لنكن ديموقراطيين فيما يخصُّ مسألة... الديموقراطية[1]

عبد العزيز سعيد[2]

 

للولايات المتحدة الأمريكية دورٌ مساندٌ حيوي تلعبُه في دراما التحول الديموقراطي في الشرق الأوسط عِبْرَ ما طرحتْه من أفكار ومبادرات للإصلاح في "الشرق الأوسط الكبير". وحتى يتسنَّى لها أن تلعب هذا الدور جيدًا، يجب على صُنَّاع السياسة الأمريكيين أن يتجنَّبوا إغراءات التصرف كمخرجين أو منتجين للأعمال الدرامية. فإذا اختار الأمريكيون دور المساند، لأمكن لهم مساعدةُ الممثلين الإقليميين في الوصول إلى مستويات جديدة من الأداء الفنِّي؛ أما إذا اختار الأمريكيون دور المنتج أو المخرج، فسوف يواجهون مقاومةً من اتحاد الممثلين. وفي أفضل الحالات، فإن جهودهم في التخطيط لعملية التغيير وفي تنسيقها سوف تواجه الاتهام بـ"الأبوية"، بل أسوأ من ذلك، الاتهام بالاستعمار الجديد.

وحتى يمكن لأمريكا أن تلعب دور المساند بمهارة، تحتاج إلى نموذج مختلف من العمل في الشرق الأوسط، يعتمد اعتمادًا إجماليًّا على مبادئ إرشادية جديدة تتضمن نظرية للديموقراطية أكثر ديموقراطية، تأخذ في حسبانها المنطلقات الثقافية للسياسات المتحولة. فالديموقراطية ليست بضاعة غربية، بل سيرورة عالمية لتنظيم الاحتياجات السياسية على أساس من المساواة، لا بدَّ لجذورها من أن تمتدَّ إلى عمق أحلام الأغلبية الساحقة من أفراد الأمَّة وآمالها حتى يتسنَّى لها أن تزدهر. ونحن ننزع أحيانًا إلى دمج الصورة المتحررة للديموقراطية الأمريكية في مضمون الديموقراطية الذي يكمن في مجتمع إنساني له إحساس بأهداف مشتركة، وبالانتماء إلى المجتمع، وآليات للمشاركة في صنع القرار، وأنظمة تسمح بالاختلاف في الرأي وتحمي ممارسيها. أما شكل الديموقراطية، من ناحية أخرى، فيُعتبَر دائمًا جزءًا من القالب الثقافي للأمَّة. وتعريف الديموقراطية دائمًا أكثر مرونة عند ممارستها، لأن ممارستها أكثر ديناميَّة من وصفها وتعريفها الرسميين.

ليس هناك عدم توافُق حقيقي بين الإسلام والديموقراطية. فغياب الديموقراطية في الشرق الأوسط يعود، في الغالب، إلى غياب الإعداد لها أكثر مما يعود إلى غياب الأُسُس الدينية والثقافية. فبالإضافة إلى وظائفه الاجتماعية، يلعب الإسلامُ دورًا عمليًّا في السياسة: فهو يوفِّر مرجعيةً إلى نظام متعالٍ يمكن محاسبة الحكام على أساسه، ويمكن فيه للمظلومين الدفاع عن حقوقهم بالاحتكام إلى المعايير الدينية؛ كما يوفِّر خطابًا لمقاومة الفساد والاضطهاد وخطابًا لتعزيز الأمل بالمستقبل الثقافي.

ومن دواعي الفشل الذاتي، بالأخص، عدم الأخذ بالحسبان الحالات التي كان فيها الإسلاميون المتطرفون على استعداد للمشاركة في العمل السياسي الديموقراطي، بحيث تمَّ الإصرار على استبعادهم. فالقضية المركزية التي أثارتْها الحركاتُ المتطرفة – وهي فشل عملية التنمية في المنطقة – مسألة مشروعة. وبكبت الأصوات المتطرفة، تساهم النُّخَب الحالية في حشر هذه القوى في قنوات ضيقة تتصف بالعنف. بدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تشجِّع حكوماتِ الشرق الأوسط على إيجاد بيئة مناسبة لعقد حوار مع المتطرفين والتعامل مع ما يُقلِقُهم ومع مظالمهم الرئيسة. فما نحتاج إليه هو بديل عربي لا يشكل حلاًّ وسطًا سطحيًّا أو ردة فعل تعكس انفصامًا في الشخصية، بل استجابةٌ ترتكز على القيم الإسلامية التي تعكس التطور التاريخي للإسلام وتستجيب، في الآن نفسه، لتحديات الحياة المعاصرة.

لقد ظهرت الديموقراطيات الغربية بعد سنوات من الاستعمار والقلق الوجودي والنزاع حول نُظُم إيمانها، وبعد دروس صعبة وإنجازات في مجالات التعايش السياسي. وليس على المسلمين أن يتوصلوا إلى النتائج نفسها التي تبنَّاها المسيحيون في ما يتعلق بإيمانهم؛ وهم ليسوا مجبَرين على ذلك إذا ما أرادوا تطوير استجابة إسلامية أصيلة للتمكين السياسي. فهناك حاجة ماسَّة في العالم الإسلامي والعربي إلى عمل مخطَّط له مسبقًا لدمج الفرد والمواطن والمسلم. ولئن عُرِفَت المسيحيةُ بربطها المُحكَم بين السلوك الشخصي والمواطَنة والقيم الاجتماعية، فالمسلمون اليوم على عتبة اكتشاف معنى المواطَنة الإسلامية وما يترتب عليها من التزامات.

وتستطيع الولايات المتحدة أن تيسِّر عملية نشر الديموقراطية برعايتها الحوارات التي تساهم في إيجاد فهم متجدِّد لقيمة الفرد في المجتمع وبالمشاركة فيها. فبدلاً من الخطابات الفردية الطويلة، يمكن لها أن تبدأ بطرح أسئلة رئيسية تمكِّن الشرق أوسطيين من تحديد احتياجاتهم ومن تحديد تفاصيل الجواب عن السؤال: كيف ستبدو الديموقراطية بالنسبة لنا (الشكل والمضمون)؟ وسيلعب التعليم ووسائط الإعلام دورًا رئيسيًّا في عملية التحول؛ فكلاهما ضروري لتطوير الديموقراطية من الداخل. كما يجب على المسلمين أن يسألوا أنفسهم: ما شكل المواطَنة التي يمكن لمجتمعاتهم أن تتبنَّاها وتنطلق من المفاهيم والقيم الإسلامية؟ ما هي أشكال الحلول التي يمكن للإسلام أن يأتي بها ليطبِّق آليةً للمشاركة في اتخاذ القرار حين غياب مرجع متَّفق عليه للقضايا الاجتماعية؟ ما هي القيم والآليات الاجتماعية التي يمكن تطبيقها لتحسين الأوضاع الاقتصادية السيئة للحياة المعاصرة والمدنية؟

فالمؤسسات الاجتماعية الإسلامية أكثر دينامية وتنوعًا مما هو شائع، وهي توفِّر الأساس لمشاركة حقيقية على المستوى الاجتماعي والسياسي. فالقائد المسلم التقليدي (الأمير أو الشيخ أو السلطان) لم يكن دكتاتورًا، إذ كان يتخذ قراراته من خلال آلية الشورى والاجتماعات غير الرسمية (المجالس) والمنابر واللقاءات المفتوحة المنتظمة لسماع شكاوى ضحايا الظلم (المظلومين)؛ وكانت المؤسَّسة القيادية تعمل عملاً جيدًا وسديدًا عبر الحوار المستمر الذي يضمن التوازن في العلاقات.

وعلى المجتمع الإسلامي نفسه أن يكتشف كيف يمكن له تطبيق هذا التكامل على الحياة الحديثة، وأن يكتشف، عبر تلك العملية، أساليب لتطبيق القواعد السلوكية الإسلامية على أوضاع اجتماعية متغيِّرة. وللمسلمين حقُّ المشاركة في تحديد ملامح مجتمعهم واتجاهاته، بينما يحددون قيمهم وشروطهم في سياق إسلامي ثابت. فالديموقراطية لا تُبنى على تشكيلة محددة من المؤسَّسات الانتخابية، بل على مشاركة حقيقية أصيلة. وهناك، في هذا المجال، مبادئ وقواعد سلوكية إسلامية، كما في الديانات الأخرى، تنضوي تحتها المحافظةُ على المجتمع وتنميتُه وآلياتُ العدالة الاجتماعية والشورى.

والتحدي أمام المسلمين اليوم يكمن في توسيع مدى أفكار الإسلام الأصلية، والاستعداد لإظهار الرغبة في التعرف إلى خبرة الغرب التاريخية وإنجازاته. فأين "لورنس العرب" المسلم الذي يسعى لاكتشاف النظرة الفلسفية الكونية للمسيحية الغربية ولفهمها؟ ولماذا هناك هذا القدر الضئيل من الأبحاث التي يجريها المثقفون المسلمون عن وجهة النظر المسيحية في التجربة الغربية، مثلاً، أو عن المنشورات البابوية العامة للكنيسة الكاثوليكية، أو عن النضال المسيحي لإيجاد معنى ديني للسياسة؟ فقد نكتسب من المحاكمات السياسية التاريخية المسيحية الكثيرَ من التبصُّر للمسلمين اليوم، حيث برزت في فترة من الظلم والاضطهاد وفي ظل الاحتلال.

ولا يمكن إرساء الديموقراطية باللجوء إلى الانقلابات العسكرية، تمامًا مثلما لا يمكن إرساؤها من طريق "ثورة بيضاء" (البرنامج الإصلاحي لشاه إيران، محمد رضا بهلوي، في العام 1963). السلوك الديموقراطي سلوك مكتسَب بالتعلُّم، ولا يمكن تعلُّم الديموقراطية إلا بالممارسة. وإذا كان من الممكن فرضُ الأنظمة القمعية عن طريق العنف والدمار، فإن الديموقراطية لا يمكن زرعُها زرعًا ناجحًا من الخارج، وقطعًا ليس باللجوء إلى وسائل التدمير والعنف. فهي عملية داخلية وطنية تضرب بجذورها في المشاركة النشطة لطيف واسع من المواطنين في العملية السياسية.

لقد تعرَّضت الولايات المتحدة، في الماضي، إلى بدايات خاطئة في بناء الديموقراطيات، بدءًا من الرئيس ويلسون ومثاليته. وقد برهن مَن تلاه من الرؤساء عن جبن وغياب للبصيرة، فغاب عنهم الحسُّ الإستراتيجي، واعتُبِرَتْ جهودُهم رجعية، مؤيدةً للوضع القائم، ومرتكزةً على شخصياتهم، ونخبوية: بناء شبكة عالمية من النُّخَب الغنية صاحبة السلطة تعتمد على الأمريكيين الأغنياء ذوي السلطان. وقد استمرَّ ذلك إبان الحرب الباردة، حيث عمل الرؤساء الأمريكيون وفقًا لعقلية استعمارية مفروضة مسبقًا برَّرت وجود الأنظمة السلطوية الصديقة بذريعة أن هذه المجتمعات غير الغربية "ليست مستعدة بعد" للديموقراطية!

واليوم، تواجه الولايات المتحدة مهمَّة حساسة: هناك حاجة إلى بداية جديدة في العالم العربي. وهناك فرصة للولايات المتحدة لتنخرط في حوار حقيقي وواقعي مع شعب مصدوم من جراء سنوات القمع السياسي الوحشي. وإذا كان يمكن للحوار حول الديموقراطية أن يبدأ من موقع يتعدى النُّخَب السياسية، فإننا سنشهد، إلى جانب التحول في العلاقات التاريخية والتفاهمات، ظهورَ قيادة حقيقية تزدهر من خلال نجاح الآخرين وازدهارهم. ولسوف تكون عملاً جميلاً تلعب شعوبُ الشرق الأوسط فيه دورَ البطولة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن مبادرات الإصلاح تُنشَر بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.

[2] أستاذ في الجامعة الأمريكية في واشنطن العاصمة ومدير "مركز السلام العالمي" التابع لها.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود