الإنترنت

مَنْظُومة عَصَبِيَّة لكوكب الأرض

 

أديب الخوري

 

هل أنت فاهم لعجيبة التنفس التي تتم فيك مادُمْتَ حيًّا؟ ولا أذكر غيرها من العجائب.

ميخائيل نعيمه، لقاء

   

نعيش في عالم من العجائب: عالمٍ أعجب عجائبه أنه كوَّننا، حتَّى صار عالمًا عجيبًا آخر كوَّناه نحن – ومازلنا نفعل. يدهشني كثيرًا أن الناس، بسبب العادة ربما، باتوا يفتقدون على نحو كبير حسَّ الاندهاش. أليس غريبًا أن شروق الشمس كلَّ يوم ودورة القمر كلَّ شهر قمري ونجوم السماء (التي ما عادت تُرى كثيرًا على كلِّ حال)، وأن الأشجار والأنهار والجداول، وأن العصافير والطيور والحيوانات المختلفة، وأن الصخور والجبال والحجارة، وأن كلَّ ما صَنَعَه الإنسانُ أيضًا، لم يعد مصدر دهشة؟ أليس غريبًا أننا لا نُدهَش لطيران الطائرة ولنور المصباح الكهربائي؟! فإذا كان يمكن لآيات الطبيعة ألا تكون مبعث دهشة لأنها موجودةٌ أبدًا ولأننا اعتدنا على وجودها منذ صغرنا، فكيف لا نُدهَش لروائع أعمال الإنسان؟

نعم، هناك أشياء اعتدنا عليها أيضًا، إلى درجة أنها باتت طبيعية بدورها. لكن هناك أشياء جديدة على الدوام؛ ومع ذلك، فقد فقدنا حسَّ الاندهاش حيالها. أليس غريبًا أننا لا نُدهَشُ أمام الهاتف المحمول الناقل للصوت والصورة مثلاً؟ أليس غريبًا أننا لا نُدهَشُ – إلى حدِّ تكذيب الأمر – حين يخبرنا أحدٌ أننا، بعد سنوات قليلة، سنصافح أصدقاءنا المقيمين في الطرف الآخر من الأرض عبر الإنترنت؟ يبدو أن تسارع التطور التكنولوجي وظهور شيء جديد كلَّ يوم قد أمات فينا حسَّ العَجَبِ والاندهاش هذا. لكني، مع ذلك، قرأت شيئًا أدهشني منذ وقت قريب؛ وسأحاول أن أُدهِشَك – أخي القارئ – معي.

أُجرِيَتْ في أحد المختبرات في فرنسا التجربةُ التالية: يتَّصل إنسانٌ آليٌّ (روبوت) سلكيًّا بعصا تحريك، يؤدي تحريكُها إلى الأمام أو الوراء إلى رفع ذراع الروبوت أو إسبالها. توضع هذه العصا في متناول قرد، ويتعلَّم القرد بسهولة هذه اللعبة: يحرِّك العصا إلى الأمام فترتفع اليد، وإلى الخلف فتُسبَل. بعد عدد من مرات تكرار هذه الحركة، يُقطَع السلك الواصل بين عصا التحريك والروبوت، لكن نظامًا آخر – هو قصد البحث – يُشغَّل حينئذٍ: إذ يتلقَّى جهازُ استقبالٍ (زُوِّد به الروبوت مسبقًا) إشاراتٍ كهرمغناطيسية صادرة عن دماغ القرد. فيرفع يده أو يسبلها مع حركة العصا غير المتَّصلة أصلاً به. وتنجح التجربة. يُسأَل الباحث الذي صمَّم التجربة ونفَّذها: هل كنت تتوقَّع هذا النجاح؟ فيجيب: إن الذي أدهشني بالأحرى هو أن القرد قد فهم اللعبة الأخرى فيما بعد، فصار يرفع اليد ويخفضها بمجرَّد أن يفكِّر في الموضوع! ويتوقع هذا الباحث نفسه أن التطبيقات القريبة الممكنة لهذه الفكرة ستخدم على نحو كبير المعاقين، ولاسيما البكم منهم، الذين سيكونون قادرين، من بعدُ، على إصدار الأوامر إلى روبوت عن بُعد بمجرَّد التفكير في الأمر.[1]

***

 

إن أجمل ما في وسعنا أن نختبره هو السرُّ المبهم. إنه منبع كلِّ فنٍّ وعلم حقيقيين. فالذي بات غريبًا عنه هذا الانفعال، الذي لم يعد يقدر أن يُدهَش ويقفَ منخطف الرَّوْع، أحرى به أن يموت.

ألبرت أينشتاين[2]

 

كلُّ شيء من حولنا عجيبٌ ومدهش. وإذا كانت العادة تضع غلالةً على عيوننا، فتُفقِدُنا حسَّ الاندهاش، علينا ألا نُدهَش إذًا من مشاعرنا المحبَطة، ومن سأمنا ومن ضجرنا ومن يأسنا من هذا العالم، لأن العيب، على ما يبدو، هو فينا وليس فيه. فالطبيعي ممَّا يحيط بنا مدهشٌ جدًّا، لأنه يوقِفنا أمام سرٍّ كبير ويدفعنا إلى البحث والفهم. والصنعيُّ من حولنا مدهشٌ أكثر، لأنه يجعلنا نعاين قدرتنا الكبيرة على الإبداع، وعلى وضع يدنا في يد الطبيعة لمتابعة صياغة العالم. ولعلَّ الأصحَّ والأدقَّ أن نقول: لأنه يجعلنا نرى كيف تغامر الطبيعة بتسليم بعض مهمَّاتها إلى جزء من صنائعها – هو نحن – لإتمام صياغة العالم والتطور – هذا إن لم نضل الطريق ونقضي على هذا التطور، أو على الأقل، نعود به القَهقرى.

أما "القضاء على التطور" فعبارةٌ مُبالَغ فيها. قد نستطيع، بسبب حماقتنا وبسبب لعبنا بالنار، أن نعود بالحياة خطوات كبيرة إلى الوراء. لكن الحياة قادرةٌ دومًا على تجديد نفسها، وعلى البدء كرَّةً أخرى، وربما على تفادي أخطائها الماضية، وبالتالي تطوير كائنات أفضل منَّا وأرقى وأكثر بَرًّا بأمِّها الأرض. وما يجعلني واثقًا من قدرة الحياة على البدء من جديد في كلِّ مرة هو كون الحياة ظاهرةً شاملة وأصيلة، لها من العمر ما للكون منه. ذلك أننا نقول اليوم، دون كبير تحفُّظ، إن الكون قد "وُلِدَ" من انفجار بدئيٍّ Big Bang. فكأننا، والحال، نتحدث عن كائن حي. وإذا كنَّا في واقع الأمر نتحدث عن "حياة" إنسان أو حيوان أو شجرة أو جرثومة، ونختلف حين نصل إلى الفيروس أو إلى جزيء الـDNA، مثلاً، هل هو حيٌّ أو غير حي، فإننا نتحدث أيضًا – وبتأكيد كبير – عن "حياة" الكون و"حياة" الإلكترون، مرورًا بـ"حياة" هذه الشركة أو "حياة" هذا الجهاز الكهربائي. قد يعترض أحدٌ قائلاً إن استخدام كلمة "حياة" يجري في الحالات الأخيرة على سبيل المجاز، ولا يمكن القول إن الشركة أو إن جهازًا ما هو كائنٌ حيٌّ. أقبل هذا الاعتراض؛ لكنني أطرح، في المقابل، السؤال الأصعب: ولكن ما هي الحياة؟

في كتابه الكون Cosmos، الذي يجمع دقة العلم وموضوعيته إلى عمق التأمل وغناه، يعرض عالم الفلك الكبير كارل ساغان هذه الصورة:

تشبه المجرَّة تمامًا الكائن البشريَّ الذي يتكوَّن من مجموعة من مئة تريليون خلية موجودة في حالة متواصلة من التشكُّل والتلاشي، والذي هو أكثر من مجموع أجزائه. [] إن مجرَّة درب التبانة تدور مرةً كلَّ ربع مليار عام. ولو أمكن لنا تسريع الحركة فسوف نرى أن المجرَّة هي كيانٌ ديناميٌّ عضويٌّ تقريبًا وتشبه بشكل ما كائنًا عضويًّا كثير الخلايا.[3]

إن صدور مثل هذا التشبيه عن عالم ومفكِّر من هذا المستوى، معروف برصانته، وربما بتحفُّظه، لأمرٌ يدعونا إلى أن نقف ونتأمَّل قليلاً فيه.

تجري مقارنةٌ مماثلة في كثير من الأحيان بين الفرد البشريِّ، كنموذج حيٍّ، وبين الكرة الأرضية ككل: هل يمكن، بدرجة ما وبطريقة ما، اعتبار البشرية برمَّتها، بل وأكثر من ذلك، الأرض نفسَها، كائنًا حيًّا واحدًا، ما نحن إلا بعض خلاياه؟ وإذا كان في ذلك شيءٌ من الصحة فكم سيكون رائعًا أننا، في الوقت الذي نبدأ فيه باكتشاف أنفسنا، عبر معرفة بنيتنا التشريحية وخارطتنا المورِّثية genome، من جهة، ومعرفة تاريخ تطورنا وقرابتنا مع كلِّ الكائنات التي نصفها بالـ"حيَّة" على الأرض، بل وجذورنا التي تعود في الأساس إلى المادة التي نَصِفُها بالجامدة أو غير الحية، نكتشف أيضًا، على سلَّم آخر، كونَنا جزءًا صغيرًا من منظومة متكاملة، لا يمكن أن نوجد منعزلين خارجها، ولعلنا نستطيع اعتبارها كائنًا أكبر، يمكن أن نسمِّيه، على سبيل المثال: "الحياةَ على الأرض"، أو بتحديد أكبر، الأرضَ الحية.

وكم هو رائعٌ أيضًا أننا، في الوقت نفسه، وفي تزامُن مدهش، نبدأ في الخروج من نطاق الأرض للبحث عن الحياة في الكون، الأمر الذي طالما اعتُبِرَ خيالاً مفرطًا، إلى أن صار اليوم، مع اكتشاف مئات الكواكب الدائرة حول شموس بعيدة، أمرًا لا مناص منه.

فإذا كان ساغان يشبِّه المجرَّة ككلٍّ بكائن عضويٍّ، أفلا يمكن لنا أن نشبِّه الأرض نفسها، التي نستطيع أن ندرك إدراكًا أوضح ديناميَّتَها وترابُط مكوِّناتها، بكائن حيٍّ أيضًا؟ أولا يمكن لنا أن نكون – نحن البشر – نوعًا من عصبونات neurons فائقة لهذا الكوكب، وأن تكون منظومة اتصالاتنا الحديثة، التي لا تزال في بداية تكوُّنها، بما فيها من الكمبيوترات والمحطَّات الخليوية ومحطَّات البثِّ والاستقبال الراديوية والأقمار الصناعية إلخ، هي تلك الشبكة من الاستطالات التي تربط بين تلك العصبونات؟[4] لا أعلم. إنما تدهشني وتثيرني هذه الفكرة التي تزداد انتشارًا ورواجًا في الفترة الأخيرة عن تشبيه الأرض بكائن حيٍّ، نحن منه بعض الخلايا، فأحاول أن أجهد فكري الواهن، عساي أن أتفهَّم قليلاً حقيقة الأمر.

إذا كان يمكن لذلك كلِّه أن يكون صحيحًا، فهل الحياة "متماثلةٌ ذاتيًّا" بطريقة ما؟[5] هل تعيد تشكيل نفسها ضمن نفسها على مستويات مختلفة؟ فالخلية تحتوي في نواتها على الخارطة المورِّثية للكائن ككل؛ والاستنساخ cloning، الذي يكاد أن يكون صَرْعَةَ العصر، هو دليلٌ على أن الكائن موجودٌ بالقوَّة في كلِّ خلية من خلاياه. أما الهندسة الوراثية، فلعلَّها رمزٌ آخر لوحدة جميع الكائنات. فنحن لا ننتبه كثيرًا إلى التغيير الكبير الذي نُحدِثُه في الأنواع الموجودة، التي تصبح شيئًا فشيئًا كائنات متلاقحة تلاقحًا مدهشًا.[6] فهل أن كلَّ كائن من الكائنات الحية على الأرض، التي تربطها قرابةُ أبناء العمومة، يمثِّل صورةً مصغَّرةً عن هذا الكائن الأكبر الذي أسميناه الأرض، والذي تشكِّله جميع الكائنات معًا، وهكذا صعودًا حتَّى الوصول إلى أنموذج الكون برمَّته، بوصفه كائنًا يعيش حياته بين أكوان أخرى، إلى أن تأزف ساعتُه؟

إن السؤال الأخير الذي يُطرَح في نهاية الأمر هو التالي: هل تتجلَّى الحياة – وهي واحدة – على المستويات المختلفة، بأشكال ودرجات مختلفة؟ وهل يمكن لنا، إذا قبلنا هذا المبدأ، أن نجيب – وإنْ بعمومية كبيرة – على أسئلة كبرى طالما طرحناها على أنفسنا؟ وهل يمكن لهذا كلِّه أن يضعنا أمام طريقة جديدة في فهم التحديات التي تواجه الجنس البشريَّ والأرض ككل؟ – أعني تحديات التلوث وانقراض الأنواع بالجملة ونضوب الطاقة إلخ، وذلك بتفهُّم المرحلة من العمر، إن جاز التعبير، التي تعيشها الأرض.

أكرِّر القول: إنني لا أدَّعي الصحة المطلقة لهذا الطرح. ولكن، لِمَ لا نقوم معًا بجولة صغيرة نستطلع فيها حدود ما وصلت إليه تكنولوجيا الاتصالات والإنترنت، ونحاول رَبْطَ ذلك مع مجمل حركة تطور العلم والتكنولوجيا والإنسان، وباختصار، التطور على الأرض؟ – ويبقى لكلِّ واحد أن يرى من خلال ذلك ما يراه.

 

ما هو الإنترنت؟

في الشهر الأخير من العام 1969 (أي منذ أقل من 35 عامًا فقط) تمَّ للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية ربط مجموعة من أربعة حواسب، لتنشأ بذلك أول شبكة حواسبية في التاريخ تحت اسم Arpanet (Advanced Research Projects Agency Network). وسرعان ما بدأ التطور بعدئذٍ. فمن جهة، تطورت هذه الشبكة نفسها، حتى ضمَّتْ عشرات الكمبيوترات؛ ومن جهة أخرى، ظهر العديد من الشبكات الأخرى المماثلة في أوروبا وفي أمريكا نفسِها.

ويعني ربط شبكة من الحواسب أن أيَّ مستخدِم لأيِّ واحد منها يستطيع، من حيث المبدأ، أن يلج إلى ذاكرات الحواسب الأخرى، ويتعرف إلى ما فيها من معلومات. كما يمكن، من ناحية أخرى، استخدام طاقات معالِجات هذه الحواسب مجتمعةً، وكأنَّها حاسبٌ واحد، من أجل تنفيذ برنامج لا يمكن لواحد منها مستقلاً أن ينفِّذه.

في العام 1971 كان عدد الكمبيوترات المتصلة بشبكة Arpanet 15 كمبيوترًا فقط؛ وهو عدد صغيرٌ نسبيًّا، لكنَّ له دلالةً هامة، وهي أن عدد الكمبيوترات المتَّصلة قد تضاعف مرتين خلال عامين. وما يزال معدَّل التضاعف الأُسِّي هذا مستمرًّا حتى الآن، وسيبقى خلال الأعوام القادمة على ما يبدو أيضًا.[7]

كان التطور الكبير التالي هو إمكانية ربط شبكات مختلفة تحوي كمبيوترات مختلفة الأنظمة. وهذا ما كان مع الإنترنت الذي وُلِد فعليًّا في العام 1983، أي منذ نحو عشرين عامًا فحسب. وقد رافق ذلك ابتكارُ الكمبيوتر الشخصيِّ، بحيث أصبح الكمبيوتر أداةً يمكن لمعظم الأشخاص أن يملكوها، في الدول الغنية أولاً، وفي الدول النامية بعد ذلك.[8] وصار يمكن لهذا الجهاز، الذي كان قبل سنوات قليلة يشغل حجم بناء كامل، أن يوجد في أيِّ مكتب أو منزل، أو أن يُحمَل باليد حتى. وهكذا صار عدد الأجهزة المتَّصلة بالإنترنت حوالى 100,000 جهاز في العام 1989، وارتفع إلى المليون في العام 1992، وإلى 200 مليون في العام 2000! وتختلف تقديرات هذا العدد بين مصدر وآخر؛ وتشير بعض المصادر إلى أن عدد الأجهزة المتَّصلة بشبكة الإنترنت حول العالم هو في حدود 650 مليون جهاز اليوم؛ وهو رقمٌ يقارب عشر عدد سكان العالم. وما يزال هذا العدد يتضاعف مرة كلَّ عام تقريبًا.

لن أدخل في كثير من القضايا التقنية التفصيلية وفي المصطلحات العلمية التي يمكن أن تخفي جوهر الفكرة، بل سأحاول التعريف بالإنترنت بطريقة تخدم غرض هذا المبحث، من جهة، وتبسِّط الموضوع، من جهة أخرى:

·        الإنترنت اليوم شبكة من بضعة مئات من ملايين الحواسب (وبالتالي من بضعة مئات من ملايين الناس) المتَّصلة بعضها مع بعض، بحيث تستطيع تبادل المعلومات في مختلف أشكالها: المكتوبة والمصوَّرة (صور ثابتة أو متحرِّكة) والمسموعة والمرمَّزة بطرق أخرى.

·        ليس الإنترنت، من حيث المبدأ، شبكةً مركزية: فلكلِّ الحواسب المتَّصلة نفس الميِّزات وإمكانيات التواصل بعضها مع بعض. فالخبير إلى حدٍّ كاف في نُظُم الشبكات يستطيع، اعتبارًا من أيِّ حاسب في أيِّ مكان، أن يصل إلى أيِّ حاسب، صغير أو كبير، في أيِّ مكان من العالم، شريطة أن يكون متَّصلاً بالشبكة. وهذا ما يفعله قراصنة المعلومات hackers. ومع ذلك، ومن الناحية العملية، فإن بعض الحواسب المتَّصلة بالشبكة هي حواسب مميَّزة فعلاً، لا لأن ذلك لا بدَّ منه من حيث المبدأ، بل لأن ذلك يحدث بسبب أمور تنظيمية بحتة.[9]

·        لا يكفي وجود الشبكة، بما فيها من حواسب ومن معلومات؛ فهناك أهميةٌ كبرى للأساليب التي يجب اتِّباعها للوصول إلى معلومة مطلوبة. وتقابل ذلك الأساليب التي يجب اتِّباعها في عَرْضِ المعلومات المختلفة. فإذا شبَّهنا الإنترنت بشبكة واسعة من الطُّرُق فإن علينا أن نزوِّدها، مع كلِّ هذا الاتِّساع والتعقيد، بالكثير من الشاخصات واللافتات التي تشير إلى الاتجاهات وأسماء الأماكن. تشكِّل شبكة الـWeb التي طرحها على الإنترنت تيم بيرنرز لي Tim Berners-Lee في العام 1994 طريقةً تساعد كثيرًا في تنظيم المعلومات على الشبكة. ومع ذلك، فهي طريقةٌ ما تزال تحتاج إلى التعديل والتطوير، كما يدعو إلى ذلك مبتكرُها نفسه. وهو يطمح إلى الوصول إلى طريقة لتنظيم العمل على الإنترنت، يصبح بفضلها كلُّ متصل قادرًا، لا على البحث عن المعلومات واستشارة المصادر المختلفة بسهولة أكبر فقط، بل وكذلك على التدخل في الشبكة بطريقة مختلفة عن البريد الإلكتروني. يقول بيرنرز لي: "يجب أن يكون كلُّ متَّصل قادرًا على التدخُّل تدخلاً مباشرًا على صفحات الويب، وعلى نحو مستقلٍّ عن البريد الإلكتروني." ثمَّ يضيف متابعًا: "إن علينا أن نكون قادرين جميعًا، لا على طلب المعلومات والاستشارة فقط، بل على أن نخلق، دون أية صعوبة، أيَّ نوع من الوثائق على الويب. إن واقع كونِنا لم نستطع حلَّ هذه المسألة يحدُّ كثيرًا من القدرة الإبداعية الاجتماعية والسياسية للويب."[10] ونرى هنا إشارةً إلى ما لدى مبتكر الويب من قناعة كبيرة في الأثر المرتجى للإنترنت على الحياة وعلى المجتمع.

·        تختلف سرعة تبادل المعلومات عبر الشبكة باختلاف طبيعة هذه المعلومات. نعلم أن مقدار المعلومات يُقاس بواحدة تدعى البِتْ bit. فكلُّ معلومة تمثَّل بشريط من رمزين: الواحد أو الصفر. وعندما يكتب أحدُنا رسالةً إلى صديقه ويرسلها عبر البريد الإلكتروني مثلاً، فإن كلَّ كلمة من الكلمات تُترجَم إلى سلسلة من أصفار ووُحدان. فعدد هذه الأصفار والوُحدان في الرسالة هو عدد البتات في الرسالة، وهو ما ندعوه "حجم" الرسالة.

·        إن المعلومات المكتوبة لا تشكِّل أحجامًا كبيرةً جدًّا، على العكس من المعلومات الصوتية؛ إذ يمكن لصوتنا أيضًا، أو لأيِّ صوت آخر، أن يُترجَم إلى سلسلة من هذه الرموز. لكن نقل الأصوات، عبر ترجمتها إلى أصفار ووُحدان، يحتاج إلى وقت أطول قليلاً من نقل المعلومات المكتوبة بسبب الزيادة في الحجم. أما الصور فهي تحتل أحجامًا أكبر بكثير أيضًا. وتصبح الأحجام من مرتبة قصوى حين يتعلَّق الأمر بصور متحرِّكة، أي بنقل فيلم سينما مثلاً.[11]

·        إذا عدنا إلى تشبيه الإنترنت بشبكة الطرق، نلاحظ أنه يمكن للدراجة أن تسير على طريق ضيِّقة لا يزيد عرضها عن نصف متر. لكن ذلك غير ممكن لسيارة صغيرة تحتاج إلى طريق عرضها على الأقل متر ونصف أو متران. أما حين يتعلَّق الأمر بالشاحنات الكبيرة، مثلاً، فلا بدَّ من توسيع الطريق أكثر فأكثر، ولاسيما أن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار إمكانية مرور الكثير من السيارات معًا، وبمعنى آخر، "ازدحام" المواصلات. فالنصوص المكتوبة تشبه الدراجات، بينما تشبه المسجَّلات الصوتية السياراتِ الصغيرة؛ وحين نصل إلى الأفلام السينمائية التي نرغب في إرسالها عبر طُرُق الإنترنت فعلينا أن نتخيَّل شاحنات ضخمة قد يصل عرضها إلى عشرة أمتار وطولها إلى ما يزيد عن الخمسين مترًا.

·        إن الوصف السابق لا يعطي صورةً حقيقية عن طبيعة ما يجري. فهذه العربات المختلفة الأحجام لا تنتقل عبر طُرُق الإنترنت كما تنتقل العربات الحقيقية عبر الشوارع، بل يجري تقسيمها دومًا إلى قطع صغيرة من المعلومات تنتقل من المرسل إلى المستقبل عبر دروب مختلفة على الشبكة العجيبة، ليُعاد تجميعُها في النهاية من جديد. والحال فإن النصَّ المكتوب يحتاج أيضًا إلى الطُّرُق الواسعة بقدر حاجة الأفلام المصوَّرة المتحرِّكة؛ إذ ليس العائق هو سعة الطريق بالنسبة إلى حجم العربة، بل هو الازدحام الشديد الذي يسبِّبه التزايُد المطَّرد للمستخدمين والتزايد المطَّرد لأنواع المعلومات المرسلة. فبعد النصوص المكتوبة والمسجَّلات المسموعة والأشرطة المصوَّرة، تجري الآن ترجمة المحسوسات الشمِّية واللمسية، وحتى الذوقية، إلى لغة الأصفار والوُحدان، لتُرسَل بدورها عبر الإنترنت. يعني هذا أننا إذا كنَّا في الماضي نسمع عبر الهاتف صوتًا متقطِّعًا لصديقنا المسافر في الولايات المتحدة أو في الصين، وإذا أصبح بإمكاننا اليوم أن نتحدث إليه عبر الإنترنت وأن نشاهده في الوقت نفسه، فإننا في مستقبل غير بعيد جدًّا سنستطيع أن نصافحه وأن نشمَّ رائحة الطعام الذي يحضِّره، وربما أن نتذوَّق طعمه أيضًا!

·        تتألَّف شبكة الطرق التي تحدَّثْنا عنها والتي تختصُّ بنقل المعلومات – والمعلومات بالمناسبة هي كلُّ شيء[12] – من أنواع مختلفة من الأشياء: الكابلات النحاسية العادية المستخدمة في خطوط الهاتف، والكابلات المحورية، وكابلات الألياف البصرية، وموجات الراديو التي تنتقل عبر محطَّات إرسال واستقبال أرضية أو فضائية، أي محمولة على أقمار صنعية.

·        تضيق هذه الخطوط كلُّها بالمعلومات المتزايدة التي يجري إرسالها عبر الإنترنت؛ ويعني ذلك ازدحامًا في السير، وبالتالي تأخُّرًا في الوصول. في هذه الحالة، تفقد بعض الأشياء إمكانية الوصول الصحيح. يُعمَل من أجل حلِّ هذه المشاكل على مستويين: الأول هو توسيع الطُّرُق وزيادة عددها وتنويعها: تنفِّذ اليابان مشروعًا يكلِّف 300 مليار دولار، يُدعى "الشبكة الرقمية للخدمات المتكاملة"، ويهدف إلى ربط كلِّ منزل وكلِّ مكتب في اليابان بالألياف البصرية بحلول العام 2010؛ ويشبه ذلك أن تربط دولةٌ ما جميع قراها ومدنها وتجمُّعاتها السكَّانية، حتى الصغيرة والنائية منها، بشبكة من الطُّرُق السريعة المؤلَّفة من عشرين مساقًا. أما في الولايات المتحدة فيجري التفكير في اتِّجاه آخر: إن إرسال المعلومات عبر الأقمار الصناعية يسبِّب مشكلةً لا يسهل حلُّها؛ فالزمن اللازم لوصول المعلومات المشفَّرة من المرسل إلى القمر الصنعي، ثمَّ من القمر الصنعي إلى المستقبِل، هو زمنٌ محسوس (حتى وإن كانت سرعة الإرسال هي سرعة الأمواج الراديوية، أي سرعة الضوء)؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى خَلْقِ مشكلات كبيرة في نقل المعلومات. للتغلُّب على ذلك، يجري التحضير حاليًّا لإطلاقِ مجموعة من الأقمار الصنعية المنخفضة المدار، أي القريبة نسبيًّا من سطح الأرض. ويعني ذلك أننا، في غضون سنة أو سنتين، سيمكن لنا أن نشاهد في سهراتنا الصيفية على الشرفات أشياء تشبه النجوم، ولكنها أكبر حجمًا منها؛ فعلينا ألا نستغرب كثيرًا حينئذٍ: إنها أقمارٌ صنعية قريبة بما يكفي لمشاهدتها بوضوح وبحجم كبير نسبيًّا وبأشكال رائعة وهي تعبر سماءنا، مرسِلةً ومستقبلةً مختلف أنواع المعلومات بين حواسبنا. إن الصورة الرومانسية القديمة للعاشق الذي يسهر مع القمر، مرسلاً معه أشواقه إلى حبيبته البعيدة، سيصبح لها نوعٌ من التجسيد. فهذه الأقمار الصنعية ستنقل الكثير – ولا شك – من مثل هذه الأشواق! ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن كون هذه الأقمار الصنعية منخفضةً في مدارها يجعلها لا تغطِّي مساحات كبيرة من الكرة الأرضية؛ والحال، فلا بدَّ من إطلاق شبكة من عدد كافٍ قد يصل إلى المئات منها، تغطِّي سطح الكرة الأرضية في مجمله. وتقوم شركتان أمريكيتان بتنفيذ مشروعين مختلفين على هذا الصعيد، وسيظهران في غضون عامين.[13] إن أجهزةَ الكمبيوتر ستزوَّد في هذه الحال بصحون صغيرة لالتقاط المعلومات وبثِّها؛ والصحن الذي نستخدمه الآن لاستقبال المحطَّات الفضائية التلفزيونية سيضحي جزءًا لا يتجزَّأ من أجهزة التلفزيون والكمبيوتر المستقبلية. وقد لا يتأخَّر الأمر حتى يصبح شيئًا مطبوعًا على قميصنا الداخليِّ، حين يصبح الكمبيوتر شيئًا نعلِّقه على حزامنا، في حين لا تكون شاشته أكبر من زاوية صغيرة من زجاج نظَّاراتنا!

·        هناك تقنياتٌ أخرى تجري دراستها وتجريبها من أجل الحصول على سرعات أكبر في تبادل المعلومات، تمكِّن من وضع التقنيات الخيالية التي يجري إعدادها، كنقل الأحاسيس اللمسية، بل ونقل الحركات أيضًا، موضع التنفيذ. لكن الحديث عن هذه التقنيات ليس الموضوع الرئيس للبحث. إنما أكتفي هاهنا بالقول إن الإنترنت، أو بالأحرى النسخة القادمة التي يجري تطويرها من هذه الشبكة، ستكون مجموعةً من طُرُق الاتِّصالات المتعدِّدة الأشكال من أقمار صنعية وكابلات سلكية، على اختلاف أنواعها، ومحطَّات خليوية أكثر تطورًا وسرعةً بكثير من المحطَّات الخليوية الحالية وأصغر حجمًا (إنما أكثر عددًا) منها.

·        إن المستوى الثاني الذي تعالَج عنده مشكلة ازدحام طُرُق الإنترنت هو العمل على تطوير أنظمة السير، بما يخدم سرعة الوصول وأمانته. والمقصود بأنظمة السير في شبكة الإنترنت هو، بشكل أساسيٍّ، بروتوكول الإنترنت. وكلمة "بروتوكول" لا تشير تمامًا هنا إلى المعنى الفعلي لهذا المصطلح؛ فنكتفي بالقول إن بروتوكول الإنترنت هو مجموعة البرمجيات software المستخدَمة في ربط مئات آلاف الشبكات المنتشرة حول العالم في شبكة واحدة هي الإنترنت والناظمة لانتقال المعلومات فيما بينها. إن بروتوكول الإنترنت هو برامج جرى وضعُها في نهايات السبعينات من القرن الماضي؛ ومع أنه جَرَتْ عليها تعديلاتٌ وتطويرات كثيرة، إلا أنها باتت قاصرةً عن مُجاراة التوسُّع الهائل في عدد الحواسب وكمية المعلومات المتدفِّقة عبر الإنترنت. يجري العمل الآن، في أكثر من جامعة ومركز بحث في العالم، على إيجاد بروتوكولات أكثر تطورًا وفاعلية. إن تطوير بروتوكولات الإنترنت يمكن له أن يضاعف السرعات التي تنتقل بها المعلومات حاليًّا عدة مرات، حتى مع بقاء طُرُق المواصلات على حالها. أما تطوير الاثنين معًا فسيفتح أمام الشبكة آفاقًا قد تكون أكثر رحابةً مما يمكن لنا أن نتخيَّل.

·        تُعتبَر مسألة واجهات التعامل بين الإنسان والكمبيوتر – وبالتالي بين الإنسان والإنترنت – مسألةً بالغة الأهمية؛ إذ من الضروري أن يكون التعامل ممكنًا ومتاحًا لجميع الأشخاص بدون تعقيد. فحين ظهور الكمبيوتر للمرة الأولى، كانت المعطيات تُدخَل إلى الكمبيوتر وفق آلية في غاية التعقيد، بحيث يجب أن تُترجَم المعلومات (سواء البرامج أو المعطيات الأولية) إلى لغة الصفر والواحد ترجمة شبه يدوية، وتُدخَل إلى الحاسب عن طريق البطاقات المثقَّبة؛ وبالطريقة نفسها كانت تُخرَج النتائج. وقد قاد التطور الذي مرَّ في مراحل عديدة إلى اختصار واجهات التعامل الحالية إلى لوحة المفاتيح والشاشة، وهي الطريقة الأكثر شيوعًا. وهناك، بالإضافة إلى ذلك، الملحقات المعروفة، كالماسح الضوئي scanner والطابعة إلخ. غير أن هذه الواجهات في التعامل غير مُرضية وغير كافية بالنسبة للتطبيقات المقبلة وللخدمات المستقبلية للكمبيوتر وللإنترنت. فضلاً عن ذلك، فهذه الطريقة في التعامل ما تزال طريقةً تُعتبَر، على بساطتها الشديدة، معقَّدةً نسبيًّا (استخدام لوحة المفاتيح يحتاج إلى تدريب ما، والقراءة على الشاشة، أو حتى على الورق المطبوع، تُتعِب النظر، إلخ). فضلاً عن ذلك، فإن العمليتان غير ممكنتين في أثناء المشي أو قيادة السيارة، مثلاً. وفي نهاية الأمر، فإن هذه الطُّرُق في التعامل لا تكفي لنقل كلِّ أنواع المعلومات، كنقل الروائح والمَلامِس ونقل الحركة.

·        هناك العديد من واجهات التعامل التي يجري حاليًّا تطويرها في المختبرات والتي أصبح بعضها جاهزًا، بيد أنه ما يزال مكلِفًا، وغير صالح للطرح تجاريًّا؛ في حين أن بعضها الآخر يحتاج إلى الانتظار لوقت قد يتأخَّر قليلاً. إن أول ما يخطر في بالنا بالطبع هو التخاطب الصوتي، أي أن تُوجَّه الأوامرُ إلى الكمبيوتر عن طريق اللغة العادية. ومع أن الفكرة الشائعة لدى معظم الناس هي أن هذه التقنية قريبةٌ جدًّا من التحقيق، وعلى الغالب أقرب من تقنية نقل الأحاسيس اللمسية، مثلاً، إلا أن العكس هو الصحيح. فواقع الحال هو أن اللغة المحكية قد تكون آخر ما سنتمكَّن من تعليمه للكمبيوتر. فتوجيه الأمر للكمبيوتر عن طريق اللغة العادية هو أمرٌ ما يزال بعيدًا نوعًا ما، على الرغم من وجود بعض المجالات التي يمكن للمرء أن يتعامل فيها مع نظام كمبيوتري ما بواسطة اللغة، كحجوزات الطائرات، مثلاً. من الممكن، بطبيعة الحال، لخطوط الإنترنت أن تنقل حديثًا يجري بيني وبين شخص في الطرف الآخر من الكوكب؛ لكنَّ ذلك مختلفٌ جدًّا عن تبادل الحديث بيني وبين آلة الكمبيوتر. فعندما أريد من هذه الآلة تنفيذ عملية حسابية، مثلاً، فلا بدَّ لي من إدخال المسألة بواسطة لوحة المفاتيح، مثلاً، وقراءة النتيجة على الشاشة. أما طرح السؤال على الكمبيوتر بالطريقة التي يطرحه بها المدرِّس على الطالب، ثم سماع الإجابة شفهيًّا، فهو أمرٌ ما يزال بعيدًا، لكنه قيد البحث والتحقيق. وحين يتحقق فسنستطيع عندئذٍ أن نتعامل مع كلِّ ما حولنا من أجهزة بمخاطبتها: فنذهب إلى العمل بعد أن نطلب من الغسَّالة أن تبدأ الغسيل في ساعة محددة، وفي اللحظة التي نهمُّ فيها بإغلاق باب المنزل وراءنا نتذكَّر أننا نسينا جهاز التلفزيون يعمل وحده، فنفتح الباب قليلاً ونطلب منه بتهذيب ولطف أن يتوقف عن العمل، ثم نمضي مطمئنين! أما على صعيد الإنترنت فتصبح الأمور أيسر بكثير: فعندما أرغب، على سبيل المثال، في معرفة أفضل طريقة للسفر إلى مكان ما، بحيث أقضي أقلَّ وقت ممكن من الترانزيت، وبحيث يكون سفري في أقرب وقت ممكن من ساعة معينة في يوم معين، وبحيث لا أدفع أكثر من مبلغ معيَّن من المال، فإن في إمكاني، بدلاً من التجوال بين مواقع شركات الطيران على الشبكة، أن أكتفي بإفهام طلبي للكمبيوتر، ليناديني بعد قليل بنفسه ويخبرني، وأنا أعدُّ القهوة في المطبخ، بأن أفضل الاحتمالات أمامي هو كذا وكذا، ويخبرني باسم الشركة وبكلِّ التفاصيل التي أريدها، ثم يسألني أخيرًا: هل أحجز لك أم أنتظر؟!

·        فضلاً عن هذه الإمكانية، التي قلت إنها قد تكون آخر الإمكانيات التي يجري التحضير لها، فإن هناك أيضًا ما يحضَّر، بل ما صار موجودًا بالفعل، من قفَّازات تنقل أحاسيس اللمس وحركة اليد، بحيث يمكن لشخصين متَّصلين على الإنترنت أن يصافح أحدهما الآخر، ويشدَّ على يده بقوة وبحرارة.[14] يجري تطوير أشياء مثيرة تحمل أسماء غريبة، كالأنوف الإلكترونية والبِزَّات البدنية الإلكترونية التي يمكن لها أن تنقل المرء برمَّته افتراضيًّا عبر الإنترنت إلى أيِّ مكان آخر. وإذا كانت هذه الأشياء ما تزال قيد التطوير في المختبرات فإن الزمن كفيلٌ بجعلها أقلَّ إدهاشًا من كلِّ الأجهزة السحرية المحيطة بنا. ويؤدي ذلك كلُّه إلى خَلْقِ ما يسمَّى بـ"الواقع الافتراضيِّ المعزَّز" Enhanced Virtual Reality.

·        في حياتنا العادية نقوم بجولة بين مكاتب الطيران المختلفة، أو نقوم بالاتصالات اللازمة، على الأقل من أجل معرفة أفضل إمكانيات السفر المناسبة لنا. أما في المستقبل غير البعيد فإننا سنقوم بالجولة نفسها، ولكن على الشاشة. في الحياة العادية يذهب الطالب إلى الجامعة لحضور المحاضرات، كما يسافر العلماء أو الأطباء لعقد المؤتمرات والتباحث في آخر المستجدَّات؛ أما مع الإنترنت فهم يستطيعون أن يلتقوا، وكلُّ واحد منهم في مكتبه وفي بلده. وهكذا نرى ولادة ما يسمَّى العالم الافتراضي Virtual World، الذي كان في البداية عالَمًا يلتقي الناس فيه عبر البريد الإلكتروني، وفي أحسن الأحوال، عبر المكالمة التليفونية. أما الآن فقد صار اللقاء ممكنًا بالصوت والصورة، وقريبًا جدًّا، في غضون عشر سنوات ربما، ربما أمكن للناس أن يصافح بعضهم بعضًا عن بُعد، وفي وقت أبعد قليلاً، قد يحتسون الشاي معًا!

·        يمكن لنا، إذًا، أن نتخيَّل الآفاق الواسعة من التطبيقات التي سيتيحها الإنترنت. فبعد البريد الإلكتروني، والمحادثة الهاتفية، وقراءة الصحف، والمشاركة في مجموعات الحوار والمناقشة في مختلف المواضيع، ودفع الفواتير المختلفة، وحجز تذاكر الطائرات أو القطارات، والتسوُّق، والترفيه والتسلية، وصولاً إلى التعلُّم والمشاركة في الأبحاث، وإلى إجراء الفحوص الطبية، وحتى إجراء العمليات الجراحية عن بُعد، وإلى الأعمال وعقد الصفقات الكبيرة، وانتهاءً بتكوين الصداقات وبالزواج عبر الإنترنت! – يمكن لنا أن نتخيَّل الواقع كما قد يبدو بعد عقود قليلة: كلُّ شخص في العالم مرتبطٌ بكلِّ شخص فيه، عبر شبكة أكثر تطورًا من الشبكة الحالية بما لا يقاس، سواء في سرعة الوصول، أو في طريقة إيجاد الهدف، أو في وضوح نقل المعلومات وأمانته، إلخ. فإذا خطر ببالي، وأنا أقطع طريقي ماشيًا بين البيت والعمل – لأن المشي سيصبح ضرورةً للجسم – أن أتصل، على سبيل المثال، بصديق لي في فرنسا كي أطمئن على نجاح عملية جراحية أجراها بالأمس، ما عليَّ في هذه الحال غير أن أفكِّر في الموضوع، فيتلقَّف فكرتي جهازُ الكمبيوتر الصغير الموجود في جيبي أو المعلَّق على حزامي، ويقوم فورًا بالبحث عن عنوان هذا الصديق، ويقوم بالاتصال، فأراه على طرف نظَّارتي المزوَّدة بالشاشة اللازمة. ولا أخشى أن يتَّهمني الناس بالجنون، وأنا أتحدَّث متمتمًا وحدي في الطريق، لأن للجميع مثلي ميكروفونات صغيرة مزروعة بين أسنانهم، وللجميع، مثلي أيضًا، لاقطات صوت خلف آذانهم أو في أقراطهم (وهي موضةٌ تزداد انتشارًا يومًا بعد يوم، للشبَّان كما للغواني!). هذه هي بعض الصور التي يمكن أن يعيشها أولادنا، إن لم نعشها نحن أنفسُنا. لكن الاستخدامات الأكثر إثارةً إنما تأتي بعد ذلك، لأنها الاستخدامات الأكثر جمعيةً والأكثر أهميةً على مستوى الكوكب.

·        تقوم الجملة العصبية عند الإنسان (كما عند كلِّ كائن آخر) بوظائف هامة على صعيد العلاقة بين مختلف خلايا الكائن ونُسُجِه. لكن النشاط الأهم لهذه المنظومة إنما يكمن في كونها محرِّكَ التعامل مع الوسط الخارجي. فالجهاز العصبي، عبر نهاياته الطَّرفية، أي أعضاء الحسِّ (كالعينين والأذنين إلخ)، يلتقط المعلومات الواردة من الوسط الخارجي ويحلِّلها في القشرة الدماغية، أو في أماكن أخرى أحيانًا، ويُصدِر أوامره إلى أعضاء الجسم المختلفة بالتصرف على النحو الملائم. ألا يشبه هذا الجهاز الجديد، غير المكتمل بعد، الذي مازال قيد التطوير على الأرض، الجهازَ العصبيَّ للإنسان؟ ألا يمكن لنا أن ندرك مقدار هذا الشَّبَه إذا نظرنا إلى تعامُل الأرض مع الخارج، لا مع الداخل؟ – أي مع الفضاء والكون – وهو تعاملٌ قد بدأ لتوِّه. هل يمكن تشبيه المراصد والمسابر، على اختلاف أنواعها، بأعين للأرض وأعضاء حسٍّ لها؟ – لاسيما مع بداية وضع أقمار صنعية تدور، لا حول الأرض فقط، بل حول بعض الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، التي بدأ يتم وَصْلُها معًا عبر شبكة اتصالات معلوماتية خاصة؟ وما الذي يفيد فيه الإنترنت (أو النسخة التي ستتطور عنه) على صعيد الكون؟

·        إن الكثير من الأسئلة يُطرَح هنا: هل يمكن، على سبيل المثال، طَرْحُ آلاف، وربما ملايين الصور والمعطيات التي جَنَتْها المركبات الفضائية والتوابع الصنعية والمراصد الفلكية، والتي لا تجد مَن يقوم بدراستها، على الإنترنت، ليسهم كلُّ مَن أراد في دراستها، ولتنشأ فِرَقٌ دراسية مشتركة، يتوزَّع المشاركون فيها من هواة الفلك ومحترفيه في أماكن مختلفة من العالم؟

·        سؤالٌ آخر: لم يعد السؤال حول وجود كائنات عاقلة في مناطق مختلفة من الكون موضع خلاف؛ لكن التساؤل الممكن هو التالي: هل يمكن لممثِّلين عن هذا الكوكب أن يلتقوا ويتحاوروا مع ممثِّلين عن ذاك، قاطعين ملايين السنين الضوئية؟ أم أن هناك إمكانيةً ما لا ندري طبيعتها للقاء هذا الكوكب ككل – أو بدقَّة أكبر – هذه الحياة في مجملها مع تلك، عبر المسافات الكونية، وربما عبر الزمن؟ لنفرض أننا تلقَّينا في يوم من الأيام، عبر المراصد الراديوية الموجَّهة لهذا الغرض، رسالةً من حضارة كونية ما، قد تكون مبادرةً من جانبهم أو إجابةً على رسالة سَبَقَ أن أُرسِلتْ من الأرض: هل ستعطينا هذه الرسالة الممكنة صورةً عن "الفرد" الذي كان صاحب المبادرة بإرسالها؟ أم أن الأقرب إلى المنطق هو أننا سنكون أمام مُحاوِر هو حضارةٌ أخرى وحياةٌ أخرى في منطقة ما من الكون في مجمله؟ أولن يبدو الأمر في نظرهم على نفس الحال؟ فهم لن يتعاملوا مع الولايات المتحدة، أو مع وكالة الفضاء الأمريكية، أو مع هذا من العلماء أو ذاك، بل بالأحرى مع هذا الجزء من الكون الذي يُسمَّى "الكرة الأرضية" (وقد يُسمُّونه، من جهتهم، أيَّ اسم آخر!).

·        يعلِّمنا التاريخ ويكشف لنا العلم الحديث أن العوامل الحاسمة في التطور على الأرض كانت، على الدوام – حتى الآن على الأقل – عوامل كونية. فالطاقة التي تتغذَّى بها الأرض، بكلِّ ما عليها من كائنات، هي في الأساس طاقة الشمس؛ والماء الذي على الأرض أتى منذ عهود بعيدة جدًّا من الفضاء. ومع أن الأمر لم يُحسَم حول كون الجزيئات العضوية الأولى قد أتت من الفضاء أو تشكَّلتْ على الأرض، غير أن عوامل كونية قد لعبت دورًا هامًّا في كلا الحالتين. وعلى صعيد أقرب زمنيًّا، نعرف جميعًا التأثير الكبير للنيازك على الحياة على الأرض: فانقراض الديناصورات، وتجدُّد الحياة وفق المنحى الذي أدَّى إلى نشوئنا، إنما كان بسبب نيزك كبير ضَرَبَ الأرض منذ حوالى 65 مليون عام. ولقد قرأتُ منذ فترة وجيزة خبرًا عن اكتشاف حفرة هي الأكبر عالميًّا في أستراليا، يبلغ نصف قطرها نحو 193 كم، هي على الأغلب حفرةٌ نيزكية؛ وإذا تأكَّد ذلك فسنكون توصَّلنا إلى التفسير الملائم لأكبر موجة، غير مفسَّرة حتى الآن، من انقراض الأنواع شهدتْها الأرض.

·        يعني ذلك أن علاقة الأرض مع الفضاء هي علاقةٌ هامة، وأن علينا ألا ننظر إلى الموضوع من زاويتنا الضيقة، وبمقاييس حياتنا، أو حتى بمقاييس عمر ما نسمِّيه مدنيَّتنا (التي تُعتبَر مجرَّد هنيهة وحسب في مقياس عمر الأرض والكون). إن إمكانية تكرار أحداث كونية تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا أو صغيرًا على الحياة على الأرض هي إمكانيةٌ موجودةٌ دومًا. لكن الذي تغيَّر الآن هو وجودُنا وقدرُتنا (المشكوك فيها ربَّما، والتي لا يستهان بها مع ذلك) على التعامل مع أحداث كونية ممكنة تعاملاً فاعلاً. وفي حين لم يكن أمام الديناصورات غير أن تتلقَّى ضربة النيزك، فإن أمامنا أن نحاول القيام بشيء ما، على الأقل. ومن الطبيعيِّ أن الاكتشاف المبكِّر للحدث المحتمل يساعد كثيرًا في مواجهته؛ ومن الطبيعيِّ أيضًا أن القدرة على التفكير المشترك وعلى اتَّخاذ قرار جماعيٍّ قدر الإمكان، وعلى وجود تقنيات مناسبة لمعالجة المسألة، إلخ، هي أمورٌ يمكن لها أن تلعب دورًا هامًّا في مواجهة حدث كونيٍّ محتمل. يبقى السؤال الأكبر: إلى أيِّ مدًى يمكن لمثل هذا الأمر أن يكون عاملاً موحِّدًا للبشرية وللحياة على الأرض؟ أعتقد أنه سؤالٌ يخصُّ المستقبل، بقدر ما أعتقد أيضًا أن المستقبل هو شيءٌ نصنعه اليوم.[15]

·        عندما ابتكر تيم بيرنرز لي شبكة الـWeb، كان يرى فيها عقلاً بشريًّا ضخمًا دائم النموِّ، تكوَّن نتيجة رَبْطِ الكثير من معارف الأفراد في أنحاء العالم معًا.[16] وأعتقد أن بروز هذا الدماغ الضخم لن يتحقَّق إلا في وجود ما يحرِّضه من الخارج؛ وهو أمرٌ قد يسعى إلينا سعيًا لا نتوقَّعه، لكننا، في كلِّ الأحوال، بدأنا نسعى إليه. فإطلاق مراكب فضائية تجوب الفضاء ما بين النجوم والمجرَّات، وإطلاق رسائل راديوية لا نعرف مَن سيلتقطها ومتى، إلخ، يعني أننا بدأنا، كالطفل الوليد، نطلق صرخات تقول: نحن هنا، نبحث عن آخرين! ولعلَّ هؤلاء "الآخرين" لن يتأخَّروا في الظهور، وعلى الأرجح، في وقت ومكان وطريقة لا يمكن لنا التنبُّؤ بها. وحينئذٍ فقط قد تأخذ شبكة الاتِّصالات الأرضية معنى وجودها، وقد تبدأ مرحلةً جديدةً من تطورها – تمامًا كما لا يبدأ الطفل تعلُّم اللغة وكلِّ علم آخر، واستثمار منظومته العصبية، إلا بعد أن يولد بوقت طويل.

ربما كان كلُّ ما أقول هنا هو ضربٌ من الخيال أو الشطح أو الفانتازيا. وأنا لا أجد بأسًا في ذلك: فغالبًا ما يثير الشطح حماسًا، والحماس يؤدِّي إلى البحث، والبحث يؤدِّي إلى الاكتشاف. ولن يضايقني أبدًا أن تثير هذه الأفكار (التي ليست كلُّها أفكاري تمامًا) حماسًا ونشاطًا يؤدِّيان إلى اكتشاف حقائق تناقض هذه الرؤيا. بل سيُفرِحني، على كلِّ حال، أن تُكتَشَف حقائق جديدة وأن يستمرَّ التقدُّم في المعرفة. لكن ما يمكن أن يسوءني هو أن توصف هذه الأفكار بالجميلة، أو بالقبيحة، أو بالمُبالَغ فيها، أو بأيِّ شيء آخر، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحدِّ، ولا يتمخَّض في النهاية عن أيِّ شيء!

يبقى أن كلَّ ما قلته حتى الآن هو محاولةٌ لطرح رؤيا. لكن الأحداث الحقيقية المثيرة إنما بدأت بعد نحو ستة أشهر من الآن.

 

بُشْرى

 

وتحسب أنَّك جرمٌ صغيرٌ * وفيك انطوى العالم الأكبر

أبو العلاء المعري

 

أنا... عالَمٌ من الذرات... ذرة في هذا العالم.

ريتشارد فاينمان[17]

 

فنحو منتصف العام 2005 من تقويمنا الميلاديِّ – نحن بني البشر – كانت الخلية S من خلايا ذلك الجنين الإنسانيِّ، الذي سيصبح بعد أيام قليلة الطفلة الوليدة "بُشْرى"، تشغل موقعًا شديد الخصوصية في نسيج صغير مرحليٍّ من دماغ هذا الجنين. كانت S تنحدر من سلالة من الخلايا، هاجرت الخليةُ الأصل فيها أيام موجات الهجرات الخلوية الكبرى، أي منذ نحو عشرة أجيال من الخلايا، من المنطقة التي تشكِّل اليوم المعي الغليظ للجنين إلى النهاية العليا للحبل العصبيِّ الذي كان جديد التشكُّل حينذاك. وهناك تمايَزت وتطورت إلى خلية عصبية، ووجدت لنفسها عملاً مختلفًا أورثتْه، في أشكال مختلفة، لأحفادها الذين كانوا يطوِّرونه بدورهم جيلاً بعد جيل.

كانت شبكة الاتِّصالات وتبادل المعلومات التي كوَّنها ذلك الجسم الصغير تقارب حدَّ الكمال؛ وكان الجهاز الذي تعمل فيه الخلية S مسؤولاً عن استقبال المعلومات الآتية من الأطراف البعيدة من ذلك الجسم الهائل الحجم بالنسبة للخلية الواحدة، وخصوصًا من الخلايا المتَّصلة اتِّصالاً مباشرًا مع فضاء ذلك الجسم، أي ما نسمِّيه نحن جوف الرحم.

كان هذا الجهاز يتلقَّى في تلك الفترة مؤشِّرات غريبة، صارت تزداد في الأوقات الأخيرة، عن تغيُّرات كبيرة واضطرابات خطيرة في ذلك المحيط، وعن تصاعد كبير في استهلاك الطاقة المتوفِّرة فيه، وهو ما نسمِّيه نحن الغذاء الذي يصل عبر الحبل السُّرِّي. ولقد أُنحِيَ باللائمة، في معظم الأحوال، على سوء تنظيم استهلاك هذا الغذاء، وأُشيرَ كثيرًا إلى الاستهتار في تَرْكِ حصَّة كافية منه للأجيال المقبلة من الخلايا. وفي كلِّ الأحوال، فقد بدا الأمر كما لو أن الحياة في هذا المحيط ستصبح من الصعوبة بمكان خلال بضعة أجيال قادمة فحسب. وصار لا بدَّ من العمل بسرعة أكبر على استكمال بناء التنظيم الداخلي الذي يمكِّن هذا العالَم المؤلَّف من آلاف مليارات الخلايا من العمل ذاتيًّا. وفي سبيل ذلك، كان لا بدَّ من تطبيق شرط أساسيٍّ وضروريٍّ، لكنه غير كافٍ، وهو المزيد من الوحدة والتنظيم والتنسيق والعمل المشترك والتوزيع الملائم والمكتفي لمصادر الغذاء لجميع الخلايا على السواء.

ومن حسن الحظِّ أن بُنًى تحتية، يمكن لها أن تساعد في ذلك إلى حدٍّ كبير (وهي ما نسمِّيه نحن أجهزة الهضم والتنفس والدوران)، كان قد جرى بناؤها، وإنْ كان استخدامُها ما يزال قاصرًا جدًّا ومختلفًا بين جهاز وآخر. ولقد أصدرت الخلية S وزميلاتها التوصيات اللازمة في سبيل هذا الموضوع. ومع أن مجموعات كثيرة من الخلايا قامت، بطُرُق مختلفة، وفي جميع أنحاء الجسم، بمحاولات مخلصة لتطبيق هذه التوصيات وللعمل على إنقاذ ما بات مهدَّدًا جدًّا، إلا أن الكثير من الفوضى والاضطراب كان ينتشر هنا وهناك أيضًا. كانت مقولة "أنا ومن بعدي الطوفان" شائعةً جدًّا في ذلك الحين؛ واختلط الحابل بالنابل.

مع ذلك كلِّه، كانت منظومة الاتصالات الخاصة بهذا الجسم (التي كانت قد طوَّرتْ وسائل يمكن لها أن تصلها، لا بالمحيط القريب، أي الرحم فحسب، بل وربما بعوالم أخرى باتت تحدس وجودَها ولا تستطيع أن تسبرها) كانت لا تني تحاول ضبط الموقف. وعلى كلِّ حال، فقد كانت قادرةً، إلى حدٍّ ما، على أخذ زمام المبادرة فيما يخصُّ بعض القرارات الهامة، أو على الأقل، على وعي التغيرات والتطورات الداخلية والخارجية التي تحدث، وعلى مراقبتها عن كثب.

بعد يومين من هذه الأحداث، وُلِدَت بشرى. لقد دلف ذلك الجسم الصغير، على الرغم من العدد الهائل من العوالم (أي من الخلايا) التي تشكِّله، إلى كون أرحب بكثير من الكون الذي ألِفَهُ. ومن سوء حظِّ الخلية S أنها لم تستطع أن ترى المستقبل الكبير الذي كان ينتظر عالمَها. فلقد عملت الكثير من أجل ضمان سلامة هذا الانتقال بين العالَمَين، على الرغم من جهلها الكبير بالأبعاد التي ينطوي عليها. ولقد قدَّمتْ حياتها من أجل رفيقات لها في أثناء الانتقال عبر ذلك النفق المظلم الذي قاد بقية الجسد من عالَم إلى آخر، أو كما يحبُّ بعضنا أن يعبِّر – وهو تعبير قد لا يكون دقيقًا تمامًا – من الظلام إلى النور! لكن المهمَّ في الأمر هو أن الجهاز الذي كانت تنتمي إليه هذه الخلية كان قد بدأ في أخذ زمام المبادرة وفي حُكْمِ ذلك العالم من الخلايا، أي الجسم، الذي صار اسمه بُشْرى.

كانت والدة بُشْرى سليلة أسرة من شرق البحر المتوسط، هاجرت منذ أجيال عديدة إلى العالم الجديد. وكانت هي مَن اختارت لها هذا الاسم، غير عالِمة كم سيعبِّر حقًّا عن حقيقة ما سوف تعيش. أما والدها فكان من أصل يونانيٍّ، هاجر إلى الولايات المتحدة أيضًا منذ سنوات قليلة قبل ميلاد بشرى كي يكمل دراسته في الكونيات، ثم استقرَّ هناك.

وكبرتْ بُشْرى. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى تعرَّفتْ إلى أقران لها في عالمها الجديد هذا، وذهبت إلى المدرسة، وتعلَّمت القراءة والكتابة والحساب واستخدام الكمبيوتر والتجول عبر الأجيال المتلاحقة من الشبكة العالمية للاتصالات. لكنَّها أحبَّت الفنَّ والشعر أكثر من كلِّ شيء آخر، وصارت بعدئذٍ شاعرةً ذاع صيتُها في عصر نَدَرَ فيه الفنانون الحقيقيون. وكانت، إلى ذلك كلِّه، هاويةً للنجوم والكواكب وعاشقةً للسماء.

وهي لا تزال تتذكر حتى اليوم رحلتها الأولى إلى مدينة الملاهي الرائعة التي كانت تسمَّى "أرض الأحلام"، والتي كانت تشبه عند افتتاحها جمهوريةً أفلاطونية، بل تكاد أن تشبه فردوسًا حقيقيًّا مصغَّرًا، بشوارعها النظيفة والمرتبة والمزينة بالأشجار والورود، وبمساحاتها الخضراء وملاعبها، وبالمباني المختلفة الأشكال والألوان والأحجام والاستخدامات، وبموظَّفيها الذين كانوا يتلقَّون باستمرار، وبجميع فئاتهم، تدريبات خاصة مختلفة، من جملتها تدريبات في "المعهد العالي للدراسات النفسية الاجتماعية"، ولاسيما في مجال التعامُل مع الأطفال. لكن كلَّ ما كان موضع اهتمام بُشْرى من هذه المدينة يومذاك كان ذلك الجزء من أرض الأحلام الذي تستطيع أن تلج منه، على نحو افتراضيٍّ، عبر نظام كمبيوتر متطور إلى الفضاء الخارجي. كان عمرها عشرة أعوام تقريبًا (فنحن في العام 2015 إذًا)، وكانت قد أمضت شهرًا كاملاً وهي تطالب والديها بأخذها إلى هذا المكان الذي سمعت عنه الكثير من رفاقها في المدرسة، حين كانت المدرسة لا تزال مكانًا يذهب المرء إليه! وكانت مشتاقةً جدًّا لرؤية، واختبار، بل وقيادة، النماذج المُطابِقة لسُفُنِ الفضاء والمحطَّات المدارية المأهولة، والتمتُّع بالطيران في ظروف انعدام الجاذبية. وبعد كثير من التأجيل، استطاع والداها أن يفرِّغا نفسيهما من الأعمال التي لا تنتهي، وأن يصطحباها إلى تلك المدينة التي أصبحت الآن رمزًا لحقبة من تطور البشر. والحال فإن صديقتنا الصغيرة ما تزال تذكر أيضًا الدرس الكبير الذي تعلَّمتْه في تلك الزيارة، والذي بقي مطبوعًا في ذهنها وقلبها ونفسها.

لم ترُقْ لها تلك الزيارة، ولم تكن سعيدةً بها؛ بل كانت، على العكس تمامًا، مصدر خيبة لآمالها الكبيرة! ففضلاً عن مشاعرها غير المفسَّرة بعدم الارتياح إلى الأدلاء والموظَّفين الذين ترتسم على شفاههم الابتسامة نفسُها، وكأنها محسوبة بدقَّة رياضية، فقد صَدَمَها كونُ ما زُيِّنَ لها من أنها ستعيش المشاعر الحقيقية لرائد الفضاء غير كامل. ولقد أدركت – وهذا هو الأهم – أن السبب في خيبة أملها وفي عدم سرورها من تلك الزيارة كان طبيعتها التي لا تتقبَّل النقص وتُطالِب على الدوام بالكمال، والتي تبحث دومًا عن انتقاد الأشياء والآخرين. وقد تطلَّب الأمرُ منها بعض الوقت حتى تفهم لاحقًا أن الحياة الحقيقية تشبه كثيرًا "أرض أحلام" حقيقية، إن لم تكن بالفعل فردوسًا رائعًا. لكن المشكلة تكمن فيها هي، وفي الناس الذين لا يعرفون كيف يفرحون بها! وعلى كلِّ حال، فلقد ألقت تلك الزيارة في نفسها بذرةً كبيرةً من حبِّ الحياة، ومن الرغبة في عالم أفضل، ومن الشوق إلى رحلة أكثر حقيقيةً في الفضاء.

ولقد كانت بعض كتاباتها القصصية الأولى (ولاسيما تلك التي جَرَتْ أحداثُها في المستقبل) مصدر إلهام كبير لبعض العلماء الذين طوَّروا برامج الذكاء الصنعيِّ وشبكة الاتصالات الدولية المشتركة، التي حملتْ أسماء كثيرة بين وقت وآخر، حتى أصبحت اليوم "شبكة الاتصالات الكونية" Uninet.

نحن الآن في منتصف القرن الحادي والعشرين. تُشغِّل بُشْرى، عن طريق أمر تُصدِرُه فكريًّا، جهازًا متطورًا، كان جدُّه القديم يسمَّى قبةً فلكية Planetarium، فيتحول سقف غرفة المكتبة في بيتها إلى ما يحاكي سماء حقيقيةً. وعبر نظارتها الخاصة، المتَّصلة بشبكة الاتصالات الكونية (التي تشكِّل بعض المراصد الأرضية والمدارية، الضوئية والراديوية، بعض أجزائها، والتي يتم تبادل المعلومات فيها لاسلكيًّا عبر نظام متعدِّد من الأقمار الصنعية والمحطات الخليوية الأرضية القصيرة المدى)، تُبحِر بُشْرى، مصطحبةً ولدها البالغ من العمر عشر سنوات، في رحلة تعليمية، وترفيهية في الوقت نفسه، عبر مجرَّة درب التبانة، حيث تقدِّم لها مجموعةُ التلسكوبات، العاملة في توافق بشكل آنيٍّ والمتَّصلة بالشبكة، سَفَرًا افتراضيًّا ممتعًا في سرعة تقرب من سرعة الضوء.

ويلفت الولد النبيه (الذي كان يحبُّ – نظير جدِّه – أن يعمل في المستقبل في حقل علوم الفضاء) نَظَرَ أمِّه إلى نجم مرَّ أمام ناظريه، متَّجهًا بسرعة كبيرة في الاتِّجاه المعاكس لحركتهما، أي من مركز المجرَّة باتجاه نظامنا الشمسي – وهو نجمٌ لم يكن له وجودٌ في الرحلات السابقة المشابهة التي كانت والدته تعلِّمه فيها مواقع النجوم وأسماءها وغير ذلك من خواص النجوم الهامة. وتُدهَشُ الوالدةُ لهذا الأمر، وتقوم على الفور بإخطار والدها، الذي كان يتابع عبر الشبكة الكونية أرصاده وعمله، بالأمر. ذلك أن العمل في مجال الفضاء لم يعد عملاً محدودًا بمكان أو بمؤسَّسة: فالملايين من الناس يشاركون فيه، من أماكن مختلفة، عبر الشبكة، على نحو متآلف.

إن "شبكة الاتصالات الكونية" هي شيءٌ يتجاوز هذه التسمية في الواقع. فهي تقارب أن تكون دماغًا هائل الحجم، يشكِّل ملياراتٌ من البشر، الذين اعتادوا جميعًا التعامل مع هذه الأجهزة الإلكتروعضوية بسهولة ويسر، عصبوناتِه النشطة، في حين تشكِّل أجهزةٌ ضخمة (تتراوح بين الأقمار الصنعية والمركبات الفضائية والمراصد الأرضية والمدارية والمحطَّات المدارية المأهولة وأجهزة رصد الزلازل ومسابر قيعان المحيطات وغيرها وغيرها من الأجهزة المختلفة) أعضاء الحسِّ المتصلة به؛ كما تشكِّل الشبكات الخليوية والسلكية والراديوية، على اختلاف أنواعها، استطالاته العصبية الواصلة إلى كلِّ مكان يوجد (أو يمكن أن يوجد) فيه إنسانٌ ما على سطح الأرض وفي جوارها القريب.

هكذا يقوم والد بشرى، بعد أن يتحقَّق من الأمر بحسب الإحداثيات التي حدَّدتْها ابنتُه، بحساب سرعة النجم واتِّجاهه، ويستنتج مبدئيًّا أنه يقترب بالفعل من المجموعة الشمسية، وأنه يحتاج إلى مئتي عام على وجه التقريب حتى يبلغ مكانًا يصير التأثير الثقاليُّ فيه على الأرض محسوسًا. ولا بدَّ من اتخاذ إجراء وقائيٍّ قبل ذلك. أما المكان الذي أتى منه هذا النجم فهو سؤالٌ يحتاج إلى وقت أطول لمعرفته، إنْ كان في الإمكان أن يُعرَف أصلاً.

يُبلِّغ الوالدُ المسؤولَ الأول في "وكالة الفضاء الدولية المشتركة" (الذي كان في يوم من الأيام أحد معاونيه) بالأمر. ويُعقَدُ اجتماعٌ بعد ذلك بعدد من الساعات يضمُّ عددًا من خيرة الخبراء والمعنيين باتِّخاذ القرارات، في جانب منعزل من الشبكة الكونية وعلى نحو سرِّيٍّ. وتُجرى حساباتٌ لكتلة النجم، ويُستنتَجُ أن مساره يتقاطع مع مدار كوكب نبتون. إن المؤشِّرات الأولية تفيد بأن مسار الأرض حول الشمس سوف يتطاول نتيجة مرور هذا النجم، وأن أشكالاً كثيرة من الحياة سوف تنقرض، وأن طبيعة الحياة في نهاية الأمر سوف تتغيَّر على الأرض. ويخلص العلماء المجتمعون إلى قرار يوافَقُ عليه بالإجماع: لا بدَّ، خلال مئة وخمسين عامًا، كحدٍّ أقصى، أن تُطوَّر تكنولوجيا جديدة على الأرض، تجعل من الكوكب نفسه مركبةً فضائيةً هائلة يمكن لها، باستخدام محرِّكات نووية عملاقة، أن تبتعد قليلاً عن مسرح الحدث، ريثما يمرُّ ذلك النجم. وكان لا بدَّ، بطبيعة الحال، من دراسة مفصَّلة لكلِّ تغيُّر سوف يجري في المجموعة الشمسية. ويحتاج ذلك إلى أدواتِ حساب تتطلَّب استنفار كلِّ ما على الأرض من حواسب وشبكات. ولسوف يؤدِّي ذلك، من جهة أخرى، إلى الابتعاد عن الشمس وحرمان الأرض من نورها وطاقتها لوقت غير قصير. وكان لا بدَّ، إذًا، من تخزين ما يكفي من الطاقة عبر الخلايا الكهرضوئية واليخضور الصنعي. وعلى الرغم من الاختلاف قليلاً حول القضية الثانية الشديدة الأهمية، فإن القرار الشجاع يُتَّخَذُ بإشاعة الخبر، وبوضع برنامج توعية شاملة، وبطلب توحيد الجهود والسعي الحثيث نحو الهدف المشترك والمصيريِّ.

ويبدأ سباقٌ مع الزمن، يعمل فيه بهمَّة الكثيرُ من الناس حول العالم، مع أن أيًّا منهم لن يناله هو نفسه أيُّ سوءٍ أو أيُّ خير. لكن ما جرى أيضًا هو أن الناس، على وجه العموم، تعاملوا مع الأمر بطُرُق مختلفة: فمنهم من استخفَّ به، ومنهم من أخذه على محمل الجِدِّ، ومنهم، كما هي العادة، مَن وَجَدَه فرصةً للربح والاستثمار.

في هذه الأثناء كان النجم يتابع سيره نحو النظام الشمسيِّ. وبعد أقل من عقدين توفيت بُشْرى. وكان ولدها الذي اكتشف النجم قد صار واحدًا من أهمِّ رؤساء فِرَقِ البحث والتطوير العاملة في الموضوع.

تفاوتتْ ردودُ فعل الناس مع مرور الوقت، وكَثُرَت البدع الغريبة، بقدر ما كثرت الجماعات التي ترى أن على المرء أن يغتنم فرصة الحياة للمتعة واللذة. وحافظت أعدادٌ قليلة من الناس على توازنها، وتابعت العمل لإيجاد الحلِّ المناسب. ويتابع النجم اقترابه.

نحن الآن في العام 2275. لقد مرَّ النجم في جوار المجموعة الشمسية. وقد نجحت خطَّة الابتعاد جزئيًّا فقط؛ إذ إن أضرارًا كبيرةً غير محسوبة قد أصابت الكوكب. ولم يكن الأمر هو قصورًا في التكنولوجيا، بل كان خطأ في الحساب ذا طبيعة شواشية[18] ما كان بالإمكان اجتنابه. وكان تأثير مرور النجم يفوق كلَّ توقُّع: ما مِن أحد، حتى بين أعظم علماء الأرض، كان قادرًا على فهم ما حدث. لكن كائنًا جديدًا يملك، على كلِّ حال، أجهزةً عظيمة التنسيق وكبيرة الفعالية، كان – وهو بعد جنينٌ – قد طوَّرَها لأغراض تختلف تمامًا عن الأغراض الكبيرة التي تنتظره الآن، كان قد وُلِدَ في كون جديد.

*** *** ***


[1] La Recherche, mars 2004.

[2] مع احترامي كلِّه لأينشتاين، أبدي تحفُّظي على عبارة "الأحرى به أن يموت". وأعتقد أن أينشتاين، المشهور بحسِّه الإنسانيِّ، ما كان ليقولها إلا تشديدًا على أهمية الاندهاش في تطور الفكر والمعرفة. (العبارة مستقاة من مقالة للعالم الكبير، منشورة في معابر.)

[3] كارل ساغان، الكون، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1993، ص 223.

[4] العصبون neuron هو نوع من الخلايا التي تشكِّل أساس الخلايا العصبية. فهو خلية ذات شكل نجميٍّ، يصدر عنها ما يشبه الذيل ويسمَّى استطالةً axon. والاستطالة العصبية الصادرة عن العصبون يمكن لها أن تكون ذات طول كبير قد يصل إلى المتر. وهذه الاستطالات هي إحدى الوسائل التي تعتمدها الجملة العصبية لنقل المعلومات بين الجملة العصبية وخلايا الجسم الأخرى.

[5] التماثل الذاتي: هو مفهومٌ في الرياضيات يشكِّل ركنًا أساسيًّا من نظرية حديثة تفسِّر الكثير من الظواهر الطبيعية التي لم يكن العلم التقليدي قادرًا على تفسيرها. إن فكرة التماثل الذاتي هي فكرة التشابه التام بين الكلِّ والجزء. إذا وضعنا مرآتين متقابلتين على نحو مناسب، ونظرنا في إحداهما، فإن صورتنا ستنعكس على المرآة الأخرى وترتد منها لنراها من جديد أمامنا مصغَّرةً. وهذه الأخيرة ستفعل الشيء نفسه، وهكذا إلى ما لا نهاية. فنحن إذا كبَّرنا إحدى الصور الصغيرة المنعكسة في المرآة المواجهة لنا سنرى سلسلةً جديدة من الصور المتتالية. ويعني هذا أن الجزء معادلٌ للكلِّ!

[6] من أجل الحصول على الإنسولين لبيعه لمرضى السكَّري تقوم شركات الأدوية بتربية الكثير من الأبقار. تؤخذ المورِّثة الخاصة بصنع الإنسولين من نواة خلية إنسانية وتُزرَع في البيضة الملقَّحة للبقرة. سوف تحتوي جينات البقرة التي ستصبح هذه البيضةُ إياها على هذه المورِّثة الإنسانية، وستكون هذه الخلية موجودة، بالتالي، في نواة كلِّ خلية من خلايا البقرة، بما في ذلك الحليب الذي ستدرُّه. ومن أجل أن تدرَّ البقرة نفسها المزيد من الحليب، يجري إدخال أنزيم خاصٍّ مأخوذ من الخلايا الثديية لفأرة. إن هذا الكائن الجديد (البقرة) سيحوي في جينومه إذًا مورِّثات من كائنين آخرين. ومثل هذه الأبقار صارت موجودة بكثرة في مزارع تابعة لبعض شركات الأدوية، حيث يمكن فيما بعد فصل الإنسولين من الحليب بطُرُق كيميائية سهلة، ويبقى الحليب نفسه قابلاً للتجفيف والبيع أيضًا. ويمكن أن نذكر أيضًا أنه بات هناك آلاف، إن لم يكن ملايين، من فئران التجارب التي تحمل في جينومها مورِّثات إنسانية مختلفة. (عن كتاب: د. موسى الخلف، العصر الجينومي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2003)

[7] يُحكى أن لعبة الشطرنج قد أعجبت كثيرًا ملك البلاد حين اختُرِعَت. فقام باستدعاء مخترعها و"أمره" أن يطلب ما يريد ويتمنَّى. فكَّر المخترع قليلاً، ثمَّ طلب أن يُعطى حبة قمح واحدة عن المربع الأول من المربعات الأربعة والستين التي تشكِّل الرقعة، وحبتا قمح عن المربع الثاني، وأربع حبات عن الثالث، وثماني حبات عن الرابع، وست عشرة حبةً عن الخامس، وهكذا حتى المربع الرابع والستين. فهذا هو إذًا ما نسمِّيه في الرياضيات التضاعف الأسِّي. وللقصة تتمة تشير إلى مدى ضخامة الأعداد التي نصل إليها من خلال التضاعف الأسِّي: فلقد استخفَّ الملك، بل شعر بالإهانة، لأن ذلك المخترع طلب منه بعض حبات من القمح، وأمر وزيره أن يتولَّى صَرْفَ المكافأة. بعد يومين، وفيما الملك خارجٌ من قصره لتفقُّد الرعية (وهي عادةٌ صارت نادرةً اليوم!)، رأى ذلك المخترع جالسًا عند باب القصر. فسأله عمَّا يفعل. أجاب: "أنتظر صَرْفَ مكافأتي." عاد الملك أدراجه، واستدعى الوزير، وهذا بدوره استدعى العلماء، الذين شرح كبيرهم للملك أنهم يحتاجون لبعض الوقت لحساب كمية القمح التي يجب صرفها. ولكي لا أطيل كثيرًا، أختصر فأقول إن الملك العظيم لم يستطع صرف المكافأة حتى اليوم. إذ تبيَّن أنه لا بدَّ من تجفيف كافة محيطات العالم وبحاره، واستصلاح كافة الصحارى، وزرعها جميعًا بالقمح، لعدد كافٍ من العقود، حتى يحصل المخترع على مكافأته! يمكن لهذه القصة أن تتيح لنا تخيُّل عدد الكمبيوترات التي ستتصل بالإنترنت لو استمر معدَّل التضاعف على ما هو عليه لعقد واحد آخر من السنين.

[8] ملاحظة: في سوريا لا يزيد ثمن جهاز الكمبيوتر الجيد الإمكانيات كثيرًا عن ثمن جهاز التلفزيون، مثلاً. فإذا لاحظنا أن التلفزيون جهازٌ موجودٌ في كلِّ بيت تقريبًا فهذا يعني أن الإمكانية المادية لوجود الكمبيوتر الشخصيِّ في كلِّ بيت أمرٌ في متناول اليد. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضًا أن الهاتف الأرضي قد صار موجودًا في معظم البيوت أيضًا فهذا يعني أن إمكانية الارتباط بالإنترنت متوفِّرة للجميع. وأعتقد أن المطلوب هو المزيد من نشر الوعي والتعليم اللازم لاستخدام الإنترنت، ولاستخدامه على نحو صحيح ومفيد، حتَّى من قبل الأطفال والطلاب. يبقى أن نشير إلى التقصير الذي نعاني منه على مستوى التمكُّن من اللغات الأجنبية، ولاسيما الإنكليزية، التي تمثِّل أكثر من 90 في المئة من حجم المعلومات على الشبكة.

[9] ألا تذكِّرنا هذه البنية اللامركزية من حيث المبدأ، إنما التي تنطوي على نوع من شبه المركزية، ببعض مزايا القشرة المخِّية، حيث يختصُّ جزءٌ منها بالرؤية، مثلاً؛ ولكن إذا نُزِعَ هذا الجزء فإن خلايا أخرى من القشرة الدماغية تتولَّى مسؤولية هذه العملية؟

[10] La Recherche, N° 328, Février 2000, p. 62.

[11] إن نقل فيلم سينمائي عبر خطوط الإنترنت وفق نظام خطوط الهاتف المعمول به في سوريا، وباستخدام موديم سرعته 56 كيلوبايت، يحتاج إلى 171 ساعة؛ أما نقل نفس الفيلم عبر نظام ADSL الذي يعمل على خطوط الهاتف العادية أيضًا (وهو النظام الذي تعمل وفقه معظم الأجهزة المرتبطة بالشبكة في بريطانيا)، فهو يتطلَّب نحو 25 ساعة؛ في حين يمكن نقل الفيلم نفسه عبر تقنياتِ نقل حديثة، ما تزال محصورة الاستخدام ضمن الشركات الكبرى ومراكز البحث والمؤسَّسات الحكومية، خلال ستِّ ساعات. أما نقل الفيلم نفسه على النسخة التالية من شبكة الإنترنت، التي تسمَّى إنترنت 2، والتي ستوضع قريبًا في متناول الأكاديميين والعلماء فقط، فهو يستغرق نصف دقيقة فقط. (عن: الثقافة العالمية، عدد 123، آذار–نيسان 2004، ص 170)

[12] إن مجموعة الجزيئات أو الذرات التي تكوِّن، من الناحية المادية، جسمًا ما لا تشكِّل هذا الجسم، أو هذا الكائن نفسه. إذ يتوقف الأمر على طريقة توزُّع هذه الذرات والجزيئات وترابطها. ولمَّا كان من الممكن، من حيث المبدأ، وصف هذا الترابط بسلسلة من الرموز المؤلَّفة من أصفار ووُحدان، فإن هذا الترابط يمثِّل مجموعة معلومات. وبهذا المعنى فإن مقولة أن كلَّ شيء هو معلومات لا تنأى كثيرًا عن الواقع.

[13] عن: مايكل دِرتوزوس، كيف سيغير عالم المعلومات الجديد حياتنا؟، مركز الحضارة العربية، القاهرة، آذار 2000.

[14] المدهش أيضًا أن تطوير هذه الوسائل قد نجم، إلى حدٍّ كبير، عن تطوير برامج الألعاب. وهنا يمكن أن نتعلَّم درسًا صغيرًا، وهو ألا نخاف أبدًا من كون أولادنا يقضون ساعات طويلة أمام شاشات الكمبيوتر مع الإنترنت وبرامج الألعاب؛ فلسوف يتعلَّمون تقنيات ويعيشون في عوالم فاتتنا نحن، ويجب ألا تفوتهم. ومن هذا المنظور، فإنني أشعر بأن الشباب الصغار الذين اعتادوا الدخول على الإنترنت، حتى في سبيل اللعب فحسب، يستطيعون فهم ما يمكن أن يفوت الكبار، مهما كانت درجة ثقافتهم.

[15] كالعادة، كانت سينما الخيال العلمي سبَّاقة إلى افتراض وقوع مثل هذه الكوارث الكونية. وما فيلم أرماجدون، على سطحيته، غير مثال على كيفية تعامُل بشريتنا الحالية مع خطر كوني محدق. (المحرِّر)

[16] عن: مايكل دِرتوزوس، كيف سيغيِّر عالم المعلومات حياتنا؟، بترجمة بهاء شاهين، دار مركز الحضارة العربية، القاهرة 2000، ص 66.

[17] ريتشارد فاينمان هو واحدٌ من كبار علماء الفيزياء المعاصرين، وأحد حملة جائزة نوبل. ومن أهمِّ كتبه المترجمة إلى العربية كتاب طبيعة قوانين الفيزياء. أما هذه العبارة فمأخوذة من كتاب مع القفزة الكمومية، لفريد آلان وولف، بترجمة أدهم السمان، دار طلاس، دمشق 1994.

[18] أي متعلِّق بنظرية الشواش Chaos Theory. وهي نظرية ترتبط ارتباطًا عميقًا بالتماثُل الذاتي الذي أشرنا إليه في مكان آخر من هذا البحث. إن المقصود بالطبيعة "الشواشية" هنا هو تأثير ما يسمَّى "مفعول الفراشة"، وهو أحد مبادئ نظرية الشواش القائل بأن تغيُّرًا طفيفًا جدًّا في الشروط الابتدائية لجملة ديناميَّة يؤدي، على المدى الطويل، إلى تغيُّر عظيم الشأن في النتيجة النهائية. ويذكر العلماء مثلاً معبِّرًا عن هذا المفعول حين يؤكدون أن رفَّة جناح فراشة في بكين يمكن له أن يُحدِثَ تغييرًا طفيفًا محليًّا في ضغط الهواء، لكن هذا التغيير الطفيف يمكن له أن ينتقل في الزمان والمكان، وأن يتراكم ويزداد، حتى يصير، بعد شهر مثلاً، إعصارًا في الولايات المتحدة!

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود