العطر

 

نضال نجار

تدور أحداث رواية العطر* في القرن الثامن عشر في فرنسا. البطل غرنوي: إنسانٌ يعيش على هامش المجتمع منذ ولادته. وُلِدَ في حيٍّ فقير وسط النفايات والأوحال والروائح الكريهة المنبعثة من المكان. شبَّهه الكاتب بحشرة القرادة، ليصوِّر لنا هذه الشخصية المنطوية على ذاتها، المتحيِّنة للفرصة أو الظرف أو التوقيت المناسب، لتبدأ حياتها أو نشاطها كما يحلو لها:

تتكوَّر على نفسها، متوحدةً بذاتها، صمَّاء بكماء تتشمَّم وحسب، عنيدة متعفِّنة ومقرفة، تصرُّ على الحياة، منتظرةً الصدفة... (ص 26)[1]

هذه الانطوائية نجمتْ عنها سلبيات، بل رذائل كثيرة، منها جهل الفضائل والمعارف والمعاني والمشاعر أيضًا:

فكلمات القانون، الضمير، الرب، السعادة، المسؤولية، التواضع، ما تزال في نظره مبهمة... (ص 30)

ثم فهو يقرأ المستقبل، ويتنبأ بأحداث قبل وقوعها، وبمجيء أشخاص قبل وصولهم. بصيرته حادة: فهو يرى في الظلام وعبر الورق والخشب والقماش والجدران. حياته كانت أقرب إلى الحيوانية منها إلى الإنسانية، وخاصة في أثناء عمله في الدباغة.

Parfum (Le), Patrick Süskind

وفجأة يكتشفُ روائح طيبة فاخرة لأنها لا تشبه تلك التي في ذاكرته، وذلك في المناطق البرجوازية، حيث الأثرياء والأمراء. وقد لاحظ أن الهدف من العطر هو الفتنة والجذب، واكتشف أن الجسم البشري يُصدِر روائحَ مميَّزة، إما مقزِّزة ومنفرة وإما بلا نكهة، أو فاخرة وساحرة، كتلك التي انبعثتْ من جسم الفتاة – ضحيته الأولى – ذات الثلاثة عشر ربيعًا:

عَرَقُها منعشٌ كريح البحر، دُهْنُ شعرها كزيت الجوز، فرجُها كباقة من زنابق الماء، وجلدُها كزهر المشمش... مئات آلاف الروائح لم تعدْ تساوي شيئًا قياسًا إلى هذه الرائحة... (ص 48)

لهذا أراد أن يمتلكَ ذلك الجمال البِكْر (العطر الإلهي) في فوضى روحه الأسود، فقتلَها خنقًا وبلامبالاة. وقد أدركَ حينئذٍ بأنه "عبقري"، فأصبح لحياته معنى وهدف، وهو تثوير عالم الروائح. فأنفُه يتميَّز بحساسية خارقة تمامًا، مثل ذاكرته. وهذا يكفي ليجعل منه أشهر عطَّار في تركيب روح العطور.

إذن هي حالةٌ من عدم الرضا لدى البشر، مما أدى إلى نقل فوضاهم اللامتناهية إلى عالم الخارج. وقد استحضر الكاتب مقولة لباسكال: "إن تعاسة الإنسان تنتج من كونه لا يريد أن يقبع ساكنًا في غرفته" (ص 65)، مشيرًا بذلك إلى العصر الجديد المتجدِّد بأفكاره المجنونة، كالإنسان المثالي، وتدهور الأخلاق، والانحلال الفكري والسياسي والديني... الكلُّ يجري مع التيار، لا عكسه، من أجل المال والثروة.

وبهدف معرفة رائحته الخاصة، بمعنى "استغراقه الكلِّي في وجوده الذاتي"، اختار غرنوي البقعة الأكثر نأيًا عن البشر. كانت على قمة بركان بلومب دو كانتال، على ارتفاع ألفي متر، جنوب كليرمون، حيث السكون، سكون الروائح البشرية. وعبر نفق يفضي إلى فسحة صغيرة في قلب الجبل، بقي هناك سبعة أعوام متوحدًا مع ذاته.

لم يكن الربُّ ما يشغل باله، كجميع الذين ينعزلون عن البشر للتوحُّد مع الرب. ثم اكتشف أنه إنسانٌ، وأن على الآخر أن يحبَّه، لا أن يتواصل معه وحسب. ففكر بابتكار عَبَقٍ مميَّز:

ليس بوسع البشر الهروب من العَبَق، لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، لا يستطيعون صدَّه إنْ رغبوا بالبقاء على قيد الحياة... (ص 116)

ويسافر غرنوي إلى غراس – مسقط رأس العطور – لتطوير خبرته ومعرفته. وفجأة يجذبه عبقٌ ملائكي؛ إذ إن شهيقًا واحدًا منه يجعل الزمن وكأنه قد تضاعف أو اختفى نهائيًّا. فلم يعد يدري إن كان هنا أو هناك. فعَبَقُ اليوم يشبه ذاك المنبعث من جسد الضحية الأولى الذي في ذاكرته. يمكث وراء السُّور ليشمَّ ضَوْعَ العطر، إلى أن يتعرَّف إلى مصدره: كان فتاة تلهو في الحديقة. ففكَّر بامتلاك عَبَقِها بطريقة تختلفُ عن الأولى التي، حين قَتَلَها، سَكِرَ بعبقها، وبذلك أنهاه. أما هذه المرة فهو سيحوِّله إلى سُكْرٍ لامتناهٍ. وبدأَ بالتجارب:

وزَّع قطعًا قماشية اختبارية تحت مقاعد الكاتدرائية. وبعد مرور خمسة قُدَّاسات عاد لجمعها. والنتيجة خليط غير متلائم من عَرَق المؤخرات ودم الحيض وطيات الركب الرطبة... الكتلة الروائحية ضبابية ومقرفة إلى حدِّ التقيؤ، لكنها بشرية بلا شك... (ص 119)

لكن، ليس هذا ما يشتهيه، بل عبقٌ بشريٌّ لقلة نادرة من الناس تُلهِم الحب. إذن ضحاياه كنَّ من النوع الفائق الجمال والبالغ التأثير.

يُعتَقَلُ بعد اقترافه جرائم قتل عديدة في المنطقة. لا يشعر بالآلام الجسدية من جرَّاء التعذيب: فهو لم يُصدِر صرخة أو آهة واحدة. حتى الكاهن الذي زاره ليسمعَ اعترافه خرج مذهولاً ليقول:

عندما ذكرتُ اسمَ الربِّ أمامه، نظر دون فهم، وكأنه يسمع الاسم لأول مرة. ثم تمدَّد على سرير الزنزانة وأغفى... (ص 243)

اعتبر القضاة بأنه مختل عقليًّا، وأُقفِلَ بابُ التحقيق بعد الحكم عليه بالإعدام في الساحة، حيث حَدَثَ ما يشبه المعجزة. فلأن الناس أحبوه، غَمَرَهُم شعورٌ طاغٍ بالودِّ والحنان: منهم مَنْ رَكَعَ واهتزَّ وارتجف...

أما السيدات فوضعن قبضاتهن في أحضانهن، وأخذن يتأوَّهن من اللذة... (ص 252)

الأسقف شعر بنشوةٍ دينية هائلة... وانقلبت القصة إلى حفلة مجون باخوسية. (ص 253)

وبذلك تحققت غايته بأن يحبَّه الجميع، من دون أن يحبَّ أحدًا منهم؛ وأدرك أن ما يُشبِعُه هو أن يكره وأن يكون مكروهًا. إنه أمام الحقيقة العارية، واقفٌ في مواجهة الآلاف من البشر. أدرك أن ألف صرخة لن تنقذه، وأنه ليس ثمة مهرب. فالذي أمامه كان وما يزال "العالم":

هؤلاء البشر الأغبياء القذرون المُستَثارون جنسيًّا... (ص 256)

الهياكل البشرية السَّكْرى والمُجهَدة من فجور الاحتفال مرميَّة هنا وهناك، بعضها عارٍ

وعلى بعضها الآخر ثمة ثياب ][ الهواء متخمٌ برائحة النبيذ الحامض والكحول الثقيل والبول والعَرَق ورائحة غائط الأطفال والدخان المتصاعد من بقايا النار التي شَووا عليها لحومهم وسكروا ورقصوا... (ص 260)

لقد فسَّر جرائمه كالتالي: أحاسيس الناس في الساحة، حينما غَمَرَهُم بعطره، تشبه أحاسيسه تجاه الفتيات ضحاياه؛ لكن الفارق أن الناس اشتهوه، أو ظنُّوا كذلك، بينما هو لم يكن يشتهي أية فتاة، بل عبقُها، جمالُها البكر، ملائكيتُها أو ألوهيتُها. وبقيَ ذلك سرًّا لم يفهمه أحد.

رأي شخصي

العطر رواية السحر والفتنة، رواية اللامعقول الممتزج بالممكن والمحتَمل، الممتع الذي نشمُّه في أثناء قراءة الصفحات وما بعدها، وذلك لأن "العطر" الذي فيها يستدرجُ حواسنا إلى ما وراء الحواس.[2]

*** *** ***


* باتريك زوسكيند، العطر: قصة قاتل، بترجمة نبيل الحفار، دار المدى، دمشق، 1997.

[1] ترقيم الصفحات يحيل إلى طبعة الجيب الفرنسية للكتاب. (المحرِّر)

[2] ولد باتريك زوسكند في العام 1949 في أمباخ على سفوح الألب. درس التاريخ في جامعة مونيخ. عُرِفَ كاتبًا في العام 1981 بمسرحية عازف الكونترباس، ثم العطر، أولى رواياته في العام 1985. حصل على جائزة غوتنبرغ لصالون الكتاب الفرانكوفوني السابع. في باريس كتب سيناريوهات لمسلسلات تلفزيونية عديدة وقصصًا قصيرة وسيناريوهات سينمائية. يتنقَّل حاليًّا بين باريس ومونيخ، حيث يعيشُ متفرِّغًا للكتابة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود