رحيلٌ في الدَّرجة الصِّفْرِ من المكان

 

أدونيس

 

1

إنها المدينةُ – إيَّاها.

أتراني أحلم حقًّا؟ ولماذا، إذن، تُناديني تلك الشجرة، قُربَ جدارٍ نُقِشَتْ عليه هامَةٌ في شكل صَحْنٍ مُدوَّر؟ ولماذا خُيِّل إليَّ أن كلامَ هذه الشجرة يخرجُ من بين شفتَيها كما خرجت الكلماتُ من صَخرةٍ كانت أمس قد انشقَّتْ أمام عيني؟

قيل لي: هذا نداءُ الكلام، لا نداء الوحي.

وقيل: إنها شجرة طُوبى.

وكنتُ قرأتُ في كتب الأخبار السالفة أنَّ الخالقَ صنع بيده، كما روى كعب، ثلاثة أشياء لا غير:

بيده خلقَ آدم، بيده كتبَ التوراة، بيده غَرَسَ شجرة طُوبَى، قائلاً لها: تَكلَّمي. ما تَبَقَّى من الأشياء لم يَصنعْه بيده، وإنما خَلَقَه باللغة. قال له: كُنْ، فكان.

2

أُطَمْئِنُ أهلَ الإيمان، وغيرَهم، أنني هُنا لا أبتدعُ. أنقلُ، وأروي. لا أَنْفي، لا أُثبِتُ، لا أُرجِّح. الأخبار متعارِضةٌ – والله أعلم.

3

في هذا الرَّحيلِ، في الدَّرجة الصِّفْر من المكان، في بياض الورق، أنقلُ، استئناسًا وتيمُّنًا، بعض الأخبار التي دوَّنها صاحبُ الإنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، قاضي القضاة، أبو اليمن القاضي مجير الدين الحنبلي (رحمه الله تعالى، ولد بالقدس سنة 860 هـ، وتوفي فيها سنة 928 هـ) – أنقلها إلى القرَّاء، كما هي، لعلَّ فيها ما يُضيء وما يَشْحذُ المخيِّلة، استعدادًا لما سيأتي.

4

تلك هي الأخبار التي اخترتُها لكي أنقلَها إليهم:

أ

[اختلفوا في أوَّل مَن بنى مسجِدَ بيت المقدس:

روى بعض العلماء: "أَوَّل مَن بناهُ الملائكةُ بأمرِ الله تعالى. وخَصَّ بعضهم في ذلك إسرافيلَ عليه السلام."

ورُوِيَ: "بنى الملائكةُ المسجدَ الحرام قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجُّونه."

وقال الإمام أبو العبَّاس القرطبي: "يجوز أن يكون الملائكة بنوه، بعد بنائها البيتَ المعمور، بإذن الله تعالى."

ومن العلماء مَن قال: "آدم عليه السلام هو الذي بنى مسجدَ بيتِ المقدس."

ومنهم من قال: "أسَّسهُ سام بن نوحٍ عليهما السلام."

ومنهم من قال: "أوَّل من بناه يعقوب بن إسحاق عليهما السلام."

ورُوِيَ أنَّ "أباه إسحاق أمَرَهُ أن لا ينكحَ امرأةً من الكنعانيين، بل امرأة من بنات خاله. توجَّه إلى خاله، فأدركه الليلُ في الطريق. بات متوسِّدًا حجرًا – فرأى، فيما يرى النائم، أنَّ سُلَّمًا منصوبًا إلى بابٍ من أبواب السماء، تعرج فيه الملائكة وتنزِل. فأوحى الله إليه: إني أنا الله لا إله إلا أنا، وقد ورَّثتُكَ هذه الأرضَ المقدَّسة، وذريَّتكَ من بعدك، ثم أنا معك، أحفظك حتى أردُّكَ إلى هذا المكان، فأجعله بيتًا تعبدني فيه – فهو بيت المقدس."

ب

"أمَّا مدينة القدس، فكانت أرضها، في ابتداء الزمان، صحراءَ بين أوديةٍ وجبالٍ، خاليةً، لا بناء فيها ولا عمارة. فأول من اختطَّها وبناها سام بن نوح عليهما السلام. وكان يُلقَّب مَلْكِيصادق – ومعناه بالعبرانية: ملك الصدق.

نزل مَلْكِيصادق بأرض بيت المقدسِ، وقطن في كهفٍ من جبالها يتعبَّد فيه. اشتُهر أمرُه حتى بلغَ ملوكَ الأرض الذين هم بالقرب من أرض بيت المقدس، الشام وسدوم وغيرهما، وعددهم اثنا عشرَ ملكًا. حضروا إليه، فلما رأوه وسمعوا كلامه، اعتقدوه وأحبُّوه حبًّا شديدًا، ودفعوا له مالاً ليعمِّر به مدينة القدس.

اختطَّها وعمَّرها وسُمِّيت روشلم. وتُسمَّى كذلك ورشلَّم وشلَم وصهيون. لما انتهت عمارتُها، اتَّفق الملوك جميعًا أن يكون مَلْكِيصادق ملكًا عليها، وكنُّوه بأبي الملوك. وكانوا بأجمعهم تحت طاعته، واستمرَّ حتى مات فيها.

ولمَّا بُنِيَتْ مدينة بيت المقدس، كان محلُّ المسجد في وسطها، وهو صعيدٌ واحد. والصَّخرة الشريفة قائمةٌ في وسطه، حتى بناه داؤود ثم سليمان. ويروى أن بناء داؤود وسليمان إنما كان على أساسٍ قديم – فهما مجدِّدان، لا مؤسِّسان."

ج

رُوِيَ في قوله تعالى: "ونجَّيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين"، أن هذه هي الأرض المقدَّسة، لأن كلَّ ماء عَذْبٍ إنما يخرج منها، من أصل الصخرة الشريفة، ثم يتفرَّق في الأرض."

وقال ابن عبَّاس في قوله تعالى: "وآويناهما إلى رَبْوة ذات قرارٍ ومعين"، أن الرَّبوةَ هي بيت المقدس، وهو قول قُتادة وكعب. وقال كعب: هي أقربُ الأرض إلى السماء بثمانيةَ عشرَ ميلاً.

وقيل في قوله تعالى: "واستمع يومَ ينادي المنادي من مكانٍ قريب"، أنَّ المنادي هو إسرافيل – ينادي من صخرة بيت المقدس في الحَشْر، وهي وسط الأرض. والمكان القريب هو صخرة بيت المقدس. وقيل في قوله تعالى: "في بيوتٍ أَذِنَ الله أن تُرفَع ويُذْكَرَ فيها اسمُهُ" أنه يعني بيت المقدس.

وقيل في قوله تعالى: "فضربَ بينهم بسورٍ له بابٌ، باطنه فيه الرَّحمةُ، وظاهره من قبله العذاب"، أنَّ السورَ هو سورُ بيت المقدس الشرقيُّ. قاله عبد الله بن عمر. "باطنه فيه الرحمة"، أي المسجد. و"ظاهره من قبله العذاب"، أي وادي جهنَّم.

د

عَن مُعاذٍ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى عليه وسلَّم: قال الله تعالى: "يا شامُ أنتِ صَفْوتي من بلادي. وأنا سائقٌ إليك صَفْوتي مِن عبادي. مَنْ كان مولدُه فيكِ، فاختارَ عليكِ غيركِ، فبذنْبٍ يُصيبه؛ ومَن كان مولده في غيركِ فاختاركِ، فبرحمةٍ منِّي. يا شَامُ اتَّسعي لأهلكِ بالرِّزق كما يتَّسع الرَّحِمُ للولد. وعيني عليكِ بالطَّلِّ والمطر، منذ خُلِقَتِ السنينُ والأيام. مَن يعدمُ فيك المالَ لا يعدم الخير. يا روشلمَ، أنتِ مقدَّسةٌ بنوري، وفيكِ المَحْشَرُ والمَنْشَر، أزفُّكِ يومَ القيامة كما تُزَفُّ العروس إلى بَعْلِها. ومن دَخَلَكِ استغنى عن الزيت والقمح."

وعن مُعاذٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "يا مُعاذ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ سيفتح عليكم الشَّامَ من بعدي، من العريش إلى الفرات. رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة. فمَن اختارَ منكم ساحلاً من سواحل الشام، أو بيتَ المقدس، فهو في جهادٍ إلى يوم القيامة."

هـ

وعن كعبٍ، قال: شَكَا بيتُ المقدس إلى ربِّه الخراب، فأوحى الله إليه: "لأملأنَّكَ خدودًا سُجَّدًا، يزفُّون إليكَ زفيف النسور إلى أوْكارِها، ويحنُّون إليكَ حنين الحمام إلى بَيضها."

فقَال رجل: "اتَّقِ الله، يا كعب. وهل لبيت المقدسِ لسان؟"

قال: "نعم. وله قَلْبٌ مثلكَ."

و

روى أبو داؤود، رحمه الله، في سُنَنِه، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نَهَى أن تُستقبَل الصخرةُ ببولٍ أو غائط: "لا تستقبلوا واحدةً من القِبْلتين ببولٍ أو غائط."

ز

عن أبي هريرة، رضيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "المياهُ العَذْبَةُ والرياح اللواقح تخرج من تحت صخرة بيت المقدس."

وقيلَ: مَن أراد أن يشربَ ماءً في جوف الليل، فَلْيقلْ: "يا ماء، ماءُ بيت المقدس يُقْرئكِ السلام"،

ثم يشرب – فإنه أمَانٌ بإذن الله عَزَّ وجَلَّ.

ح

وعن أبي هريرة، رضيَ الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "مَن مات ببيت المقدس فكأنَّه ماتَ في السماء."

ط

وقال ابن عبَّاس، رضيَ الله عنه: "صخرة بيت المقدس من صخور الجنة."

ي

وعن عُبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صخرة بيت المقدس على نَخْلةٍ، والنَّخلة على نَهْرٍ من أنهار الجنَّة، وتحت النَّخلة آسيةُ امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، تنظمان سموطَ أهلِ الجنة، إلى يوم القيامة."

ك

وقال أنس بن مالك، رضي الله عنه: "إنَّ الجَنَّةَ لتحنُّ شوقًا إلى بيت المقدس."

ل

وقال كعب: "إن الله ينظر إلى بيت المقدسِ كلَّ يومٍ مرَّتَين."

م

وفي الأخبار المتواترة: كلَّم الله موسى في بيت المقدس/ تابَ الله على داود وسليمان في أرض بيت المقدس/ رَدَّ الله على سليمان مُلكَه في بيت المقدس/ بَشَّر الله زكريَّا بيحيى في بيت المقدس/ سَخَّر الله لداود الجبالَ والطير في بيت المقدس/ تتغلَّب يأجوج على الأرض كلِّها، إلا بيت المقدس/ ويُهْلِكُهم الله في أرض بيت المقدس/ أُوتِيَتْ مريم عليها السلام فاكهةَ الشتاء في الصَّيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء، في بيت المقدس/ ولد عيسى عليه السلام وتكلَّم في المهد في بيت المقدس/ وأُنزِلَتْ عليه المائدةُ في بيت المقدس/ ورَفَعَه الله إلى السماء من بيت المقدس/ وينزل من السماء إلى الأرض في بيت المقدس/ هاجَرَ إبراهيم عليه السلام من كُوثَا إلى بيت المقدس/ أُسرِيَ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى بيت المقدس/ تكون الهجرة في آخر الزمان إلى بيت المقدس/ يُنْصَبُ الصِّراطُ على جهنم إلى الجنة ببيت المقدس/ ينفخ إسرافيل في الصُّور ببيت المقدس/ والحوت الذي الأرْضُونُ على ظهره: رأسُه في مطلع الشمس، وذَنَبُه بالمغرب، ووسطه تحت بيت المقدس/ تخرب الأرض كلُّها ويعمر بيت المقدس/ أوَّل بقعة بُنِيَتْ من الأرض كلِّها موضعُ صخرة بيت المقدس/ تظهر عينُ موسى في آخر الزمان ببيت المقدس.

وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي عبيدة بن الجرَّاح رَضِيَ الله عنه: "النجَّاءَ النجَّاءَ إلى بيت المقدس إذا ظهرت الفِتَن."

ن

رُوِيَ أن القولَ "إنَّ بيت المقدس طَشْتٌ من ذهبٍ مملوءٌ عقارب" "محمولٌ على زمان بني إسرائيل، الذين كانوا يعملون فيه بمعاصي الله تعالى". أما اليوم، "فالحمد لله، فإنما به وبأفنائِه الطائفةَ المنصورة".

س

عن أبي سعيد الخِدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ينزل بأمَّتي في آخر الزمان بلاءٌ شديدٌ من سُلطانهم، لم يسمع النَّاس بِبلاءٍ أشدَّ منه، حَتَّى تضيقَ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ، وحتى تُملأ الأرضُ ظلمًا وجَوْرًا. ثم إنَّ الله يبعث رجلاً، يملأ به الأرض قِسْطًا وعَدْلاً، كما مُلِئتْ جَوْرًا وظُلمًا، يرضى عنه ساكنُ السَّماء وساكنُ الأرض. لا تَدَّخِر الأرضُ من بِذْرِها شيئًا إلاَّ صَبَّه الله عليهم مدرارًا. يعيش فيهم سبعَ سنين أو ثَماني سنين أو تِسعًا وينزل بيت المقدس."]

5

إنها المدينةُ – إيَّاها:

لكلِّ حَجَرٍ تبتكر راعيًا نبويًّا

ولكلِّ حَقْلٍ قطيعًا من المعدن.

إنها المدينةُ – إيَّاها

فماذا تفعل أنتَ –

أنتَ الذي يختار الإنسانَ والحرِّية

ويختار الحبَّ وأَوْجَ الجسد؟

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود