الحداثة في فكر محمد أركون

نقد العقل الإسلامي شرط دخول العرب إلى الحداثة

 

خالد غزال

 

منذ أكثر من أربعة عقود، أطلق محمد أركون مشروعَه في "نقد العقل الإسلامي" الذي رأى فيه المدخلَ الضروري لتحديث المجتمعات الإسلامية والعربية. وعلى الرغم من ترجمة معظم كتبه إلى العربية، لا يزال مشروعُه لا يلقى الاهتمامَ الذي يستحق في سجال المثقفين العرب ومناقشاتهم، فيما تحظى كتبُه باهتمام خاص في الغرب الأوروبي. في المقابل، نال أركون، ولا يزال ينال، نصيبًا وافرًا من الهجوم "الأصولي" الإسلامي على أفكاره، بلغ حدَّ تكفيره، نظرًا لتصدِّيه الجريء لـ"غير المفكَّر فيه" أو "المسكوت عنه" في الفكر الإسلامي وتراثه ولكشفه "المستور" في فكر الحركات الإسلامية الأصولية وتعريته الأسُسَ الإيديولوجية التي تستقي منها عنفَها.

محمد أركون (1928- )

في هذا السياق، يشكل كتاب الحداثة في فكر محمد أركون للكاتب الجزائري فارح مسرحي[1] إحدى المساهمات الجادة التي تتناول أهم المَحاور الرئيسية للمشروع الأركوني، وخصوصًا في مجالات نقد العقل الإسلامي وشروط تحديث المجتمعات العربية والإسلامية.

وبما أن مشروع أركون، في حقيقته، هو مشروع إدخال الحداثة وبنائها في العالمين العربي والإسلامي، يعرض الكاتب، بدايةً، لمفاهيم محددة تمثِّل لها الحداثةُ كما استقرت في المجتمعات الغربية بعدما سارت في رحلة امتدت من عصر النهضة Renaissance إلى تبلوُرها الأخير من خلال مفكِّري "الأنوار" les Lumières في القرون الثلاثة الأخيرة.

-       فعلى الصعيد الفكري، تتميز الحداثة بـأولوية الذات التي ترى أن الإنسان يستمد يقينياته من ذاته، وليس من تعاليم عقيدة محددة أو سلطة أخرى، على غرار ما كان حاصلاً في العصور الوسطى؛ مما يعني "تحرير الروح الاستقلالية" للذات الإنسانية وتعامُل الإنسان مع نفسه كذات واعية وسيدة وفاعلة.

-       كما ترتبط الحداثة ارتباطًا وثيقًا بـالعقلانية نظرًا لتماهيها مع العقل الذي يقلِّص المجالاتِ الغامضةَ والمبهمةَ التي تربط الإنسان بالوجود، مستبعِدًا الخرافة والأساطير في تفسير الحوادث، مما يجعل هذا العقل المصدرَ الأساسي والوحيد للحقيقة والمعرفة عِبْرَ قدرته على تمكين الإنسان من اكتشاف القوانين التي تسمح بالسيطرة على الطبيعة.

-       تتمثل العقلانية أيضًا في فصل العلم عن التصورات الدينية والإيديولوجية عبر نزع القدسية عن المجال السياسي، باعتباره مجالاً دنيويًّا للصراع على الخيرات والسلطة والرموز.

-       على المستوى السياسي، تتجلى الحداثة في نشأة الدولة الديموقراطية العَلمانية، أي الدولة التي يجري فيها التمييزُ بين المجالين السياسي والديني، وتسمح، في المقابل، للفاعلين الاجتماعيين، أي المواطنين، بأن يتصرفوا أحرارًا في اختيار حكامهم.

-       وعلى المستوى الاقتصادي، تتجلى في تطوير إنتاجية العمل البشري وسيطرة الإنسان على الطبيعة وقوى الإنتاج.

-       أما على المستويين الاجتماعي والأخلاقي، فالحداثة تعبِّر عن قيم منفتحة قائمة على التعددية وقابلية التغيير ومعيارية النسبية والحرية.

قرأ أركون واقع المجتمعات العربية، فرأى أن ما عرفتْه منذ قيام دول الاستقلال ليس أكثر من تحديث مادي تمثَّل في إدخال منتجات تقنية عليها، من دون أن يرافق ذلك تغييرٌ عقلي وثقافي كان هو الأساس في إنتاج هذه التقنيات في الغرب. وهذا شأن يجعل المجتمعاتِ العربيةَ تعيش حالاً من الفصام؛ الأمر الذي يحمل أركون على اعتبار أن النضال من أجل إدخال الحداثة يشكل الحلقة الرئيسية لقوى التغيير في المجتمعات العربية.

يرى أركون أن مفتاح إدخال الحداثة هو نقد العقل الإسلامي، بنصوصه المؤسِّسة وتراثه التاريخي، الذي يسعى إلى البرهنة على أن الفِرَقَ والحركاتِ الإسلاميةَ تنطلق من مسلَّمات فكرية وإيديولوجية واحدة، على الرغم من الاختلافات والصراعات القائمة فيما بينها. فالعقل الإسلامي عقل "تاريخي"، له نقطة تشكُّل وبداية ونهاية تحدِّد، منذ رسالة الشافعي التي عنيت بالأحكام الشرعية، الأصولََ الدينيةَ التي قام عليها الفقهُ في العصور اللاحقة ولا تزال تحكم الزمنَ الراهن. تستند هذه "الأصول" إلى الخطاب القرآني وسيرة النبي والإمام علي والأئمة عند الشيعة. وتعالج "الرسالة" موضوعًا مركزيًّا يتعلق بـ"أسُس السيادة العليا" أو المشروعية العليا في الإسلام، حيث يمثل القرآن مصدرَ السيادة الإلهية العليا والسنَّةُ مصدرَ السيادة العليا للنبي. بناءً عليه، تحدد "الرسالة" دور العقل في البحث عن الأحكام الموجودة في النصوص المؤسِّسة (القرآن والسنَّة)، وتؤسِّس لتكوين عقل إسلامي منغلق في قوانين حديدية صارمة تقوم على الجزم بأن سُبُل النجاة في الدار الآخرة ووسائل الوصول إليها تجد تفسيراتِها وشروحَها كلَّها في القرآن، مما يعني أن مهمة العقل الرئيسية تقوم فقط على قراءة "صحيحة" لهذا النص.

يشتغل هذا العقل داخل إطار معرفة "جاهزة"، فيستخرج "المعرفة الصحيحة" استنادًا إلى النصوص المقدسة، بما يكرِّس العقل الديني عقلاً تابعًا للوحي وخادمًا له، غير متجرئ على تجاوُز ما يقول به هذا الوحي. وقد نجم عن ذلك تحوُّل العقل الإسلامي إلى عقل دوغمائي dogmatique، يرتكز على ثنائية ضدية حادة متمثلة في "نظام من العقائد والإيمان يقابلُه نظامٌ من اللاعقائد واللاإيمان". يتجلى ذلك في اعتقاد راسخ لدى جميع المسلمين بأن الإسلام إطار "صالح لكلِّ زمان ومكان"، وبأن الإيمان بوجود الإسلام الحق يتضمن مسلَّماتٍ تقول بإله موجود واحد خالق قادر، خاطَبَ الناس باللغة العربية، وكلامه مدوَّن في القرآن الذي يحوي كلَّ شيء ويمثل الحقيقة القصوى، وبأن المؤمن متفوق على غير المؤمن والمسلم على غير المسلم!

ولا يفوت أركون أن يرى في هذه "القوانين" أساسًا للخطاب الإسلامي المعاصر المتطرف الذي يستمد قوَّته من كونه يرى نفسَه ممثلاً للحقيقة الإلهية المطلقة والوحيدة، رافضًا وجهاتِ النظر المخالفةَ له، وصولاً إلى إصدار اتهامات بالإلحاد وفتاوى بالتكفير وإباحة الدم لمن يخالف هذا الخطاب وشعاراتِه. لذلك يدعو أركون إلى ثورة فكرية عريقة تنطلق من تحرير العقل وإعطائه مكانة جديدة، بوصفه الحاكم الأول والمرجع الأخير في كلِّ ما يختص بمعارف الإنسان وأعماله، ومن رفض الأحكام القطعية، ومن التعامل مع العالم والواقع والنصوص باعتبارهما مشروعًا مفتوحًا.

يشير فارح مسرحي، في قراءته لمشروع أركون، إلى تشديده على تحديث العقل الإسلامي الذي يقتضي، أولاً وقبل كل شيء، استقلاليةَ هذا العقل وقبولَه نقدَ معارفه بعيدًا عن الدوغمائية والنظرة الأرثوذكسية التي عرفَها الفكرُ الإسلامي في غالبية فترات تاريخه. تُعتبَر مهمةُ نقد التراث مسألةً أساسية في تحرير المسلمين والعرب: فهذا التراث الإسلامي الذي يجمع النصوص المقدسة، كما تراه كل جماعة أو فرقة من الفِرَق الإسلامية، يحوي أيضًا العادات والتقاليد السائدة التي استمرت، بشكل أو بآخر، بعد الإسلام، تُضاف إليها التشريعاتُ والقوانينُ الحديثة من إنتاج التدخل الاستعماري، وغيرها من عناصر التراث الخاص بالأقليات.

ويستخدم أركون ما يسميه مفهوم "الإسلاميات التطبيقية" l’islamologie appliquée في إعادة قراءة التراث الإسلامي قراءةً نقدية، ويعتبر هذا المفهوم ممارسةً علميةً متعددةَ الاختصاص pluridisciplinaire، تريد أن تأخذ على عاتقها طرحَ المشكلات الفعلية التي تعانيها المجتمعاتُ الإسلامية ومحاولةَ حلِّها والسيطرةَ عليها وفق المسار العلمي والمنهجية العلمية. تنطلق "الإسلاميات التطبيقية" من واقع المسلمين وحاضرهم ومشكلاتهم، فتستنبط ما يتعلق بها من تعاليم دينية وأغراض سياسية ومصالح اقتصادية وغير ذلك من العوامل المؤثرة في الحركة التاريخية الشاملة للمجتمعات.

من أجل ذلك، يستخدم الكاتب منهجيةً ترتكز على مقومات ثلاثة:

1.     يتعلق المقوِّم الأول باعتماد المقاربة السيميائية الألسنية لمعرفة كيف تقوم العلاقات المستخدَمة في النصوص بالدلالة وتوليد المعنى: لماذا معنى معين وليس معنى آخر؟

2.     ويستند المقوِّم الثاني إلى المقاربة التاريخية الأنثروپولوجية والسوسيولوجية لإضاءة النصوص والكشف عن مشروطيتها التاريخية، من أجل التأكيد على أن الدين ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية يمكن رصدها وتحليلها كسائر الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية.

3.     فيما يهدف المقوِّم الثالث، المتمثل في المقاربة الثيولوجية، إلى كسر طوق الاحتكار الذي يلف التفسير التقليدي للنصوص المقدسة، بما يسمح ببناء لاهوت جديد وتكوين منظومة عقائدية تفسح أمام المسلمين والعرب المجالَ لدخول عالم الحداثة.

يولي أركون قضية العَلمانية حيزًا أساسيًّا في مشروعه، بوصفها شرطًا لا بدَّ منه لدخول العرب والمسلمين العصر، ويرى في تحقيقها مقياسًا للوصول إلى الحداثة، رافضًا فكرة أن الإسلام دين ودولة أو "دين ودنيا". فالدولة في الإسلام، كما في المسيحية، ظاهرة دنيوية قبل أن تكون دينية؛ بل هي قد استعانت برجال الدين لتأهيل مشروعيتها. تتعلق العَلمَنة laïcisation بإرادة الفهم والمعرفة؛ ويحقق تبنِّيها في المجتمعات الإسلامية حمايةً للدين ضد احتكار السلطة له، وسحبًا للبساط من تحت أقدام الحركات الأصولية، وتمييزًا بين المستوى الروحي المتعالي transcendant للدين وبين المستوى الإيديولوجي السائد. إنها عَلمَنة منفتحة على أبعاد الإنسان، بما فيها البعد الديني، من دون أن تكون هناك سيطرة لبُعد على آخر. ومن أجل ذلك، يرفض أركون العَلمانية النضالية والإيديولوجية التي شاعت في تركيا وبعض دول الغرب، فتحولت إلى عقيدة إيديولوجية تضبط الأمور وتحدُّ من حرية التفكير.

لا يتوقف مشروع أركون التحديثي عند ظاهرة العَلمانية ووجوب تحقُّقها. فهو يشدد على احترام حقوق الإنسان شرطًا لتحقيق العَلمَنَة؛ كما يرى أن دخول المسلمين عالم الحداثة يتوقف على احترام حقوق الإنسان وترسيخ النزعة الإنسانية في مجتمعاتنا. يرتبط ذلك بنظام الحكم والسلطة القائمة في المجتمع، بما يعني أن النضال من أجل حقوق الإنسان يقوم أساسًا على النضال من أجل تحقيق الديموقراطية. تمثل دمقرطة démocratisation النظام السياسي الخطوةَ الأولى في طريق تحرير الطاقات الاجتماعية، حيث يتعذر ضمان الحقوق الروحية والأخلاقية والثقافية للشخص البشري بغير النظام الديموقراطي وترسيخ دولة القانون.

مما لا شك فيه أن مشروع أركون في نقد العقل الإسلامي وتحديث المجتمعات العربية مشروع طموح جدًّا: إذ يحتاج تحقيقُه إلى جملة عوامل موضوعية تتصل بدرجة تطور المجتمعات العربية ودرجة تكوُّن القوى الاجتماعية متعددة المشارب لحمل هذا المشروع والنهوض بتبعاته – وهو شأن لا يزال، بكلِّ أسف، بعيدًا عن التبلور في واقعنا العربي الراهن!

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 5 كانون الأول 2006


[1] فارح مسرحي، الحداثة في فكر محمد أركون، منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، 2006، 198 ص.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود