قطوف من شجرة الحياة 12

 

اسكندر لوقا

 

في الحياة عمومًا، لا يمكن الفصل تمامًا بين المظاهر التي ترافق الوجود كوجود قائم بحدِّ ذاته. ذلك لأن ثمة الأبيض والأسود، والجميل والقبيح، والقصير والطويل، كما هو حال المتعلم والجاهل، والغني والفقير، والعاقل والأحمق، والمتواضع والمتعجرف، والضعيف والقوي، وسوى ذلك من مظاهر الوجود المتعددة التي تُرى حتى في عالم الكائنات غير العاقلة، كما في عالم النباتات وأنواعها. وإذا كان لا بدَّ من التسليم بهذه المعادلة في الحياة، فمن البديهي القول حينئذ بأنه لولا الأبيض لما وجد الأسود، ولولا الجميل لما وجد القبيح، ولولا القوي لما وجد الضعيف، إلى آخر هذه المنظومة. وبالتالي لما كان هذا الذي يسمى "البعد الثالث" في اللوحة الفنية، أعني به الجانب الذي يوضِّح عمق الفكرة التي راودت صاحبها قبل أن تصير طرفًا غير مرئي في إطار عمل فني ببعديه طولاً وعرضًا فقط. كذلك هو النقيض بين المظاهر التي ترافق الوجود كوجود قائم بحدِّ ذاته، حين يبدو بعدًا، وإن يكن طرفًا غير مرئي، لفهم الحياة خارج معادلة الطول والعرض كي تأخذ معناها الحقيقي على خلفية التوازن بين الكائنات المرئية كافة، وعلى اختلاف أنواعها ودرجاتها.

***

كما الزارع تغمره الفرحة حين يثمر زرعه في الحقل، كذلك المشارك في عمل ما، يغمره شعور مماثل لشعور الزارع حين يكون ناتج عمله لصالح الغير، وذلك على نحو ثمار الحقل حين لا يعود نفعها إلى صاحب الحقل فقط، وإنما يتخطاه إلى الآخر. هذه المعادلة، ليس سهلاً أن يجسِّدها الإنسان في حياته حين لا يؤمن بالغيرية منهجًا يسيرعلى هديه، لأن الغيرية، في سياق تعامله مع هذا الآخر أو ذاك، لا تحتمل معنيين معًا، فإما أن يكون الآخر لديه في مستوى ذاته وإما أن تقوى الأنانية عليه فلا تمكنه من رؤية صورة سواه، حتى إذا كان على مقربة من عينيه. وفي الأنانية، كما نعلم، تتفاقم الفردية التي لا تجرِّد صاحبها من إمكانية الاعتراف بأنه ليس مركز العالم حقًا، وبالتالي لا يدرك حقيقة أنه جزء من كلٍّ لا كلاً من كلّ. وفي السياق المتصل غالبًا ما يختبىء صاحبنا هذا داخل صدَفته التائهة المستكينة على رمال شاطىء بحر، في انتظار دورها، إلى حين تتقاذفها أمواجه وترميها بعيدًا لتتناثرأطرافها هباء على صدر صخرة وكأنها لم تكن.

***

يختلف البعض من الناس فيما بينهم حول مفهوم المبادرة، ولذلك يجري تقييمها من خلال وجهتي نظر: هل هي عمل عفوي، أم هي حالة استجابة لطلب؟ وبطبيعة الحال فإن خلافًا على هذا النحو حول مفهوم المبادرة، يبقى قائمًا وقد لا ينتهي الجدل حوله. ولكن، في الوقت ذاته، يبقى السؤال قائمًا أيضًا حول تأثير الموهبة في هذا السياق. فالموهبة لا حدود لها، لأنها كالبذرة حين توضع في تربة غنية بمكوناتها المؤثرة في عملية النمو. ومن هنا يمكن القول بأن المبادرة من نتاج الموهبة التي تخلق مع الإنسان، كما البذرة في أرضها الطيبة، ومن ثم تنمو مع العناية لتصير فكرة قابلة للتطبيق. ومن هنا يمكن القول بأن لا علاقة لقاعدة الاستجابة في هذا السياق. إن عملاً ينجز استجابة لطلب، مهما كان دقيقًا ومتقنًا، يبقى حالة طارئة. في حين تتخطى الموهبة تلك الحالة وصولاً إلى مرحلة الإبداع، حيث تؤكد ذاتها على أرض الواقع، ذلك لأن الموهبة لا يمتلكها كل إنسان حُكمًا، وكثيرًا ما يتهم ناتج موهبته في نظر البعض من عارفيه، وخصوصًا في بيئته، بأنه مجرَّد محصلة لـ"ضربة حظ". تلك هي نزعة التنكر للأخلاق الرفيعة التي تجعل أحدنا لا يشعر بأية غضاضة حين يعترف بتفوق الآخر عليه بغض النظر عن جنسه أو لونه أومعتقده.

***

غالبًا ما يتساءل إنسان عصرنا الحالي، بينه وبين نفسه، ماذا يختار ليحقق وجوده، وبالتالي ليحقق إنسانيته؟ المعرفة أم الثروة أم المنصب، أم ماذا؟ إنها سلسلة من الخيارات تطرح نفسها أمام إنسان عصرنا الحالي، مع مقاربته زمن الانفتاح على آفاق المعرفة التي لم يعد لها حدود مرئية في زمن طغيان عمليات ضخِّ المعارف المتعددة والمتنوعة على عقول أبناء الجيل الذي لم يعد يدري، حقًا، من أين يجب أن يبدأ وماذا يجب أن يختار. إن المعرفة، كما نعلم جميعًا، هي البداية ليتمكن الإنسان من التعرف على نفسه أولاً وقبل أن يتعرف على الآخرين من حوله، ومن خلال هذه المعرفة يستطيع الانتقال إلى المرحلة التالية، مرحلة التعرف على الآخر، وبالتالي مرحلة التعرف على الحياة بأبعادها كافة، ذلك لأن كل إنسان كان، وما زال، منذ بدء الخليقة عالمًا قائمًا بذاته وإن تشابه مع الآخر بالشكل الخارجي، وهو أمر وارد في كل الأحوال. ولا أعتقد أن يومًا سيأتي ونرى فيه حلاً موضوعيًا لهذه المسألة التي ستبقى تشكل هاجسًا لدى الإنسان في بلدنا كما في جميع بلدان العالم في سياق بحثه الدؤوب والمضن عن المعرفة بآفاقها الواعدة، أو الثروة بمغرياتها المعروفة، أو المنصب بتداعياته الأزلية على الذات وما حولها.

***

عندما يمتلك أحدنا الشيء قد يفقد معناه، وعندما يفقده غالبًا ما يحسُّ بحاجته الماسة إليه. هذه القاعدة تكاد تكون عامة ومألوفة لدى جميع الناس. وفي اعتقادي أننا بتأثير هذه القاعدة نخسر الكثير ولا نربح سوى القليل. نخسر الكثير لأننا نحتاج إلى معرفة مزايا الأشياء التي نمتلكها قبل التضحية بها، ونربح القليل لأننا لا نفيد من تلك الأشياء خصوصًا عندما يفوت وقت الإفادة منها إلا بمقدار. إن الشاب الذي يستهتر بصحته ولا يعقل، والثري الذي يبدِّد أمواله من دون حساب، والطالب الذي يهدر أوقات دراسته، والزارع الذي يهمل حقله، إن كل هؤلاء وغيرهم ممن يعتقدون أن المستقبل البعيد أو القريب على حدِّ سواء لا بد أن يحمل إليهم فرصًا أخرى قابلة للاقتناص، يضعون الأمور عمليًا في غير نصابها، وهم غالبًا ما يكتشفون هذه الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان، ذلك لأن الفرص الذهبية قد تتكرر، وإن حدث ذلك أحيانًا فقد لا تتكرر في المكان المناسب أو في الظرف المناسب.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود