حوار الثقافات

تجربة روسيا والمشرق العربي

"حوار التوق إلى الآخر"

 

زهيدة درويش جبور

 

رُبَّ قائل إن الحديث عن "الحوار" يأتي اليوم في غير محلِّه، بينما أخبار الاحتلال تصم آذاننا ومشاهد جحافل الآلة العسكرية المدمِّرة لأعتى قوة وأكثرها بغيًا في العالم تبعث في نفوسنا الذعر وتثير فينا الخوف على مصير إخوة لنا في العراق يُنحَرون كلَّ يوم ويقدَّمون الآن – وربما نحن كذلك غدًا – قرابين على مذبح الطاغية؛ ونحن لا حول لنا ولا قوة، نخجل من عجز العرب الذين باتوا اليوم خارج حركة التاريخ، مستسلمين لقضاءٍ وقَدَر تطهوه لهم مطابخُ المارد الأمريكي، أو بالأحرى، تخطط له ألاعيبُ الحاوي الصهيوني!

أسارع، لأجيب على المتسائل عن "جدوى" الحديث عن الحوار، بالقول إن الإيمان بالحوار والعمل على إرساء قواعده هما اليوم ضرورة أكثر من أيِّ وقت مضى؛ ذلك أن إحدى الآفات الأساسية التي أوصلت مجتمعاتنا العربية إلى ما هي عليه من التفتت والتشرذم هي انعدام الحوار والاستعاضة عنه بالأحكام المسبقة والأفكار المعلَّبة والإذعان لدكتاتورية الرأي الواحد.

لفتني، منذ أن وقعت عيناي على غلاف كتاب حوار الثقافات: تجربة روسيا والمشرق العربي[1]، حسن انتقاء الصورة التي تتوسطه: زفس يخطف أوروپا، الأميرة الفينيقية، ويطير بها إلى الضفة الأخرى من المتوسط. قرأت في ذلك إشارة ذكية إلى الرؤية التي قد يتضمنها لمسألة العلاقة بين الذات والآخر، التي توحي بأن الآخر ليس غريبًا عن الذات، بل يشكل جزءًا منها، بينما تدخل هي في نسيجه، فيصبحان في علاقة تفاعل حي. وتأكدت من صحة قراءتي للرمز، بعد أن تراءى لي لبرهة أنها قد تكون نتيجة إسقاطات ذاتية، عندما توغلت في العوالم الفكرية التي تضمنتْها الأبحاثُ المختلفة التي بدت لي، على تنوعها، شديدة التناغم والانسجام، تكشف عن هواجس وتطلعات مشتركة وعن إيمان واحد بالحوار كوسيلة لبناء مجتمع إنساني أفضل، كما تعبِّر عن رفض التسليم بمقولة "صِدام الحضارات" التي يروِّج لها بعض "مثقفي السلطان" في الولايات المتحدة.

والحقيقة أن الأحداث المتسارعة تأتي لتعطي الأفكار المطروحة صدقيَّتها وصحتها. إن التظاهرات الضخمة ضد الحرب على العراق في أقطار العالم المختلفة، ومواقف الحكومات المناهضة لها، والرفض الذي عبَّرتْ عنه المرجعيات الدينية في العالمين الإسلامي والمسيحي، إنما تقدم البرهان على تهافت مقولة الصراع بين الغرب والشرق وبين المسيحية والإسلام، وتعطي الدليل على صوابية الطروحات المؤمنة بالتفاعل الحضاري القائم على احترام الخصوصية والحق في الاختلاف.

إن الإدارة الأمريكية اليوم في عزلة دولية؛ ولعلها أيضًا في عزلة عن جزء لا يستهان به من الشعب الأمريكي، وأزمتها أخلاقية بامتياز، لغياب التوجه الإنسانوي humaniste في سياستها القائمة على السكر بالقوة. وفي ذلك تنكُّر لكلِّ ما أنجزتْه البشرية على مدى تاريخها الطويل للخروج من شريعة الغاب إلى عالم يسوده القانون. والمفارقة الكبرى أن مَن يتذرعون اليوم بالدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان هم أنفسهم الذين ينحرون هذه الحقوق، ويضربون عرض الحائط بالأعراف والمواثيق الدولية كلِّها، ويوجهون إلى هيئة الأمم المتحدة الضربة تلو الأخرى، ويخرجون على قواعد الديموقراطية العالمية التي من دونها لا تستوي العلاقات بين الدول.

في مواجهة ذلك كلِّه سلاح، ربما ليس الأفعل على المدى القصير، لكنه الأضمن على المدى البعيد، هو ثقافة الحوار التي تطرح مشكلات كثيرة تصدى لمعالجتها الباحثون، فتوقفوا عند مسألة العلاقة بين الذات والآخر، ومسألة الهوية، كما حددوا المشكلات التي تعترض الحوار والشروط اللازمة لتحقيقه وتفعيله. وإذا كان الحوار بين روسيا والمشرق العربي هو الموضوع المحوري، فإن الأبحاث تناولت أيضًا مسائل أخرى ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة به، كالحوار الإسلامي–المسيحي والعولمة وصورة الإسلام في العالم. وقد اتسمت المقاربات بالعمق وبالواقعية، واغتنت في بعض الأحيان بنفحة وجدانية تلقِّح خطاب العقل وتسبغ عليه شفافية الروح، لتأتي الكلمةُ شهادةً حية.

اللافت لدى الباحثين العرب المشاركين هو حضور موقف نقدي من الثقافة العربية ذاتها وما يكتنفها من نزعة نرجسية. يتولد هنا ميلٌ إلى تمجيد الذات ونظرة سلبية إلى الآخر تبقى أسيرة الأحكام المسبقة. هذا ما يذهب إليه الطاهر لبيب في حديثه عن نقد الاستشراق، فيقول:

لقد بقي نقد الاستشراق في جوهره ملاحقةً للذات: إنه تصيد لها خارج فضاءاتها المعهودة.

وإذا كان صحيحًا أن صورة الشرق، كما رَسَمَها الاستشراق، مرآة تعكس هواجس الغرب ومخاوفه أو أحلامه وتطلعاته، فإن صورة الغرب في الثقافة العربية تفتقد كذلك إلى الموضوعية نتيجة الخوف من الأجنبي المتفوق. العرب مقصِّرون في معرفة الآخر؛ وما أنتجوه من دراسات عن أوروبا وأمريكا يبقى ضئيلاً قياسًا إلى آلاف الأبحاث ومراكز الدراسات التي تهتم بالعالم العربي في أوروبا وأمريكا. بل إنهم مقصِّرون في حقِّ الثقافة العربية ذاتها، لإعراضهم عن إعمال الفكر النقدي الذي هو شرط أساسي لتطورها. فالخطاب النقدي يكاد يكون غائبًا في مجتمعاتنا ومعاهدنا وجامعاتنا.

ويتناول بعض الباحثين مسألة الحوار من منظور فلسفي، ليروا أن أزمة الحوار تعود إلى ثنائية تضع الذات في مقابل الآخر، الخير في مقابل الشر، الحقيقة في مقابل الباطل. وإن الخروج من الأزمة ممكن من خلال إحلال التعددية محلَّ الثنائية، حرية الفكر محلَّ ديكتاتورية الحقيقة، والتنوع محلَّ "أحادية المعنى وإمبرياليته"، بحسب تعبير علي حرب، الذي يرى أن الحوار الإسلامي–المسيحي، كما هو معاش في لبنان، محكوم بأن يراوح مكانه، كون بعض دعاته هم الذين ينتجون الفرقة ويكرِّسون الانقسام، متذرِّعين بالمحافظة على الهويات الثقافية والخصوصيات الطائفية والمذهبية.

في المقابل، يدعو المطران جورج خضر إلى ما يسمِّيه "حوار التوق إلى الآخر" الذي من دونه يبقى كل لقاء فكري عقيمًا؛ وهو حوار يقود إلى معرفة الحياة الروحية العميقة عند الآخر التي تجمع بين المؤمنين، أكثر مما تجمع بينهم كتبُ التفسير والفقه: "فالتصوف لغة مشتركة بين الديانتين." ثمة مطارح أخرى للقاء: الانتماء إلى هذا الشرق العريق، التراث الفكري المشترك، واللغة العربية – كل ذلك يجب أن يؤدي إلى علاقة تفاعل حيٍّ بين الثقافتين، بل إلى انصهار وتناغم:

يتحتم عليك أن تنساب رقراقًا في الذهن الإسلامي، أو أن ينساب هو فيك، وأنت على أمانتك لما تؤمن به وما آمن به آباؤك منذ عشرين قرنًا.

بهذه الكلمات يعبِّر المطران خضر عن الحوار كما يعيشه هو تجربة وجدانية صادقة. لكنه يستدرك، ليضع الأمور في إطارها الموضوعي، فيقول:

إننا لم نصل بعد إلى التحديات الفكرية الكبرى التي تتطلب مستوى واحدًا في معرفة الديانتين عند طرفَي الحوار.

ذلك أن شرط المعرفة الحرية، والحق في إعادة النظر بالمسلَّمات، والخروج على الأفكار المعلَّبة، وكسر القوالب الجامدة التي تأسر الفكر. ومما لا شك فيه أن المعوقات لا تزال كثيرة أمام انطلاق حوار حقيقيٍّ يلامس القضايا الجوهرية، ولا يبقى مجرد لقاءات ذات طابع "فولكلوري" في غالب الأحيان. الحوار الحقيقي بين الإسلام والمسيحية هو الذي يتأسَّس على رفض التبسيط والاختزال، وعلى الاعتراف بأن الحقيقة مركَّبة، وبأنها تتجلَّى في صور مختلفة في جميع الديانات التوحيدية.

وإذا كان الحوار الإسلامي–المسيحي شكَّل مادة اهتمام للباحثين اللبنانيين، فقد توقف المفكرون الروس عند ظاهرة الحركات الإسلامية المعاصرة. يلاحظ رمضان عبد اللطيفوف وجود اتجاهين في الإسلام: واحد ينظر إلى الإسلام كمنظومة اقتصادية وإيديولوجية متكاملة في القرن السابع في التاريخ الوسيطي للمجتمع، ولا يخضع لأيِّ تغيير أو إصلاح، والثاني ينظر إلى الإسلام كجزء عضوي من حاضر العديد من البلدان العربية ومستقبلها، وهو ينمو في إطار التطور العام للحضارات الإنسانية وثقافتها وفلسفتها. بمعنى آخر، يميز الباحث الروسي بين إسلام "ثابت" وآخر "متحول"، يخضع لحركة التاريخ، ملاحظًا أن الميل إلى أسْر الإسلام في الماضي وجعله أداة للعنف والانغلاق، بدل أن يكون أداة تنوير روحي وأخلاقي، إنما يشكِّل خطرًا على الإسلام نفسه. ويدعو عبد اللطيفوف إلى عَصْرَنَة الإسلام، مع المحافظة على أسُسه الروحية والأخلاقية، لأن الإسلام، في رأيه، ليس الحفظ المكرِّر للمعارف القرآنية، بل المعرفة في الحياة والمجتمع والإنسانية (ص 50-52).

لقد شكلت العلاقات الروسية–العربية المحور الأكثر استقطابًا لأقلام الباحثين: فمنهم مَن استعرض تاريخ هذه العلاقات؛ ومنهم مَن حاول أن يرصدها في الحقبة المعاصرة؛ ومنهم مَن توقف عند وجوه الحوار المختلفة بين الثقافتين، وعرض المشكلات التي تعيق هذا الحوار. وقد حاول الجميع استقراء المستقبل وعرضوا الاقتراحات لتفعيل الحوار.

لقد أظهرت الأبحاث المقدَّمة أن عوامل كثيرة تجمع بين الحضارتين، منها الثقافي والسياسي والاقتصادي والروحي. ففي المجال السياسي، رأى سِرغيي فوروبيوف أن كلاً من روسيا والبلدان العربية يوحِّدها التضامن ضد هيمنة قوة واحدة على العالم. ولعل الموقف الروسي المعادي للحرب على العراق، المعارض للموقف الأمريكي، إنما يأتي اليوم ليبرهن على صحة هذا الرأي. وعلى الصعيد الروحي، تشكل الأرثوذكسية مساحة للقاء يتجلَّى كذلك في التمازج الروسي–الإسلامي في آسيا الوسطى، كما يلاحظ المفكر السوري جورج جبور. إضافة إلى ذلك، فإن روسيا تُظهِر "تفهمًا معقولاً (وأفضل من تفهم الغرب) لمعضلة الصراع العربي–الإسرائيلي".

في المقابل، ثمة مشكلات وعوائق تعترض الحوار، منها تشويه الصورة العربية في ذهن الروسي من جانب وسائل الإعلام، وخصوصًا التي تدعمها وسائل الإعلام الغربي، وبالذات الإسرائيلية، والتقصير الكبير للإعلام العربي في تصحيح هذه الصورة. يقول المستشرق فوروبيوف:

إن البلدان العربية تبذل الحدَّ الأدنى من الجهد من أجل إعطاء صورة واقعية عن تاريخها وثقافتها.

وهنا يحضر السؤال: ألم يحن الأوان لإنشاء محطة عربية فضائية تبث بلغات أجنبية (أو بالعربية مترجمةً إلى إحدى اللغات الأجنبية) كي نخاطب العالمَ بلغة يفهمها؟ وهل مَن يستجيب للدعوة التي أطلقها فوروبيوف لتأسيس "المركز الثقافي العربي" في موسكو تحت رعاية مكتب الجامعة العربية، ومن خلال مساهمة "المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة" (الألكسو)؟

إن المقاومة تبدأ بتحرير الفكر، بفتح الباب واسعًا أمام وضع المسلَّمات موضع التساؤل، وبقراءة نقدية بنَّاءة للذات، من دونها لا يمكن النهوض.

*** *** ***


[1] إصدار اليونسكو والبيت اللبناني–الروسي، إعداد وتقديم د. سهيل فرح.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود