الحياة والموت من منظور العلم والفلسفة

نـدره اليـازجـي

 

إلى روح صديقي روبير لِنْسِن

 

أودُّ بدايةً أن أقول إنني، في هذا المقال، أسعى إلى الكشف عن حقيقة الموت والحياة على جميع الأصعدة، معتبرًا إيَّاهما مظهرين متعارضين، وفي الوقت ذاته متكاملين، لسيرورة كلِّية واحدة.

ويجدر بي، قبل التعمق في بحث معضلة الحياة والموت، أن أطرح على نفسي السؤال التالي: ماذا أتوقع من دراسة كلمتَي "الموت" و"الحياة" وأنا أطرحهما على مستواهما الأعم والأجلى والأعمق؟

عندما أتحدث عن "حياة" إنسان بلغ السبعين من عمره، أعلم أن حديثي يدور حول "استمرار" وجود معيش واحد بعينه، وأجد، على الرغم من التغيرات الطارئة على السمات والتفاصيل التابعة لأحداث المصير الفردي وأعراضه، أن هذا الاستمرار يحتفظ، في عمقه، بوحدة الهوية والذاتية. فعندما يتوقف القلب عن الخفقان نتيجة مرض أو حادث، أو عندما تتوقف الحياة الفسيولوجية والنفسية، أتحدث عن "الموت".

والحق أن الموت، في واقعه وحقيقته، يتلازم مع القانون الذي يُحدِثُ التغير في عمقه. ومع ذلك، يرى العديدُ من العلماء والحكماء أن الحياة، بدورها، تتلازم مع قانون التغير أو التحول. لكني عندما أتحدث عن "حياة" أحدهم، أتحدث، في الوقت ذاته، عن الاستمرارية أو التواصل؛ وبالتالي، أتحدث عن غياب التغير، وأعني الخاصية المميِّزة لمجموعة النزعات والميول النفسية المتعارضة، بحيث إن تفسير التوازن فيما بينها يتم في أصالة أو في فردانية متماثلة أو متجانسة نسبيًّا عِبْرَ "عمر" واحد.

أولاً: الحياة والموت في الفيزياء

مع ذلك، تُظهِرُ الدراسةُ المعمَّقة لشدة التبادلات التي تحدث بين الخلايا والنويَّات الخلوية وتلك التي تحدث بين السيرورات الذرية عدم ثبات وعدم دقة، بل وغموض، أفكارنا المتعلقة بالتغير، بالتواصل المستمر، وبالحياة والموت.

إنْ كان مقياس الرصد المألوف يُمِدنا بالقدرة على الكلام، ظاهريًّا، على الاستمرار والتواصل البيولوجي والنفسي لإنسان بعينه، فإن ثمَّة تغيراتٍ مستمرةً ومتواصلةً على مقياس السيرورات التي تحدث بين المكوِّنات التحتية على المستويين الخلوي والذري (وهي تعمل وفق إيقاع صاعق ومرعب) – وهذا لأن تاريخ الغالبية العظمى من المكوِّنات النهائية القصوى للمادة هو التاريخ الذي يحدِّثنا عن ملايين عمليات الموت والحياة، أي عن ملايين الميتات والولادات، في الثانية الواحدة. ولو أننا طبَّقنا قيمَنا التي نخلعها عادةً على الصفات البشرية للحياة الإنسانية، أي على معالم الاستمرارية والفردية الدائمة، – لو أننا طبَّقناها على مستوى القُسيمات ما دون الذرية subatomic particles لوجدنا أنفسنا أمام طريق مسدود. وفي هذا المنظور، نجد أن حياة الغالبية العظمى من القُسيمات ما دون الذرية لا تدوم لأكثر من واحد على مليار من الثانية. والحق أن شدة سيرورات الارتباط أو الاتصال، بمقياس التفاعل النووي ومقياس الطبيعة "العَرَضية" للقُسيمات ما دون الذرية، تحُول دون النظر إليها وفق مقياس "فردية" من أيِّ نوع كانت أو مقاربتها وفق مقياس الاستمرارية.

لقد لاحظ العلماء، في هذه المنطقة الأخيرة القصوى للحياة المادية، القدرةَ التي يتمتع بها التغير والحركة. وهكذا تبدو "حياة" القُسيمات الأولية elementary particles المتلاشية للعالم الذري و"موتها" وكأنهما التعبير عن سيرورة أو تطور للحركة الأصلية أو الجوهرية التي تشملهما أو تسودهما. وهذا ما يحدث على مستويات الكون جميعًا، الذرية والبيولوجية والپسيكولوجية: ثمة حركة أساسية أو أصلية جوهرية هي دوامٌ واستمرار دينامي؛ وتشتمل هذه "الحركة الأصلية والجوهرية" على الحركات جميعًا، وتُشرف على مليارات ولادات كونٍ بعينه وميتاته.

ثانيًا: الحياة والموت في البيولوجيا

في هذا السياق، يحدِّثنا الفيزيائي الفرنسي شارل نويل مارتن بما يلي:

لا نستطيع أن نعرِّف بالحياة بكونها نتاج المادة المركَّبة التي تتجمع (النباتات)، أو بكونها تستفيد من طاقة خارجية، شمسية أو غيرها (الحيوانات). ثمة وجودٌ يتجاوز تجاوزًا تامًّا قدرتَنا على الرصد، بحيث إننا نعجز عن وصفه أو شرحه. لكننا، مع ذلك، نحيط به بفكرنا وعقلنا ونستطيع أن نتصوره على نحو "كيان"، دون إمكانية تعريفه، في نطاق علم متطور ومتقدم جدًّا. ويُحتمَل ألاَّ نبلغ هذا المستوى من المعرفة، وذلك لأن عقل الإنسان ليس موجودًا لهذا السبب.

ومع ذلك، يمكن لنا أن نقول بأن هذا الوجود يخضع لقوانين، تمامًا كما يخضع العالمُ الفيزيائي لقوانين تقبل الوصف رياضيًّا. وكما أنني أستطيع أن أقدِّر أن الرياضيات الحاضرة والمقبلة يجب أن تشمل جميع الأوصاف لما هو كائن، كذلك أستطيع أن أفكِّر بأن هذا "الكيان" يجب أن يخضع لقوانين أساسية وجوهرية تتميز بالثبات. أقول هذا وأنا أتيقَّن من وجود مبدأ انحفاظ الطاقة عبر التحولات الطارئة.

لئن كان شارل نويل مارتن محقًّا في تأكيده على "كيان" ما، يشكل نوعًا من الدوام والاستمرار والثبات المتجاوز لثنائيات الموت والحياة البيولوجية، ويشير إلى أنه ثبات ستاتيكي يؤكده التقدم العلمي، لكن الواقع يؤكد، على نحو آخر، على وجود حقل كوني للخلق. ومع ذلك، يتحدث مارتن عن وجود مبدأ ثابت، غير متغيِّر، يعتبره البرهان على وجود "كيان حي". وفي هذا الصدد، يقول مارتن: "الولادة والحياة والموت إنما هي تحولات." وفي قوله هذا نجد أنه يتحدث عن وجود مبدأ لا يطالُه التغيُّر، هو الصفة النوعية للوجود ذاته والواقع الذي يشير إلى وجود كيان حي. وبالفعل، تكون

[...] صفة الحياة دائمة ومستمرة وثابتة، وذلك لأنها كانت، ومازالت، تنتقل من طور إلى طور منذ البدء.

هكذا يعلن مارتن وجودَ أبعاد متمِّمة تتناظر تناظُرًا ملائمًا مع الأبعاد الأساسية الثلاثة. وهو يتابع حديثه قائلاً:

كنت في السادسة عشرة من عمري عندما استمعتُ إلى محاضرة تدور حول مؤلَّف من مؤلَّفات [آرثر] إدِّنغتون يتحدث فيه عن النسبية العامة. وكنت قد وُفِّقتُ، يومذاك، إلى فهم معادلة رياضية تؤكد ما يلي: إن الانتقال من مكان ذي ثلاثة أبعاد، يُضاف إليها بُعدٌ لتُصبح ثلاثة أبعاد وزمن، إلى مكان ذي أربعة أبعاد، يعني أنه يجب علينا أن نعبُر الحدَّ الذي تُلغى فيه سرعة الضوء. لقد أذهلتْني هذه المعادلة، وأذهلني معها هذا التفكيرُ إلى حدٍّ كبير، وعلمت أنني خلصت إلى إدراك المقايسة التالية: الموت لما أو لِمَن يتوقف عن الحياة هو إلغاء سرعة الضوء، وذلك لأن الزمن لن يعود موجودًا بالنسبة له. وما من شيء يمثِّل لبُعد الزمن أفضل مما يمثِّل له الفوتون وهو ينطلق بسرعة ثابتة لا تتغير. وهكذا فإن الموت هو إلغاء الزمن.

يتابع مارتن أطروحته ليعلن ما يلي:

المزيد من الحياة يعني المزيد من التطور والنمو. وهذا يعني وجود زمنٍ لامتناهٍ يطرأ، في عمقه، التطورُ اللاَّحق طروءًا فجائيًّا، وتصبح فيه سرعةُ الضوء لاشيء، بمعنى أن سرعة الضوء تُلغى.

يتطابق "إلغاءُ سرعة الضوء" مع تجاوُز البُعد المتمِّم. والحق أن ما ندعوه "الموت" هو، في رأي مارتن، المرحلة التي يتم تحديدُها أو التعبيرُ عنها في أبعاد وجودية أخرى. ويتابع مارتن حديثه فيقول:

لمَّا كنَّا كائنات تتطور في زمكان ذي أبعاد ثلاثة يُضاف إليها بُعد رابع، فإننا نستنتج أن الموت يجعلنا نلج إلى مكان ذي أبعاد أربعة.

وفي موضع آخر من حديثه يقول:

لا يمكن لي أن أشك بأن حياتنا، التي هي حياة قصيرة أو مختصَرة بالقياس إلى حياة الكون، هي مجرد ظاهرة عابرة أو زائلةٍ تتمدَّى [تتخذ صورة المادة] ثم تختفي. أما المقايسة فإنني أجدها في قُسيمات العناصر الأولية الأصلية التي مازلنا ندرسها منذ سنوات. إننا نراها: إنها تتمدَّى وهي تعاني، وتحيا جزءًا من مليون من الثانية، ثم تختفي، ولا يبقى منها غيرُ أثر يشير إلى تجلٍّ واقعي أو ملموس. وإذا ما تساءلنا: ألم يوجد شيءٌ ما قبلها؟ ألن يوجد شيءٌ بعدها؟ لأجبنا: لقد وُجِدَ شيءٌ قبلها، ويوجد شيءٌ بعدها. والحق أن الأطوار الثلاثة لم تكن إلاَّ تحولات لأشكال مختلفة لتجلِّيات ما نرصد.

ويعلِّق مارتن على النحو التالي:

أتأكَّد، يومًا بعد يوم، أن الحياة، على المستوى الفردي، هي عبور مختصر لمرحلة أبدعتْها بنيةُ العالم الذي نحمله في داخلنا. ويُحتمَل أن يوجد خزان كوني للحياة وللوعي يلازمُه تمدٍّ أو تجسيم نفسي يتوضَّع على أساس ماديٍّ متطوِّر يقوم على إرجاع ثابت في أساسه وعمقه.

ويتابع قائلاً:

كما يوجد مضمون أو محتوى هو بمثابة "طاقة" للكون تبدو وكأنها ثابتة، كذلك يوجد مضمون هو بمثابة "وعي"؛ الأمر الذي يعني أن الموت هو عبور أو مسلك يشير إلى حالة تتَّجه إلى المجهول.

يعتقد مارتن أن هذا الخزان الذي يحتوي الحياة والوعي موجود. إنه حقل وعي كوني عام، لاشخصي، يتموضع في الأبعاد الثلاثة الأساسية التي نصف فيها الخصائص والنوعيات.

يمكن لنا الآن أن نتأمل الموقف الفكري الذي أعلنه الطبيب روجيه غودل في معضلة الحياة والموت. يقول غودل:

يُحتمَل أن يوجد تجددٌ كامل أو نموٌّ كامل، دائم ومستمر، لكياني وكيان الكائنات. والحق أن المستقبل هو الذي يستفيد من هذا النمو والتجدد أو التحول.

ويضيف قائلاً:

إننا والعالم بأسره نمثِّل هذا المستقبل الدائم، في أبديته، الذي يتجدد، في تحوُّله، في اللحظة التي ينعدم فيها على نحو تحوُّل.

يعتقد غودل أن الإنسان ليس فردًا أو جزءًا معزولاً من الكون. إنه يحيا في محيط هو "حقل لانهائي للوعي والحياة". وبالإضافة إلى ذلك، يعتقد غودل أن كيان الإنسان هو، في حقيقته، هذا الحقل الذي يتجرَّد من التشخُّص أو التشكُّل الذي تعيِّنه الصفات؛ هذا الحقل الذي تُنشِئُه حركةُ الإبداع التي تتركَّز في الأبعاد الثلاثة الأساسية وتتجاوز هذه الأبعاد في آنٍ واحد.

في هذا المنظور، نكتشف وجود حياة شاملة تشتمل على ظاهرتَي الحياة والموت اللتين تدعواننا إلى التأمل العميق والتفكير الواعي.

ثالثًا: الحياة والموت في علم النفس

أبدأ هذا الجزء من مقالي بعبارة تلخِّص ما جاء في كتابات غودل: يعتقد غودل بالتجدد الدائم والمثابر للحياة. فالحياة، في رأيه، عملية "وظيفية" في أساسها. والحياة، كما يرى، ليست مادية؛ إنها انبثاق دائم للتجدد والتحول. وفي هذا المنظور، الذي يؤكد على وجود الخلق المستمر والتجدد والتكامل، يتحدث كريشنامورتي عن معضلة الحياة والموت. وعلى هذا الصعيد، نجد أنفسنا وسط حياة تتَّسع، على نحو وجود لانهائي، إلى ما يتعدَّى ظاهرتَي الحياة والموت البيولوجيين، كما نفهمهما عادة.

وعلى الرغم من الاعتقاد بوجود تناقُض ظاهري في قضية الموت والحياة، فإن المشكلة التي تثير القلق لدى غالبية الناس تبدو، في نهايتها، مشكلةً زائفةً تنتج عن تماهينا identification مع قيم خاطئة ومع الظرف أو الحالة التي تجعلنا نعتقد بأننا قادرون على التملص من مكائد الديمومة ومن الاستمرارية التي لا تنقطع. وهذا يعني أن الاستمرارية تصير رهينةَ سجن "الأنا" ego التي ترغب في الاستمرار على نحو ما هي عليه. وفي هذا الصدد، يقول هذا الحكيم الكبير:

علينا أن ندرك تفاهة استمرارية الأنا. ألا نعلم أن الرغبة في استمرارية الأنا تنبثق من سيرورة الفكر؟ لذا يتساءل المرء: هل تستمر الأنا بعد الموت؟ ماذا تكون هذه الأنا التي أرغب في استمرار بقائها؟ أليست هي المسرَّات، والملذات، والأحلام، والآمال، وخيبات الأمل، والمباهج، والمزايا، والمعارف المكتسَبة، واستمرارية الاتصال مع الأقارب والأبناء والأصدقاء، وفي اختصار، الاحتفاظ بكلِّ ما كنت عليه والرغبة في امتلاك المزيد من القيم التي ماهيتُ "أنا"ي معها؟ أليس هذا ما أرغب في التأكيد عليه ضمن مفهومي للاستمرارية؟

ويضيف هذا الحكيم إلى عبارته ما يلي:

كيف يمكن لي أن أتماهى مع آرائي التي تصورتها سلفًا وأتَّجه إلى موضوع الموت الذي هو أمر مجهول؟! وعلى الرغم من أنني أتجنب الموت، وفي الوقت ذاته أعتقد بحتمية الضرورة، لكنِّي أُخضِعُه لرغباتي التي أنفعل بها وأتمنَّى أن يكون استمرارًا لمماهاة "أنا"ي مع أفكار خاطئة وزائفة [...]. إني أرغب في صياغة الاستمرارية وفق معايير رغبات الأنا. وهكذا أسعى إلى إخضاع الوجود الكلِّي والاتصالية الكونية للأنا، وأرغب في احتجاز الوجود الكلِّي في زنزانة هذه الأنا. وهذا يعني أنني لا أحيا في الحاضر.

إن الحياة في الحاضر تعني عدم التعلُّق بالماضي وعدم الأمل في المستقبل. وفي هذا المنظور، لا أهرب من الماضي ولا أغض نظري عن المستقبل، وهذا لأن الحياة في الحاضر تشتمل على كلِّية الوعي – الوعي الفردي والوعي الجمعي. وهكذا لا تنفصل الأنا عن الوعي الجمعي. وإذ أعي كلِّية نفسي، أدرك، في الوقت نفسه، فرديَّتي وكونيَّتي. وعندئذٍ يكون الموت والحياة مقولة واحدة.

في هذا المنظور، أفهم المعنى الحقيقي للحكمة القديمة التي تقول: "عليَّ أن أموت لكي أولد من جديد." والحق أن هذه الحكمة لا تتحدث عن موت على المستوى الجسماني، بل تتحدث عن موت على المستوى النفساني. وهذا "الموت النفسي" هو الثمن الذي يجب عليَّ دفعُه لبلوغ مستوى "حقل الوعي الكوني". ويؤدي هذا الموت أيضًا إلى الانعتاق، ليس فقط من سلطان اللاَّوعي الفردي، بل أيضًا، وعلى الأخص، من سلطان "اللاَّوعي الجمعي" collective unconscious ومن "الأنماط البدئية" archetypes التي يحتويها (يونغ).

لئن كان الموت، في نظر الكثيرين، هو الموت الكلِّي، وذلك نظرًا لاختزال كل شيء إلى الجسم، لكنني، مع ذلك، أعتبره مظهرًا جزئيًّا لقضايا كلِّية. وهكذا لا يكون الموت، بمعنى الانحلال، مهمًّا أهميةَ الموت النفسي.

يتمثل الموت النفسي في وجودي وسط الحياة حيًّا، يقظًا، متنبهًا انتباهًا كاملاً إلى عطالة عاداتي الذهنية القديمة. وهذا يعني أن الموت النفسي هو عملية الانعتاق من مجموعة الإشراطات النفسية التي كبَّلتْني في الماضي، وذلك لأكون قادرًا على الحياة في الحاضر حضورًا كاملاً في خلقٍ جديد أو شخصية متكاملة ومتوازنة.

رابعًا: فيما يتعدَّى الموت والحياة

في النطاق الذي يمثل الزمن والمكان، وفي القلب من الزمن والمكان، يكمن اللاَّزمني، – الأبدي، الذي يشمل الزمن والمكان، – اللاَّزمني الذي يتجاوز الثبات. ففيما يتعدَّى الأبعاد الأربعة المألوفة، وفي القلب من الأبعاد المألوفة، يوجد ما يقع فيما يتعدَّى الأبعاد جميعًا، ما يحيط بها ويشرف عليها.

فيما يتعدَّى الحياة والموت (الفيزيائي والبيولوجي والنفسي)، توجد حقيقةٌ تتجاوز جميع المقولات وتتسامى على كلِّ تحديد أو تعيين. ولما كانت هذه الحقيقة تتجاوز الوصف والتعيين فإننا ندعوها، بلسان الفيزيائي ديڤيد بوهم، "لاحقيقة"؛ أي أنها ليست عدمًا بمعنى "اللاَّشيء". وعلى الرغم من اعترافي بعدم قدرة الإنسان على تحديدها وتعيين ما هي، لكنِّي أستطيع أن أتحدث بما ليست:

-       ليست المادة كما أراها.

-       ليست الماهية المادية أو النفسية أو الروحية، كما يحاول الكثيرون تحديدها، بل...

-       هي ما يشتمل على المادة والروح والماهية، على المستويات كلِّها، يحيط بها ويشرف عليها.

-       ليست "الروح" كما تحدثت عنها الشرائعُ الدينية، بل...

-       هي حضور مبدع إبداعًا لانهائيًّا، يكمن في القلب من الكائنات والأشياء؛ وباستطاعة كلِّ إنسان أن يكتشف، في ذاته وبذاته، هذا الحضور الداخلي الذي يحيا في الثنايا الأعمق للوعي.

-       هي حقيقة غير مرئية، صامتة، حيادية، ولااسمية، هي مصدر التجدد الذي يتجاوز كلَّ ما هو معروف، كلَّ ما هو اعتيادي، وكلَّ ما يخضع للتكرار.

-       إنها تحيط بالسيرورات الميكانيكية والعادات، على المستويات كلِّها، وتُشرف عليها.

-       فيما يتعدَّى الكائنات والأشياء المنفصلة ظاهريًّا والسكونية، يكمن التوهج اللاَّنهائي لإبداع خارق غير مألوف.

منذ فجر التاريخ، حدس الإنسانُ الثنائيةَ الأصليةَ للكون – ثنائيةً دعاها حكماءُ الصين الـ"يِنْ" yin والـ"يَنْغ" yang، ثنائية توجد في دائرة الـ"طي جي" الواحدة. وقد تمثَّلت هذه الثنائية عند الهنود في رمزية "شيڤا الراقص" التي تشير إلى الانتصار الأبدي لدينامية الحياة على سكونية الشكل. لقد أدرك حكماءُ الصين عدم دوام الشكل وعدم ثباته؛ لكنهم، مع ذلك، لم يعتبروا الشكل "وهمًا": ففي رأيهم، لا يكمن معنى الحياة في إنكار الشكل أو نفيه، أو في عدم الاعتراف بتفردات العالم الخارجي، بل، على غير ذلك، يرون الشكل في الوجود–الحاضر، أي في الوجود الماثل في الحاضر، ويؤكدون الواقع الذي يشير إلى التغيُّر الذي يحدث للأشياء والكائنات لحظة بلحظة.

وهكذا أعلم أننا، وجميعَ الأشياء والكائنات، نتغيَّر كلَّ لحظة. ومن الأهمية بمكان أن نعلم أن الذهن يجب ألاَّ يَثبُت على لحظة من لحظات التغيُّر لكي لا يصير أسير الاعتقاد بصلابة الشكل ودوامه.

نحن كائنات نحيا عملية الخلق الدائم مادمنا نموت نفسيًّا – وأعني: مادام الكيان أو الجوهر الكامن فينا – وهو "الإنسان القديم"، أي "الأنا" – يتحرر من قيمه الزائفة، من تحديداته، من أنانيته، من تماهيه مع الأشياء والآراء الخاطئة، من عاداته، من عطالته، ومن تعلُّقاته ورغباته.

هكذا تكون الحياة التي تشمل ثنائية الموت والحياة. ولا تتحقق هذه الحياة – التي هي نحن ونحن هي – إلاَّ بالوعي والمحبة والحرية التي تعني الانعتاق الدائم.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود