الجدار

 

أدونيس

 

تحية إلى ميشيل خليفي وإيال سيفان

 

1

الطريق 181، مراحل تنقُّل في فلسطين–إسرائيل: هو عنوان الفيلم الذي أنجزه، مؤخرًا، المخرجان السينمائيان ميشيل خليفي وإيال سيفان. "المسرح" الذي شاء المخرجان أن يتمَّ فيه "تمثيلُ" الفيلم وتصويره هو الطريق 181: خطُّ الحدود التي رَسَمَها قرارُ الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، والتي تقسم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية. وقد أعطى هذا القرار 56 في المئة من أرض فلسطين إلى الأقلية اليهودية، و43 في المئة إلى الأكثرية العربية، وترك الباقي، وسط فلسطين، بوصفه منطقة دولية.

كانت هذه "الحدود"، التي سُمِّيتْ "حلاً"، سببًا في نشوب الحرب العربية–الإسرائيلية الأولى، الحرب التي تتواصل، متخذة أشكالاً مختلفة، على جميع الأصعدة.

وتتألف أحداث الفيلم من ثلاثة فصول:

-       في الجنوب، بدءًا من أشدود حتى حدود غزة.

-       في الوسط، أي اللِّد، المدينة العربية–اليهودية، وما حول القدس.

-       في الشمال، بدءًا من رشعين، قرب الجدار الفاصل، حتى الحدود مع لبنان.

2

يقدِّم المخرجان للقصد الذي يكمن وراء عملهما السينمائي بكلمة جاء فيها:

قرَّرنا، مسلَّحَيْن بتجربتنا المشتركة، أن نعود معًا إلى البلاد لكي نلقاها ثانية، ونكتشفها من جديد، ونكشف عن الواقع الجغرافي والذهني الذي يعيش فيه اليوم الرجالُ والنساءُ في فلسطين–إسرائيل، وذلك فيما وراء المظاهر القَبَلية التي لا يقرُّ بها أيٌّ منَّا، ويجد كلٌّ منَّا نفسه خارجها.

وقد اتَّخذنا من خطِّ التقسيم الذي رسمتْه الأممُ المتحدة في السنة 1947 نقطة انطلاق لعُدَّتنا السينمائية في هذا الفيلم. وكان ذلك تحديًا لنا على صعيد التوثيق، من جهة، وعلى صعيد المغامرة الإنسانية، من جهة ثانية.

أردنا، على امتداد هذا الخطِّ غير القائم، والذي اخترنا أن نسلكه، في معزل عن الأفكار المسبَّقة، أن نصوِّر الرجال والنساء والأمكنة والأقوال والمناطق – أي مجموعة من الأشياء التي لم يُكشَفْ عنها بعد. وتبعًا للمصادفات التي تولدت عنها اللقاءاتُ، أعطينا الكلام للرجال والنساء الذين تهملهم الخطاباتُ الرسمية، والذين يكوِّنون – مع ذلك – مرتكزات المجتمعين [العربي واليهودي]، أولئك الذين تنشب الحروب باسمهم.

وفي هذا كلِّه، أردنا أن نؤسِّس لعمل سينمائي يناهض الفكرة التي تزعم أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقوم به الإسرائيليون والفلسطينيون يتمثل، حصرًا، في الحرب، الحرب حتى ينتهي هؤلاء أو أولئك.

3

هكذا يعرض الفيلم، على مدى أربع ساعات ونصف الساعة، أشكال الحياة اليومية في مختلف تنوُّعاتها، المادية على الأرض، والذهنية – في أفكار الناس وأحوالهم وعلاقاتهم وقضاياهم وهمومهم، كما يفصحون عنها بحرية وعفوية – غضبًا أو رضًى، هزْلاً أو جِدًّا، حزنًا أو فرحًا، عملاً أو بطالةً، عِنادًا أو استسلامًا، قلقًا أو طمأنينةً، هدْمًا أو بِنَاءً، إقامة أو هجرة.

إنه فيلم يتناول الواقع كما هو، في عاديَّته وخاميَّته المباشرة، من العتبة والغبار والطين، من الخبز والماء، بعيدًا عن كلِّ بلاغة، أو تمثيل، أو أفكار جاهزة.

إنه عمل–وثيقة. غير أنه يرتقي بالوثيقة إلى مستوى الرمز، محوِّلاً الواقع إلى فضاء من التساؤلات، مازجًا بين المكان والزمان، في سمفونية عالية من التناقضات والتواشجات، من الأصوات والإشارات، ومن الأعمال والآراء.

إنه فيلم يكاد، على نحوٍ مفارقٍ، أن يكون أسطوريًّا، لكثرة ما هو منخرط في مادية الواقع. ويكاد، من شدة واقعيَّته، أن يكون سحريًّا، ينقل المُشاهد إلى عالمٍ مما وراء الواقع.

4

ربما لهذا، فيما كنت أشاهد الفيلم، مأخوذًا بما يُبرِزُه، أفقيًّا، لعينيَّ الظاهرتين، كنتُ أشعر أن في داخلي آلاف العيون غير الظاهرة، تأسرها الأبعادُ العميقة التي ينطوي عليها. كنت أشعر أن عين البصر وعين البصيرة تتسابقان وتتنافسان.

كنت، فيما أرى الأدوات التي تقتل، أشعر كأنني أسمع، فيما وراءها، أصواتًا صارخة:

"لماذا يقتل الإنسانُ الإنسانَ

باسم كتاب يقول: لا تقتلْ!"

وكنت، فيما أرى المعدن يرين على جسد الأرض أو يخترق جسد الفضاء، أشعر أنني أرى حشدًا من الفراشات يخترق المعدن، ويرجُّ الإنساني والإلهي الراقدين في أحشائه، وفيما وراءه.

وكنت، فيما أرى أشخاصًا يتحوَّلون هم أنفسهم تارة إلى حجر، وتارة إلى طين، وتارة إلى حديد – كنت أشعر أنني أرى سبينوزا وابن سينا، دانييل بارنباوم وإدوارد سعيد، يركبون سفينة محمَّلة بالشعر والموسيقى، هديةً إلى القدس.

هكذا، خُيِّل إليَّ أنني أسير، على مدى جدار شارون، في حشد من أشجار الزيتون والتين ينكِّس الأعلام: عَلَمَ الهواء، علم الماء، علم الضوء، علم "الخبز والخمر"، وأنني أسير، في الوقت ذاته، في حشد من البشر، يهدمون هذا الجدار ويفكِّكونه لِبْنة لِبْنة.

وكان يخيَّل إليَّ، في عمق هذين الحشدين، أنني أسمع أصواتًا تتساءل:

هل الجدارُ ماءٌ يغلي في قِدْر ألوهةٍ باردةٍ؟ أهو ماءٌ بارد في قِدْر ألوهة ساخنة؟

5

ألهذا اقترنتْ، بشكل غامض وضاغط، رؤيتي هذا الفيلم بجدار شارون، وكيف يهدمه مِن أصوله ميشيل خليفي وإيال سيفان، هدمًا رمزيًّا – إنسانيًّا وفنيًّا – على نحو بهيٍّ فريد؟

وبدا لي، في ضوء هذا الفيلم، أن هذا الجدار جدار–جحيم، حقًّا. وكنت أتساءل في ذات نفسي: لو أن هوميروس لا يزال حيًّا، ولو أن دانتي لا يزال يترصَّد بياتريتشي، تُرى هل ستكون لهما القدرةُ على تخيل هذا الجدار–الجحيم، أو على "الهبوط" فيه؟

وهل كانا سيحظيان بدليل؟

وهل سيكون الدليل قنبلة، أو دبابة، أو طائرة؟ هل سيكون امرأةً أو رجلاً؟ شيخًا أو طفلاً؟ هل سيكون ناحرًا أو منتحرًا؟

-       بياتريتشي،

هل ستُصلِّين، هذا الأحد، في بيت لحم؟

-       عوليس،

أين سفينتك الآن؟

-       وأنتَ، أيها الموت، أنت الذي لا مُلْكَ لكَ، مهما انتصرت، إلا الغبار،

أعندك ما تقوله؟

-       ارقصي، ارقصي، يا قبائل القتْل!

6

لا أجد كمثل هذا الفيلم ما يكشف عن "الجحيم" في هذا الجدار–الجحيم.

لكن، "أهناكَ من يرى؟" يقول الفيلم.

ويقول: أهناك مَن يسمع، ومَن يستبصر؟

أفي هذا الجدار–الجحيم إلهٌ أسطوري يَحُوْل، بنوره الكثيف الساطع الجبَّار المهيمن، دون النظر إليه، ودون السَّماع والاستبصار؟

إنه جدار أسطوري، جدار–ميدوسا.

بيرسيوس! هل أنتَ مَن سيقطع رأس الميدوسا؟

لكن، كيف سترى ما لا طاقة لأحد على رؤيته؟ كيف سترى الوجه الذي لا يُرى؟

أهناك سرٌّ تعرفه يمكِّنك من ذلك؟

هل أخذتَه من الإلهة أثينا، أم من الإله هرمس؟

في كلِّ حال،

لا بدَّ لك من خوذة هاديس، التي تحتضن "ظلمات الليل"، لكي تغطِّي بها رأسك. لكي يُصبح رأسك لامرئيًّا كرأس إله الجحيم.

لا بدَّ لك من أن تلبس الموت كمثل ثوبٍ يلبقُ بك أنت الحي.

لا بدَّ لك من حذاء مجنَّح كحذاء هرمس، لكي تسير طائرًا من مكان إلى آخر.

لا بدَّ لك من أن تسبر ما بين السماء والأرض في لحظة واحدة!

لا بدَّ لك من كيس خاص تضع فيه الرأس الذي ستقطعه – رأسَ الميدوسا.

لا بدَّ لك، أولاً، من منجلٍ تحصد به هذا الرأس. تدبَّر أمرك،

أيها المتحرِّك اللامرئي كمثل الهواء.

لكن، لكن،

من سيكون بيرسيوس؟

ومن أين سيجيء؟

7

خرجتُ من قاعة العَرْض الخاص لهذا الفيلم، أوحِّد بين عين البصر وعين البصيرة، وأتساءل:

تُرى، هل في فلسطين–الواقع

غيرُ اليونان–الأسطورة؟

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود