قصائد مختارة

 

أنِّه ماري شيمِّل

 

المستشرقة أنِّه ماري شيمِّل، التي رحلت مؤخرًا، هي شخصية معروفة جدًّا في البلدان العربية والإسلامية، مثلما هي معروفة في الغرب. ولدت في مدينة إرفورت في ألمانيا في العام 1922، وبدأت تتعلَّم اللغة العربية وتدرسها وعمرها خمسة عشر عامًا. درست العلوم العربية والإسلامية في برلين، وقدمت أطروحة الدكتوراه عندما كان عمرها تسع عشرة سنة. وإبان سنوات الحرب العالمية الثانية، عملت كمترجمة في وزارة الخارجية. وبعد انتهاء الحرب، في السنة 1946، حصلت على شهادة الأستاذية من جامعة ماربورغ. ثم درَّستْ في جامعات مختلفة في العالم، منها تركيا والولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وباكستان والمغرب ومصر والأردن وسورية واليمن، وعملت كأستاذة زائرة في البحرين ودولة الإمارات العربية والعراق والسودان.

ترجمت شيمِّل الكثير من الشعر من اللغات العربية والفارسية والتركية والأوردية، وكانت أول من أصدر أنثولوجيا الشعر العربي المعاصر في العام 1975. وفي العام 1995، حصلت عن جدارة واقتدار على جائزة السلام التي تمنحها بورصة المكتبات الألمانية – وهي أرقى جائزة أدبية تُقدَّم في ألمانيا – الأمر الذي أثار لغطًا كبيرًا في الأوساط الأدبية والإعلامية هناك، التي حاولت النيل من إنجازات هذه الكاتبة الكبيرة المتميزة، خصوصًا بعد أن أيَّدت مضمون الفتوى التي كان قد أصدرها الإمام الخميني في حقِّ الكاتب سلمان رشدي وكتابه آيات شيطانية، لأنها، كما صرَّحت للصحافة، تعتبر أن هذا الكاتب "مسَّ مشاعر وأرومات الملايين من المؤمنين – من المسلمين والمسيحيين خاصة – بطريقة سيئة وبأسلوب مهين". وأضافت: "لقد رأيت مسلمين يبكون بسبب كتاب رشدي؛ لقد رأيت مسلمين في أمريكا منزعجين جدًّا من الرواية الدنيئة؛ وهذا الشعور أيضًا سائد في الهند – مسقط رأس الكاتب – وفي باكستان [...]. ثمة معتقدات دينية لا يمكن للمعتدي عليها أن ينجو من العقاب، مهما طال الزمن، ومهما لقي من حماية ورعاية من بعض الدول أو الجهات."

والمعروف أن هذه الكاتبة أصدرت أكثر من ثمانين كتابًا، شرحت فيها للقارئ الغربي تعاليم الإسلام وأهدافها بطريقة موضوعية تشد العقول وتبهر الألباب. وقد حازت شيمِّل على جوائز عالمية، كان آخرها وسام الحسين الأردني في العام 1998.

غلاف كتاب أنِّه ماري شيمِّل نفسي امرأة

هنا نقدم للقارئ ترجمة لثلاث من قصائد ديوانها الأخير عنادل تحت الثلج (العنادل جمع عندليب). وقد كتبت هذه القصائد ما بين العامين 1974 و1994، متأثرةً بالتراث العربي الإسلامي الغزير. كذلك صوَّرتْ لنا، من خلال بساطة الكلمة وعمق معناها ومضامينها، الحبَّ الذي لا يتجسد في حدود الجسد فحسب، بل هو ضارب جناحيه في أغوار الروح. إنها اللوعة والرغبة في الانعتاق من ماديات الكون، والبحث عن لغة نورانية، لا ينال منها زمن التكنولوجيا المادي. وهذا ما نجده في نصوص شيمِّل التي استقتْها من قصص الفلكلور والحكايات، المقتبس بعضها من القرآن الكريم؛ وكذلك الأماكن والأسماء التي عرفت، من خلال ذلك الحب، المورد والينبوع الذي بقي خالدًا لم تحطِّمه العواصف، بل زادته تألقًا وإشراقًا وحيوية. والشاعرة تواقة إلى السموِّ بهذا الوَجْد حتى الموت، عبر رحلة بحث مُضْنٍ في عوالم لا يبصرها بشر عادي – سوى من أمسك بسرِّ الكلمات أملاً في القبض على الألم.

ج.ع.ح.

***

 

1

الخشوع السرمديُّ

بغيركِ لا أرى أرقَّ

لا أستشعر الحلاوة والبهاء

والنقاء والأريحية

وطمأنينة النفس –

أيتها السوسنة الهادئة الخجلى

المزروعة في قلب الصخب.

يخبرني الربيع

– حين أراك –

كيف في خشوعه العميق

السرمديِّ

يبتدع الياسمين

يبتكر الزنبق والدفلى

يفوح طيبُ الفلِّ

يتضمخ العالمُ بالعبير

وكيف نمَّقتْ يداه

– في اقتداره العجيب –

هذه الرهافة المثلى

لكياننا المادي الشفيف

ولمكنوناتنا الروحية

الدافقة بالعذوبة

المفتونة بالتبتل

والعشق اللامتناهي الفاغم.

هي القدرة الطاغية

المهموسة في ملأ أعلى

الناشرة ظلالها في الحنايا

المضرِمة وميضَها

عند كلِّ مفارق الأزمنة

وفي خبايا الأنفس المرهفة

توقظ الخمائل من رقادها

والغربة من هجيرها

والأسرار من مغاليقها

تجتاح المدى

تبعثه صدَّاحًا مغردًا

وتحيل أحزان الروح

وأنين الجراح النازفة

إلى أنشودة تُتلى.

 

2

قارب النجاة

تظلمونني كثيرًا يا مَن تحاولون تشويه قناعاتي،

تظلمونني كثيرًا يا مَن تطلقون أراجيفكم

على حنايا نفسي المهتدية

بعد طول ضياع وتأمل.

إن قلبي يمنح الحبَّ بغزارة

ودون توقف

مثل ينبوع متدفق لا ينضب

ولا يملُّ العطاء

وحناني أشد من الشلالات

أمنح الحبَّ لمن يستحقه من البشر

ولمن لا يستحقه.

أردت أن تكون لحياتي القصيرة

قيمة ذات جدوى

فحملت قنديلاً أضيء به النفوس الضالَّة

المقبلة على الحياة بغرور أجوف –

هذه البشرية المنغمسة حتى أنخاع العظم

في ماديات زائلة –

فصنعت لهم قاربًا لنعبر المحيط –

وأرادوها سفينة مثل تيتانيك

أردت إقناعهم بأن تيتانيك ستغرق لا محالة

لكنهم أمعنوا في غيِّهم

ورفضوا الإبحار معي في قارب النجاة

ووقفوا على الشاطئ المهجور يتفرجون

ولم أرَ غير مناديلهم يلوحون بها لي

وأنا أبتعد عنهم.

تركتهم للمحيط

وأنا مبتهجة لأمواجه العاتية

أصارع في تحطيمها

وكأني أعبر إلى الحياة من خلالها

يظلِّلني السحاب وتحتضنني الرياح العاتية

وتأخذ النجوم بدفتي قاربي

تشجعني على الصمود

وشراع قاربي مرتفع الهامة

متوَّق أن يرى معي الشاطئ الآخر.

والشمس توقظني كلَّ صباح

وتحزن عند غروبها عني

والقمر يهمس في مسامعي كلَّ مساء

بإيقاع موسيقى دافئ

وبتراتيل عذبة

والحياة جميعها عملاقة من حولي

تخاطبني بأحلى الكلمات

تحاورني حتى أشعر بالوحشة.

فلتمرَّ الأيام سريعة

لتحط طيور البحر على شراعي

لتعلن أن شاطئ الأمل قريب

لأقفز جذلى برؤية الأرض الجديدة

عبر الأفق اللامتناهي –

فهذا يؤكد تجاوز دياجير العتمة

وأدركت عوالم النور.

وللأسف الشديد

– حيث لا ينفع الندم –

أبرقوا لي مَن ودَّعوني

في رحلتي العاتية المديدة

يريدون اللحاق بي

– حيث لا يفيد لوم الأنفس –

كي يحصلوا على النجاة معي –

ذاك أن سفينتهم العتيدة، تيتانيك،

كانت ستغرق لا محالة.

 

3

حجر القلب

ليست للروح آذان

ترهف السمع

دون أن تلتقط كلماتك الجذلى

السرمدية.

ليس للروح لسان

تنطق به هامسة أو ملعلعة

عباراتك الساحرة الأخَّاذة.

ليس للروح عيون

إذا لم تَهِمْ منغمسة في ملامح صنيعك.

ما حاجتي لهاتين الأذنين

إذا لم تمتلئا بإيقاعات صوتك العلوي؟

ما حاجتي لهذا اللسان

إذا لم يتبتَّل

بترانيم عباراتك؟

ما حاجتي لهاتين العينين

إذا لم تنغمرا في أطياف ملكوتك؟

ما حاجتي لهذا القلب

إذا لم يخفق بنبض حبِّك المطلق؟

ما حاجتي إلى الروح

إذا لم تستوطنْها غمراتُ نورانيتك؟

*** *** ***

ترجمة وإعداد: جهينة علي حسن

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود