حقُّ الاختلاف وحقُّ الخطأ

 

جابر عصفور

 

كان من حُسْنِ حظي أنني درست في جامعة القاهرة على جيل من الأساتذة الكبار الذين يدفعون تلاميذهم إلى الأمام، ويحثُّونهم على الاختلاف عنهم، مؤكِّدين لهم أن الاختلاف أساس التقدم، والتنوعَ في الاجتهادات أوَّلُ الإضافة، والتمايُزَ بالجديد الواعد علامةُ الإبداع الذي تتقدم به المعرفة والإبداع على السواء. ولن ينقطع دَيْني لكلِّ هؤلاء الأساتذة الذين دفعونا إلى الاختلاف عنهم بالاجتهاد، وتقبَّلوا اختلافنا معهم في الرأي برحابة أفق وتسامح عقلي، غافرين لنا زلات اللسان وفجاجة التعبير والزهو الفارغ لثورة الشباب الذي يحسب أنه أتى بما لم يأتِ به أساتذتُه. وقد ورثتُ عن هؤلاء الأساتذة أن الأستاذ الناجح هو الذي يشجِّع تلامذته على الاجتهاد المستقل، ويدعم فيهم الحضور الخلاق للوعي النقدي الذي يضع كلَّ شيء موضع المُساءلة، ولا يبدأ إبداعه إلا من منطلق: "بدأوا من هناك، فابتدئ من هنا."

وكان ذلك جانبًا من الميراث الحيِّ الذي تَرَكَه هؤلاء الأساتذة، مؤصِّلين في وعينا – نحن تلامذتهم الذين استوعبنا درسهم – الإيمان بأن حرية التفكير هي الأساس الأول لتقدُّم الأوطان، وأن النهضة لا تندفع إلى الأمام إلا بفتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها، وباستبدال ثقافة الابتداع بثقافة الاتِّباع، وبممارسة التجريب الذي لا يتوقف في كلِّ مجال. ولذلك زرعوا في أعماقنا ضرورة الانفتاح على كلِّ العوالم التي يمكن لها أن تؤدي إلى ازدهار المعرفة والتفاعل معها، بما يؤدي إلى الإفادة منها، والإضافة إليها، بما يغدو علامة دالَّة على الفعل الخلاَّق للحضور. وقد قرنوا ذلك – في وعينا – بتقبُّل الآخر المختلف أو المغاير في كلِّ مجال، وعلى كلِّ مستوى، بصفته الوضع الطبيعي للوجود، والشرط الضروري للثراء الناتج من التنوع. وكان ذلك يعني تحرير العقل من كلِّ قيوده، ليمضي في أفقه الواعد، متحررًا إلا من التزامه مبدأ المُساءلة الذي يُخضِعُ له كلَّ شيء، بما في ذلك العقل الذي لا يكفُّ عن مُساءلة نفسه قبل مُساءلة غيره، أو حتى في فعل مُساءلة غيره. والأصل في ذلك أنه لا معنى لتحرير أيِّ عقل من غير الاعتراف الأوَّلي والبديهي بحتمية الاختلاف الناتج من حرية بقية العقول المكافئة، ما ظلَّت العقول كلُّها مبنية بما لا يمايِز بينها في معنى الاجتهاد، وبما يُسَوِّي بينها في القيمة المرتبطة بجسارة فعل الاجتهاد وأصالته، بعيدًا عن النظرات العرقية والمفاهيم الاستعلائية التي سَعَتْ إلى التمييز بين العقول لتأكيد تميُّز عِرْق أو جماعة أو وطن على غيرها من الأعراق أو الجماعات أو الأوطان. فـ"العقل أعدل الأشياء توزُّعًا بين الناس"، في ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، ويظل كذلك ما ظلَّ الناس جميعًا ينهلون من المعرفة الإنسانية من دون حدود، ولا يعوق حريتَهم في التفكير والاجتهاد عائق.

ولكن عدالة توزُّع العقول لا تعني الوصول إلى النتائج نفسها بالضرورة، ولا تعني التطابق في الغايات. فالعقول تتباين بما تختزنه من معلومات وخبرات، وما تنبني عليه من مبادئ ومناهج؛ فاختلافها حتمي، حتى في حالات التكافؤ على المستوى المعرفي أو المستوى المنهجي. ولذلك تبقى نسبية المعرفة الإنسانية قرينة اختلافها، خصوصًا من حيث التباين الملازم لتعدد العقول الحرة في المدى المفتوح نفسه من الممارسات العقلية التي لا يمكن لها أن تتطابق في أساليب الاجتهاد، أو تتحد في نتائجه. فنسبية المعرفة الإنسانية هي الوجه الآخر لحقِّ الاختلاف، وذلك بالقَدْر نفسه الذي يقرن فعل المُساءلة الذاتية بأحوال الاختلاف أو التداخل أو التعارض أو التضارب أو الهوى التي يمكن للذات العارفة أن تعانيها، آنيًّا وتعاقبيًّا، في علاقتها بنفسها قبل علاقتها بغيرها، وذلك في الأفق المفتوح لحركة الوعي الإنساني الذي يسعى إلى مجاوزة قصوره بقبول اختلافه على مستوى الأنا ومستوى الآخر على السواء.

وقد زادنا اقتناعًا بما تعلَّمناه من أساتذتنا عن حقِّ الاختلاف ما رأيناه في ممارساتهم اليومية، حيث لم تقتصر هذه الممارسة على تشجيعهم اختلاف طلابهم عنهم، بل جاوزتْ ذلك إلى العلاقات الفكرية التي وصلت بينهم، حيث ظل الحوار الدائم هو أساس هذه العلاقة التي لم تَخْلُ من التسامح في تقبُّل المواقف الحدِّية للاختلاف. ولذلك لم نَرَ بينهم صراعَ "الإخوة الأعداء" في صوره القبيحة، بل حوارُ الأصدقاء المتحابِّين الذين يُبْقون على روابط الودِّ في ما بينهم، مهما كان التباعد في الموقف السياسي أو المنهج العلمي. ولذلك كان التنوع الذي يجمع بين أساتذتنا هو الوجه الآخر لاختلافاتهم الفكرية والمنهجية التي أثْرَتْ عقولنا، واتسعتْ بآفاق تفكيرنا، ودفعتْنا إلى أن ندرك، منذ وقت باكر، أن التنوع علامة الثراء الفكري، وتعدد الاجتهادات أصل الاختلاف الذي تثرى به الجامعة. ولذلك كان الحوار بين هؤلاء الأساتذة – في الندوات أو المقالات أو الكتب – تفاعلاً بين الاتجاهات وتعميقًا للرؤى وتطويرًا للمفاهيم. وقد ظلَّ هذا الحوار – في أغلب أحواله – حوارًا بين أكفاء، وسعيًا وراء الحقيقة التي لا يحتكرها أحد أو ينفرد بها فريقٌ دون سواه. ولا غرابة في ذلك؛ فالأصل المعرفي والغاية النهائية للحوار هي تطوير مواقف كلِّ الأطراف المتحاورة وتعميقها، من ناحية، وفتح أبواب الوصول إلى توسطات جديدة، أو مفاهيم واعدة، تستوعب التناقضات وتتجاوزها، بما يؤكد وحدة التنوع الخلاَّق للفكر والإبداع، من ناحية موازية.

وقد ازدهرت الجامعات المصرية بفضل هذه التقاليد الخلاَّقة للاختلاف والتنوع، جنبًا إلى جنب حرية الاجتهاد والتفكير المستقل، داخل سياق ليبرالي تجاوبتْ فيه شعاراتُ الحرية السياسية مع مبادئ الحرية الفكرية والإبداعية، وذلك بما جعل من ممارسة حقِّ الاختلاف تجسيدًا لتجاوب الشعارات والمبادئ التي اقترنت بحلم أمَّة صاعدة. وكانت النتيجة تأسُّس التقاليد التي رَعَتْ حقَّ الاختلاف، والتي دفعت الجيل الأول من مؤسِّسي الجامعة المصرية إلى رعاية الحقِّ نفسه في علاقتهم بالجيل اللاحق الذي اتصل بهم، وأخذ عنهم، سياسيًّا وفكريًّا، ممارسةَ الحقِّ نفسه الذي اقترن بقداسة معاني الحرية في كلِّ مجالاتها. أقصد إلى جيل عبد الخالق ثروت وسعد زغلول وعدلي يكن وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد، الذي اختلف في ما بينه سياسيًّا وفكريًّا، ولكن بما لم يجعل من الاختلاف نقمة، بل نعمةٌ أفادت منها الأمَّة كلُّها، وأفاد منها الجيل الذي تولَّى فعليًّا تأسيس الممارسة الأكاديمية للجامعة المصرية، وتأصيل تقاليدها التي عملت على رعاية حقِّ الاختلاف، خصوصًا في مواجهة الأعاصير الاستبدادية والإظلامية المعادية للحرية في كلِّ مجالاتها، التي لم تتوقف إلى اليوم عن التربُّص أو الانقضاض على لوازم الحرية، وعلى رأسها حقِّ الاختلاف واحترام ممارسته. أقصد جيل محمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق وطه حسين، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها بكتابه في الشعر الجاهلي في السنة 1926، فوجد بين أقرانه وأساتذته الكثيرين الذين دافعوا عن حريته في التفكير المستقل، وعن حقِّه في الاختلاف الذي صارت ممارستُه علامةَ الوعود الجديدة للإنجازات العلمية والفكرية والثقافية التي جعلت من القاهرة عاصمة الثقافة العربية ومركزها الرائد والجَسور.

ولم يكن من قبيل المصادفة – والأمر كذلك – أن يتولى جيل طه حسين نَقْلَ الشرارة المقدسة لحرية التفكير وحقِّ الاختلاف إلى تلامذتهم الذين كانوا أساتذة لنا، والذين حَمَلَ بعضُنا عنهم أمانة المبادئ الخلاقة نفسها للحياة الجامعية الحقيقية والإبداع الإنساني الأصيل في كلِّ مجال، فواصَلْنا رسالتهم التي جعلتْنا نؤمن – مثلهم – بأن الحياة الجامعية – كالحياة الثقافية – تثرى بالاختلاف، وتزدهر بالتنوع، وتتقدم بالحرية التي تصون حقَّ الاختلاف وجسارة التجريب.

ولم تنقلب أحوال الجامعات المصرية إلا مع غياب هذه المبادئ وانحسارها عن عقول عدد غير قليل من الأجيال المتلاحقة من الجامعيين الذين أضاعوا دروس الأساتذة العظام للجامعات المصرية، فنفروا من الاختلاف، واضطهدوا أصحاب الاجتهادات المغايرة، وحالوا بين تلامذتهم وحرية الممارسة الخلاَّقة التي لا يمكن لعلم أن ينهض أو يتقدم من دونها. وشجَّعتْهم على ذلك عوامل خارجية أسهمت في تقليص المدى المسموح به من حرية التفكير، وحقِّ الاجتهاد المختلف. وقد جمعت هذه العوامل بين الآثار السلبية للاستبداد السياسي، الذي استأصل تعددية الأحزاب السياسية، وبين الآثار الضارة لتصاعد نزعات المحافظة الاجتماعية التي اقترنت بنواتج شيوع ثقافة النفط في بعض صورها المتخلفة، مقترنة بالردَّة المعادية لأفكار التحرر الاجتماعي في كلِّ مجالاته، وبخاصة مجال المرأة. وأضيف إلى ذلك الآثار المدمرة لتزايد نزعات التطرف الديني التي غزت الثقافة العربية، ولم تبدأ في التراجع إلا بعد النتائج المروِّعة لأحداث الحادي عشر من أيلول التي تهدِّد بأوخم العواقب التي نتوقعها في هذه الأيام. وكانت النتيجة الحتمية لتضافر هذه العوامل شيوعَ ثقافة التقليد، لا الاجتهاد، وصعود لغة العنف، لا الحوار، والنظر شزرًا إلى الخروج على الجماعة، فضلاً عن العداء السافر للتجريب الذي يعصف بالقيود. ولولا قلة قليلة من ورثة التقاليد الجامعية الأصيلة لما واصلت الجامعاتُ العربية تقدُّمها، ولَمَضَتْ في مسيرتها التي لا تزال تواجه الكثير من العقبات. ولولا طوائف مقاوِمة من المفكرين الأحرار لفقدت الثقافة العربية في أقطار عدة مكانتها الرائدة، ولانتهى حلمُها النبيل بالتقدم اللانهائي.

ولا غرابة في ذلك، فما حدث في الجامعة يشبه ما حدث في الحياة الثقافية. فقد انتهى الزمن الذي كان يقبل فيه طه حسين، بسماحة الأستاذ الكبير، اختلاف الشبان الجدد في ذلك الوقت، أمثال محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وعبد الرحمن الشرقاوي، ويجادلهم بالتي هي أحسن، مؤكدًا تقديره لاختلافهم، ولا يفعل شيئًا إذا أغضبوه سوى أن يصفهم – في مقال شهير في منتصف الخمسينات – بأن كتاباتهم "غامضة"، ينطبق عليها المثل الأوروبي القديم "يوناني فلا يُفهَم". وعلى الرغم من ذلك، كان طه حسين سعيدًا بما يكتبه هؤلاء، حريصًا على تشجيع الأجيال الجديدة. ومقالاتُه عن المجموعة القصصية الأولى ليوسف إدريس (أرخص ليالي، 1954)، على سبيل المثال، وتشجيعه حركة الشعر الحرِّ، التي لم يتخذ منها موقفًا عدائيًّا، دليل على ذلك. وظنِّي أن التقاليد الجامعية الخلاَّقة، والمبادئ الليبرالية الأصيلة، هي التي جعلت طه حسين يتميز بهذه الرحابة العقلية التي لم تدفعه، قط، إلى اتخاذ مواقف متصلبة كتلك التي اتخذها العقاد الذي كان عنيفًا في خصامه، رافضًا قبول الاختلاف عنه أو معه، خصوصًا في مجال التجديد الشعري، فعادى الشعر الحرَّ، وأحال قصائده ودواوينه إلى لجنة النثر للاختصاص عندما كان رئيسًا للجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب.

وأتصور أن غياب ممارسة حقِّ الاختلاف في كلِّ مجالاته، على امتداد المدارات المغلقة المنتشرة من المحيط إلى الخليج، هو الوجه الآخر من غياب الديموقراطية السياسية وتقلُّص ألوان الحوار المجتمعي في أغلب الأقطار العربية. فكانت النتيجة غلبة المونولوجية على الحوارية في الثقافة العربية المعاصرة، وانتشار ثقافة الصوت الواحد التي لا تقبل الاختلاف، وتُلقي بالمُغايِر في حظيرة الاتهام أو العداء. هكذا، غابت الحوارات الخلاقة حول القضايا الكبيرة في الثقافة بوجه عام، وفي قضايا الآداب والفنون بوجه خاص؛ ولم نعد نعرف حوارات فكرية كتلك التي دارت بين الإمام محمد عبده وفرح أنطون في مطلع القرن حول الدولة المدنية والدولة الدينية، ولا مناظرات أدبية كتلك التي دارت – في الثلاثينات – بين طه حسين والعقاد في المفاضلة بين ثقافة اللاتين وثقافة السَكْسُون، بل المعارك النقدية التي شهدتْها الخمسينات ومطالع الستينات حول قضايا الشعر الحرِّ، أو الأدب الواقعي، أو الالتزام، وغير ذلك من القضايا التي أثارت من الحوارات والمناظرات والمعارك ما أثرى الثقافة العربية الحديثة في عواصمها الكثيرة.

وما أحوجنا، اليوم، إلى استعادة الحيوية التي ترتبتْ على التسليم بحقِّ الاختلاف، ورسوخ أدبيات الحوار لدى الأجيال الليبرالية، سواء في الجامعات أو في الحياة الثقافية. والخطوة الأولى لتحقيق ذلك هي تأكيد حقِّ الاختلاف على مستوى الممارسة الفعلية، لا الكلمات أو الشعارات، وتشجيع الكبار للشباب على التميُّز والمغايرة، وتقبُّل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سُنَّة الحياة؛ بل تقبُّل الاختلاف بين المتناظرين من أبناء الجيل الواحد، بصفته الأمر الطبيعي والشرط الأول لاغتناء المعرفة والإبداع. ولن يكتمل معنى هذه الخطوة إلا بإشاعة الممارسة الديموقراطية في كلِّ مستوياتها ومجالاتها، والقضاء على كلِّ أشكال التعصب، وإشاعة قيم التسامح والمرونة والانفتاح على الجديد، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي ينفر بعض أفرادها من الحوار لأنهم نشأوا في غيابه، ولم يجدوا أمامهم سوى ثقافة العنف التي هي ثقافة التطرف والتعصب. ولا سبيل إلى مواجهة هذه الثقافة التي اقترنتْ بالإرهاب إلا من طريق نقيضها الذي يفيض بالتسامح، ويَعْمُر بالانفتاح على الآخر، ويؤمن بالتقدم الدائم إيمانَه بالمعرفة التي تزدهر بحرية التفكير والتجريب، جنبًا إلى جنب تأسيس أخلاق الحوار، وممارسة حقِّ الاختلاف، بصفته مبدأً أصيلاً من مبادئ الديموقراطية، وعلامةً دالَّة على حيوية الثقافة الصاعدة إلى الأمام، لا المنحدرة إلى الوراء.

***

حق الخطأ هو اللازمة المنطقية لحقِّ الاختلاف. وهو حقٌّ تقتضيه ممارسةُ الحرية الفكرية التي تنطوي على إمكانات الإصابة في الاجتهاد أو الانحراف عن مدى هذه الإصابة. فالمجتهد يبدأ اجتهادَه مخلصًا في نيَّاته التي تسعى إلى الإضافة، ولكنه قد يضل في الانتقال من المقدمات إلى النتائج، أو ينزلق إلى التعميم في ما لا يجوز فيه التعميم، أو يميل إلى الإطلاق حيث ينبغي التقييد؛ وقد تغيب عنه معلوماتٌ ومعطياتٌ كان في إمكانها تغيير اتجاه تفكيره أو مسار بحثه، فيمضي في ما هو عليه، مفترضًا أنه يتقدم في ما يراه السبيل الأمثل للوصول إلى وجه الحق. ولكن وجه الحقِّ لا يبين عن نفسه لطالبيه في كلِّ الأحوال؛ فقد يلتبس عليهم نتاجُ هوى أو تحيُّزٌ لاواعٍ، وقد ينأى لخلل في المقدمات أو طرائق الاستدلال وأساليب الاستنباط، فيتباعد العارف عن الهدف المقصود عن فعل تعرُّفه، وينتهي إلى ما نَصِفُه بالخطأ، الذي لا ينفي نُبْلَ المقصد، وجدية المسعى، وسلامة الرغبة في المعرفة.

والخطأ – في مثل هذا السياق المعرفي – علامة تميُّز، وليس مصدر نقيصة، أو مبرِّرًا للذم أو القدح أو الاتهام، خصوصًا عند العقول التي تعي أن المعرفة نسبية، وأن التقدم في دروبها لا ينتهي بطالبيه إلى الغاية المقصودة في كلِّ الأحوال، وأن كلَّ ما على طالب المعرفة هو الإخلاص لها، والمضي في البحث عن أوجُهها الغائبة، والكشف منها عن كلِّ ما يظل – دائمًا – في حاجة إلى الكشف. وإذا وصل طالب المعرفة إلى غايته كانت جائزته جائزتين: جائزة المحاولة المخلصة، وجائزة النجاح في السعي. وإن لم يصل إلى غايته، فلا لوم عليه ولا تثريب؛ فقد أخلص في إيمانه بمعنى الإضافة إلى ما هو معروف، وبَذَلَ ما يستطيع من جهد في تحويل مبدأ الواقع إلى مبدأ الرغبة، أو في الانتقال ممَّا يعلم إلى ما لا يعلم، جادًّا في إيمانه بأن المغايرة سبيل الإضافة، وأن عليه أن يبدأ من حيث انتهى السابقون. ولا لوم عليه إن لم يصل؛ فعدم وصوله يغدو هاديًا لِمَن يأتي بعده، أو له هو، كي يعرف سبيلاً من سُبُل الخطأ التي لا بدَّ من تجنبها، فتتضاءل أمام المحاولات اللاحقة إمكاناتُ الانحراف عن الغاية المقصودة. ولذلك قال العلماء إن الخطأ طريق الصواب، والنتائج السلبية تفضي معرفةُ آلياتها إلى النتائج الإيجابية. وما وُجِدَ علمٌ قط من دون خطأ، وما تقدمتْ معرفةٌ من غير تعدد المحاولات التي تجمع بين السلب والإيجاب. وإن لكلِّ محاولة معرفية قيمتَها في هذا الاتجاه، بعيدًا من سلب أو إيجاب النتيجة التي تصل إليها.

ومن المؤكد أن الخطأ في العلوم الطبيعية غير الخطأ في العلوم الإنسانية والاجتماعية. الأول متكرر تكرار التجارب المعملية التي تبدأ من فَرَض، وتمضي مع محاولة إثباته التي قد تفشل أو تنجح، شأن إثبات الفَرَض في ذلك شأن محاولات البحث عن حلٍّ لمشكلة قائمة، أو إيجاد مدى مغاير لمعطى من المعطيات، أو اكتشاف تقنية واعدة، أو اختراع مفيد، لا يمكن الوصول إليه إلا بعد الكثير من التجارب التي تفيد من الأخطاء الحادثة، أو العارضة، أو المفاجئة، في الوصول إلى أشكال الإصابة. والخطأ في العلم يَسهُل تداركُه، ويمكن التعرف عليه بسرعة، ومن ثَمَّ مجاوزته إلى ما يحقق إمكانات أكبر لنجاح المسعى العلمي. وتقبُّل العلماء للأخطاء التي يسعون إلى تحقيقها هو جزء من إيمانهم بأن الخطأ لازمة من لوازم التجريب المحتملة، وأداة لمعرفة نقيضها. ولذلك لا يلوم العلماءُ بعضَهم بعضًا على الخطأ، أو ينتقصون من قَدْر الذين تنتهي محاولاتُهم بالفشل، أو يرمون المخطئ بسوء النية، وإنما يكشفون للمخطئ خطأه بالتجارب العملية والدليل المادي والبرهان الملموس. ويتقبَّل المخطئ تصحيح خطئه بسماحة الباحث عن وجه الحقِّ في مسعاه – هذا إذا لم يقم هو نفسه بتصحيح خطئه، وذلك من خلال الاختبار العملي للنتائج التي يتوصل إليها، فلا يعلنها على الآخرين إلا بعد أن يختبر صحتها.

وليس الأمر على هذا النحو في العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فالأمر أكثر تعقيدًا والتباسًا. أولاً: لأن ذات الباحث هي، إلى حدٍّ ما، ومع بعض الاحتراس، جزءٌ من موضوع البحث. فالفصل المطلق مستحيل بين الذات والموضوع؛ ولذلك تكتسب الموضوعية معنى مغايرًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويلزم عن ذلك اتساعُ احتمالات الخطأ نتيجة الصلة المتداخلة بين الذات والموضوع. ولكنه بقدر دواعي الموضوعية التي تضبط تأثير الذات، وتُباعِد بينها والذاتية، فإن تحرير الذات نفسَها من القيود المكبِّلة لحركتها أمرٌ ضروري – بل حتمي – في سعي هذه الذات إلى الموضوعية، خصوصًا عندما تصطدم الموضوعيةُ بتحيُّزات العِرْق أو الاعتقاد أو السياسة التي قد تهيمن على السياق الذي يعمل فيه الباحث. ولذلك يؤكد فلاسفة العلم سُبُل موضوعية الذات بقدر تأكيدهم تحرير الذات نفسها، بما يحقق لها موضوعيتها. ويتجاوب كلا الأمرين معًا في تأكيد دلالة التسامح التي تجاوِزُ حقَّ الاختلاف إلى تقبُّل احتمالات الخطأ، من جهة، وعدم الخوف من حدوثه مادام مبدأ التحقق من الصحة أو السلامة قائمًا، يمارس فعل المراجعة المستمرة التي يقوم بها النقَّاد من الخارج، أو فعل المُساءلة الذاتية الذي يقوم به الباحث في أثناء بحثه، أو بعد الفراغ منه.

ولكن لأن الخطأ في هذا المجال قد يمسُّ الأعراف العامة أو الأفكار السائدة التي يُخضِعُها الباحث للبحث، ولأن تقدُّم البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية مرهون بإتاحة الحرية الكاملة للبحث من دون شروط خارجية، ومن دون سقف تفرضه أيةُ سلطة مغايرة لسلطة العلم المعرفية، فإن مبدأ تقبُّل الخطأ لا بدَّ من أن يُقرَّر على نحو واضح، وأن يفصل فصلاً حاسمًا بين معنى الخطأ ومعنى الاختلاف في الرأي أو التفسير. فالخطأ نقيضٌ واضح للصواب بما يقبل البرهنة، والاختلاف تعددٌ في التأويل وتنوعٌ في المدخل إلى الموضوع نفسه. والتسامح الذي لا بدَّ من تأكيده في أحوال الخطأ، وتصحيحه بالحجة المقنعة والمعلومة الحاسمة، هو نفسه المطلوب في اختلاف الرأي، حيث ضرورة المجادلة بالتي هي أحسن، والتسليم بأن المعرفة كلَّها نسبية مادمنا في مدى العلم الإنساني، وأنه ما من أحد يمتلك المفتاح الأوحد للمعرفة، أو يحتكر الحقيقة المطلقة أو اليقين الكامل. ولذلك فتقبُّل الاجتهاد المختلف هو اللازمة المنطقية لاحترام المحاولة المعرفية للاجتهاد، حتى لو انتهت إلى خطأ؛ فهذا الاحترام هو الشرط الأول لأية معرفة موضوعية في فضاء العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويعني ذلك رَفْضَ أية سلطة قمعية تعاقِب على الخطأ في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو العلوم الطبيعية، ورَفْضَ أية قوة خارجية تعاقِب على ما تراه هي خطأً، ويراه الباحث حقًّا. فلا معنى لحرية البحث أو لإمكانات تقدُّمه من دون تقبُّل حقِّ الاختلاف وحقِّ الخطأ على السواء.

ولذلك عَلَّمنا السلفُ الصالح أن مَن اجتهد له أجر، حتى لو أخطأ، وإنْ كان الأجر يتضاعف في حال الإصابة في الاجتهاد. فالمضاعفة لا تنفي معنى الإثابة الكامن في محاولة الاجتهاد نفسها، بعيدًا من نتائجها التي لا تنفي عن المعنى حضورَه في كلِّ الأحوال. فالأصل تقديرُ محاولة الاجتهاد في ذاتها، والحثُّ عليها، وإزاحة الخوف من احتمال الوقوع في الخطأ. وهو احتمال قد يشلُّ النفوس الراغبة في المعرفة والساعية إليها، ويدفعها إما إلى النكوص عن المضيِّ في محاولة الاجتهاد، أو إيثار السلامة وتجنب الوقوع في الخطأ، خوفًا من عقاب مادي أو قمع معنوي.

ولذلك كانت تقاليد العلم في الإسلام (كما يفهمه المستنيرون من علماء الإسلام) تقديرُ فعل الاجتهاد في حدِّ ذاته، بعيدًا من نتائجه، وتشجيعُ كلِّ محاولة في المعرفة، مهما كانت الصفة الملازمة لآثارها. فالمحاولة في ذاتها لا تقلُّ في قيمتها عن نتيجتها، وهي تستوي وإياها في معنى التقدير الذي يحثُّ العلماء على دوام المحاولة، ويدفعهم على الاجتهاد الذي هو محمود في ذاته، ولا يختلف في القيمة عن نتيجته الإيجابية، التي يظلُّ مستقلاً عنها في علاقة السبب الذي تتولد عنه أكثر من نتيجة. ولولا ذلك ما كان للمبدأ الموروث الذي يؤكد أن من اجتهد له أجر، وإن أخطأ، ويُثاب بأجرين إذا أصاب – أقول: لولا ذلك لَما كان لهذا المبدأ من دلالة، ولضاع مغزى التسوية بين فعل الاجتهاد، بصفته محاولة، ونتيجته، بصفتها لازمة لأصْلٍ محمود في ذاته، مستقلاً ومنفصلاً عن نتائجه.

ولا تنفصل الدلالة الأصيلة لهذه التسوية عن قيمة التجريب، التي لا بدَّ من تأكيدها في هذا السياق، والكشف عن قيمتها، من حيث هي محاولة للخروج على المألوف والمتعارف عليه والشائع وما يدخل في باب الإجماع والتسليم. فالتجريب يبدأ فيه اللاحقُ من حيث انتهى السابق، مؤمنًا بنسبية المعرفة التي لا تصل إلى نهاية قط، وتظل في حاجة إلى إضافة في المدى اللانهائي لتقدُّمها. ولا إضافة إلا بوعي المغايرة، وضرورة التفكير المختلف، والبحث في المناطق الجديدة، في الوقت الذي لا يكفُّ الوعيُ عن مُساءلة ما هو قائم ومعروف ومألوف. فالمُساءلة تبيِّن عن إمكانات واعدة. والإمكانات الواعدة تغري بالمضي في أفق التجريب. والتجريب فعل من أفعال الاجتهاد محمود في ذاته، مستقلٌّ عن نتائجه التي لا تنقض قيمته الذاتية، حتى في أحوالها السلبية، وتزيد من قيمته في أحوالها الإيجابية، وذلك بما يؤكد أنه لا تقدُّم في الأفق المعرفي من غير تجريب. والأمر في ذلك لا يقتصر على العلم الطبيعي وحده، بل يجاوِزُه إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإلى الآداب والفنون في الوقت نفسه، خصوصًا حين يغدو الابتكارُ غاية التجريب، والابتداع علامة الثقافة التي تنفض عنها قيود الاتِّباع، وتمارس فعل التجريب الذي هو فعل اجتهاد في كلِّ مجال من مجالاتها.

وإذا كان اتِّساع مجالات التجريب قرين ازدهار الحرية في كلِّ مستوياتها ومجالاتها، السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية، في المدى المفتوح من حيوية الأمم التي لا تكف عن السعي لمضاعفة تقدُّمها، فإن حقَّ الخطأ هو الوجه الآخر من حقِّ الاختلاف في فعل الممارسة الخلاَّق للاجتهاد الذي هو أصل كلِّ تجريب. وفي المقابل، فإن تقليص مجالات التجريب، والاسترابة فيه، ووصفه ببدعة الضلالة، التي تفضي إلى النار، هو الوجه الآخر من تحريم الاختلاف، وتأثيم التنوع والتعدد، تأكيدًا لمبادئ الإجماع التي لا تخلو منها ثقافةُ التقليد، وينبني عليها الوعيُ الجمعي للأمم التي تعيش تحت وطأة الاستبداد وتترسَّخ فيها طبائعُه. وإذا كانت الديكتاتورية السياسية الوجهَ الآخر للتعصب الفكري، وذلك بالقَدْر الذي يتجاوب به الجمودُ الاجتماعي والتطرفُ الديني، في الدول المتخلفة التي تنغلق على ذاتها، ممسوسةً بصور متخيَّلة عن ماضيها التي تسعى إلى استعادته، كي يكون غدُها عَوْدًا على أمْسِها، فإن تجاوب الديكتاتورية السياسية والجمود الاجتماعي والتعصب الفكري والتطرف الديني يؤكد نوعًا من "الأصولية" التي لا تكفُّ عن استئصال الاختلاف والترويع من الخطأ، حفاظًا على أصل متخيَّل، وحماية لمبدأ الإجماع، الذي هو إذعان مطلق لسلطة أعلى في كلِّ المجالات وعلى كلِّ المستويات. وعندما تشيع هذه الأصولية، وتتغلغل في العقول والنفوس، يغلب الاتِّباعُ على الابتداع، وتختفي رغبةُ الابتكار، لتحلَّ محلَّها نزعةُ التقليد، ويتحول حقُّ الاختلاف إلى إثم الخروج على الجماعة، ويغدو الخطأ في الاجتهاد نهاية ضلالة البدعة المفضية إلى النار، كما تغدو عواقبُه المخيفة باعثًا على إيثار السلامة، والبُعد عن الاجتهاد واحتمالاته الضارة، ولزوم الجماعة، والإذعان إلى السائد من أفكارها وعاداتها ونواهيها. ويترتب على ذلك ما يمارسه حرَّاس الأصولية من عنف يهدف إلى قمع الخارج على تعاليمها التي لا تقبل سوى الإذعان المطلق والتصديق التام. ويغدو الخطأ جريمةً لا بدَّ من المحاسبة عليها، والتنكيل بمقترفها، وذلك بما ينفي أجرَ الاجتهاد عن محاولته، ويحوْل بين المجتهد وحقِّه الطبيعي في الخطأ. ولا يقتصر التعصب في هذا المدى على تجريب الخطأ غير المقصود، بل يجاوِزُه إلى تأثيم الاختلاف وتحريمه، بما يجعل منه خطأً لعينًا يستوجب العقاب القمعي.

والأمثلة على حالات التكفير أو التخوين أكثر من أن أشير إليها في الممارسات القمعية التي تكرِّر الواقع المتخلِّف الذي تُبقي عليه الثقافةُ التقليدية السائدة، وتعمل على تبريره سياسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا وإبداعيًّا، وذلك بآليات لا تخلو من وسائل التدجين والاحتواء، التحسين والتقبيح، الترويع والاستئصال؛ أقصد إلى الوسائل التي يتلاعب بعضُها بالمسمَّيات، فيَصِل مشتقات "الإبداع"، بدلالته الخلاَّقة، بمسمَّى "البدعة"، بدلالاتها المقترنة بالضلالة، مستبدلاً بالدلالة الموجبة دلالةً سلبية، وذلك في السياق نفسه الذي ينفي حقَّ الخطأ، ويستبدل بأجر المجتهد الذي يخطئ العقابَ الصارم على المعصية التي اقترنتْ بالخطأ، الذي هو خروج على الإجماع والتقليد، وذلك بما يجعل من فعل العقاب نفسه – من عنفه القمعي – فعلاً لترويع مَن يفكرون في الاجتهاد أو الاندفاع في أفُقه التجريبي. ومن ذا الذي يريد من هؤلاء أن يتمَّ التفريق بينه وزوجه، كما حدث لنصر أبو زيد، أو يقضي على حياته، كما حدث لفرج فودة، أو تنغرس سكينٌ صدئة في رقبته، كما حدث لنجيب محفوظ، أو يدخل السجن، أو يُطرَد من وظيفته الجامعية أو غير الجامعية، أو يفر من وطنه منفيًّا بإرادته، كما حدث – ولا يزال يحدث – لمئات، بل آلاف، من أعظم العقول العربية؟!

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود