الإنجيل برواية المسلمين

 

المطران جورج خضر

 

هذا هو العنوان العربي للكتاب الذي وضعه طريف الخالدي أصلاً بالإنكليزية، وصَدَرَ عن "دار النهار" معرَّبًا. ما هي صورة المسيح عند عدد من كبار العلماء المسلمين من بعد القرآن؟ هذا الهدف يضع الكتاب في لاهوت الأديان المقارن؛ ومقاربة هذا العلم هنا مقاربة تُناضِح بين الإسلام والمسيحية من بعد التنزيل القرآني.

د. الخالدي يأتي بـ300 حديث وحديثين، منسوبة إلى عيسى، ذَكَرَها مفسِّرون ومؤرخون ومتصوفة، ويقدِّم لها ويشرحها بذكر مصادرها، فيورد، مثلاً، هذا الحديث عن عيسى: "إن الإحسان ليس أن تُحسِن إلى من أحسن إليك؛ إنما تلك مكافأةٌ بالمعروف. ولكن الإحسان أن تُحسِن إلى مَن أساء إليك." وينسب هذه القولة إلى أحمد بن حنبل في كتاب الزهد وإلى ابن عساكر، ويدل على الصفحة والأرقام، وأخيرًا يشهد أن هذا الخبر هو إعادة صياغة لما في إنجيل متى 5: 46. أحاديث جميلة، معظمها مأخوذ من العهد الجديد، مسكوبًا بلغة الناقل. ما من شكٍّ أن هناك أقوالاً أخرى لعيسى عند المسلمين؛ ولكن عندنا هنا نماذج للروحية الإسلامية التي تعتمد القرآن قليلاً في سرد سيرة عيسى، واعتمدت الأناجيل القانونية كثيرًا، وأحيانًا قليلة نصوصًا وَرَدَتْ في مصادر أخرى، يحاول الخالدي أن يثبتها. إن اهتمام العلماء المسلمين القدامى بالمسيح يسوع تفسيرُه بقول الإمام الغزالي عنه إنه "نبي القلب".

من يقرأ كلَّ هذه النصوص التي استخرجها المؤلِّف نماذج عن اهتمام المسلمين بالمسيح ضمن تصورهم اللاهوتي يستدل على أنهم كانوا في حاجة إلى حب. ما طلع علينا به المؤرخ الصارم الخالدي باحثًا هو أدب حبٍّ ليسوع الناصري؛ ويبقى أمينًا للأرثوذكسية القرآنية. جل ما يمكنني أن أفعله في سطور قليلة كهذه أن أقول لك: اقرأ، وتلطَّف بما سوف تقرأ. اقرأ فيزداد ودُّك للناصري، كائنًا مَن كنت.

عندما تطَّلع على مراجع هذا المصنَّف، أكانت إسلامية أم استشراقية، ومبلغ التعب العلمي الذي بذله الكاتب، لا يسعك إلا أن تُكبر الجهد. وكيف لا تكبر إذا طالعت المقدمة التي وضعها الكاتب بتقنية علمية كبيرة، وهي تكشف لك أننا أمام بحث أكاديمي صرف، لا يرتهن بأية عقيدة، ولكنه لا يخون عقيدة. يعترف بفضل مَن سبقه، بِمَنْ في ذلك المستشرقون. يعرض في "الخلفية التاريخية" من المقدمة أن أصول صورة المسيح القرآني هي من الأناجيل المنحولة، أو من الفِرَق المسيحية المنحرفة، أو من المسيحية المهوَّدة. في قراءتي للكتاب لا يبدو أن د. الخالدي يبتُّ هذا الأمر؛ وقد تفلَّت من المأزق بقوله إن الأهم هو "فهم أفضل للنصِّ [القرآني] من خلال نصِّه وسياقه". فيما يؤكد "التنوع المسيحي" في ما يُعرَف اليوم بالعالم العربي.

ردُّ فعلي على هذا الرأي الأخير أن تعدُّد الكنائس لا يتضمن خلافًا حول ألوهية المسيح وناسوتيَّته وصلبه وقيامته. وإن كانت العلاقة بين اللاهوت والناسوت فيه جاءت في غير قالب لفظي لم يؤثر على الإجماع المسيحي الدائم على اجتماع اللاهوتية والناسوتية في المسيح.

السؤال الذي يطرح نفسه أكاديميًّا، تاريخيًّا، على أساس النصوص، هو: هل إن السَّرد القرآني يلتقي مع الأدب الإنجيلي المنحول، أو هناك تطابُق شبه نصِّي بين نصوص قرآنية والسَّرد المسيحي المنحول؟ على سبيل المثال، نجد في متى المنحول ما يطابق في المعنى قول القرآن: "أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله" (سورة آل عمران، الآية 49). هل تأثَّر القرآن بهذه الكتابات التي لم تقرها المسيحية أم لم يتأثر؟ العقل الغربي النقدي يقول: أنا أطبق قواعد الأدب المقارن، ولا أفهم موقفًا إلا مأخوذًا عن موقف إذا كانا متطابقين. أنت لك أن ترى أن القرآن موحى به. الخالدي لا يتطرَّق إلى ذلك؛ ولست أنا أتطرَّق إلى ذلك. ولكن أقلَّ ما يقال في الأمر أن القرآن نزل في بيئة كان المسيحيون فيها يطالعون – على الرغم من توصيات الكنيسة – هذا الأدب.

كذلك نجد شبهًا بين سورة أهل الكهف وأصول مسيحية قديمة، بعضها هرطوقي. كما نجد عظة ليعقوب السروجي في المخطوطتين 115 و117 من مكتبة الفاتيكان، تحوي حكاية سبعة نائمين في أفسُس، لجأوا إلى كهف هربًا من أعدائهم الوثنيين، وأفاقوا بعد 196 سنة. كيف نفسِّر هذا الشَّبَه مع القرآن؟ ليس في منطق الأستاذ الخالدي، ولا في منطقي، أن نخوض في هذا.

في المحطة الثانية للمقدمة، يؤكد المؤلِّف أن القرآن ينفي صلب المسيح، وينفي أن يكون هذا مأخوذًا عن بدعة "الرائية" (الذوكية)، "وهي من الجذر اليوناني ذوكيو، بمعنى "يتراءى" أو "يبدو"؛ وهذا عنده يقابل التعبير القرآني الدقيق "ولكن شُبِّه لهم". ويرد الخالدي أن استمداد هذا الموقف من الذوكية مستحيل لأن مسيح القرآن "إنسان من لحم ودم"، وكان في مذهب الرائية مجرد خيال. أنا أوافقه في ذلك. ولكن لا يذكر د. الخالدي القديس إيريناوس الذي دَحَضَ بدعة تقول بأن سمعان القيرواني هو الذي صُلِبَ جهلاً وخطأ بعدما تغيَّرتْ هيئتُه وصار شبيهًا بيسوع، فيما تحول يسوع إلى هيئة سمعان وأخذ يسخر من الرؤساء!

ما من شكٍّ عندي أن تفسير كبار المفسِّرين المسلمين "شُبِّه لهم" أنها تعني بديلاً من المسيح في الصلب تستند إلى الأدب المنحول. وفي أعمال يوحنا المنحول وَرَدَ: "لست أنا ذاك هو الذي صُلِبَ... لم أعانِ أيًّا من الآلام التي نسبوها إليَّ." وشيء من هذا نجده عند كيرِنثُس الغنوصي، الذي يفصل بين يسوع والمسيح، فيقول إن يسوع "قد تألَّم ومات وقام من بين الأموات. أما المسيح فهو كائن روحي غير قابل للآلام. لذلك ترك المسيحُ يسوعَ وصعد إلى السماء".

ولكن هل يجزم القرآن حقًّا بعدم صلب المسيح؟ الآيتان المتعلقتان بهذا هما الآيتان 157 و158 من سورة النساء: "وقولهم [أي اليهود في ردِّ القرآن عليهم] إنَّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علم إلا اتِّباع الظنِّ وما قتلوه يقينًا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيما." ما معنى "شُبِّه لهم"؟ أوَّلَ المفسِّرون جملة "شُبِّه لهم" على شَبَهِ المسيح أُلْقِيَ على رجل آخر، فصُلِبَ هذا الآخر. الصعوبة الأخلاقية في هذا أن الله عاقب إنسانًا آخر على ذنب لم يرتكبه. الصعوبة الثانية هي أن المسيحيين ظلوا، طوال 600 سنة ونيف، ضحية لـ"خدعة إلهية". أما الصعوبة الكبرى فكون إنجيليين ثلاثة من أصل أربعة كانوا شهودًا عيانًا على مسيرة الصَّلْب: إنسان قبض الرومان عليه، واقتادوه من قضاة اليهود إلى بيلاطس البنطي، الوالي الذي حكم عليه بالصَّلْب وسلَّمه إلى الجند الذين كانوا حريصين على تنفيذ الحكم وقيادة الرجل إلى خشبة الصليب. رواية الحلِّ الاستبدالي غير مقنعة. وقد كتب بولس الرسول نحو عشر سنين بعد الصَّلب عن الصَّلب في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، بعد تقصِّيه الخبر من الجماعة.

ثم تساءل الزمخشري في القرن السادس الهجري عن فكرة البدلية حول ما يشير إليه فعل "شُبِّه"، إذ يكتب: "فإن قلتَ "شُبِّه" مُسْنَد إلى ماذا، إنْ جعلتَه مسنَدًا إلى المسيح فالمسيح مشبَّه به، وإن أسندتَ إلى المقتول، فالمقتول لم يَجْرِ له ذكر." في القرن السابع الهجري طرح فخر الدين الرازي سؤالاً يتعلق بما قد يحصل لو أُلقِيَ شَبَهُ رجل على رجل آخر. فقال: تنتج من ذلك مشكلتان: "أولاهما أن هذا يفتح باب السفسطة، حتى يتعذر إثبات أيِّ قاعدة اجتماعية، كالزواج أو الملكية مثلاً. كما أن ذلك لا بدَّ أن يؤدي إلى القدح في شهادة التاريخ أو التواتر."

ثم يفسِّر ابن قتيبة على أن الجملة "مالهم به من علم إلا اتِّباع الظنِّ وما قتلوه يقينًا" على أنها تعني "لم يقتلوا ظنَّهم باليقين". ويفسِّر الطبري أن الهاء في قوله "وما قتلوه" عائدة على الظنِّ، أي أنهم "لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا".

هذا يقودنا إلى أن القرآن لا ينكر موت المسيح، ولكنه يتحدى البشر الذين ضلَّلوا أنفسهم بجهالتهم، حتى اعتقدوا أنهم سينتصرون على كلمة المسيح. إلى هذا، عندنا "إني متوفِّيك ورافعك إليَّ". لقد دارت مُساجلات كثيرة في الإسلام حول معنى "متوفِّيك"، فقيل إنها لا تدل حتمًا على الموت. وقيل إن "التوفِّي" لا يفيد بالضرورة أنه سابق للرَّفع. لكن المعنى المباشر البسيط هو أن الله توفَّى مسيحه، ثم رفعه من الموت. فتكون آيتا الصلب، على غموضهما، تعنيان أن اليهود على خطأ لمَّا اعتقدوا أنهم يقضون على عيسى ورسالته بالقتل والصَّلب ولما استطاعوا ذلك. "شُبِّه لهم" أنهم قضوا عليه، ولم يقدروا على أن يفعلوا ذلك.

النقطة الأخرى عند الخالدي أن القرآن ينبذ معتقد الثالوث الأقدس؛ واستشهد بالآية 116 من سورة المائدة: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله"، حتى آخر الآية. عندي أن هذه الآية لا تعني شيئًا ضد الثالوث، لكون المسيحية لم تؤلِّه مريم، لا في الكنيسة المستقيمة الرأي، ولا في بدعة مسيحية. قد توجد آياتٌ ظاهرُها ضد الثالوث، ولكنها منسوبة إلى النصارى. مَن هم النصارى؟ هل هم المسيحيون أتباع الكنيسة، أم أنهم المسيحيون المتهوِّدون الذين كانوا منتشرين في الجزيرة – ومنهم ورقة بن نوفل؟ ما يظهر ضد الثالوث لا يقول به المسيحيون، بل تقول به هذه الفئة من المبتدعين.

في محطة ثالثة، يتطرَّق المؤلِّف إلى المسيح في الإنجيل الإسلامي، ليمهِّد لنصوص العلماء المنشورة في الجزء الثاني. ولعل أهم ما فيها أن الإنجيل لم يكن معروفًا بالعربية في عهد الرسول العربي؛ واعتماده في ذلك أن ليس عندنا مخطوطة للإنجيل قبل القرن التاسع. طبعًا هذا لا يعني شيئًا، لأن الأقدمين لم يكن عندهم تقديس للمخطوطات، فتُتلَف أو تُحرَق. فالعهد القديم ليس عندنا منه مخطوطة إلا سبعة قرون بعد الميلاد. أيعني ذلك أن العبرانيين ما كانوا يقرأونه؟ إلى هذا يشير هشام الكلبي إلى راهب في اليمن كان يتلو الإنجيل؛ وأوْرَدَ ذلك عرفان شهيد في كتابه بيزنطية والعرب في القرن الخامس أن وجود قبائل عربية – وبعضها ذو حجم كبير، كتغلب – يدل على أن القُسُس كانوا، ولو تَلَوا الإنجيل بالسريانية، يعظون العرب بالعربية، وأن الفحوى الأساسي للإنجيل كان متداوَلاً. ولكن من الواضح جدًّا عندي أن النصَّ القرآني ليس صدًى للأناجيل القانونية. ولعلَّ هذا يفسِّر عطش علماء المسلمين إلى هذه الأناجيل، كما اتَّضح من إيرادهم قصصَها.

لم يبقَ من مجال لاختصار ما تبقى من المقدمة. إنها تحاول أن تبيِّن كيف تأسلم الإنجيل في أوساط المسلمين المتأخرين عن فجر الإسلام. أظن أن الحصيلة الروحية الخارجة عن الأكاديميات الصارمة تبيانُ المؤلِّف أن عيسى هو "نبي القلب".

*** *** ***

عن النهار، السبت 15 تشرين الثاني 2003

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود