الحلم وتأويله من منظور التحليل النفسي (نظرية فرويد)

 

معاذ قنبر

 

مقدمة

لم تكن نشأة التحليل النفسي منفصلة عن الجو الفكري العام الذي كان سائدًا في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث عبَّرت تلك الفترة عن مرحلة غليان فكري عام مهد لتغيير واسع في النموذج الإرشادي العلمي، ومن خلال تلك التداعيات الأولية نشأ التحليل النفسي ليمثل مرحلة انتقالية تعبر عن إعادة اكتشاف الإنسان، ليس من خلال فهمه من جديد على أساس الوعي، بل من خلال إعادة خلق نموذج إرشادي جديد للإنسان قائم على تصور مفهوم اللاشعور، الجانب الكبير الهائل والخزان الذي يحتوي المعنى الأكبر من حقيقة الإنسان. ووفق هذا الاعتبار، كان التحليل النفسي يمثل ثورة فكرية، ثورة استطاعت أن تعيد فهم الذات من جديد وفق آليات التأويل وضروب الميكانيزمات الأخرى التي تفسر ما لم يكن إلا سرًا مغلقًا، والفضل يعود في ذلك دون أدنى شك للعالم النفسي سيجموند فرويد الذي قلب المفاهيم السائدة عن البنية النفسية للإنسان ما جعله يقف مع كبار واضعي النماذج الإرشادية الكبرى في التاريخ أمثال كوبرنيكوس ونيوتن وداروين. والخطوة الكبرى التي اعتمد عليها في تقديم نظريته الواسعة عن عالم اللاشعور تمثلت في دراسته – للأحلام – التي اعتبرها بمثابة الطريق الملكي للدخول إلى اللاشعور.

إن التحليل النفسي، وفق فرويد، لا يمكنه أن يقبل الرأي الذي يذهب إلى أن الشعور هو أساس الحياة النفسية، وإنما هو مضطر إلى اعتبار الشعور كخاصية واحدة للحياة النفسية، وقد توجد هذه الخاصية مع الخصائص الأخرى للحياة النفسية أو قد لا توجد. ذلك أن علم النفس الذي يقتصر على دراسة الشعور لا يستطيع حل مشكلتي الأحلام والتنويم المغناطيسي[1].

الحلم في نظرية فرويد

الحلم وفق فرويد هو ذهان، له كل ما للذهان من هذيانات وأوهام، لكنه ذهان يستمر مدة قصيرة فقط، وهو غير مُضر، بل قد يؤدي وظيفة مفيدة تتم برضا الشخص وتنتهي بعمل يصدر عن إرادته[2]. لذلك فإنه لا يعد مدخلاً لدراسة العُصابات وحسب، بل هو نفسه شكل من أشكال الأعراض العصابية، لكن ميزته أنه يظهر بصورة عامة لدى جميع الناس بما فيهم الأصحاء نفسيًا، وبالتالي حتى لو كان كل الناس أصحاء من الناحية النفسية، فإن عرضهم النفسي الوحيد هو الحلم الذي من خلاله نستطيع أن نصل إلى نفس نتائج تحليل العصابات، والدخول إلى عالم اللاشعور.

والحلم – مثله مثل العصاب - ينبعان من مصدر واحد، هو المكبوت، بحيث يمكننا القول إن الحلم هو الهذيان الفيزيولوجي للشخص السوي، فأثناء النوم، وبفضل تراجع النشاط النفسي بشكل عام، يحدث ارتخاء في المقاومة الكابتة، هذا الارتخاء هو الذي يسمح بتكون الحلم، لذلك يعتبر الحلم أفضل طريق يدخلنا إلى عالم اللاشعور النفسي[3]. والسبب هو أننا أثناء الحلم نتحرر جزئيًا، عن طريق إزالة التوترات الناشئة عن الكبت، فنتمكن من الرؤية بشكل أكثر وضوحًا، ولكن من غير أن يُزيل فعل الكبت نفسه إزالة جذرية. ومن جهة أخرى، فإن التفسير التحليلي للحلم يحررنا من أوهام المجانبة العشوائية المتصلة بنشاط الأحلام، ويمضي بنا إلى جدلية الاندفاعات الفيزيولوجية – النفسية، والضغوط النفسية الاجتماعية الداخلة في صميم سلوكنا[4]. إن الأحلام، وفق فرويد، ليست نشاط مجاني للفكر، بل إنها مجموعة من الحلول البديلة للتوترات النفسية التي لم يسعفها الإرواء الواقعي.

وجوهر عمل الحلم وفق فرويد، هو تحويل الأفكار إلى خبرات إهلاسية. والواقع أن تحقيق الرغبة هو أحد أشكال عمل الحلم في حفظ النوم وإشباع جزئي للمكبوت، والأمر هنا متعلق بالمحتوى الكامل للحلم (المضمون الظاهر والكامن) وبالتالي فإذا ما ظهر في الحلم صور مكدِّرة أشبه بالأحلام القلقية، فإن ذلك لا يعدو المضمون الظاهر الذي تعرض لتشويه شديد بفعل الرقابة، لكن ذلك لا ينفي أن الغاية هي تحقيق الرغبة المكبوتة على مستوى المضمون الكامن الذي تفصله الصور الظاهرة المنفرة عن فهم مضمونه، وهنا يمكن أن نتحدث عن إخفاق الحلم في تحقيق وظيفته، دون أن تتغير طبيعته (إشباع جزئي للرغبات). وعليه، فإن غالبية أحلام الهيلة (الكوابيس) هي أحلام ذات محتوى جنسي شديد الكبت ومكفوف بشدة، إذ تحول الليبيدو المتصل بتلك الدوافع إلى هيلة لتقليل وإيقاف القلق المضني الناتج عن تلك المشاعر. فلا وجود إذًا لحافز مجرد من القيمة، ولا وجود بالتالي لأحلام بريئة – إذا ما تركنا جانبًا أحلام الأطفال – فما نحلم به إما أن يكون ذا قيمة نفسية سافرة، وإما أنه قد تشوه فلا نعود نملك الحكم عليه حتى نفسره، وعندها يتكشف لنا مرة أخرى أنه ذو قيمة ولا يشغل أبدًا بالتوافه[5]. وبالتالي تغدو الرغبة هي منبه الحلم، وتحقيق هذه الرغبة هو مضمون الحلم الذي يقوم بتصوير الرغبة كما وكأنها قد أشبعت في شكل حدث نفسي إهلاسي[6]. وبذلك يحقق لنا الحلم التسوية على الصعيد النفسي، فيجبنا القلق ويحمي نومنا، فنحن إذ ننام، نشعر بإشباع لرغبة غير متاحة أو مكبوتة واقعيًا، وإذ نشبع الرغبة، يخفف قلقنا ونواصل النوم، فهناك إذًا إشباع جزئي للرغبة وإلغاء جزئي للقلق الناتج عن هذا الميل. لذلك فإن الحلم ليس معكرًا للنوم، بل هو حارس للنوم يذود عنه ويحميه من كل ما يمكن أن يقلقه. ولولا مساعدة الأحلام لما نمنا على الإطلاق.

إن أحد أهداف الحلم هو محاولة منع النائم من الاستيقاظ بسبب الطبيعة الموترة والمقلقة التي تعبِّر عنها رغبات الهو أثناء النوم وتراجع الرقابة أو الحاجات الفيزيولوجية، وبذلك يتيح الحلم التفريغ الجزئي للرغبة، دون انفجار المكبوت بفجاجته، وهذا معنى أن الحلم هو حافظ للنوم، باعتباره ظاهرة نفسية صادقة، إنه تحقيق رغبة، والطريق موصول بينه وبين ما نعقل من نشاطنا النفسي في اليقظة وبناؤه في صنع نشاط ذهني على كثير من التعقيد. ولعلنا نلمح أن في مقدور تفسير الأحلام أن يلقي على تركيب جهازنا النفسي ضوءًا ظللنا ننتظره عبثًا من الفلسفة[7].

لكن هذا لا يعني أن فرويد – وفق النظرة المغلوطة السائدة – قد أرجع جميع النشاطات النفسية إلى عامل جنسي فقط، إذ نجده هو نفسه يقول: لعله تناهى إلى مسامعكم أن التحليل النفسي لا يرى في الأحلام إلا المضمون الجنسي وحسب، لكن الواقع غير ذلك، فهناك أحلام تدور حول تحقيق رغبة وإشباع حاجات أولية من جوع وعطش وحاجات للحرية وأحلام أخرى الشره والطمع والكسل والأنانية وغير ذلك، لكن ما تؤكد عليه دراسات التحليل النفسي هو أن الأحلام شديدة التحريف تعبِّر بصورة أساسية (وليس كلها بطبيعة الحال) عن رغبات جنسية[8].

ولفهم الآلية اللاشعورية في الحلم يمكن التحدث عن تعامل الحلم عادة مع مصدرين يطلبان إشباعًا من الأنا. الأول يوجد بما يدعوه فرويد (ما قبل الشعور) وهو إجمالاً يتكون من أفكار تعرضت للنسيان لكنها لا تحمل شحنة انفعالية تجعلها مكبوتة، والثاني في اللاشعور، وهي الدوافع المكبوتة أو التي تتعلق بالتجارب الطفلية الأولى. وإذا ما أوضحنا الأمر بأمثلة: نجد في حلم عن الجوع تعبير عن (قبل شعور) – وحلم عن الرغبة بالراحة تعبير عن (قبل شعور يصعب تحقيقه) – وحلم عن الرغبة الجنسية تعبير عن (لاشعور مكبوت). أما عن حلم الجوع ففي أثناء النوم تتنبه في الشخص حاجته لتناول الطعام، فيحلم أنه يتناول طعامًا لذيذًا، ثم يستمر في نومه، وكان على الشخص بطبيعة الحال أن يختار بين استيقاظه لتناول الطعام أو الاستمرار في النوم، فاختار الثاني وأشبع جوعه مؤقتًا، طبعًا إذا استمر الجوع وازدادت الحاجة سيضطر إلى الاستيقاظ، أما إن أرضي الأمر كذلك فلا داعي للاستيقاظ (والأمر نفسه يمكن أن يحدث في الحاجات الأخرى التي يعوضها الحلم كالحاجة للتبول ...)، وفي المثال الثاني كان من الواجب على النائم أن يستيقظ للذهاب إلى عمله في الموعد المحدد لكنه استمر في نومه وحلم أنه موجود فعليًا في عمله فلا حاجة به لأن يستيقظ. وفي المثال الثالث تتحرك أثناء النوم رغبة للتمتع بهدف جنسي مكبوت أو مكفوف كزوجة صديق، فيحلم النائم أنه يقوم بعملية اتصال جنسي، ولكن ليس مع هذه السيدة بالذات، بل مع سيدة أخرى تسمى بنفس الاسم مثلاً أو لها نفس الملامح رغم أنه لا يعرفها.

بذلك أقام فرويد نظرية في الحلم تتوافق إلى حد ما مع التصورات التقليدية الشعبية، فهو يرى أن للحلم معنى يتصل بحياة الفرد الذي يراه، وأن الحلم وإن لم يكشف عن مستقبل الفرد، فإنه يبدي لنا بعض الجوانب الأساسية في شخصيته. وأن المضمون الظاهر في الحلم، يخفي وراءه مضمونًا كامنًا خلف رموزه التصويرية، وبالتالي فإن فاعلية التفسير هي التي لها القدرة على رد المضمون الظاهر إلى المضمون الباطن، فأعاد الحلم إلى أساسه السيكولوجي[9]. بعبارة أخرى، نحن نستطيع أن نفهم الحلم إذا افترضنا أن الحلم الذي نتذكره بعد اليقظة ليس هو عملية الحلم الحقيقية، ولكنه فقط الستار الذي تختفي وراءه تلك العملية، حيث نميز بين مادة الحلم الظاهرة (الصور التي نصفها في الحلم) وأفكاره الكامنة (الفكرة الكامنة وراء تلك الصور الواضحة) وتعرف العملية التي تخرج مادة الحلم الظاهرة من أفكار الحلم الكامنة بعمل الحلم[10]. إن أفكار الحلم ومحتوى الحلم يبدوان كترجمتين تؤديان بلغتين مختلفتين المعنى ذاته، فمحتوى الحلم يبدو كأنه نقل لأفكار الحلم على شكل كتابة مصورة يجب علينا أن ننقل رسومها رسمًا رسمًا إلى لغة أفكار الحلم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نقرأ دلالاتها الرمزية وليس دلالاتها المصورة، فرؤية حصان أو غابة مثلاً لا تؤخذ بمعناها التصوري، بل بمعناها الرمزي الدال عليها (الأب - اللاشعور...). فهناك إذًا علاقة خفية وضرورية بين الطابع المُبهم واللامفهوم لحلم، وبين المقاومة التي تواجه كل محاولة لجلاء فكرته الكامنة. والقاعدة هنا هي أن مادة الحلم الكامنة هي التي تحدد المضمون الظاهر للحلم حتى في أدق تفاصيله تقريبًا، وكل تفصيل من هذه التفاصيل لا يشتق من فكرة منعزلة، وإنما من عدَّة أفكار مقتبسة من تلك المادة الأساسية غير المترابطة فيما بينها بالضرورة، بل ومن الممكن أن تكون منتمية إلى أشد مبادئ الأفكار الكامنة اختلافًا، وكل تفصيل من تفاصيل الحلم هو تمثيل في مضمون الحلم لزمرة من زمر الأفكار المتنافرة. ولغز الحلم سيجد حله بلا ريب على أبسط صورة لو أتاح لنا التحليل أن نرجع أحلام الراشدين الغامضة واللامفهومة إلى النمط البسيط من التصورات الطفلية التي تعرضت للكبت، وعلى ذلك فإن كل حلم تظهر فيه انطباعات ترجع إلى حياة الطفولة الأولى، انطباعات تبدو بعيدة عن متناول الذاكرة في اليقظة، وكمثال: يروي فرويد قصة حلم لطبيب في العقد الرابع من عمره كان يرى أسدًا أصفر اللون في الكثير من أحلامه، وكان يصفه أدق الوصف، ثم جاء يوم عرف فيه أن هذا الأسد لم يكن إلا لعبة خزفية كان يفضلها منذ طفولته ولم يعد يذكر شيئًا من ذلك[11]. من هنا لا يجب، وفق فرويد، أن نأبه كثيرًا لمعرفة مدى الدقة والأمانة في تذكر الحالم لحلمه، فالحلم الذي يتذكره حالمه لا يتطابق مع ما نبحث عنه حصرًا، ولا يمثل إلا بديلاً محرَّفًا له، هذا البديل الذي سيتيح لنا بالاعتماد على تشكيلات بديلة أخرى من خلال التداعي أن نقترب من ماهية الحلم، وأن نجعل اللاشعوري شعوريًا، وبالتالي فإن ما يهمنا في الحلم ليس المضمون المرئي الظاهر الذي غالبًا ما يكون مشوهًا تحت تأثير الرقابة (التكثيف – الإبدال – التحريف – النقل – الاستعاضة عن الشيء بجزئه أو بكنايته)، بل المعنى الكامن وراء تلك الصور والدوال. كمثال يذكر فرويد في كتابه الحلم وتأويله حلم لرجل رأى نفسه في حلمه حبيسًا في خزانة مال، وبتأويل الحلم قد استبدل في أول خاطر عرض له كلمة خزنة مال بكلمة خزانة ثياب خاصة بأخيه، وفي الخاطر التالي انجلى تأويل الحلم، أخوه يضيق على نفسه ويضغط نفقاته كأنه يحشر نفسه في خزانته مع استبدال الحلم من شخص أخيه إلى شخصه هو. وفي حلم آخر رأى رجل أنه تسلق جبلاً ليرى كل ما حوله، التأويل هنا يبدو بسيطًا لكنه ليس كذلك، فليس تسلق الجبل هو ما ورد لذهن الحالم، بل ذهب إلى أن صديقه قد أصدر مجلة متخصصة في العلاقات مع الأقطار النائية، ففكرة الحلم الكامنة هي تقمص شخصية الحالم لمن يستجلي ما حوله.

وأول مفعول لعمل الحلم وفق فرويد، هو التكثيف، وبالتالي يكون محتوى الحلم الظاهر أصغر من محتوى الحلم الكامن، أو ترجمة مختصرة له، فقد نرى في صورة الحلم الظاهر صورة مختصرة تجمع عدَّة شخصيات في الواقع، كأن نجد شخصية تلبس لباس الشخص (1) وتسلك سلوك الشخص (2) وتوجد في مكان يسكنه شخص (3)، فتكون الغاية من التكثيف هنا الجمع بين هؤلاء الأشخاص في سمات أو صفات واحدة يجدها الحالم تجمع بينهم. إذ نلاحظ الميل نحو تكوين وحدات جديدة من عناصر هي بالضرورة منفصلة بعضها عن بعض في أثناء اليقظة. وينتج عن ذلك أنه غالبًا ما يرمز عنصر واحد في الحلم الظاهر لعدد كبير من أفكار الحلم الكامنة كأنما هو إشارة مركبة تشير إليها جميعًا (كأن نرى شخصًا لديه ملامح من شخص آخر ولباس شخص ثالث وحديث شخص رابع...)، لهذا دائمًا ما يكون حجم الحلم الظاهر صغير جدًا بالنسبة إلى ثروة المادة التي ينشأ عنها.

والخاصية الأخرى للحلم هي "النقل" حيث تنتقل الشحنات النفسية في الحلم من عنصر إلى آخر "بفعل الكبت الجاري ضمن الحلم أيضًا" حتى أنه غالبًا ما يحدث أن أحد العناصر التي لم تكن لها أهمية في أفكار الحلم، قد تصبح أوضح عناصر الحلم الظاهر وأكثرها أهمية، وبالعكس فإن العناصر الهامة في أفكار الحلم قد تظهر فقط في صورة تلميحات خفيفة في الحلم الظاهر وهنا يتجلى أثر النقلة التي تصعِّب تفسير الأحلام، حيث تستبدل العناصر الانفعالية في الحلم بأخرى حيادية مرمَّزة[12].

ومن جهة أخرى، يؤكد فرويد على المصدر اللاشعوري للحلم، إذ إن هناك الكثير من الأدلة على الدور الذي يلعبه الهو اللاشعوري في تكوين الأحلام منها: إن عدد الذكريات التي تظهر في الحلم يفوق كثيرًا عدد الذكريات التي تظهر أثناء اليقظة، فالأحلام تعيد ذكريات كان الشخص قد نسيها ولا يستطيع تذكرها في اليقظة. كذلك تستخدم الأحلام رموزًا لفظية بصورة لا حد لها، ومعنى هذه الرموز يكون في معظم الأوقات غير معروف للحالم، ويمكن تحليليًا معرفة معناها الذي يعود في غالبيته إلى المراحل الأولى من نمو الكلام لدى الشخص. كما أن الذاكرة غالبًا ما تستعيد أثناء الأحلام الذكريات من أيام الطفولة الأولى للشخص الحالم وهي ذكريات بإمكاننا التأكد من أنها ليست منسية وحسب، بل لاشعورية ومكبوتة أيضًا حيث يظهر هنا أهمية الحلم في فهم الحالات والأزمات العصابية للشخص ومحركاتها الأولى. بالإضافة إلى أن الأحلام تظهر مادة لا يمكن أن تكون قد أتت من حياة الحالم في شبابه أو طفولته المنسية، فهنا نكون مضطرون إلى اعتبار هذه المادة جزءًا من "الميراث القديم" الذي يحضره الطفل معه إلى هذا العالم نتيجة خبرات أسلافه، وذلك قبل أن تحدث له أية خبرة خاصة. ونجد في أساطير الناس القديمة والتقاليد الباقية، عناصر تماثل هذه المادة المتعلقة بنشوء الجنس. وبالتالي يتفق هنا فرويد مع يونغ بأن الأحلام تمدنا بمصدر لما قبل التاريخ الإنساني[13]. لذلك يمكن النظر إلى بعض صفات الحلم بمثابة عوامل أثرية فهي قريبة من الأساليب القديمة في التعبير واللغات والكتابات القديمة، ذلك أن فرويد لم يهمل تأثير اللاشعور الجمعي في عناصر الحلم رغم أنه لم يعطه سوى جانب ثانوي في تكوين الحلم، فيقول: التاريخ الذي يردُّنا إليه عمل الحلم مزدوج فهناك أولاً ما قبل التاريخ الفردي (الطفولة)، وهناك ثانيًا ما قبل التاريخ السلالي (إعادة تطور كل الجنسي البشري)، وبالتالي من المباح لنا وفق فرويد أن نفترض أن الترميز الذي لا يتعلمه ولا يكتسبه الفرد إطلاقًا من حيث هو فرد، هو إرث سلالي[14].

إن ما يؤكد عليه التحليل النفسي هو أن الأفعال الواعية تظل غير متناسقة وغير قابلة للفهم، إذا نحن أصرّينا على الزعم أنه يتعين أن ندرك بواسطة الوعي أو الشعور كل ما يحدث فينا من أفعال واندفاعات نفسية. لكنها تنتظم في مجموع يمكن أن نبرز تناسقه إذا ما قمنا باستقطاب الأفعال اللاشعورية المستنتجة[15]. وقد أودع فرويد في كتابه الهام تفسير الأحلام كل نظرياته النفسية التي توصل إليها، والكتاب جاء ليقول بأن الإنسان منقسم على ذاته بين وعي (شعور) ولاوعي (لاشعور)، وأن لهذا الأخير قوانينه، ولغته الشبيهة باللغة التي نتكلم بها، وذلك رغم التباين الظاهر والغرابة التي ترتبط بصورة الحلم، فلا بد إذًا من خيط يربط بينهما يجعلها إذا ما فُسرت، تبدو أنها تعمل ضمن لغة منطقية تخضع لقانونها الخاص وهو "التكثيف والنقل". ونجد الشبه لذلك في اللغات المتداولة عبر: المجاز والكناية المرسلة والتداعي الحر، وهي الطريقة المتبعة في التحليل النفسي وتعتمد على هذا القانون، على اعتبار أنه مهما ظهر من تباين في نوعية الأفكار، فلا بد من وجود خيط يربط فيما بينها. وفي نفس الكتاب يقوم فرويد بتحليل بعض النصوص الحلمية لبعض الأحلام التي رآها هو شخصيًا، متخذًا بالتالي الأحلام كأشكال من اللغة التي يتعين تفكيك عناصرها من أجل إنشاء المعنى القائم وراء ما يبدو في ظاهر الحلم أنه لا معنى له. فمثلاً يقول في تأويل وتفكيك أحد أحلامه (ن هو صديقي رأيته في الحلم، وهو أيضًا خالي وفق بعض الصفات التي رأيتها فيه. أحس تجاهه بعطف كبير، أرى وجهه أمامي وقد تغير قليلاً، إنه يبدو مستطيلاً وتحيد به لحية صفراء...) ففي هذا الحلم تم فك أكثر آليات الحلم إغلاقًا وهما الإزاحة والتكثيف، فالصديق والخال يتكاثفان في وجه واحد، كما أن صفات الخال (سيء السلوك والسمعة) انتقلت وأزيحت إلى الصديق أيضًا، كونه تسلم في الواقع المنصب الذي كان من حق فرويد نفسه أن يبلغه، وهنا اتضحت رسالة الحلم اللاشعورية، هذا الزميل ليس مؤهلاً لمنصبه لأنه سيء الخلق.

خاتمة

اللاوعي وفق التصور التحليلي هو بنية في حد ذاتها، لها تركيبة شبيهة بتركيبة اللغة، وإن كانت لغة بدائية تنقلنا بين لغة تصورية أحيانًا ورمزية أحيانًا أخرى، وبالتالي يغدو الحلم بمثابة نص يُقرأ من النص الظاهر إلى النص الباطن عبر الأفكار نفسها من خلال فك ميكانيزمات التكثيف (التعبير المتعدد عن رغبة مكبوتة) والنقل (من صورة لأخرى).

إن إنكار المريض علمه بما يحرك أفعاله وأفكاره – أي علمه بمصدر شعوره – يأتي من ابتعاد خبرته الشعورية تدريجيًا عن مصدرها الأول "اللاشعور". وذلك يجعله لا يعلم علمه بما يعتقد أنه لا يعلمه[16]. ووفق فرويد: فقد أصاب مفسر الأحلام الإغريقي (أرتميدروس) كبد الحقيقة حين قال إن الحلم يتغير مغزاه تبعًا لشخص الحالم وبمقتضى القوانين الناظمة للتعبير عن الأفكار اللاشعورية. فمثلاً نجد أن معنى فعل "أنقذ" يمكن أن يتغير تبعًا لكون صاحب تخيل الإنقاذ رجلاً أم امرأة. فبالنسبة للرجل يمكن أن يعني الإنقاذ "إنجاب طفل" أي أن يكون الرجل هو علة ولادته، كما يعني بالنسبة للمرأة أن تضع طفلاً. وهذه المعاني المختلفة لفعل (أنقذ) يمكن تعرفها بوضوح في الأحلام والتخيلات في ضوء ارتباطها بالماء. فحين يرى رجل في الحلم أنه ينتشل امرأة من الماء، فهذا معناه أنه يجعل منها أمًا، أي أمه. وحين تنتشل امرأة كائنًا ما "طفلاً" من الماء، فإنما تدلل (كقصة ابنة فرعون وانتشالها لموسى من الماء) على أنها أمه، أي التي أنجبته[17]. إن تأويل الأحلام – إذا لم تجعله مقاومات المريض أمرًا شاقًا – يقودنا إلى اكتشاف الرغبات المكبوتة وكذلك المركبات التي غذتها.

لقد أدرك فرويد إدراكًا واضحًا لا لبس فيه أن الإنسان عبارة عن بسط جدلي للتناقض بين الطبيعة ممثلة بالاندفاعات الفيزيولوجية النفسية، وبين المجتمع ممثلاً بالضغوط النفسية الاجتماعية التي بلغت درجة من التبطُّن فتح من خلالها طريقين للتحليل النفسي، طريق إعادة تلاؤم الفرد مع المجتمع المحيط به، وطريق تحرير الطاقات النفسية التي ينبغي لها أن تتيح للأفراد خلق حياة اجتماعية جديدة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] سيجموند فرويد، الأنا والهو، ترجمة: عثمان نجاتي، دار الشروق، بيروت، ط 3، 1966، ص 25.

[2] سيجموند فرويد، معالم التحليل النفسي، ترجمة: محمد عثمان نجاتي، دار الشروق، ط 5، ص 87.

[3] سيجموند فرويد، الهذيان والأحلام في الفن، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 3، 1986، ص 70.

[4] بيير فوجيرولا، الثورة الفرويدية، ترجمة: حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1972، ص 90.

[5] سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، ترجمة: مصطفى صفوان، دار المعارف، القاهرة، ط 1، 1969، ص 203.

[6] سيجموند فرويد، نظرية الأحلام، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 1982، ص 66.

[7] سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، مرجع سابق، ص 169.

[8] سيجموند فرويد، نظرية الأحلام، مرجع سابق، ص 144.

[9] بيير فوجيرولا، الثورة الفرويدية، مرجع سابق، ص 84.

[10] سيجموند فرويد، معالم التحليل النفسي، مرجع سابق، ص 75.

[11] سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، مرجع سابق، ص 211.

[12] سيجموند فرويد، معالم التحليل النفسي، مرجع سابق، ص 79.

[13] سيجموند فرويد، معالم التحليل النفسي، المرجع نفسه، ص 77.

[14] سيجموند فرويد، نظرية الأحلام، مرجع سابق، ص 153.

[15] كاترين كليمان، التحليل النفسي، ترجمة: محمد سبيلا وحسين أحجيج، منشورات النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2004، ص 32.

[16] أحمد فائق، التحليل النفسي بين الفلسفة والعلم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، بلا تاريخ، ص 41.

[17] سيجموند فرويد، الحياة الجنسية، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 3، 1999، ص 75.

 

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود