستهزاء بالإنسان) إبادةٌ لما فيها من البراءة والجمال والقوة، وتحويلها إلى مجرَّد آلة للإنتاج السريع، إنتاج ثمارٍ وخضارٍ لا طعم لها ولا فائدة، غير الاتِّجار والربح.

إنه «فن» تلويث الهواء الذي نتنشَّقه، والماء الذي نشربه، والجمال الذي نراه، والثمار والخضار التي نقتات بها. إنَّه، في اختصار، «فن» قتل الطبيعة، بعد الفن الذي برعنا فيه، شأن شعوب كثيرة، – «فنِّ» قتل الإنسان!

كل شيء على هذا الشاطئ العريق الفريد ركامٌ من الپلاستيك. كأنَّ فيه ما ينذر بأن البشر أنفسهم يكادون أن يتفتَّتوا إلى قطعٍ من «الپلاستيك الاجتماعي» تتناثر في الفراغ.

4

جبلة: بلدة يمكن وصف حيِّها القديم بأنه بين أجمل الأحياء القديمة في المدن المتوسطية، ويمكن وصف مَسْرحها الذي يعود، في شكله الأخير، إلى العصر الروماني، بأنه بين أجمل المسارح الرومانية في حوض المتوسط. لكنه، على مدى السنوات التي تفصلنا عن تاريخ بنائه، تهدَّم وهُدِّم وخُرِّب، ولا يزال خُرْبةً. أما الحيُّ القديم فساحةٌ لاستقبال النفايات من كلِّ نوع!

أولو الأمر، وأعوانُهم «المثقَّفون»، لا يكرزون إلا بتكفير البشر الذين يحيدون عن التراث. غير أنهم لا يفعلون، هم أنفسهم، إلا الاستهتار بهذا التراث، أي هدمه، على النحو الأكثر تنظيمًا – لا التراث السومري والبابلي والفينيقي وحده، وإنَّما كذلك التراث البيزنطي والتراث العربي.

وكيف يحدث أن النظافة هي من تعاليم الدين الذي يؤمن به سكانُ جبلة، ولا يُعنى بها أيٌّ منهم؟! وهل يمكن للإنسان أن يكون مؤمنًا حقًّا إذا لم يكن «نظيفًّا» حقًّا؟!

5

كورنيش جبلة جميلٌ، خصوصًا أنه لا يزال قريبًا إلى الطبيعة، إضافةً إلى غناه التاريخي بمآثر الأسلاف وبقاياهم المحفورة في الصخر.

ينقسم إلى قسمين: شمالي وجنوبي. الحجاب هو العلامة الفارقة بينهما، نقطة «الحدود» إنْ شئت: للجنوب الحجاب، للشمال السُّفور. أحيانًا يحدث «تسلُّل»–اختراقٌ وتمازجٌ، لكن من جهة الجنوب.

لا شكَّ أن وراء الحجاب جمالاً. غير أنَّنا مضطرون إلى الاكتفاء بتخيُّله. ونتمنَّى أن يسفر لتزداد الحياة جمالاً!

هكذا يستأثِرُ السُّفورُ بحضور الجمال الطالع من الشمال. ويستأثِرُ الكورنيش، ويستأثر رعاةُ النجوم، وصيادو الشمس والقمر. خصوصًا أن المرأة الوافدة من قرى الشمال تحمل في جسدها الينابيع والجبال وكثيرًا من خصائص الأودية والغابات. وتحمل تفتحات البراعم، وتحمل بهاء الفضاء، وشهوة الأرض.

6

«جمعية العاديات» (الآثار) في جبلة: أم أيهم، طه، جهاد، بدر، فايز، أحمد... وأصدقاؤهم «عُمَّالٌ» – يدورون كمثل الكواكب في فلك هذه المدينة. يحاولون تحريكَها في اتجاه الفرح والحبِّ والصداقة، أملاً في أن تنخرط كلها في العمل المبدع. بدأوا، تحقيقًا لهذا كلِّه، عملاً متواضعًا، لكنَّه ذو دلالة عالية: إقامة مهرجانٍ سنويٍّ في الأسبوع الأخير من تموز. مهرجانهم التأسيسي الأول، في السنة الماضية [2004]، نجح نجاحًا باهرًا؛ ومن المؤكد أنه سيكون هذه السَّنة أكثر نجاحًا.

7

في أيِّ لقاء مع السوريين، عُمالاً وفلاحين، كتَّابًا ومفكِّرين، أطباء ومهندسين، معلِّمين وأساتذة جامعيين، إعلاميين وصحافيين، نساءً ورجالاً، تبدو ملامح كثيرة تدل على التفوق والتفرُّد، وتشير إلى توقهم المتلهِّف للخلاص من الظلم ولسيادة القانون والعدالة وحقوق الإنسان وحرِّياته. ولا يُخفي أحدٌ منهم استنكارَه الكبير، الغاضب، لهيمنة الفساد. فهو من الحضور الساحق، على كلِّ مستوى، حتى ليبدو أنه القاعدة، وأنه ماء الحياة اليومية وهواؤها!

وفي هذا الإطار، وعلى هذا المستوى الإنساني–الاجتماعي–الأخلاقي، قَلَّما ترى شخصًا غير مُعارِضٍ لواقع الحياة اليومية. وهذا دليل عافية وحيوية. فالمعارضات في المجتمعات المتقدِّمة هي المحرِّك الأساس لمزيد من التقدم. وغياب المعارضة في المجتمعات المتخلِّفة، كمثل مجتمعاتنا العربية، دليل موتٍ مزدوج: موت السياسة على مستوى النظام، وموت الحركية الخلاَّقة على مستوى الحياة الاجتماعية. فالمجتمع الذي لا معارضة فيه، سياسية وفكرية، على الأخصِّ، مجتمعٌ لا حياة فيه: مجتمعٌ–مقبرة!

وهذا ممَّا يفرض على المعارضة مسؤوليةً سياسيةً وأخلاقيةً عالية، تميِّزها عن النظام الذي تعارضه، بحيث لا يصحُّ، في أيِّ حال، أن تقوم المعارضةُ بممارسات تقوم بها السلطةُ التي تعارضها. ذلك أن أبسط المبادئ التي تقوم عليها المعارضة، في أيِّ مجتمع، هي التفكير والسلوك بطرقٍ أكثر فاعليةً ونزاهةً وعدالةً في إدارة شؤون المجتمع وفي احترام الإنسان وحقوقه، من أجل تحقيق حياة أجمل وأوسع حرية. من دون ذلك، لا تكون المعارضة إلاَّ امتدادًا لأهل النظام – أعني طرفًا آخر في صراع المصالح والأغراض والمنافع.

ما الفرق، مثلاً، بين أن يضعك النظامُ في السجن لأنك مُعارِضٌ له وبين أن تتَّهمك المعارضةُ بأنك «عميل» لهذا النظام أو «خائن» أو «طائفي»، على الرغم من جميع ما أنزله بك هذا النظام نفسه؟! إن مثل هذا الاتهام أشدُّ هَوْلاً، وأكثر استهتارًا بالإنسان وحقوقه، من السجن نفسه! ذلك أن السجن قيدٌ ماديٌّ محدود، في حين أن هذا الاتهام نوعٌ من «الحصار»، بل إنه نوعٌ من القتل. أفلا تكون المعارضة، في مثل هذه الحالة، فاتكةً بالإنسان وحقوقه، كمثل النظام، وربما أشد فتكًا؟

القانون هو، وحده، الذي يحقُّ له أن يتَّهم: هذا مبدأ يجب أن يكون في مرتبة القداسة عند كلِّ شعب حيٍّ، حقًّا، يحترم نفسه، حقًّا. وهو، مع ذلك، مبدأ تدوسه الأقدامُ يوميًّا في الحياة العربية – أقدام الأنظمة والمعارَضات على السواء. فالشخص (أو الحزب)، بمصالحه وأهوائه واتجاهاته، هو الذي يتخذ، عند العرب، صفة «القانون»، ويُطلِق التهم على الآخرين، كما يشاء، ساعة يشاء، باللغة التي يشاء، ويجد إلى ذلك – ويا للعار! – مَن يؤيده، ومَن يشجِّعه، ومَن ينشره. إنَّها ظاهرة في الحياة العربية تعكس مدى الانحطاط السياسي والفكري، وتعكس المدى الذي وصلتْ إليه هذه الحياةُ في احتقار الإنسان وحقوقه.

ولماذا لا نُفيد، في سورية خصوصًا، من تجربتها السياسية، منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم: فلم يكن «النصر» الكبير الذي يحقِّقه حزبٌ من الأحزاب يقوم على انتشار مبادئه، وتحقيق برامجه، وتعميم الوعي في الأوساط الشعبية، بقدر ما كان يقوم على «تخوين» الأحزاب الأخرى، والمطالبة بعزلها ونبذها، أو إبادتها حتى. وهكذا كان لا بُدَّ من أن يترتَّب على ذلك أن أيَّ حزب من هذه الأحزاب التي «يخوِّن» بعضُها بعضًا، أو «يُشَيطِنُه»، أو «يُعَملِنُهُ» [يتهمه بالعمالة]، سيكون، حين يصل إلى السلطة، بالضرورة، حزبًا أوحد، لا يُفسِح أيَّ مجال للمعارضة – إلا بوصفها «ديكورًا» في بيت السلطة!

إن الحقَّ في المعارضة يجب أن يكون مسألة بنائية تأسيسية، تقوم في أساس الممارسة السياسية، وفي أساس الرؤية السياسية–الفكرية، عند جميع الذين يؤمنون بالديموقراطية والتعددية والتنوع وبالإنسان وحقوقه وحرِّياته. وما يمارسه، اليوم، بعضُ «المدافعين عن حقوق الإنسان»، في سورية خصوصًا وفي البلدان العربية بعامة، من «تخوين» أو «شَيْطنة» لكلِّ مختلف عنهم في الرأي أو النهج أو غير تابع إنما هو متابعة لذلك الخطأ التأسيسي، وترسيخ له، وتوكيدٌ وتسويغٌ لممارسات الإقصاء والإلغاء والتهميش التي تقوم بها الأنظمةُ الحاكمةُ في البلدان العربية كلِّها.

وأسأل هنا: ما الفرق، إذًا، بين الحاكم والمعارِض؟ على هذا المستوى، تحتاج الحياةُ السياسيةُ العربيةُ برمَّتها، يمينًا ووسطًا ويسارًا، وبخاصة في سورية والعراق، إلى نقد ذاتي، جذريٍّ وشامل، لكي تستردَّ هذه الحياةُ نفسها، من جهة، ولكي تستردَّ، من جهة ثانية، حيويتها وفاعليتها ووجهها الإنساني. أقول: «بخاصة في سورية والعراق»، لأنَّ اليسار فيهما، بمختلف تنويعاته، كان النواة الأولى في إلغاء الديموقراطية والتعددية والتنوع، وتبعًا لذلك، في ازدراء الإنسان وحقوقه وفي ازدراء الحريات؛ كان، بتعبير آخر، النواة الأولى في التأسيس لنوعٍ من «الوحدانية» ضد الحرية، ضد العقل والفكر، وضدَّ الإنسان: «وحدانية» لا شيء فيها، في التحليل الأخير، غير الطغيان.

أحبُّ هنا أن أعطي مثالاً حديث العهد (وأعتذر لأنه يتعلَّق بي، غير أنني آثرتُ أن أقدِّم مثلاً يخصني، أعرفه جيدًا، على أن أقدِّم مثلاً آخر عن شخص آخر لا أعرفه جيدًا). ولست أقدِّمه هنا لكي أدافع عن نفسي، بل لكي أؤكد ما ذهبت إليه في كلامي على المعارضة، توكيدًا على ضرورتها واحترامًا لها. فقد وزَّع الفرع السوري لمنظمة حقوق الإنسان (الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان – فرع «المنظمة» في سورية) – أقول، وزَّع بيانًا على الإنترنت يقوم على مبدأ «تَسويد» صفحة شخص معيَّن اسمه «أدونيس». ومن أجل تحقيق هذه الغاية، أباح كتَّابُ هذا البيان لأنفسهم أن يستخدموا جميع الوسائل: التزوير، والافتراء، والكذب الصُّراح – كلُّ ذلك باسم الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية، وباسم المعارضة في سورية كذلك.

والحقُّ أن الدفاع عن حقوق الإنسان مهمة نبيلة، بامتياز. وهي، من أجل ذلك، مسؤولية ضخمة، تبدأ بالنزاهة والدقَّة ومعرفة الحقيقة. وإلا تحوَّلت إلى دفاع عن فريق وافتراء على فريق آخر، بحيث يبدو هذا الدفاع «قتلاً» لآخر و«إحياء» لآخر، يقدِّم «الخير» بيدٍ و«الشرَّ» باليد الثانية. دفاعٌ أعمى، غير إنساني، وخارج العالم الذي تنهض عليه مبادئ حقوق الإنسان.

وأسارع إلى القول إن الخطوة التي قام بها أصحابُ هذا البيان بالكتابة إلى الأكاديمية السويدية لحجب الجائزة [نوبل] عن أدونيس لا تعنيني إطلاقًا. إنَّها شأن خاص بين المرسل والمتلقِّي. وأعرف أن أشخاصًا عربًا كثيرين تبرَّعوا بمثل هذه الكتابة إلى هذه الأكاديمية؛ وهي كتابة مليئة، هي كذلك، بالتزوير والافتراء وتدعو إلى الرثاء.

بماذا يتمثل هذا التزوير وهذا الافتراء عند أصحاب هذا البيان؟ إنهما يتمثلان في ما ينسبونه لي، على نحوٍ باطلٍ كليًّا. فهم ينسبون إليَّ ما يلي:

1.     عدم التوقيع على «عريضة دولية تطالب بإطلاق سراح الپروفسور عارف دليلة».

2.     «مديح آية الله الخميني ونظام الملالي» (هكذا، حرفيًّا).

3.     «الموقف المخزي من الفتوى التي أصدرها الخميني بقتل سلمان رشدي» (هكذا أيضًا، حرفيًّا).

4.     «رفض المساهمة في الحملة الدولية التي أطلقَها أواسط التسعينيات عددٌ من المثقَّفين والفنانين العرب، ومن أنحاء العالم الأخرى، لإطلاق سراح الشاعر السوري فرج بيرقدار» (هكذا أيضًا، حرفيًّا).

5.     «العلاقة السياسية والطائفية المشبوهة مع أركان النظام السوري، وبشكل خاص مع بعض ضباط مخابراته» (هكذا أيضًا، حرفيًّا).

6.     «رفض اتخاذ أيِّ موقف من اعتقال رموز حركة "ربيع دمشق" من المثقَّفين المطالبين بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان» (هكذا أيضًا، حرفيًّا).

تكرارًا، ليس في هذه الأمور الستة إلا التزوير والافتراء، إضافة إلى الجهل. وما يُشار إليه في هذه الأمور يُكرَّر تكرارًا ممجوجًا منذ أكثر من ربع قرن، حتى إنَّني أكاد أن أشفق على المكرِّرين متسائلاً: أين المخيِّلة عندهم؟ ولماذا لا يخترعون قضايا أخرى؟!

وأكرِّر: إنَّني أقدِّم هذا المثل دفاعًا عن الحقِّ في المعارضة وعن ضرورتها، لا دفاعًا عن نفسي، واحترامًا للحقيقة وللقارئ وللمعارضة في سورية:

·        أولاً: لم يكلِّمني أحدٌ، إطلاقًا، عن هذه العريضة الخاصة بالأستاذ عارف دليلة، ولم يتصل بي أحدٌ، إطلاقًا. ولو عُرِضَتْ عليَّ لكنتُ أوَّل مَن يوقِّعها. ثم إن شخصًا يوقِّع على «بيان الـ99» لا يمكن له أن يتردَّد في التوقيع على عريضة كهذه.

·        ثانيًا: هذه القصيدة–الخرافة لم يقرأها أصحاب هذا البيان، ولم يقرأها جميع الذين تكلَّموا عليها قراءةً صحيحة، وإنما قرأوا «مواقفهم» من صاحبها–الشخص ومن الثورة الإيرانية؛ أما هي، بوصفها نصًّا، فقد غابت عنهم. والدليل واضح: يقولون إنَّها في «مدح الخميني والملالي»، وهي لا تقول كلمة واحدة عن الخميني–الشخص ولا عن الملالي، بل هي تدور، جوهريًّا، على العلاقة بين «الغرب» و«الشرق». هذه المقطوعة (ولا أسمِّيها «قصيدة») إنَّما هي لحظة من الحماسة مرتبطة حصرًا بظاهرة الثورة الإيرانية، الفريدة بين ثورات الشعوب، كما أرى: غير عنفية وغير طبقية. غير أنَّني، مع ذلك، انتقدتُ مباشرةً قيام هذه الثورة على الدِّين، وحذَّرت على نحو خاصٍّ ممَّن سمَّيتُه بـ«الفقيه العسكري» (وهو ما نراه، اليوم، بتنويعات مختلفة). وأدعو أصحاب هذا البيان، إذا كانت الحقيقةُ تهمُّهم، إلى قراءة ما كتبتُه في هذا الصدد منذ قيام الثورة الإيرانية (وهو منشور في الجزء الرابع من الثابت والمتحول وفي معظم كتبي اللاحقة).

·        ثالثًا: لا يجهل أحدٌ، إلاَّ أصحاب هذا البيان، أنَّني أعرف سلمان رشدي شخصيًّا، وأنَّني كنت بين أوائل الذين دافعوا عنه، وكنت أول مَن ترجم دفاعه البديع، العميق، عن نفسه وعلاقته بالإسلام لنشره في مجلة مواقف. وكان الوضع آنذاك في لبنان يحول، جذريًّا، دون إمكان نشره: فقد رفض عمَّالُ المطبعة أنفسهم أن ينضِّدوه! وقال لي صاحبُ المطبعة: «إذا "جاؤوا" ونسفوا لي المطبعة، وقتلوا عمَّالها، فماذا يمكن لك أن تقدِّم لي؟!»

·        رابعًا: طُلِبَ مرةً منِّي في باريس أن أوقِّع على عريضة تطالب بالإفراج عن «الشاعر فرج بيرقدار». قلتُ لِمَنْ طلب توقيعي:

-       لا أعرف شاعرًا اسمه فرج بيرقدار.

-       استخدمنا هذه الصفة لكي نحقِّق أكبر قَدْرٍ ممكن من المساندة والدعم من الكتَّاب والشعراء في الغرب.

-       لكنَّنا لا نحتاج إلى هذه الصفة. وعلينا أن ندافع عنه بوصفه معتقَلاً، أيًّا كان. يجب علينا هنا أن نتجنَّب كليًّا فوضى المعايير التي اعتدنا عليها في بلداننا العربية. وهي فوضى شاعت مع الحركات السياسية و«الثورات»، فمُنِحَ كثيرٌ من المناضلين صفاتٍ وألقابًا شعريةً وفنيةً بقوة «النضال»، لا بقوة الشعر أو الفن.

لهذا السبب لم أوقِّع على هذه العريضة، وليس لأنَّني لا أدافع عن المعتقلين السياسيين في سورية.

تذكِّرني قصة فرج بيرقدار، الذي أحترم نضالَه كثيرًا، بقصة أخرى تعود إلى سبعينيات القرن المنصرم. كنت في موسكو بدعوة خاصة، وفي أثناء حديث مع بعض الكتَّاب والشعراء هناك، سُئلتُ عن شاعر دمشقيٍّ يعيش في موسكو، يوصف بين عارفيه من الحزبيين بأنه «ماياكوڤسكي العرب» (هكذا، أيضًا وأيضًا، حرفيًّا!). صُدِمْتُ حتى الذهول! وبسبب من هذه الصدمة لا أزال أذكر اسمه حتى الآن: أيمن أبو شعر. قلت للحضور إنني لا أعرف شاعرًا دمشقيًّا بهذا الاسم:

-       لم أقرأ له بالعربية أية قصيدة. هل يكتب بالروسية؟

-       لا، يكتب بالعربية.

-       الفُصحى أو الدارجة؟

-       الفُصحى.

-       آسف، لا أعرفه.

تذكِّرني هذه القصة كذلك بالإشارة إلى أسماء كثيرة خلعتْ عليها «آلة النضال»، اليميني واليساري، صفة «شاعر» – آلة الثورة الجزائرية، وآلة الثورة الناصرية، وآلة الثورة الفلسطينية، وآلة الثورة العراقية–الصدَّامية، خصوصًا في مهرجاناته «المربدية» وفي حربه «العربية» ضد «الفرس».

تذكِّرني، كذلك، باتحادات الكتَّاب العرب التي تضم أعدادًا من الشعراء قد تتجاوز أعدادَ الشعراء في العالم كلِّه!

8

أترفَّع عن الخوض في ذلك الباقي من هذه الأمور المزوَّرة المفتراة، وأقول لأصحابها: سامحتْكم المعارضة، وسامحتْكم حقوق الإنسان!

9

أعود إلى جبلة.

مدينة جبلة واحدة، إدارةً وسياسة. لكن ما أكثر المدن التي تتقاطع داخلها وتتنابذ: مدينة الزمن الأفقي الذي ليس إلا تراكُمًا؛ مدينة الزمن العمودي الذي يخترق الأنقاض والتراكمات ويتخطَّاها؛ مدينة المعتقدات المتناقضة، المتصارعة في صمت كأنه صمت السيف أو صمت القبر؛ مدينة الحجاب؛ مدينة السفور؛ مدينة الصورة التي لا تكفُّ عن التأوُّه بحثًا عن معنى؛ مدينة الذاكرة التي لا «تتذكر» إلاَّ مَحْوَ الآخر؛ مدينة الحاضر الذي ليس إلاَّ خِرَقًا ممزقةً مِن عباءة الماضي.

10

-       يعيش محرومًا من الحبِّ والشعر والفكر.

-       ماذا يفعل؟

-       ينذر حياته للحقد والكراهية و«الانتقام».

-       ممَّن ينتقم؟

-       من كلِّ شخصٍ تمتلئ حياتُه بالحبِّ والشعر والفكر.

11

الحاسَّة بيت الروح.

عندما تتَوَلَّهُ الحاسَّةُ تتحوَّل الروحُ إلى جسد.

كانون الثاني 2005

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود