نعم للدعوة لا للدعاية

 

زهير الدبعي

 

سماحة الشيخ يوسف القرضاوي قطري الجنسية، مصري المولد والنشأة، إخواني الانتماء ومعروف بأنه أقوى أمير قيادي في جماعة الإخوان المسلمين، بما في ذلك المرشد العام الحالي والسابق والأسبق. كما أن القرضاوي له عشرات المؤلفات، ويتمتع بنفوذ واسع في كثير من الأقطار لدرجة يعتبر ندًّا لسماحة شيخ الجامع الأزهر وسماحة مفتي المملكة العربية السعودية.

وجه الشيخ القرضاوي، خلال خطبة الجمعة، هجومًا قاسيًا ومباشرًا وغير مسبوق على القيادة الفلسطينية، وبذلك أسجل عدة ملاحظات:

أولاً: استخدم سماحته المنبر لدعم موقف سياسي لمصلحة قوة سياسية، وهذا مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم بعدم ذكر أسماء على المنبر، إنما بالتعميم كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام فعلوا كذا، أو قالوا كذا". وذلك لأن المنبر ليس ساحة للقضاء يصدر الخطيب منه أحكامًا على هذه الجهة أو تلك، ولا المسجد سوقًا للمديح والهجاء. ولو سلمنا جدلاً أن منابر المساجد هي المكان المناسب لتحديد المواقف السياسية فهذا يعني أنها تغير اتجاهها ومواقفها من الشيء إلى ضده، تبعًا للصراع بين الدول أو الصراع داخل الدولة الواحدة.

ثانيًا: تجاوز سماحته حدود الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على بصيرة، ليمارس الدعاية إلى جهة سياسية محددة. والفرق بين الدعوة والدعاية ليس فرقًا في المقادير والمسافات، وإنما في الطبيعة والجوهر والغايات والأساليب والنتائج. فالدعوة جهد عظيم وكريم لتعزيز قوة المجتمع وتلاحم الأمة وتضامنها، وأسلوبها القدوة الحسنة أولاً والكلمة الطيبة، ونتائجها كلها خير وعدل وبركة ونور ومصلحة لكل الناس. أما الدعاية فهي وسيلة ترويج وتسويق ليس لها غرض سوى تحقيق الأرباح والمكاسب الدنيوية، وغرضها تحقيق أرباح لجهة معينة، على حساب خسائر أو ضمور لجهة أخرى.

إن فقيهًا بحجم ومكانة ونفوذ الشيخ القرضاوي لا يجدر به أن يمارس الدعاية لمصلحة (الأوس) ضد (الخزرج) ولا المهاجرين ضد الأنصار، ولا (الحسينيين) ضد (النشاشيبيين). وذلك لأن الاحتلال الذي زرع جرثومة الثنائية الانشطارية في فلسطين منذ العام 1921، مما أفرز صراعًا داخليًا كان رافدًا من روافد قوة الاحتلال مما مكنه من اقتلاعنا وطردنا في العام 1948. وما زال الاحتلال ذاته يستهدفنا جميعًا، ملتحين وحليقين، وبالتالي فإن معالجة القضية الفلسطينية من منطلق دعائي لجهة ضد أخرى لا يخدم أبدًا الدعوة إلى الله التي تقتضي العمل الجدي لوضع حدا للانقسام والمهاترات، وبالتالي توحيد الصفوف، وإعادة الاعتبار لمصلحة الوطن والمواطنين، حتى ولو تعارضت مع مصالح شخصية أو مصالح حزبية. وذلك بناء على القاعدة الشرعية (سد الذرائع) التي تنص على: "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام".

وعليه فإن استمرار الانقسام واستمرار المهاترات على طريقة برنامج (الاتجاه المعاكس) إنما هو بمثابة تواطؤ على استمر سلب أرضنا واستهداف المسجد الأقصى المبارك. الذي ما كان المشروع الصهيوني ليحقق سلسلة من النجاحات على حساب وجودنا لولا الانقسام في وطن العرب الذي يعمل أعداؤنا على تكريسه وتأجيجه في اليمن والصومال والسودان والعراق وغيرها من الأقطار العربية الشقيقة.

ثالثًا: لسماحة الشيخ القرضاوي ولكل مواطن عربي وأخ مسلم، وكل رافض للعنصرية والظلم والاحتلال أن يغار على فلسطين، أن تستفزه ما آلت إليه الأمور من انقسام يتعايش ويستمر مع استغوال الاحتلال الذي يهدد وجودنا المادي والمعنوي بصورة غير مسبوقة.

وبقدر ما أن الدعوة تقتضي النصيحة، لأن الدين النصيحة، كما علمنا معلم الناس الخير عليه الصلاة والسلام، ولأن من صفات المؤمنين (التواصي بالحق والتواصي بالصبر) فإن الدعوة تتناقض مع الدعاية التي تستخدم أسلوب الشتم والقذف والتكفير. فالله سبحانه وتعالى نهانا عن شتم الكافرين من قريش وغيرها: "ولا تسبوا الذين يدعو من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم".

فالدعوة تقتضي النقد لأي مواطن، ولأي مستوى دعوي وسياسي واقتصادي وثقافي. فالخالق تبارك وتعالى أنزل عتابًا إلى سيدنا محمد صلى الله علي وسلم، وهو قرآن يتلى إلى يوم القيامة: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة".

فالنقد حق وواجب علينا جميعًا وهو وسيلة من وسائل الرقابة والمتابعة والتقييم واستخلاص العظات والعبر. أما توجيه الشتائم والاتهامات والتكفير، فإنها بمثابة دفيئة لتأجيج الخلاف والصراع وتعزيز الانقسام الذي يدفع ثمنه المواطنون والأجيال القادمة.

رابعًا: هناك طريقان لحل الاختلافات وتعدد الآراء. الأول بالإقصاء وبرفض الآخر وإدعاء احتكار المعرفة، وكل ذلك مقدمة للعنف الذي هو حفرة يحفرها الظالم ليقع فيها المظلوم، والاقتتال الذي هو شباب يقتلون بعضهم بعضًا ولا يعرفون بعضهم بعضًا لمصلحة من يعرفون بعضهم جيدًا. والطريق الثاني يرفض الظلم بصورة جدية واضحة لا تقبل التردد والمجاملة والضبابية والمواربة والتأويل، وتسعى بصورة منظمة جماعية لمقاومته، وتعتمد وسائل نظيفة لتحقيق الغايات النظيفة وهي الحرية و العدالة. إذا أردنا تحقيق الحرية والعدالة بقوة الناس وبوعيهم وإتحادهم وقدرتهم على العمل بروح الفريق، فإن علينا الترفع عن مدرسة التخوين والتكفير، والإقلاع كليًا ونهائيًا عن إدعاء امتلاك الحقيقة أو تمثيل الدين أو الوطن. وذلك لأن كل من الدين والوطن أكبر وأبقى من أي حزب أو أمير أو مسئول، حتى ولو كان مخلصًا وشجاعًا.

خامسًا: لماذا لا نتعظ من كل مراحل مقاومتنا، بما فيها مرحلة سماحة المفتي أمين الحسيني الذي كان مفتيًا للقدس ورئسيًا للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى منذ العام 1922، هذا المجلس الذي ضم إدارة كل المساجد والأملاك الوقفية، وكذلك القضاء الشرعي والإفتاء.

ومن المعروف أن المفتي كان له من النفوذ والمكانة والسطوة في فلسطين ووطن العرب وبلاد المسلمين لم يصلها أي زعيم فلسطيني وعربي آخر. وقد وصفه المستشار عبد الله العقيل في كتابه من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة (منشورات دار البشير- بيروت 2008): "إن سماحة الحاج محمد أمين الحسيني علم من أعلام الإسلام المعاصرين، وهو في غنى عن تعريف مثلي، فهو أشهر من أن يعرف وأكبر من أن أقوم بتعريفه، فقد ملأ الدنيا ذكره، وعم الخافقين صيته". ورغم مكانة وإخلاص وشجاعة المفتي، فقد حاقت بنا الهزيمة والاقتلاع والطرد والتهجير والتشريد التي استهدفت جميع المواطنين من مؤيدين ومعارضين، وغيرهم من المستقلين.

وعليه فإن الاحتلال ما زال يستهدفنا جميعًا ليس بالقتل والحصار فحسب، وإنما بالطرد والتهجير أيضًا، وبالتالي فإن من المخجل أن نراهن على مصلحة حزب أو قبيلة أو طائفة لأننا جميعًا في سفينة واحدة لا يكف الاحتلال عن استهدافها.

وقد وظف سماحة المفتي الذي قاد الحركة الوطنية الفلسطينية لعقود طويلة منابر المساجد في فلسطين كلها، والخطاب الديني للتهجم على خصومه السياسيين من قادة وأعضاء حزب الدفاع (المعارضين). ولكن (الانقسامية الانشطارية) شكلت رافدًا لبطش المشروع الصهيوني الذي طرد وشرد الجميع بدون الالتفات إلى تقسيمات اصطنعها وعمل على تغذيتها.

سادسًا: إن الدعوة إلى الإسلام تقتضي دراسة تاريخ المسلمين ونتائج الصراعات الدموية بين المسلمين التي أطفأت شعلة العلم والحرية والمعرفة والإبداع في الأندلس، وجعلت من أجدادنا بين مطرود وأسير.

كما تقتضي أيضًا أن نتوقف عند مواقف مضيئة من تاريخ أمتنا، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر، تنازل سيدنا الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الحكم لمؤسس الدولة الأموية، وذلك حقنًا لدماء الناس، وإخلاصًا لهم، وإيثارًا لمصلحة الناس على أية مصلحة أخرى. وقد قال رضي الله عنه كلمته المشهورة على من اعتبروا أن تنازل حفيد الرسول عليه الصلاة عن الخلافة نوع من العار: "العار خير من النار". وكلنا يصطلي نار الحصار وسلب الأراضي وتهديد وجودنا برمته.

ولست من دعاة أن يتنازل فريق إلى فريق، وإنما أن نعود إلى الناس في انتخابات عامة ليقول الناس كلمتهم، فالله سبحانه وتعالى أمر رسولنا العظيم بالشورى، فلماذا نتملص منها؟

سابعًا: بقدر أهمية إعادة الأمر إلى أهله وهم الناخبون فإن من الأهمية القصوى أن نجري الانتخابات ببرامج واضحة، وبعيدًا عن الشعارات الهلامية التي تحتمل كثيرًا من التأويل، وبصورة واضحة تحديد نمط المقاومة التي يريده الناس بناءً على مصلحتهم وقناعاتهم، فالناس هم الذين يقتل أولادهم، وتهدم منازلهم، ويجوع أطفالهم، ويعاني مرضاهم، وهم الذين يسددون في كل المراحل فاتورة الهم والدم.

فلنخضع نمط المقاومة للنقاش والدراسة والبحث والتحليل، وذلك لأن المقاومة هي مقاومة الشعب والأمة، فلماذا يحتكر عدد من الأشخاص أنماطها ووتائرها.

لماذا لا يكون للناس رأي مسموع في نمط المقاومة على ضوء دراسة أنماط المقاومة التي خاضتها أمتنا منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولأن الدفاع المشروع عن وجودنا وأرضنا ومقدساتنا ولغتنا وذاكرتنا، هي غاية المقاومة، فإن المقاومة المثمرة هي التي أنجزت تعزيز صمودنا على أرض الوطن وهو أهم وأغلى إنجاز لمقاومة المشروع الصهيوني الذي يعمل لاستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة. وجوهر المقاومة المثمرة وحدة الشعب وتضامنه، وليس تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت. وتعزيز عوامل الصمود على أرض الوطن، واستحداث مؤسسات للتعاون البناء بين الوطن و الشتات. لأن معظم المتعلمين والمؤهلين والموهوبين والخبراء والأثرياء في الشتات، وكل ذلك يقضي إصلاحات في الخطاب الديني ومعايير التدين لتصبح أقرب إلى جوهر الدين وغاية الشرع. وذلك لأن الدين قادر على منحنا طاقات هائلة تشحذ الهمم وتقوي العزائم، وترفع قدرتنا على التحدي والدفاع المشروع عن حقوقنا كبشر ومواطنين على أرض آبائنا وأجدادنا ليبقى وطنًا حرًا لأولادنا وأحفادنا والأجيال القادمة.

وهذا النمط من المقاومة اللاعنفية الفعالة القوية المؤثرة والمثمرة يقتضي (التوبة) عن القبيلة والطائفية والجهوية، وكل ما يشتت الجهود ويضعف الأداء، وبالتالي يقوي مخططات وإجراءات الاحتلال.

وهذا النمط من المقاومة المثمرة يحتاج إلى وقت وجهد ومثابرة والشروع في التنمية في حقول التعليم المدرسي والجامعي، وإذا عززنا قدرتنا على الصمود وأحبطنا مخططات وإجراءات الاحتلال في سلب أرضنا ومحاربة هويتنا وذاكرتنا فإن من يصبح، بعد ذلك، أميرًا أو وزيرًا، هل هو من الملتحين أو الحليقين، هل هي من المنقبات أو غيرهن، فهي قضية غير أساسية، لأن الحياة الكريمة الحرة العادلة على أرض الوطن كمواطنين بدون رتب وألقاب وامتيازات واستثناءات، هي خير وأسمى من كل الكراسي والألقاب في حياة العبودية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود