ضباب وقناطر وقرنفلة تُدعى

مصياف!

 

لقاء مع عبد الرزاق الحاج إبراهيم

 

* كقارئ لأعمالك المطبوعة، حبَّذا لو قَصَصْتَ علينا – عليَّ وعلى قراء هذا الحوار القادم – بطاقة تعريف، لوحة تشكيلية، كما عوَّدتنا في قصصك، تساعد على تنامي وإثارة أسئلة غريبة ليست حاضرة في الذهن الآن.

** ......... مواطن مصيافي منذ العام 1945؛ يبحث عن وطن أضيق؛ مُحاوِر رديء؛ قاصٌّ جيد – وهذا الخليط المتنافر كلُّه طيُّ حياة عادية جدًّا جدًّا؛ والمثير فيها أنه لا شيء فيها مثير!

هو ليس ضدَّ الغنى، وليس الاشتراكي الأعور، لكنه ضدَّ الرأسمال الأعمى. بات يكره السفر بالقدر الذي يكره فيه الأفاعي بسبب حادث [...] مؤسف!

يتوضَّأ من عام لعام بأمسية قصصية في «ثقافي» مصياف.

يتمنَّى على رؤساء تحرير المجلات والدوريات اعتماد الرسائل العادية التي تفتقر إلى بطاقات التوصية – الشهرة، على سبيل المثال لا الحصر. يأمل من الاتحادات – أيِّ اتِّحاد – «تطبيع» قبول مَن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة – إلاَّ إذا كانوا حاملين لأمراض سارية مُعْدية!

* بدايةً، كيف كانت البدايات؟ دور البيئة؟ ما هو الدافع الذاتي إلى دخولك عالم الإبداع؟ ما هي العناصر التي تعتمدها لتحقق الشرط الفنِّي في إبداعاتك القصصية؟

** يبدو أننا لا نختار طُرُقنا، مثلما أننا لم نخترْ أسماءنا وأوطاننا. ومادام آباؤنا يعشقون على أمهاتنا، فلا مجال لرؤيتنا أطباء «قد الدنيا»... أو علماء بطول مسطرة!

بدأت الكتابة عندما بدأت أميِّز بين أن أكون في زقاق وبين أن أكون في شارع؛ بين أن تكون كمًّا مهملاً وبين أن تكون ذا شأن وحضور؛ بين أن تكون مغرورًا يحسب أنه محور الكون وبين أن تكون إنسان مجتمع!

للبيئة دور مهمٌّ وفعلٌ أهم، كما دور فعل المرأة. ومصياف – وأنت لا تجهلها – من المدن الجميلة في عيون سكانها وعيون الزائرين على حدٍّ سواء. أما أنا فقد وقفت على سرِّ جمالها الخفي، وهو أنها أرملة جميلة – ومؤكد من هنا يفلت من بين يديَّ خارج حدود دائرة مسقط الرأس – ومنذ العام 1945 – أعني منذ الاستقلال – أرملة جميلة لا تأكل بثدييها. لكنها – وللأسف! – بدأت منذ مدة ببيع حليِّها وأثاث بيتها قطعة وراء قطعة. فأبناؤها لا يعودون إليها إلا «حَشْوَ الكفن» (بتعبير نسيب عريضة)، أو لقضاء البقية الباقية من شيخوخة وتجربة حياتية رخوة هزيلة!

يقينًا، لا دوافع لدخولي عالم الكتابة، باستثناء أن «أكون» بكتابتي، أن أذوب فيها، لأنها حلمي الأول والأخير؛ لأنها تَوازُني وهدوئي وتألُّقي على الدوام. وهذه الـ«أكون»، أعتمد لها الصدق والعفوية والسهر والتعب في نحت المفردات التي أتعامل معها، وكأنها حبات لؤلؤ، أحجار كريمة – ومع التأكيد على أن هذا يختلف عن التكلُّف، وهو مُفارق ومغاير للتزوير والبهرجة، أو لأقُلْ، هو غير التقعُّر.

في مصياف – كما تعرف – دقائق وتكون في حضن الطبيعة؛ وهذه منحة نُحسَد عليها. ففي مشواري المعتاد، حين تحتويني، مثلاً، قرية «كفرلاها» المطلَّة على وادي «الحليمات»، ببيوتها الأقل من عشرين بيتًا، كثيرًا ما أحكي مع نفسي، معاتبًا، ضاربًا كفًّا بكف: «لماذا لا تقول شعرًا في هذه اللحظة، وفي هذا السحر، يا عبد الرزاق؟!» وللتوِّ هاجسٌ غريب يصادر فرحتي، يخنقها؛ فألوذ خائفًا مذعورًا، تسوقني طاعةٌ عمياء إلى حضن شجرة قطلب أو سنديان: «قف! أنت قاصٌّ. والعبور إلى حدود الضباب والقناطر، كما في أغنية فيروزية، ممنوع!»

* مجموعتان قصصيتان: أيُّ معنى لمجيء هابيل؟! ومزمار الحي، ورواية وحيدة: القطط المخبرية – هل استطعت أن تقدِّم نفسك للمتلقِّي من خلال هذا الإبداع المنتج؟ أم أن المشوار لازال في البدايات؟

** في هذه الكتب التي تذكرها، أخاف أنني أزعجت المتلقِّي بهمومي وأوجاعي، مع أنني لم أنسَ غَسْلَ وجهي وتسريح شعري، ولو بأصابعي – ولا أكتمكَ – لم أنسَ رشَّ قليل من العطر! لذلك لا أدري إن كنت قدَّمتُ الجميل – وببعض الكياسة واللباقة – مع أنه سرَّني كثيرًا أن بعض هذا المتلقِّي ما يزال يشير إليَّ بـ«هذا هو صاحب القطط المخبرية!»، أو هذا هو «خالد أمينة»، أو هذا هو «إبراهيم الجردي»، شهيد حرب الصَّرْف الصِّحي التي سبقتْ حرب حزيران!

أما في قصص لاحقة نُشِرَتْ في مجلة الموقف الأدبي – ولا أذيع سرًّا – بوساطة أديب عزيز عليَّ، هو وأدبه، تحت عناوين «صحافة الشارع المجاور» (عدد أيلول 1995)، و«سباق الاغتيالات» (عدد نيسان 1997) و«مدهون في فخِّ المصطلحات» (عدد نيسان 1998)، فأعتقد أنني أهملت نفسي. لم أهتم أبدًا بشكلي وبهندامي، ولا حتى برائحة جواربي! فقد كانت حقيبة «أحدب نوتردام» فوق ظهري، تلسعني بسياطها كلما هَمَمْتُ في قضم قضمة من حشيش حافة الطريق!

أعتقد أنني غدوت، إلى حدٍّ ما، ساعي بريد حشريًّا نوعًا ما، ونشيطًا بمقدار ما هو أمين؛ وهذا يعني أن المتلقِّي الذي تغار عليه غير المتلقِّي الذي أغار عليه أنا. الأول يذهب إلى المكتبة، إلى المركز الثقافي، إلى المسرح؛ أما الثاني فتأتيه كلُّ هذه المظاهر إلى طاولته، أو تُرتَّب مع باقة زهور قرب سريره، إذا كان جلالتُه لم يستيقظ بعد! المشوار لا يزال في البدايات. والجميل أن هذا المشوار في الأدب الروسي يعني فسحة خشبة المسرح!

* واضح اهتمامُك بنقد الواقع، معتمدًا على اللغة، إلى جانب المقاربات التاريخية. هل تعتقد أن اللغة ببنيتها هي تاريخ في حدِّ ذاته، وأن التاريخ يمتلك الإطلاق بصحته؟

** الوضوح شرطُ النجاح. واحترام الوقت أول مادة من مواد تعاقُدنا مع الحياة. سأزورك ما بين العصر والمغرب، أو على الساعة السابعة أو السابعة والنصف أو الثامنة مساءً! هذه مواعيد ناس أمِّيين؛ هذه مواعيد رديئة، سيئة، قميئة. وهذا الحكم على نوعية مواعيد كهذه بالرداءة والسوء، يسبقُه في أذهاننا، بسرعة مذهلة، حكمُنا على اللغة بالرداءة وعدم الوضوح والتعيين. إذًا، نقد الواقع تلزمه لغةٌ سليمة معافاة، مفهومة واضحة، لأن اللغة متشابكة مع الوقت، يعني مع التاريخ؛ وهي تؤرِّخ للأسود والأبيض، وبالأسود والأبيض. وهي التي تتدخَّل في تصويب قراراتنا – وحتى عواطفنا – فتجعلها عاقلة نافذة، بقدر ما هي نبيلة إنسانية...

إذا قلت لك: «التاريخ رداء يهترئ من كثرة الغسل!» تفهم ما أعنيه دون بذل جهد كبير؛ وعلى الفور يكون جوابك جاهزًا، وعلى قدِّ قامة السؤال–القرار: حقًّا يكفي أسلافنا مدحًا، ووصفنا نحن بما ليس فينا! إذًا، اللغة مفردة في مكانها المناسب. اللغة حنجرة؛ وبمقدار صفاء هذه الحنجرة وعذوبتها يكون صفاء وصحة وعذوبة التاريخ!

* هل هناك طقس يهيمن عليك خلال عملك الكتابي الإبداعي؟

** عندما أقع تحت سطوة هذا الطاغية الذي «يقطع الشجرة لكي يأكل الثمرة»، يعني الكثير من التبغ، الكثير من الشرود، الكثير من الأرق؛ يعني أغدو «هرَّ» الشاعر الذي أحبُّ، فايز خضور: «فصرتُ كهرٍّ، من الذعر، حُوصِرَ في طاقة المِدخَنَهْ/ يروم المزيدَ/ ويبغي فكاكًا، وما أمكَنَهْ»!

يعني السنَّارة في أسفل ذقني، في حنجرتي، في سرَّتي؛ فأتدلَّى كالخروف الذبيح، وأنتقل بين الكلاليب مع كلِّ عملية بيع، تُنقِصُ من وزني وتزيد في ربح ذلك القصَّاب الجميل! وباختصار شديد، إذا أردت أن تكتب يجب أن تقرقف من البرد!

* بعد مجموعتين قصصيتين، اتجهت إلى عالم الرواية. ما الدافع الأساسي إلى ذلك؟

** أنا مع الرواية. لكني لا أعدُّ نفسي الآن روائيًّا؛ أو لم أتَّجه إليها كمنصب إداريٍّ رفيع مميَّز أحلم به. هنالك نوع الحدث، نوع الهمِّ، ومساحة الشعور والإحساس بهذا الحدث–الهمِّ. عندما تكتب قصة قصيرة من خمس صفحات أو أكثر، يعني أن رحم اللغة ضاق بهذه القصة، بهذا الحدث، فولدتْه في الشهر السابع؛ وهذا قابل للحياة بين الناس.

وكذلك الأمر بالنسبة للرواية. والولادة في الشهر التاسع اكتمال تمام فترة الحمل. وهذا قابل للحياة، لكنه يحمل في أحشائه كائنًا جديدًا ورحيمًا؛ أو بمعنى آخر، أحشاؤه تؤكَل جميعها نيئة، كما الكرز! فهو لا يمدح طبيبًا واحدًا ناجحًا، إنما يبشِّر بمستوى صحِّي جيِّد لائق، قادم من مضيق جبل طارق!

رواية القطط المخبرية مكتوبة قبل المجموعتين القصصيتين؛ لكنها طُبِعَتْ زمنيًّا وسطهما. يمكن أنه الخوف! ففي هذه الرواية كنت متأثِّرًا – ولا أزال – بـالجريمة والعقاب للكاتب الروسي الأول دوستويفسكي، الذي أنصِّبه وأتوِّجه أمير الأدب القيصري – أعني أن جميع أعماله ولدت بشقِّ الخاصرة. وهذا جديد، وهذا مخالف للمألوف، وهذا الذي يعمِّر!

ألا تلاحظ أننا تجاوزنا، أو لم نأتِ أبدًا على ذكر القصص الميتة في الشهر الثامن؟!

* تميل إلى استخدام كلمات ومقاطع ومقولات ذات دلالات – ولا شكَّ أن بعضها يحتاج إلى قاموس. ألا تعتقد أن ذلك يجعل المتلقِّي يعزف عن المتابعة؟ ما هي الدوافع؟ وهل تعتقد أن ذلك يأتي ضمن استخدام تقنيات محسنة للارتقاء بالقصِّ من وجهة نظرك، كحدٍّ أدنى؟

** لكلِّ كاتب قارئ، كما لكلِّ سجين زائر! قارئي يأتي إليَّ. وأنا باقٍ على احترامي للقارئ الآخر الذي قذف بقصتي، بكتابي، من النافذة – كما السجين البريء، لا يطالب كلَّ أفراد حارته أو مجتمعه بزيارته، على الرغم من قناعته التامة وصدقه الخالص أنه سجين مظلوم! المصابون بالعنَّة – وهنا أعني العنَّة الذهنية – هم أبعد الناس عن الحديث عنها وعن أسبابها وطُرُق معالجتها. وكلُّ ما يجري هو أنني قد أضطر إلى استخدام هذه الكلمة – «عنين». وهنا أعني ما أعنيه، لأنني أراها تخدم الفكرة أكثر من غيرها – أكثر من «بخيل» أو «شحيح» أو «مدير عام» لئيم، حتى في سرقاته مثلاً!

هل يحرِّم القارئ عليَّ ذلك؟! هو حرٌّ في تنصيب مَن يشاء على إمارة القصة أو الرواية – موناكو أو الشارقة – لكنَّه ليس حرًّا في إطلاق الأحكام الخاطئة!

أبدًا لا دوافع في الأدب، ولا أغراض مغرضة من وراء خلخلة اللغة – إلا الارتقاء بالنص. وتقع على عاتق القارئ مهمَّةُ رَتْقِ ما بين الأفكار والمقاطع والمقولات، بقراءة ما بين السطور بعد قراءة السطور عينها. فإذا كانت هذه المهمَّة صعبة، فالمشكلة ليست عند الكاتب، والعيب ليس في قلمه. وأعدك أنني في يومٍ من الأيام لسوف أحاكم نفسي إذا ما ثبتتْ خيانتي لهذا القارئ!

* في قصة «أمل الجردي»، ما هي علاقة المحفظة بالحَدَث، وهو تعطُّل قنوات الصَّرْف الصحِّي؟

** عنوان القصة «ضياع محفظة أمل الجردي». ومحفظة أمل الجردي هي سيرة حياة إبراهيم الجردي: شقاؤه، غربته، تحويشة عمره، حلمه في بناء بيت تدخله الشمس؛ فدخلتْه المياه المالحة النَّجسة لخلل فنِّي، نَجَمَ عنه تسليطُ مجرور شارع بكامله على مجرور بيته الذي كان سيمضي فيه بقية عمره، فكان سببًا في قتله! ألا تكفي هذه القرابة؟!

* هل المحرَّمات تحدُّ من حريتك؟ أم أن الإبداع يتجاوزها؟

** هل تعتقد أن المحرَّمات قادرةٌ الآن على إغلاق الجامعات في وجه ابنتك أو ابنتي، شقيقتك أو شقيقتي؟ مشكلة الإبداع أخت مشكلة حرية تعليم المرأة وتوظيفها واختيار شريك حياتها – وقِسْ على ذلك باقي المحرَّمات. أرى أنها مسألة وقت، لا أكثر. الإنسان هو الذي حدَّ من حريته، ووضع قائمة المحرَّمات أمامه، ونزل بها شرحًا وتفسيرًا وتأويلاً فيه الكثير من الأخطاء؛ وهو وحده الذي يستبدل بها أخرى، ويطوِّرها، ويلغيها كلَّما دَعَتِ الحاجة والضرورة، وكلما ارتقى درجة من درجات سلَّم التطور!

ألا تلاحظ اختلاف النسبة والنظرة إلى ما هو عيب، وحرام وحلال، وتغطية وتعرية، وتقبيل ذقون وفضائحية، ومشروع وغير مشروع، من بيئة إلى بيئة؟ الأحد أو الجمعة خُلِقَ لخدمة الإنسان، وليس الإنسان لخدمة الأحد أو الجمعة؛ والمبادئ للشعوب، وليس الشعوب للمبادئ، فوق رأسها طبق قش!

* هل هناك مشكلة اسمها «النشر» – حتى نشرتَ جميع نتاجك على حسابك؟

** دور النشر عذرُها معها أن لا تنشر إلا للمشهورين. وهذا ما أوضحه لي – وبتعليلات مقنعة – مدير إداري في واحدة من ثلاث دور نشر كبيرة في لبنان: قد يكون كتابك مهمًّا وجميلاً ورائعًا؛ لكننا لا نغامر مع اسم «جديد». فنحن قد نغامر بسنة واحدة – سقف زمن نفاد الكتاب من السوق –؛ أما بخمس سنوات أو أكثر، فهذا مستحيل!

دور النشر الأخرى، سواءٌ عندنا في سوريا أو في لبنان أو... أو...، معظمها «مؤدلَج»، يُميت ويُحيي على الهوية. يعني دار نشر قُطْرية مستحيل أن تنشر لك كتابًا قوميًّا، ودار نشر قومية من رابع المستحيلات أن تنشر لك كتابًا قُطريًّا – وهذه مأساتنا!

الصحف والمجلات، مأساتُنا معها أمرُّ وأدهى! أليست هي «مضيق البوسفور» الذي مرَّ منه أغلب أولئك الذين تتلقَّف أعمالَهم الآن دورُ النشر الكبيرة؟!

ولسوف أثقل عليك بسيرة ذاتية لبعض العناوين والمخافر:

-       «من أمراء النفط إلى أمراء البيان»، مقالة، مخفر جريدة الفداء، منذ أكثر من ستة أشهر.

-       «نُقَّاد من نافذة الحمَّام إلى نافذة المرحاض»، مقالة، مخفر جريدة المحرر، منذ العام 1999.

-       «عن فيء النفط المهاجر»، قصة، مخفر مجلة الموقف الأدبي، منذ العام 1998.

-       «رصيفي الشامِّي»، قراءة في رواية، مخفر جريدة السفير، منذ 17/4/2001.

ولا تظن أنني أسأل تحديدًا هذا السؤال: «هل يوجد في كلِّ هذا إقطاع ونظام إقطاعي، أو... لا؟» فأنت تتذكر أنني أكره السَّفر، كما أكره الأفاعي – يعني لست كاتبًا مزاحِمًا!

* ملاحَظٌ شيءٌ من الغموض بين العناوين والقصص. كيف تختار العناوين لقصصك؟

** دونك قصة «خالد أمينة»: اختر لي عنوانًا آخر يليق بالأمانة والأمناء، فأقر لك وأعترف أنني غامض، أنا وعناوين قصصي! قصصي هي التي تختار عناوينها، وأنا أوافقها على هذا الغموض!

في القطط المخبرية، ألم تقرأ الحوار بين فؤاد، قاتل مربِّيته، والحارس الليلي الذي يساومه على إخفاء الجثة؟ أليس هذا رمز لفعل القطط وسلوكها؟ هل تخرج القطط إلى الغابة لتحتطب؟ لا. هي فقط تعرف حاوية القمامة؛ ومصادفةً قد تعثر على حشرة أو أفعى جذبتْها رائحة قشرة بيضة مسلوقة، فيوقعها حظُّها العاثر بين مخالب قطتنا العزيزة! والقطط المخبرية مليئة بالرموز الأقسى؛ لكن ليس هنا مجال تعدادها وترجمتها.

* من خلال مقارباتك للواقع الآن، هل تعتقد أن مهمة الإصلاح تقع على الأدب، وإلى أيِّ مدى؟

** في متن خاطرة لي تعريفٌ للأدب مفاده: الأدب يعطي ما يشبه المسطرة للمجتمع. أي أنه يحوم حول الفكر المنظَّم. يلحق الفكرُ الدستورَ، وقد يسبقه، متنبئًا، مستشرفًا أحيانًا؛ لكنَّه قطعًا ليس الدستور عينه.

وأعتقد أن تشريعات حمورابي سَبَقَها الكثيرُ من نبوءات الأدباء والشعراء، تمامًا مثلما حصل في التمهيد للثورة الفرنسية أو الثورة الروسية. والأدب الجيِّد، كالهواء النقي، يفتح شهية رئتيك لامتصاص أكبر كمية من الأكسجين. وهو متعدِّد المِهَن والمواهب: في الفكر، في الأخلاق، في الحبِّ الكبير، في التمرُّد والعصيان، في الإصلاح – وبكلِّ ألوانه – حتى إصلاح ذات البين!

أحدهم قرأ قصتي «صحافة الشارع المجاور»، فجاء إليَّ معاتبًا، ممازحًا: «صدقًا، يا أستاذ، بعد قراءتي قصتك، لاسيما هذا المقطع منها –

لقد كنَّا نختلف أنا وأنت ونتخاصم – أليس كذلك؟ – لكن ليس على هذا النحو. لم يكن واحدنا يشتم الآخر، أليس كذلك؟ هل أنا أكذب، يا أمَّ مظلوم؟! والله لو شتمتك مرة واحدة لافترقنا من توقيت تلك الشتيمة التي لم تحصل – والحمد لله – يا أمَّ مظلوم. لأنه من غير المعقول أن أشتمك نهارًا ويضمُّنا سريرٌ واحد ليلاً. أليس كذلك، يا أمَّ مظلوم؟! لقد عجَّلتِ برحيلكِ، يا أمَّ مظلوم!

– مع أننا نعيش، أنا وزوجي، سيرة حبٍّ عمرها أكثر من ثماني سنوات، إلا أن هذه المفاجأة الرائعة أهدتنا «علاقة جديدة» من الحبِّ والودِّ والاحترام والتقدير. نشكرك عليها من أعماقنا. فقد بنينا معك – ومن حيث لا ندري – صداقة جديدة، ودون تبادل أيِّ نوع من الزيارات واللقاءات!»

* هل أنت مع ترك النهايات للقارئ، أم تتدخَّل في ذلك؟ ولماذا؟

** أحيانًا أترك للقارئ، أي أعطي؛ وأحيانًا أتدخَّل، أي آخذ حصَّة غيري. عندما أترك النهايات للقارئ، يعني أنني أدعه يشاركني في كتابة القصة بشكل ما؛ وعندما أتدخَّل أنا، يعني هذا طغيان حشرية مني أو لصوصية «طبع» – وهذا خارج عن إرادتي. لكن موضوع الشَّراكة والتعاقُد ما بين الكاتب والقارئ يبقى هو الدائم!

* في رواية القطط المخبرية تظهر المرأة مكشوفة نفسيًّا واجتماعيًّا. هل هي معادل موضوعي للمدينة الغاوية؟

** في القطط المخبرية المرأة «وسيلة» مشوَّهة جسديًّا، والرجل، «فؤاد اللقيط»، مشوَّه نفسيًّا. فؤاد خرج من مأزق تشوُّهه بقتل مربِّيته، فخنق كلَّ الأسئلة التي كانت تعذِّبه، ولو إلى حين. لكن وسيلة لم تستطع أن تخرج من مأزقها الجسدي خروجًا كاملاً. أتذكُر هذين السطرين في الصفحة 85: «لقد تخاذلتِ، حتى وضعت نفسك في مرتبة الحيوان. يا للفظاعة، يا وسيلة! لقد خوَّضتُ أنا في الدماء، حتى أتمكَّن من الخلاص من تحقير نفسي وامتهانها. لكن واأسفاه!» بقاءُ دماغنا وتفكيرنا بعيدين عن التشوُّه – هذا ما قصدته. ولم أشغل ذهني كثيرًا بهل هي «معادل موضوعي» للمدينة الغاوية أو لا. قصدت أن تكون المرأة أجمل ساعي بريد، حين تقول لك: «أنا حامل!»، وقصدت أن تكون الأجمل في الحصول على حقوقها، وأن تقارع الرَّجل وتكتب عنه، كأنْ تكتب قصةً عنوانها «الزوجة المخدوعة» أو «الزوجة آخر من يعلم» – لا أن تكتب عن الفساتين والزهور والطيور؛ أن تكتب عن تاريخ الرَّجل، أن تدخل إلى تفكير الرَّجل لتستعيد بعض سيادتها، ولا تظل كلُّ العناوين حكرًا على الرَّجل. للأسف، أغلبنا يكتب عن المرأة، مقلِّدًا ألف ليلة وليلة، في حين يجب أن يكتب لها!

* ما رأيك بالنقد، وكيف تمارسه إبداعيًّا؟ ما هو رأيك بالإنجازات النقدية في سورية؟

** الكتابة نقد. الكتابة سياسة. الكتابة إدارة واقتصاد. «أي معنى لمجيء هابيل؟!» – بالنسبة لي، ككاتب، هذا العنوان يعني أنا مع قابيل! يعني «مَن سَبَقَ شمَّ الحَبَق». مَن يذهب إلى واحة في الصحراء دون ماء وكوفية تغطِّي رأسه؟ احتمال وقوع الموت عطشًا أو بضربة شمس أن يكون على مشارف تلك الواحة!

وأنا لا أنسى أنني أديب أكثر منِّي سياسي. لغياب وضياع مفاهيم وسياسة كهذه، ضاعت قضيةُ فلسطين، وهُزِمْنا في حروبنا كلِّها، لأننا فعلاً كما قيل فينا: «أسوأ محامٍ في أعدل قضية»!

النقد الآخر عندنا – باستثناء بعض الأسماء – مُلاسَنَة، وعلى الهوية أيضًا! الناقد الفرنسي رولان بارت، الذي تربَّع على عرش النقد مدة ربع قرن، قرأ قصة لبلزاك من عشرين صفحة، فأعطاها من وقته ودمه ودقَّته وعَدْله كتابًا نقديًّا من مائتي صفحة!

* هل «الومضة» أو «الفكرة» ما يدفعك إلى الكتابة؟ أم تعتمد على مخزونك المعرفي وتجربتك الخاصة؟

** كلُّ هذا يلوي أذني للكتابة! وأحيانًا تجتمع كلُّ أقلام علبة التلوين هذه في قصتي. لكن تبقى الحصة الكبيرة للمخزون؛ فهو الآمر الناهي. فلا كتابة دون قراءة – مهما كنت موهوبًا وذكيًّا! إبداعُك نفسُه يتخلَّى عنك إذا لم تقرأ له، إذا لم تُدلِّله!

* ثقافتنا العربية حقَّقتْ عبقريتها لأنها تضمنتْ من المعاني الأخلاقية والنفسية والروحية وما تجلَّت بها. هل هذه المعاني–القيم مازالت صامدة أمام التحولات التي تحاول أن تجد لنفسها مكانًا على صعيد المجتمعات العربية، خاصة العولمة؟

** بودِّي لو يفي بالغرض جوابٌ من خمس إشارات استفهام وملايين إشارات التعجب! لكنني مضطرٌّ إلى جلاء هذا الغموض كي أرضيك، وحتى لا أختنق! أنا أوافقك: هذه المعاني والقيم قادرة على تغيير وجه التاريخ – إذا فعلت. لكنها الآن في سكون أكبر قليلاً من دائرة مرمى كرة السلة! بخصوص القيم، معلوماتي تقول: من المسيحية والإسلام لم يبقَ فينا إلا ما أنكرتْه المسيحية والإسلام! وبخصوص التخلُّف المريع، استقصاءات أُولي الأمر تذيع – ومن وراء ألف حجاب: نحن مكشوفون جميعًا – نساءً ورجالاً؛ الحاكم والمحكوم؛ المتعلِّم والأمِّي؛ الغني والفقير؛ العالم والجاهل. نحن بيت شعر؛ خيمة بملايين الشوارع والأزقة والأرصفة! – وتريدنا أن نصمد تجاه العولمة؟! العولمة استعمار جديد. العولمة يصدُّها ويصمد في وجهها «عولمة» بحجمها، توظِّف النفط والنخيل والقمح والزيتون في خدمة المُواطِن، ثم في خدمة الوطن والعلم والتصنيع! العولمة يصمد أمامها حتى الآن الشهداء!

* ما هي مشاريعك المستقبلية على صعيد القصة والرواية؟

** بين يديَّ الآن مخطوطة مجموعة قصص قصيرة جدًّا تحت عنوان جنون مؤجل، جنون مستحق، جديرة بالقراءة. عفوًا! أردت أن أقول: جديرة بهذا العنوان!

وبين كتفي حقيبة أخرى لـ«أحدب نوتردام»، أحملها منذ العام 1990: رواية تُدعى نعيم الأمية. قبضة هذه الحقيبة–الرواية لا تغادرها أصابعي؛ فهي في سباق قاتل مع تبادل الأدوار!

* سؤال لم يُطرَح عليك يريد جوابًا منك؟

** يبدو أنني لم أوفَّق في هذا المجيء – مع أنني لست متشائمًا! لا تسجِّل هذا؛ فهو على سبيل المزاح! فأنت لم تحدِّد سؤالك بدقة!

* هل كان اللقاء جميلاً؟

** دعنا ننتظر ردَّ شريكنا القارئ، أعني موافقته على هذه الصفقة!

*** *** ***

حاوَرَه: كنعان البني

تموز 2001

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود