الصفحة التالية الصفحة السابقة

فـي الصَّـلاة[*]

 

ميـخـائيـل نـعيـمه

 

مرداد: عبثًا تُصلُّون مادمتم تتوجَّهون بصلواتكم إلى آلهةٍ غير أنفسكم.

ففيكم القوَّةُ الجاذبة، وفيكم القوَّةُ الدافعة. مثلما فيكم كلُّ ما تبتغون جَذْبَه إليكم، وكلُّ ما تبتغون دَفْعَه عنكم. فما كانت لكم القدرةُ على اقتبال شيءٍ إلاَّ كانت لكم القدرةُ على مَنْحِه.

حيثما الجوعُ هنالك الغذاء. وحيثما الغذاءُ هنالك الجوعُ حتمًا. فالمقدرةُ على تحمُّل آلام الجوع كفيلةٌ بوجود نعمة التَّمتُّع ببركات الشبع.

أجل، إنَّ في الحاجة ذاتها لَمؤونةً للحاجة. أليس المفتاحُ وثيقةً بوجود القفل؟ ومن ثَمَّ أليس القفلُ والمفتاحُ وثيقةً بوجود الباب؟

لا تسرعوا إلى الحدَّاد وتضايقوه بشكاويكم كلَّما أضعتم مفتاحًا أو نسيتم أين وضعتموه. فالحدَّاد قد أتمَّ عملَه – وأتمَّه على أدقِّ صورة وأكمل وجه. فلا يَجمُل بكم أن تسألوه أن يعمل عملَه ثانيةً وثالثة. اعملوا أنتم عملَكم، ودعوا الحدَّادَ وشأنَه. فهو، وقد قام بما عليه نحوكم، يهتمُّ لشُغْلٍ غير شغلكم. نظِّفوا ذاكرتَكم ممَّا تلبَّد فيها من الأقذار والرَّوائح الكَرِهَة، تجدوا بلا شكٍّ المفتاحَ الذي أضعتموه.

عندما نَطَقَ بكم الله الذي لا يُنطَق به، عندئذٍ نَطَقَ بذاته كاملة، صافية. فكنتم أنتم كذلك من الجلال والقدرة حيث لا يُنطَق بكم.

إنَّ الله ما أودعَكم بعضًا من ذاته. فهو لا يتجزَّأ. بل أودعَكم ألوهته بكاملها، غير مجزَّأة وغير منقادة إلى وصف أو تحديد. فأيَّ ميراث عساكم تبتغون أعظم من ذلك الميراث؟ ومَن أو ماذا في استطاعته أن يصدَّكم عن التمتُّع بميراثكم إلا جبنكم وعماكم؟

لكنَّ بعض الناس، – ويا لهم من جاحدي الجميل! – بدلاً من أن يفتِّشوا عن ميراثهم والطريق المؤدِّية إليه، يؤْثِرون أن يجعلوا من الله شبه بؤرة يحملون إليها أوجاعَ أضراسهم وبطونهم، وخسارتَهم في متاجرهم، وخصوماتِهم مع الناس، وثؤورهم، ولياليهم الساهدةَ في أسرَّة الأرق.

بينا لا يأنف بعضُهم الآخر من أن يجعل من الله خزانةً خاصَّة يأمل أن يتناول منها، ساعة يشاء، من زخارف العالم وزركشاته.

وهناك قومٌ لا يتورَّعون عن استخدام الله ماسكًا لدفاترهم الخاصَّة. فهم يتوقَّعون منه لا أن يضبط ما لهم وما عليهم فحسب، بل أن يكون جابيًا لديونهم، وأن يكفل لهم رصيدًا كبيرًا عند تصفية الحساب.

أجل، كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ هي الواجبات التي يلقيها الناسُ على عاتق الله. وقليلٌ منهم مَن فكَّر يومًا أنَّه لو كانت واجباتُ الله كثيرةً حقًّا لكان الله قادرًا أن يقوم بها وحده، ومن تلقاء ذاته، من غير أن يحثَّه عليها أحدٌ أو يذكِّره بها إنسان.

أتذكِّرون الله بالشمس متى يُطلِعُها وبالقمر متى يغيِّبه؟ أم تذكِّرونه بحبَّة القمح متى ينهض بها إلى الحياة في هذا الحقل أو ذاك؟ أم تذكِّرونه بهاتِه العنكبوت تنسج ملجأها العجيب؟ أم بالفراخ في عشِّ تلك القبَّرة المرفرفة هنالك؟ أم بأيٍّ من الأشياء المالئة المسكونةَ والتي لا يحصيها عدد؟

إذن ما بالكم تُلحُّون على ذاكرته بكلِّ ما عندكم من أغراض طفيفة وشهوات تافهة؟ ألعلَّكم أقلُّ حظوةً في عينيه من العناكب والعصافير وحبَّات القمح؟ فعلامَ لا تقتبلون، مثلَها، ما أُعطِيَ لكم، وتنصرفون كلٌّ إلى عمله من غير ضجَّة، ولا حَنْيِ رُكَب، ولا مدِّ أذرُع، ومن غير أن تلوصوا بلهفة من خلال ستائر الغد؟

وأين هو الله حتَّى تصرخوا في أُذنِه مختلفَ أهوائكم وأباطيلكم، وتسابيحكم وشكاويكم؟ أليس الله فيكم وحواليكم؟ أليست أُذنُه أقربَ إلى فمكم من لسانكم إلى حلقكم؟

يكفي الله ألوهته التي أنتم نواة منها.

إذا كان من واجب الله، وقد أعطاكم نواةَ ألوهته، أن يتعهَّد النواةَ بدلاً منكم، فأيُّ الفضل فضلُكم؟ وما هو العمل الذي أُعطِيتُم الحياةَ من أجله؟ وإذا كان على الله أن يعمل عملَكم، فما معنى حياتكم إذن وما قيمتها؟ بل ما نفعكم من كلِّ ما تُصلُّون؟

لا تحملوا إلى الله مشاكلَكم ومتاعبَكم التي لا تُعَدُّ. ولا تتضرَّعوا إليه أن يفتح لكم الأبوابَ من بعد أن أعطاكم مفاتيحَها. ولكن فتِّشوا رحابَ قلوبكم. ففي رحاب القلب مفتاحٌ لكلِّ باب. وفي رحاب القلب كلُّ ما أنتم جياعٌ وعِطاش إليه، إنْ مِنْ خيرٍ وإنْ مِنْ شرٍّ.

إنَّ تحت إمرتكم لجيشًا جرارًا مغوارًا ومرهونًا بتنفيذ أقلِّ أمْرٍ يصدر منكم. وهذا الجيش، إذا ما اكتملتْ عُدَّتُه، وتمَّ تدريبُه بحنكة وحكمة، ثمَّ أوتي قيادةً لا تعرف الوَجَل، كان في مستطاعه أن يقتحم الآباد وأن يجرف كلَّ عقبة في سبيله إلى غايته. لكنَّه إذا ما كان فقيرَ العُدَّة، ناقصَ التدريب، وكانت قيادتُه في يَدٍ يشلُّها الخوفُ والتردُّد، راح يدور على ذاته أو ينهزم لدى أقلِّ صدمة أو عقبة، جارًّا خلفه ذيول الاندحار الأسود.

أمَّا ذَلِكُم الجيش الجرَّار، أيُّها الرهبان، فما هو إلا تلكم القطرات الحُمْر التي تجري الآن صامتةً في عروقكم – وكلُّ واحدة منها معجزةٌ من القوَّة، وسِجِلٌّ كاملٌ صادقٌ لحياتكم، حتَّى أدقِّ أوصافها وحوادثها.

في القلب يجتمع هذا الجيش، ومن القلب تدرُج فصائلُه. لذلك كان للقلب مقامُه المرموقُ وشهرتُه الواسعة. فمنه تنفجر دموعُكم وأفراحُكم، وإليه تنساب مخاوفُكم من الموت والحياة.

أمَّا عُدَّة ذلك الجيش فأهواؤكم ورغباتُكم. وأمَّا المدرِّب ففكرُكم. وأمَّا القائد فإرادتُكم.

فإذا ما وُفِّقتُم إلى تجهيز جيشكم برغبةٍ تُسَلطِنُ على كلِّ رغباتكم، وإلى تدريبه بفكرٍ يسيطر على كلِّ أفكاركم، وإلى قيادته بإرادةٍ تهيمن على كلِّ إرادة لكم، كان وصولُكم إلى ما ترغبون أكيدًا وسريعًا.

كيف يبلغ رجلٌ صالحٌ صلاحَه إلاَّ بتطهيره مجاريَ دَمِهِ من كلِّ شهوة وفكرة تُناقِضان الصلاح، ومن ثَمَّ بتوجيه دَمِه، بإرادةٍ صلبة، إلى غاية لا تقبل الشِّرك – غايةِ الوصول إلى الصلاح؟

أقول لكم إنَّ كلَّ رغبة صالحة، وكلَّ فكرة صالحة، وكلَّ إرادة صالحة، من آدم حتَّى اليوم، تُهرَع لتساعد الإنسانَ المنكبَّ على الوصول إلى الصلاح. فمنذ تأسيس العالم، والمياهُ، أينما كانت، تفتِّش عن البحر، وأشعَّةُ النور تسعى للالتحاق بالشمس.

أم كيف يُفلِح قاتلٌ في تنفيذ جريمته إلا بتوليده عطشًا جنونيًّا في دَمِهِ إلى القتل، ثُمَّ بِجَلْدِه كريَّاتِ دَمِهِ وتنظيمها في صفوف متراصَّة بسوط فكرةٍ سَلْطَنَ عليها القتل، ثم بحَمْلِه تلك الصفوف، بإرادةٍ لا تنثني، على توجيه الطعنة القاضية؟

أقول لكم إنَّ كلَّ قاتل، من قايين حتَّى اليوم، يهرول من تلقاء نفسه ليعضد ساعِدَ الرجل السكران بشهوة القتل. فمنذ كان العالم، والغربانُ تأنس بالغربان، والضباعُ بالضباع.

فالصلاة، إذن، هي تسليطُكم على الدَّم شهوةً رئيسيَّة واحدة، وفكرةً رئيسيَّة واحدة، وإرادةً رئيسيَّة واحدة. هي أن تُدَوْزِنوا النَّفْسَ لتأتلف أتمَّ الائتلاف مع ما تُصلُّون من أجله.

واعلموا أنَّ جوَّ هذه السيَّارة التي أنتم عليها ينعكس بكلِّ ما فيه على صفائح قلوبكم؛ وأنَّه يموج بذكريات كلِّ ما شَهِدَه منذ تكوينه. فما مِن كلمة أو عمل، ولا ما مِن رغبة أو تنهُّدة، ولا مِن فكرة تائهة أو حلم عابر، ولا مِن نَفَسِ إنسانٍ أو حيوان؛ ما مِن ظلٍّ ولا مِن وَهْمٍ إلا تمخر كلُّها عبابَ هذا الجوِّ، وستظلُّ تمخره إلى آخر الدهر. فدَوْزِنوا قلوبَكم لأيٍّ منها، تأتِكم سراعًا لتنقر على الأوتار.

إنَّكم لفي غنًى عن شَفَةٍ أو لسانٍ للصَّلاة. ولكنَّكم في حاجة إلى قلب صامت مستيقظ، وإلى رغبة متسلطنة، وفكرة متسلطنة، والأهم من ذلك كلِّه، إلى إرادة متسلطنة لا تعرف الشكَّ ولا التردُّد. فلا نفع لكم من الكلام ما لم يكن القلبُ مستيقظًا وحاضرًا في كلِّ مقطع من كلِّ كلمة. ومتى استيقظ القلبُ وحَضَر، كان من الأفضل للِّسان أن ينام أو أن يختبئ وراء شفاهٍ مختومة.

لا، ولستم في حاجة إلى هياكل تُصلُّون فيها. فمَنْ لم يجدْ هيكلاً في قلبه لن يجدَ قلبَه في أيِّ هيكل.

لكنِّي أقول هذا لكم، ولِمَن كان مثلكم، ولا أقوله لكلِّ الناس. إذ إنَّ أكثر الناس ما يزالون قاصرين. فلا يستطيعون أن يُصلُّوا إلا بالكلام، ولا يجدون كلامًا للصلاة إلا ما يضعُه الغيرُ في أفواههم. وهُم إذا ما حاولوا أن يجوبوا في رحاب قلوبهم تاهوا واستولى عليهم الرعب. أمَّا بين جدران المعابد، أو بين قطعانٍ من جنسهم، فيُسرَّى عنهم ويستأنسون. دعوهم يشيِّدون معابدَهم. دعوهم يرنِّمون صلواتِهم.

لكنَّني أدعوكم، وأدعو كلَّ إنسان، إلى الصلاة من أجل الفهم. فمَن جاع لغير ذلك لم يشبع إلى الأبد.

اذكروا أنَّ مفتاح الحياة هو الكلمة المبدعة. وأنَّ مفتاح الكلمة المبدعة هو المحبَّة. وأنَّ مفتاح المحبَّة هو الفهم. املئوا قلوبَكم من هذه، وأريحوا ألسنتَكم من تعب الكلام الكثير، وانزعوا عن أفكاركم أعباءَ كثرة الصلوات، واعتقوا قلوبَكم من العبوديَّة لكلِّ الأرباب الذين دأبهم استعبادكم بِهِبَة؛ والذين يلاطفونكم بيد ليصفعوكم بالأخرى؛ والذين يَسرُّهم التسبيحُ والتمجيدُ ويُغيظهم اللومُ والتثريب؛ والذين لا يسمعونكم إلا إذا ناديتموهم، ولا يعطونكم إلا إذا استعطيتموهم، والذين بخورُهم دموعُكم، وعزُّهم هوانُكم.

أجل، اعتقوا قلوبَكم من كلِّ هؤلاء الأرباب كيما تجدوا فيها الربَّ الأوحد الذي إذا ملأكم مرَّة بذاته بقيتُم ملآنين إلى الأبد.

بِنُّون: تارةً تكلِّمنا عن الإنسان كما لو كان قديرًا على كلِّ شيء. وطورًا تصوِّره قاصرًا، عاجزًا عن أقلِّ شيء. وهكذا تُوقِعُنا في حيرة وتتركنا وكأنَّنا في ضباب.

* * *

اختيار وتنضيد: نزار شديد


 

horizontal rule

[*] كتاب مرداد – منارة وميناء، وضعه بالإنكليزية ونقله إلى العربية ميخائيل نعيمه، نوفل، بيروت، طب 9: 2001؛ الفصل الثالث عشر، ص 124-131.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود