الصفحة التالية

اعترافات آخر متصوفة بغداد٭
الحلقة الأولى: كنت نبيًا

 

سعدون محسن ضمد

 

كنت نبيًا

هل يمكن لأحد أن يترجم تجاربه ذات الطابع الشعوري (الذوقي)، ويضعها في قوالب تعبيرية لا تهتك براءتها ولا تخدش حياءها؟ هل يمكن تحويل المشاعر إلى كلمات؟ هل يمكن قول ما لا يمكن قوله؟ أن تُحِبَّ إنسانًا ما، يعني أنك تمر بتجربة وعي لا يمكن التعبير عنها بشكل دقيق، فقولك إنك تُحِبُّه لا يكشف المعاناة الشعورية التي تمر بها، ولذلك لا يدرك من يسمع الكلمة التي استخدمتها للتعبير عن تجربتك تلك أيَّ شيء يتعلق بدفق المشاعر والأحاسيس التي شكَّلت الخلفية الذوقية لها.

هل يمكن لأحد أن يصف الطعم المر مثلاً، أو الحلو أو المالح أو الحامض؟ ماذا يمكن أن نقول إذا أردنا أن نصف طعم فاكهة ما لإنسان لم يتذوقها؟

صحيح أن الإجابة على هذه الأسئلة يجب أن تكون نسبية باعتبار أنها تتعلق، من جهة، بمدى رهافة التجربة المراد نقلها وعصيانها بالتالي على الترجمة، وتتعلق، من جهة أخرى، بقدرة الناقل أو المترجم وبراعته بالنقل. لكن تبقى عملية التعبير عن التجارب (الإحساسية) معاقة، مهما كانت الأحاسيس والمشاعر قابلة للوصف أو كان الناقل قادرًا على التعبير بشكل دقيق.

تجربة النبوة تجربة من هذا النوع، هي تجربة ذوقية خاصَّة جدًا ولا يمكن سردها، وبالنتيجة لا يمكن أن تَعْرِف معنى أن يكون إنسان ما نبيًا إلا إذا صادف وكنت أنت نبيًا. كل الكتابات والدراسات والبحوث التي حاولت أن تقترب من فكرة النبوة وتوابعها لم تفلح. كل المقاربات النفسية والاجتماعية والإنثروبولوجية كانت بعيدة عن سرِّ النبوة ورحمها الخافق بالسحر. النبوة تجربة ذاتية يعجز صاحبها عن الكشف عن كوامنها فكيف بغيره؟ وإذا أراد النبي أن يسرد نبوته فإنه سينتهك براءة هذه النبوة، ذلك أن إعلان سرِّ النبوة بمثابة قتل له في الحقيقة، وليس أدل على ذلك مما أفعله أنا بهذه الاعترافات، فلست أفعل شيئًا أكثر من تعريض تجربة خاصَّة من تجارب النبوة للتهكم والسخرية والاستخفاف. النبوة سرٌّ يجب كتمانه، ليس لأنها شأن يستحق الكتمان، بل لأنها أمر لا سبيل إلى إعلانه.

القرآن، كما التوراة والإنجيل، كلمات لم تكشف عن سرِّ النبوة. هذا إذا كانت في حقيقتها معنيَّة بموضوع الكشف. ولذلك لا اليهود ولا المسيحيون ولا المسلمون يعرفون معنى النبوة.

لو كان اليهود يعرفون معنى أن النبوة تشرُّد، لما صلبوا يسوع المسيح. ولو عرف المسيحيون أن كون النبوات عظيمة لا يتعارض مع احتوائها على الجريمة، لما أعرضوا عن نبوة محمد. ولو عرف المسلمون معنى أن النبوة باب لا يحق لأحد إغلاقه، لما كذَّبوا الحلاج ومن ثم صلبوه.

النبوة فوق ذلك فن في الإصغاء، وليس لها ارتباط مهم بالإلقاء. شرط النبي أن يكون سامعًا، فإذا تكلم فإنه سيعلن عن لا أحد، وعن لا شيء. لا شي يمكن قوله مما له علاقة بالنبوة. وكل ما أعلنه الأنبياء وادَّعوا أن له علاقة بنبوتهم هو محض افتراء، أو تخف أو وهم. وهذا ما أريد أن أقوله، وما سأسرده منذ الآن.

ما سأتلوه، عبر رحلة التدوين هذه، عبارة عن خبرة شخصية، وهي، مع أنها تتحدث عن امتلاك ناصية النبوة، حقيقية تمامًا.

لكنني لم أَعُد كذلك

لقد كنت نبيًا في يوم من الأيام، هذه حقيقة لا أقولها بوصفها كفاءة أو ميزة، بل أعترف بها كونها خطيئة يجب الاعتراف بها ومن ثم كشفها كما يليق بتجربة إنسانية يجب أن تكشف لتكون بمتناول التراكم المعرفي الإنساني. لكن السؤال المحرج هو: هل يمكن الكشف عن تجربة النبوة، التي هي في النهاية تجربة أحاسيس ومشاعر؟ وهذا السؤال يتضمن سؤالاً آخر، أو هو ينقلب بالأحرى إلى سؤال آخر يقول: هل يمكن إثبات دعوى النبوة، خاصَّة وأنها تجربة ذاتية تبدأ من الذات وتنتهي إليها؟

لا بالتأكيد. لا يمكن كشف تجربة النبوة، ولا يمكن بالتالي إثباتها.

إذن فما جدوى الاعتراف؟

أعتقد أن الجدوى تكمن في الادِّعاء نفسه، فادعاء أنني نبي يخولني أن أكون أقدر من غيري على تفسير النبوة، تفسير أحوال الأنبياء وأقوالهم، وتحديد المواطن التي كانوا فيها منسجمين مع ذاتهم، وتلك التي كانوا فيها منشقين عليها وعلى نبوتها، أو تحديد متى كانوا متوهمين ولماذا كانوا مضطرين لأشياء كثيرة، ليس أخطرها الكذب.

بالتأكيد لن تكون تحليلاتي موجهة إلى تجربة نبوية محددة. أنا لا أقصد نبيًا بعينه، ولا نوعًا محددًا من أنواع النبوات – والنبوات متعددة بتعدد الأنبياء – وما سأقوله قد يصدق على الحلاج وابن عربي، وعلى محمد والمسيح، وعلى بوذا وزرادشت، وقد لا يصدق؛ ففي النهاية لا يملك الحكم على يقينية الإخبار عن الحقيقة إلا الحقيقة نفسها.

إذن أنا أدعي بأنني خضت غمار تجربة أن أكون نبيًا. مررت بهذه المحطة، زرتها، تمرغت في ترابها، واكتشفت شيئًا فشيئًا مقدار ما فيها من سحر وجمال وإتقان، وأيضًا مقدار ما فيها من وهم. نعم وهم كبير يكمن بالنبوة، بل ويكاد أن يتحول إلى ساحرها الكبير والعظيم. ولا يستطيع النبي أن يفرق بين أوهام إلهامات النبوة وبين حقائقها، إلا بعد أن تفشل محاولات التعالي التي تقوم عليها تجربة النبوة في إيصال النبي إلى مديات من الإدراك والفعل تتجاوز ما تسمح به بشريته. وهكذا يضطر النبي إلى العودة لبشريته، معترفًا بأخطائه وجهله وكامل نواقصه، ما يُمَكِّنه من أن يدرك، وبعيني خبير، أين كان واهمًا وأين كان عالمًا.

بعبارة أخرى، النبوة تجربة تقوم على عقيدة تؤمن بقدرة الإنسان على تخطي ممكناته البشرية، ولأنها كذلك يعتقد النبي أن له الحق بأن (يتأله) خارجًا من قيد الإنسانية إلى إطلاق الإلوهية. وهكذا يسعى بكل جهده لتحقيق هذا (التأله)، لكن حلم (التأله) لا يمكن تحقيقه، الأمر الذي يضطر النبي في النهاية إلى الإقرار بأن طوق البشرية محكم عليه بصورة مطلقة، شأنه شأن بقية البشر، وهكذا ينهار الإله فيه ويبقى الإنسان فقط. النبي يستخدم كلام الرب فقط، لكنه لا يستطيع استخدام سيفه ولا قوته ولا جبروته، هو يسعى لذلك، لكن سرعان ما يكتشف بأن الأمر مقتصر على الكلام، ما يدفعه بعد ذلك إلى التشكيك حتى بهذا الكلام، وربما الكفر به.

بعبارة ثالثة: أنا لا أقول أن اكتشافي لأوهام النبوات هو الذي دفعني لهتك سرها. لكنَّ خوفي وقلقي من أن أتحول إلى محراب آخر من محاريب الوهم – التي تعمل على تشتيت تجربة الوعي البشري – هو الذي يدفعني دفعًا إلى الاعتراف بأن دين النبوة، ذلك الدين الساحر والمغامر والفعَّال، هو دين بشري من ألفه إلى يائه، ما يعني أنه مريض بكل أمراض الضعف التي تصيب تجارب البشر.

النبوة اتصال ذاتي بين بشرية الإنسان وبين ألوهيته، وهي وفق هذه الرؤية تجربة حوارية داخلية شخصية يحاور من خلالها النبي ذاته ويسمع صدى تأملاته، وكلما كانت هذه الذات قابلة للتضخم، كان النبي قادرًا على تصديق (التأله) وتحقيقه، لكن الغريب بالأمر أن (التأله) حالة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إلا إذا كان (المتأله) مجنونًا تمامًا، والسبب هو أن ادعاء (التأله) سيطرح، عاجلاً أم آجلاً، على النبي إمكان تحقيق ألوهيته على الأرض. وسيطالبه هذا الادعاء بأن يخرج من قدر الإنسان إلى قدر الإله، لكن هل يمكن ذلك؟ هذا ما يحاول النبي جاهدًا أن يجيب عليه، خلال رحلة النبوة، فيسعى جاهدًا إلى التغلب على مصاعب بشريته بقوة ألوهيته، لكنه يتفاجأ المرة تلو الأخرى بأن الشعور بالألوهية والإحساس بها شيء، وتحقيقها على الأرض شيء آخر. أما كيف يرضخ النبي لهذه الحقائق وكم يستغرق هذا الرضوخ، فهذا ما ستتكفل بإيضاحه سلسلة الاعترافات هذه.

إذًا، الجدوى من ادعاء النبوة تكمن في الادِّعاء نفسه. فهو وحدَه إنجاز يكشف عن ثقة عالية بالتجربة المدَّعاة، من جهة، ومن جهة أهم، يساعد، إذا بقي خاليًا من أية غاية، في الكشف عن بعض الظواهر المحيطة بالنبوة، وأؤكد، المحيطة بالنبوة، وليس النبوة نفسها، فالنبوة كما قلت لا سبيل إلى الكشف عن حقيقتها، فقط لأنها تجربة أحاسيس ومشاعر.

ليست النبوة نعمة، وهذا لا يعني بأنها نقمة بأي حال من الأحوال، لكن من الضروري الالتفات إلى أنها دوامة وعي يغرق بها فكر الإنسان وقد لا يخرج منها إلا مُعاقًا.

النبوة تجربة وعي، هذه حقيقة يجب عدَّها نقطة دلالة مهمة نرجع إليها كلما احتجنا إلى ذلك خلال رحلة الاعتراف التي نحن بصددها الآن. (النبوة تجربة وعي ذاتي). حسنًا، لنجعل من هذه الجملة القصيرة خطوتنا الأولى للإبحار في بحر النبوة الساحر والمكتظ بالضياع.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ ليست رواية بالتأكيد، مع أن فيها الكثير من السرد، وعذري أنَّ الذي اعترف بهذه الاعترافات اشترط عليَّ أن اسردها كما قالها هو، ما أمكن؛ يقول: لأن تجربة النبوة حساسة لدرجة تحتم علينا التعامل مع اعترافاتها بحساسية كافية. إذًا، فهذه الكلمات هي ما استطعت الاحتفاظ به، وما أحاول إيصاله، من سرديات خاصَّة توثِّق اعترافات آخر متصوفة بغداد.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود