زهــور الخــوخ
الطبيعة بصفتها فضاءً للياباني روحًا وجسدًا

 

شـوقـي بـزيـع

 

يتميَّز الأدبُ الياباني، أو ما يصلنا منه على الأقل، بتلك المؤالفة النادرة بين الملموس والمجرد، بين الحسِّي والماورائي. إنه أدبٌ مثقل بالأسئلة العميقة ذات الطابع الوجودي؛ ومع ذلك، فإن هذه الأسئلة لا تنتظم في سياق فلسفي ذهني، بل تنصهر داخل شريط متلاحق من الظواهر والمرئيات وأجزاء الحياة الصغيرة. لكن هذه الجزئيات ليست مجانية ولا اعتباطية، وهي لا تَرِدُ في إطار من التعسف والافتعال، كما هي الحال في الكثير من النصوص العربية، بل هي المفاتيح الضرورية للولوج إلى الجانب الميتافيزيقي من الحياة وللبحث عن المعنى الكامن وراء الظواهر والمشاهدات الحسِّية.

"أزهار فوانيا قرنفلية وحمراء تميل مع النسيم إلى اليسار وفراشة"

"تسونامي"

مطبوعتان للرسام الياباني هوكوساي كاتسوشيكا (1760-1849)

ولعلَّ أكثر ما يستلفت النظرَ في الأدب الياباني هو الاحتفاء الاستثنائي بالطبيعة، لا بما هي فضاء حيادي أو وجود ساكن ومستقل، بل بصفتها فضاءً للجسم الإنساني ومدًى حيويًّا لتمزقات النفس وخلجات القلب. وهذا الاحتفاء يمكن الوقوف على تجلِّياته في روايات كاواباتا وميشيما وفوكازاوا وغيرهم أو في النماذج المختلفة للشعر الياباني، قديمه وحديثه. إلا أن الحواس في جميع الحالات هي الممر الإجباري لتلمُّس جمالات العالم ومراراته ولنقل الرسائل التي ينبغي للكاتب، كما للقارئ، أن يتبلَّغها. فمن الصعب أن نقرأ رواية يابانية خالية من الثلوج والزهور والفراشات والحباحب والإوز وسائر العناصر والكائنات. والأمر نفسه يتكرر مع الشعر الذي يتحول، بكثافته وتقطيره، إلى لوحات مشهدية شديدة الرهافة والإيجاز.

ولقد كان الشاعر العراقي سعدي يوسف مصيبًا للحقيقة حين اعتبر في إحدى الندوات أن ذلك التماهي المدهش مع الطبيعة الذي نجده في الشعر الياباني يجد نظيرًا له في الشعر العربي الجاهلي الذي عرف في براعة كيف يبث الروح في الجمادات وكيف يزيل الفوارق بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية، محولاً الطبيعة برمَّتها إلى طوطم أصلي للشاعر وللُّغة على حدٍّ سواء.

"فوجي سان مرئيًّا من كوشيگا–يا" (من مجموعة "36 منظرًا لجبل فوجي")

"أناس على جسر أوهاشي وقد باغتهم المطر" (من مجموعة "100 منظر شهير من إيدو")

"حديقة الخوخ في كامِيْدو"

                                            ثلاث مطبوعات للرسام الياباني أندو هيروشيگي (1797-1858)

المختارات التي جمعتْها نادية عمر صبري ونقلتْها من اليابانية إلى العربية تحت عنوان زهور الخوخ[*] تعكس جزءًا من المشهد الشعري الياباني، وبخاصة في نماذجه القديمة التي تعود إلى القرن الثامن الميلادي. وإذا كان من الصعب على شخص بمفرده أن يحيط بجميع مراحل الشعر الياباني وفنونه وأساليبه، فقد كان من الممكن لهذه المختارات أن تكون أكثر تمثيلاً لهذه المراحل والأساليب، وبخاصة ما يتعلق منها بشعر الحداثة الذي اكتفت المترجمة بنقل النزر القليل من نصوصه.

مقدمة المختارات، بدورها، جاءت سريعة ومبتسَرة، لكنها مع ذلك تمكِّن القارئ من الإلمام بشيء عن نشأة الشعر الياباني التي كانت نشأةً شفويةً في البداية؛ إذ لم يُجمَع شتاتُه إلا في القرن الثامن (حوالى العام 759 م) عبر كتاب مانيو شو ("عشرة آلاف ورقة شجر"). واللافت في العنوان المذكور أنه يوائم بين القصائد وأوراق الشجر في لفتة ذكية إلى ما يربط الناس والأشجار من صلات ووشائج. كما تمر المترجمة سريعًا على نشأة الأشكال الشعرية اليابانية التي بدأت بالـ"تانكا"، وهو يعني القصيدة القصيرة، مرورًا بقصيدة الـ"رِنگا" التي توفَّر على كتابتها عددٌ من الشعراء، وانتهاءً بقصيدة الـ"هايكو" التي هي أقصر وأشد تكثيفًا من التانكا والتي شهدت ازدهارَها الأهم مع الشاعر العظيم ماتسُوو باشو (1644-1694).

تتفاوت نصوصُ المختارات الشعرية اليابانية من حيث موضوعاتُها وعمقُها وأزمنةُ كتابتها. لكن ما يجمع النصوصَ برمَّتها هو الإيجاز ودقة الملاحظة وقوة التحديق في الأشياء. فهنا لا نرى أية ملامح للإفاضة الإنشائية والسيلان اللغوي والإطناب الممل الذي نلمحه في الكثير من قصائد الشعر العربي، بل ثمة تسديد مباشر إلى جوهر المعنى وانتقاء ذكي للمفردات والتعابير، بحيث يُستغنى عن المبالغات التهويلية والعناصر الزائدة. القصيدة اليابانية بهذا المعنى تشبه، إلى حدٍّ بعيد، ما يفعله النحات الذي يقشِّر الحجر من الزوائد وصولاً إلى نواته الجوهرية، أو ما يفعله الرسامون الحديثون الذي يكتفون من المشهد ببعض إشاراته ومن الأجساد والوجوه ببعض خطوطها الدالَّة.

من بين الشعراء المختارين لا بدَّ من أن نميِّز كي نو تسورايوكي (حوالى 859-954 م) الذي تميَّز بلغته الجميلة الآسرة وبقدرته على التقاط إشارات الطبيعة وانعكاسها في الباطن الإنساني، كما في قوله:

أزهار الخوخ لم تسقط بعد/ سوى أن الماء المنساب/ يعكس صورتَها

أو في قوله:

في سبخة القصب/ صاح عصفورٌ في أسى/ كما لو أنه تذكَّر شيئًا نَسِيَه

أو:

في عزِّ الشتاء/ خلافًا لكلِّ التوقعات/ بين الأشجار/ يُخيَّل للمرء أنه يرى بعض الأزهار/ من كثرة ما سقط من ثلج

ولا بدَّ للقارئ العربي، وهو يقرأ هذه النصوص، من أن يتذكر الأبعاد الجمالية المشابهة والبعد المشهدي الموازي في شعر أبي تمام الذي سبق تسورايوكي بأكثر من قرن من الزمن، وبخاصة في بيته الشهير:

مطرٌ يذوبُ الصحوُ منه وخلفَه        صحوٌ يكاد من النضارة يُمطِرُ

ثمة لمسة من الحزن تسري في عروق الشعر الياباني. وهو حزن مشوب بعزلة الكائن وإحساسه بالوحشة، حتى وهو يحيا وسط ضجيج الآخرين وزحامهم. لكن ذلك الحزن ليس ذا طبيعة ليلية قاتمة بقدر ما هو قريب من الانكفاء والتأمل والشجن الشفاف؛ إنه الحزن النهاري والساطع والمبلَّل دائمًا برذاذ النشوة الخفيف. وقد يكون ذلك عائدًا إلى طبيعة اليابان الغنية بالتضاريس والقريبة إلى أبعد الحدود من مشرق الشمس. من هنا نستطيع أن نفهم عطش اليابانيين إلى الحب، بصفته أحد أشكال الخروج من العزلة والبحث عمَّا يمكن للشاعر أن يقتسم معه كسرة الألم والأمل. هذا الحب يتخذ في بعض الأحيان بُعدًا روحانيًّا خالصًا، كقول شاعر مجهول:

نحن/ أنا وأنت/ مثل إبرتَي ورق صنوبر/ تجفَّان/ تسقطان/ لكنْ لا تفترقان أبدًا

كما يمكن للحبِّ أن يتخذ أبعادًا جسدية، لكنها تتجاوز شهوانيتَها باتجاه أشكال أكثر إشكالية، وبخاصة في النصوص النسائية المعاصرة، كقول فوكاو سوماكو:

أرفع نهدي/ أستنشق وأُطلق زفير صوت الحب/ كابنة حارس المنارة الشهوانية/ إنه بيت مضيء/ سأصنع فيه عالمًا ليس بوسع رجل بناؤه

نادرًا ما نعثر في الشعر الياباني على شبهة سياسية أو إيديولوجية أو على ما يشير إلى حدث اجتماعي أو مناسبة عارضة. وهي ميزة لا تقتصر على الشعر الياباني القديم وحده، بل تنسحب على النصوص المعاصرة أيضًا، بحيث لم تتمكن التكنولوجيا اليابانية المتطورة من أن تُبعِدَ الشعرَ عن مصادره "السماوية" والروحية. وكما أن الشعر الياباني عابر للأزمنة وللأمكنة، فهو عابر للطبقات والشرائح الاجتماعية أيضًا، بحيث نرى في شعر الأباطرة اليابانيين تلك الحرقة الإنسانية نفسها التي نراها في شعر الطبقات الرثة والبشر البسطاء. وربما يكمن هذا في المخزون الروحي الهائل الذي يعيد اليابانيين دائمًا، على الرغم من إنجازاتهم التكنولوجية المذهلة، إلى عوالمهم الأولى النقية الشفافة.

ليس من قبيل المصادفة، أخيرًا، أن يكون بين شعراء المختارات عددٌ لا يُستهان به من النسَّاك ورهبان الزِنْ. ذلك لأن الشعر الياباني، في جوهره، ذو بُعد تنسُّكي مثقل بالوحشة والزهد والصمت؛ إنه ثمرة الإصغاء إلى الطبيعة ومنادمة كائناتها وأصواتها الدفينة. ومَن أجدر من الرهبان والنساك، تبعًا لذلك، للتعبير عن العزلة المطبقة التي تحيط بالبشر، بحيث لا يظل أمام الراهب جيوسون سوى أن يصرخ في مرارة:

أوَّاه يا كرز الجبل/ تعال نعطف بعضنا على بعض/ فباستثناء أزهارك/ لا أعرف أحدًا

في حين يعلن نو أكارو بلسان أحد الفقراء:

السماء والأرض شاسعتان كما يبدو/ غير أنَّهما ضيقتان بنظري/ الشمس والقمر يشعَّان كما يؤكِّد الجميع/ غير أنَّهما لا يلمعان أبدًا لي أنا

*** *** ***

عن الحياة، الأحد 30 كانون الثاني 2005
تنضيد: دارين أحمد


 

horizontal rule

[*] زهور الخوخ (مختارات من الشعر الياباني)، بترجمة نادية عمر صبري، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2004، 136 ص.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود