في مفهوم الصُّدْفة
الصُّدْفة لا تأتي بالصُّدْفة

 

محمد علي عبد الجليل

 

تختلفُ الرؤيةُ إلى الأمورِ بحسبِ زاويةِ النظرِ وبحسب القربِ والبعدِ ومستوى المعرفة ودرجة الوعي. فإذا نُظِرَ إلى ظاهرةٍ ما من زاويةِ ظهورها للإنسان من دون قصدٍ وبصورة عابرة، أيْ مِنْ دونِ أنْ ينتظرَها ذلك الإنسانُ، سُمِّيَتْ صُدْفةً (عشوائية، بدون قصد ولا هدف). وإذا نُظِرَ إلى الظاهرة من زاويةِ وقوعها على إنسانٍ مُعَيَّن دون غيرِه سُمِّيَتْ حظًا أو نصيبًا. وإذا نُظِرَ إلى هذه الظاهرة من زاويةٍ سببية (عِلِّـيَّـة) لا مفرَّ منها، أيْ إذا نُظِرَ إليها على أنه نتيجةٌ حتمية سلبية لسببٍ يكون في الغالب مجهولاً سُمِّيَتْ قَدَرًا. وإذا نُظِرَ إلى الظاهرة على أنَّها تدَخُّلٌ إلهيٌّ إيجابيٌّ سُمِّيَتْ عنايةً [إلهية] أو لطفًا [إلهيًا] أو توفيقًا إلهيًا. وإذا نُظِرَ إلى الظاهرة بمعزِل عن أسبابها وظروفها سُمِّيَتْ عبثًا. وإذا وقعَ أو حصلَ حدَثان (ظاهرتان) في مكان واحد أو زمان واحد، بحسب إحساسنا الفيزيولوجي (ولكنْ قد لا يكونُ ذلك صحيحًا من وجهة نظر فيزيائية)، سُمِّيَتْ تلك المصادفةُ تزامنًا.

من ناحيةٍ لغوية فإنَّ كَلِمَتَيْ "صُدْفة" و"مصادفة" مشتقَّتان من الفعل "صَدَفَ"، ويعني: عرَضَ أو ظَهَرَ. يقال: صادفَ [فلانٌ] فلانًا، أيْ وجدَه ولقيَه. (كتاب العُباب الزاخر للصاغاني) وصدَفَ عن الشيء: أعرضَ عنه. جاء في القرآن الكريم: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عنْها؟ سَنَجْزِي الذين يَصْدِفون عن آياتنا سُوء العذاب بما كانوا يَصْدِفُونَ". (سورة الأنعام، الآية 157) فما يسمَّى في لغتنا المعاصرة بالصُّدْفة (بمعنى اللقاء من غير قصد) كان يسمَّى في العربية قديمًا بالعَرَض. يقال: لقِيْتُه عَرَضًا، أيْ التقيتُ به صُدْفةً (صادفْتُه) أو التقيتُ به من دون موعد. جاء في الصحاح في اللغة للجوهري:

عَرَضَ له أمرُ كذا يَعرِضُ، أي ظَهَر. والعَرَضُ بالتحريك: ما يَعرِضُ للإنسان من مرضٍ ونحوه. وعَرَضُ الدنيا أيضًا: ما كانَ من مالٍ، قلَّ أو كثر. يقال: الدنيا عَرَضٌ حاضرٌ، يأكل منها البرُّ والفاجرُ. وقولهم: "عُـلِّـقْـتُها عَرَضًا" إذا هَوِيْتُ امرأةً، أي: اعْتَرَضَتْ لي فعُـلِّـقْـتُها من غير قصدٍ. قال الأعشى [في مُعلَّقتِه]: -عُـلَّـقْـتُها عَرَضًا وعُلِّقَتْ رَجُلَا / غَيْري وعُلِّقَ أخْرى غَيْرَها الرجُلُ.

وكأنَّ الأعشى الكبيرَ أراد أنْ يقولَ أنه أحبَّ تلكَ المرأة بالصُّدْفة، أيْ: لمَّا عَرَضَتْ له وقعَ في حبِّها، يعني: حصلَ له حُبٌّ من أول نظرة، بينما هي أحبَّتْ رَجُلاً آخرَ بالصُّدْفة، ولكنَّ هذا الرجلَ الآخرَ وقعَ في حبِّ امرأةٍ غيرِها بالصُّدفة أيضًا. وإذا خرجَ الرجلُ من بيتِه فصادفَ سَحابًا عابرًا يعترِضُ في الأفق سمَّاه عارضًا. وردَ في القرآن الكريم: "فَلَمَّا رَأَوهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا: هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا. بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ." (الأحقاف، 24)

الصُّدْفةُ هي كلُّ عارضٍ للإنسان لم يكُنْ يتوقَّعُه أو لا يعرِفُ أسبابَ ظهورِه.

الصُّدفةُ إذًا هي نقصٌ في معرفتنا بالسببية في ظاهرةٍ ما نظرًا لتعقيد أسبابها. لقد استخدمَت اللغةُ الفرنسيةُ للتعبير عن مفهوم الصُّدْفة وتعقيدات أسبابها كلمةَ le hasard؛ وهذه الكلمةُ مشتقَّةٌ من الكلمة العربية الزَّهْر al-zahr، وهي لُعبةُ النَّرْد والتي تسمَّى زَهْر النرد التي تعتمد على الصدفة والحظ والعشوائية في الاحتمالات.

يرى العِلْمُ بأنَّ لكل ظاهرةٍ سببًا، وبتعبير أدق: أسبابًا، وبأنَّ الصُّدْفة تحصلُ في الأنظمة الديناميكية التي بلغَ مستوى تعقيدِها حدًا لا يمكن فيه للعقل البشري أنْ يحدِّدَ صيرورتَها أو مآلَها، كحركة كُراتِ اللوتو. فالصُّدْفةُ لا تطبَّقُ إلاَّ على الأنظمة الخاضعة لنظرية الشواش (الفوضى الخلاَّقة أو العماه) والتي لا تتبع تسلسلاً سببيًا خطِّيًا.

وبالتالي فإنَّ العقل البشري يصفُ الظاهرةَ بحسب مستوى وضوح رؤيته أو بحسب جهة رؤيته للعلاقة بين هذه الظاهرة وبين أسبابها.

فعندما رأى عالِمُ اللغويات السويسريُّ ومؤسسُ اللسانيات الحديثة فردينان دي سوسير (Ferdinand de Saussure) (1857-1913) أنْ لا علاقةَ طبيعيةً بين الدَّالِّ (الكلمة) (signifiant) وبين المدلول (المعنى) (signifié)، أيْ بين الفكرة وصورتها الصوتية، اعتبرَ العلاقةَ اعتباطيةً (arbitraire)، غير معلَّلة، وكأنَّ الكلمةَ ارتبطَتْ بمعناها بالصُّدْفة. وهنا يتبنَّى سوسير، من وجهة نظر معرفية (إبستمولوجية)، مذْهبَ الاسمانية (nominalisme)، وهو مذهب فلسفي ولاهوتي يقول بأن الكلِّيَّات في الميتافيزيقيا، أو المفاهيم المجردة، ليس لها وجود حقيقي، وأنها ليست إلاَّ أسماءً؛ وقد أسَّسه الفيلسوفُ السكولاتي (المدرسي) الفرنسي روسلان (Roscelin) (1050-1121)، ثم أدخلَ عليه أبيلار (Abélard) (1079-1142) بعضَ التعديلات. ولكنْ لو وضعَ سوسيرُ نفسَه مكانَ أرسطو فرأى من زاويته لرأى – ربما – رؤيةً معاكسة.

بما أنَّ كلَّ شيء في الكون مترابط (متواكل interdépendant) ولا شيء يأتي من لا شيء، وبما أنَّ الطاقة الكونية مصونة (لا شيءَ "يفنى" ولا شيءَ "يُخلَق"، إنما يتحوَّل باستمرار)، وبما أنَّ الطاقةَ الأخلاقية هي الأخرى مصونة، قياسًا على مبدأ مصونية الطاقة الحركية، حيث لا شيء يضيع ("فمن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره ومن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ شرًا يره" (الزلزلة، 7))، فإنَّ الصُّدْفة هي نتيجةٌ طبيعية لأسباب معقَّدة. الصُّدْفة ما هي إلا تسديدٌ كارميٌّ لديون سابقة: "إنما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم" (حديث قدسي).

أمَّا العناية الإلهية فيُعرِّفُها كتابُ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (The Catechism of the Catholic Church) بأنها التدابيرُ أو الأحكامُ التي يقود اللهُ من خلالِها بحكمةٍ ومحبةٍ جميعَ الخلائق إلى غايتها. أيْ هي الوسيلة التي يحكم من خلالها اللهُ كلَّ شيء في الكون. فلا مجالَ للصُّدفة أبدًا. ففكرةُ العناية الإلهية في المسيحية تُقابِلُ فكرةَ اللطف الإلهي في الإسلام. واللطفُ الإلهي هو العناية الإلهية العامة بالعِباد جميعًا (التدبير الإلهي)، وتشمل جميعَ التسهيلات الربانية وجميع أنواع الرحمة والحنان لعموم البشر، إذْ يؤكِّدُ القرآنُ أنَّ: "الله لطيفٌ بعباده". (سورة الشورى، الآية 19) "إنَّ الله لطيفٌ خبير". (سورة الحج، الآية 63). فالعناية الإلهية عامة لا خاصة. والعنايةُ الإلهية لا تتدخَّلُ لحماية شخص وترفض التدخُّلَ لحماية شخص آخر. فهي ليست شخصية. إنها جميع التدابير الإلهية لجميع المخلوقات. ولذلك فأنَّ الفيلسوفةَ سيمون ﭭـايل (Simone Weil) (1909 – 1943) انتقدَت في كتاب التجذُّر: تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن الإنساني المفهومَ الشخصي للعناية الإلهية (اللطف الإلهي) فتقول:

عندما أُدخِلَ مفهومُ العناية الإلهية في الحياة الخاصة لم تكن النتيجةُ أقلَّ هزلية. فعندما تَنزِلُ صاعقةٌ على بُعد سنتيمتر واحد من أحدهم دون أنْ تمسَّه يظنُّ غالبًا أن العنايةَ الإلهية قد حفِظَتْه. والذين يكونون على بعد كيلومتر واحد من مكان نزول الصاعقة لا يظنون أنهم مَدينون بحياتهم لتدَخُّـل الله. على ما يبدو عندما تكون هناك آليةٌ في الكون على وشك قتل كائن بشري يتساءل اللهُ إنْ كان يرضيه إنقاذ حياته أو لا، فإذا قرَّر أن ينقذَ حياةَ هذا الكائن فإنه يسدِّد ضربةً لا تكاد تُرى بإبهامه على هذه الآلية. يمكنه تمامًا إزاحةَ الصاعقة لمسافة سنتيمتر واحد لكي ينقذَ حياةَ أحدهم، ولكنْ ليس لمسافة كيلومتر، [...] كل ما لا يحصل يمنعه اللهُ بالدرجة نفسها. وكل ما يحصل يسمح به اللهُ بالدرجة نفسها.

ترى سيمون ﭭـايل أنَّ المفهومَ العبثيَّ للعناية الإلهية كتدَخُّلٍ شخصيٍّ لله لإنقاذ شخص ما دون آخر يتعارض مع الإيمان الحقيقي ويتعارض مع المفهوم العلمي للعالَم. ولكنَّ المسيحيين (وأضيف: المسلمين أيضًا) ضائعون بين هذين المفهومَين المتعارضين، وبذلك لا يستطيعون التفكيرَ لا بهذا المفهوم ولا بذاك. بينما يَعرِف غيرُ المؤمنين بسهولة أنَّ هذه العنايةَ الشخصية مُضحِكةٌ وأنَّ الإيمان نفسه بالنتيجة يبدو في نظرهم موصومًا بالسخرية.

فالعنايةُ الشخصيةُ أو اللطفُ الإلهيُّ الذي ننسبه لله ما هو، بحسب سيمون ﭭـايل، إلا تقطيعاتٌ نقوم نحن بها في التعقيد الأكثر من لانهائي لترابطات السببية من خلال وصل بعض الأحداث عبر الزمن ببعض نتائجها التي نختارها من بين آلافٍ من النتائج الأخرى. عندما نقول عن هذه التقطيعات بأنها مطابِقة لإرادة الله نكون مُحِقِّين. غير أنَّ هذا صحيح بالدرجة نفسها وبدون أي استثناء في جميع التقطيعات التي يمكن أن تقومَ بها أيةُ روح بشرية أو غير بشرية وعلى أية درجة من الحجم عبر الزمان والمكان في تعقيد الكون.

إننا عندما نجهلُ الأسبابَ المعقَّدةَ الكامنة وراء ظاهرة ما، نقول، لسهولة التحليل، إنها صُدْفة. فإذا كانت هذه الظاهرةُ عظيمةً إيجابيةٌ عندنا (كحدثٍ ينقذنا من الموت) قُلْنا إنها عناية إلهية.

نَعَمْ هناك عنايةٌ إلهية، ولكنها قانونٌ عامٌّ غير شخصي.

لتوضيح فكرة الصُّدْفة، يمكنُ إعطاءُ المثالِ التالي:

إذا قالَ لكمْ أحدُهم: "إنَّ بلادَه تعيشُ منذ أربعين عامًا في أمنٍ مطْـلَـقٍ؛ وفجأةً ظهرَتْ عصاباتٌ مسلَّحةٌ روَّعَتِ السكَّانَ."، فلا تُصدِّقوا أنَّ شيئًا يحصلُ بالصُّدْفة. عليكم أنْ تعيدوا النظرَ في كلِّ كلمةٍ قالها وأنْ تطلبوا منه تعريفَ الكلمات التالية: "تعيش"، "أمْن"، "مُطْـلَق"، "فجأةً"، "عصابات"، "مسلَّحة". إنَّ هذه البلادَ، وعلى رأسها ذلك نظامها السياسي، قد راكَمَتْ منذ أربعينَ عامًا وأكثر أخطاءً مرعبةً أدَّت بالنتيجة إلى هذه "العصابات المسلَّحة" المزعومة. ولنَـعْـلَـمْ أنْ ليس هناكَ مِنْ عنايةٍ إلهيةٍ تُخرِجُنا من مأساتنا. وليس هناك مِنْ شيءٍ يأتي بالصُّدْفة. وإذا أرادَ النظامُ السياسيُّ الذي ساهمَ كثيرًا في تدمير تلك البلاد المذكورة في المثال أعلاه أنْ يُجبِرَني على القول بأنَّ هناك بالفعل عصاباتٍ مسلَّحةً ظهرَتْ هكذا "بالصُّدْفة"، فإنني أقول:

"إذا كان هناك عصاباتٌ مسلَّحةٌ فإنها صَنيعةُ النظام. نَعَمْ، هناك صُدْفةٌ. ولكنَّ الصُّدْفةَ لا تأتيْ بالصُّدْفة."

آيكس-أون-ﭘـرﭬـانس، 25 أيلول/سبتمبر 2011

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود