وقفة حقٍّ:
كلمة إيمان ورجاء ومحبَّة من قلب المعاناة الفلسطينية

مقدمة

نحن، مجموعة من الفلسطينيين المسيحيين، بعد الصلاة والتفكير وتبادل الرأي في المعاناة التي نعيشها على أرضنا، تحت الاحتلال الإسرائيلي، نطلق اليوم صرختنا، صرخة أمل في غياب كلِّ أمل، مقرونةً بصلاتنا وإيماننا بالله الساهر بعنايته الإلهية على جميع سكان هذه الأرض. وإننا إذ نستلهم سرَّ حبِّ الله للجميع وسرَّ حضوره الإلهي في تاريخ الشعوب وفي تاريخ أرضنا بصورة خاصة، نقول اليوم كلمتنا انطلاقًا من إيماننا المسيحي وانتمائنا الفلسطيني، وهي كلمة إيمان ورجاء ومحبَّة.

ولماذا اليوم؟ لأننا اليوم وصلنا بمأساة شعبنا الفلسطيني إلى طريق مسدود، بينما يكتفي أصحاب القرار بإدارة الأزمة بدل العمل الجدي في سبيل حلِّها. وهذا ما يملأ قلوب المؤمنين بالأسى وبالتساؤلات: ماذا تصنع الأسرة الدولية؟ وماذا تصنع القيادات السياسية في فلسطين وإسرائيل والعالم العربي؟ وماذا تصنع الكنيسة؟ لأن القضية ليست قضية سياسية وحسب، بل هي سياسة يُدمَّر فيها الإنسان، وهذا أمرٌ يهمُّ الكنيسة.

إننا نخاطب إخوتنا أبناء كنائسنا في هذه الأرض، ونوجِّه نداءنا هذا، كفلسطينيين وكمسيحيين، إلى قادتنا الدينيين والسياسيين، وإلى مجتمعنا الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي، وإلى الأسرة الدولية، وإلى إخوتنا وأخواتنا في كنائس العالم.

1.    الواقع

1. 1: "يَقُولُونَ سَلامٌ سَلامٌ وَلا سَلام" (إرميا 6: 14). الكل يتكلم اليوم على السلام ومسيرة السلام في الشرق الأوسط. وما زال ذلك كله حتى الآن كلامًا فقط، بينما الواقع على الأرض هو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وحرماننا حريتنا وكل ما ينتج عن ذلك من عواقب:

1. 1. 1: هو الجدار الفاصل الذي أُقيم على الأراضي الفلسطينية والذي صادر قسمًا كبيرًا منها، وقد حوَّل مدننا وقرانا إلى سجون، وفصل بينها فجعلها كانتونات وأشلاء متناثرة. وغزَّة، بعد الحرب الوحشيّة التي شنَّتها إسرائيل عليها في شهر كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009، ما زالت تعيش في أوضاع لاإنسانيّة تحت حصار مستمر، وهي وأهلها منفصلون جغرافيًا عن سائر الأراضي الفلسطينية.

1. 1. 2: الواقع هو أن المستوطنات الإسرائيليّة تنهب أرضنا باسم الله وباسم القوة، وتسيطر على مواردنا الطبيعية لاسيما المياه والأراضي الزراعيّة حارمةً مئات الآلاف من الفلسطينيين منها. وغدت اليوم عائقًا دون أي حلٍّ سياسي.

1. 1. 3: وهي المذلَّة التي ما زلنا مُخضَعين لها عند الحواجز العسكرية في حياتنا اليومية، عند توجُّهِنا إلى أعمالنا أو مدارسنا أو مستشفياتنا.

1. 1. 4: وهو الفصل بين أفراد العائلة الواحدة الذي يجعل حياة الأسرة نفسها أمرًا مستحيلاً للآلاف من الفلسطينيين، ولاسيما في العائلات التي لا يحمل فيها أحد الزوجين هوية إسرائيلية.

1. 1. 5: والحرية الدينية نفسها أصبحت محدَّدة، حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، بادعاء الأمن. فمقدَّساتُ القدس محرَّمة على العديد من المسيحيين والمسلمين من الضفة وغزة والقطاع، وحتى على المقدسيين أنفسهم في الأعياد. كما أن البعض من كهنتنا العرب يعانون من منعهم من دخول القدس بصورة عادية.

1. 1. 6: واللاجئون جزء من واقعنا. وأغلبهم ما زال يعيش في المخيَّمات في ظروف صعبة لا تليق بالإنسان. هؤلاء، أصحاب حقِّ العودة، لا يزالون ينتظِرون عودتم جيلاً بعد جيل، ماذا سيكون مصيرهم؟

1. 1. 7: والأسرى، ألوف الأسرى، في السجون الإسرائيلية، هم أيضًا جزء من واقعنا. الإسرائيليون يحرِّكون العالم لتحرير أسير واحد، وهؤلاء الآلاف من الأسرى الفلسطينيين القابعين في السجون الإسرائيلية متى يحرَّرون؟

1. 1. 8: والقدس قلب واقعنا، وهي في الوقت نفسه رمز سلام وعلامة خصومة. بعد أن فصل الجدار العازل بين أحيائها الفلسطينية، ما زالت مستمرة عمليةُ تفريغها من سكانها الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين. يُجرَّدون من هوياتهم أي من حقِّهم في البقاء في القدس، وتُهدَم بيوتهم أو تُصادَر. القدس مدينة المصالحة أصبحت مدينة التفرقة والإقصاء ومن ثم سببًا للاقتتال بدل السلام.

1. 2: وجزء من هذا الواقع أيضًا هو الاستخفاف الإسرائيلي بالشرعيّة الدولية وقراراتها، والعجز العربي وعجز الأسرة الدولية أمام هذا الاستخفاف. وحقوق الإنسان ممتهَنة، وبالرغم من التقارير المختلفة للجمعيات المحلية والعالمية لحقوق الإنسان، فإن الظلم ما زال مستمرًا.

1. 2. 1: والفلسطينيون في دولة إسرائيل، وإن كانوا مواطنين ولهم حقوق المواطنة وواجباتها، فقد عانوا هم أيضًا من ظلم تاريخي وما زالوا يعانون اليوم من سياسات التمييز. هم أيضًا ينتظرون أن ينالوا حقوقهم كاملة وأن يُعامَلوا على قاعدة المساواة مثل كلِّ مواطن في الدولة.

1. 3: والهجرة هي أيضًا من مظاهر واقعنا. فغياب كل رؤية أو بارقة أمل في السلام والحرية دفع بالشباب المسلم والمسيحي على السواء إلى الهجرة، فحُرِمَت الأرض من أهمِّ مواردها وغناها، أي الشباب المثقَّف. وتناقصُ عدد المسيحيين، بصورة خاصة في فلسطين، هو من النتائج الخطيرة لهذا الصراع وللعجز والفشل المحلي والدولي في إيجاد حلٍّ للقضيّة برمَّتها.

1. 4: وأمام هذا الواقع، يدَّعي الإسرائيليون تبرير أعمالهم على أنها دفاعٌ عن النفس، بما في ذلك الاحتلال والعقاب الجماعي وكل أنواع التنكيل بالفلسطينيين. وهذه، في نظرنا، رؤية تقلب الواقع رأسًا على عقب. نعم، هناك مقاومة فلسطينية للاحتلال. ولكن لو لم يكن الاحتلال لما كانت هناك مقاومة، ولما كان خوف ولا انعدام أمن. هذا ما نراه، فندعو الإسرائيليين إلى إنهاء الاحتلال، فيرون عالمًا جديدًا لا خوف فيه ولا تهديد، بل أمن وعدل وسلام.

1. 5: كان الردُّ الفلسطيني على هذا الواقع متنوِّعًا. ردَّ البعض بطرق المفاوضات، وهذا كان موقف السلطة الفلسطينية الرسمية، ومع ذلك لم تحصل على أيِّ تقدُّم في مسيرة السلام. وكان ردُّ بعض الأحزاب السياسية باللجوء إلى المقاومة المسلَّحة. وتذرَّعت إسرائيل بذلك لتتَّهم الفلسطينيين بالإرهاب. وتمكَّنت بذلك من طمس المعنى الحقيقي للصراع إذ باتت القضية تُصوّر على أنها قضية حرب إسرائيلية على الإرهاب، لا قضية احتلال إسرائيلي ومقاومة فلسطينية مشروعة لوضع حدٍّ له.

1. 5. 1: وازدادت الكارثة بالصراع الداخلي بين الفلسطينيين أنفسهم وبانفصال غزة عن الأراضي الفلسطينية. وهنا لا بد من القول إنه ولَئِن كان هذا الانقسام بين الفلسطينيين أنفسهم، إلا أن الأسرة الدولية كانت سببًا رئيسًا فيه لرفضها التعامل على نحو إيجابي مع إرادة الشعب الفلسطيني التي عبَّر عنها بالطرق الديموقراطية الشرعية في انتخابات عام 2006.

ومرة ثانية نكرِّر ونقول إن كلمتنا المسيحية في وسط ذلك كله، في وسط نكبتنا، هي كلمة إيمان ورجاء ومحبة.

2.    كلمة إيمان: نؤمن بالله وهو إله صالح وعادل

2. 1: إننا نؤمن بالله الواحد الأحد، خالق الكون والإنسان. نؤمن به إلهًا صالحًا وعادلاً ومُحِبًا لجميع خلائقه. ونؤمن أن كلَّ إنسان هو خليقة الله، خلقه على صورته ومثاله، وأن كرامته من كرامته تعالى. وهذه الكرامة هي نفسها في كلِّ إنسان. هذا الكلام يعني، لنا نحن هنا، في هذه الأرض بالذات، أن الله خلقنا لا لنتخاصم ونقتتل، بل لنتعارف ونتحابَّ ونبنيها معًا بمحبَّتنا وبالاحترام المتبادل بعضُنا لبعض.

2. 1. 1: ونؤمن بكلمة الله الأزلي، ابنه الوحيد سيدنا يسوع السيح، الذي أرسله مخلِّصًا للعالمين.

2. 1.2: ونؤمن بالروح القدس الذي يواكب الكنيسة والبشرية في مسيرتهما. وهو يساعدنا على فهم الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد كوحدة واحدة، اليوم وهنا، ويبيِّن لنا تجلي الله للبشرية في الماضي والحاضر والمستقبل.

كيف نفهم كلمة الله؟

2. 2: ونؤمن أن الله كلَّم البشرية، هنا في أرضنا: "إنّ الله، بَعدَمَا كَلّمَ آبَاءَنَا قَدِيمًا مَرّاتٍ كَثِيَرةً بِلِسَانِ الأنبِيَاءِ كَلامًا مُختَلِفَ الوَسَائِلِ، كَلّمَنَا فِي هَذِهِ الأيّامِ، وَهِيَ آخِرُ الأيّامِ، بِلِسَانِ الابنِ الذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلّ شَيءٍ، وَبِهِ أَنشَأَ العَالَمِين" (الرسالة إلى العبرانيين 1: 1-2).

2. 2. 1: ونؤمن، نحن الفلسطينيين المسيحيين، مثل سائر المسيحيين في العالم، أن يسوع المسيح أتى ليكمِّل الشريعة والأنبياء. هو الألف والياء والبداية والنهاية. فبنوره وبهداية الروح القدس نقرأ الكتب المقدَّسة، ونتأمَّل فيها ونفسِّرها، كما فسَّرها يسوع المسيح لتلميذَيْ عمّاوس، كما جاء في إنجيل القديس لوقا: "فَبَدَأ مِن مُوسَى وَجَمِيعِ الأنبِيَاءِ يُفَسّرُ لَهُمَا فِي جَمِيعِ الكُتُبِ مَا يَختَصّ بِهِ" (لوقا 24: 27).

2. 2. 2: جاء السيد المسيح ينادي باقتراب ملكوت الله، فأحدث ثورة في حياة البشرية وإيمانها. وأتانا "بتعليم جديد" (مرقس 1: 27)، ونور جديد لفهم العهد القديم وما ورد فيه من مفاهيم لها صلة بإيماننا المسيحي وبحياتنا اليومية، مثل المواعد والاختيار وشعب الله والأرض. وإننا نؤمن أن كلمة الله كلمةٌ حيَّة تلقي على كلِّ حقبة من حِقَب التاريخ ضوءًا خاصًّا، فتُبيِّن للمؤمنين ماذا يقول الله لنا اليوم وهنا. ولذا لا يجوز تحويل كلمة الله إلى أحرف جامدة تشوِّه حبَّ الله وعنايته في حياة الشعوب والأفراد. هذا هو الخطأ في التفاسير الكتابية الأصولية التي تحمل لنا الموت والدمار حينما تجمِّد كلمة الله وتسلِّمها من جيل إلى جيل كلمةً ميتَةً، فتُستَعمَل سلاحًا في تاريخنا الحاضر يحرمنا حقَّنا في أرضنا.

لأرضنا رسالة كونية شاملة

2. 3: ونؤمن أن لأرضنا رسالة كونية شاملة. وبهذه الشمولية تنفتح مفاهيم المواعد والأرض والاختيار وشعب الله لتشمل البشرية كلها، بدءًا من شعوب هذه الأرض كلها. ونرى في ضوء تعاليم الكتاب المقدَّس أن الوعد بالأرض لم يكن يومًا عنوانًا لبرنامج سياسي. بل إنه مقدِّمة لخلاص كوني شامل، وهو البدء بتحقيق ملكوت الله على الأرض.

2. 3. 1: لقد أرسل الله إلى هذه الأرض الآباء والأنبياء والرسل، يحملون إلى العالم رسالة كونية شاملة. واليوم نحن فيها ثلاث ديانات، اليهودية والمسيحية والإسلام. أرضنا هي أرض الله، كباقي بلدان العالم، وهي مقدَّسة بحضور الله فيها، لأنه وحده القدُّوس والمقدَّس. فمن واجبنا، نحن الساكنين فيها، أن نحترم مشيئة الله فيها وأن نحرِّرها من شرِّ الظلم والحرب الذي فيها. هي أرضٌ لله فيجب أن تكون أرضًا للمصالحة والسلام والمحبة. وهذا أمر ممكن. بما أن الله وضعنا فيها، شعبَيْن، فإنه يمنحنا أيضًا المقدرة، إن شئنا، على أن نعيش معًا ونُقِرَّ فيها العدل والسلام، ونجعلها فعلاً أرضَ الله: "لِلرّبّ الأرضُ وَمَا فِيهَا، الدّنيَا وَسَاكِنُوهَا" (مزمور 24).

2. 3. 2: وجودنا، نحن الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، على هذه الأرض ليس طارئًا، بل له جذور متأصِّلة ومرتبطة بتاريخ وجغرافية هذه الأرض، مثلَ ارتباط أيِّ شعب بأرضه التي يوجد فيها اليوم. وقد وقع في حقِّنا ظلمٌ لما هُجِّرنا. أراد الغرب أن يعوِّض عما اقترف هو في حقِّ اليهود في بلاد أوروبا، فقام بالتعويض على حسابنا وفي أرضنا. حاول تصحيح الظلم فنتج عنه ظلم جديد.

2. 3. 3: وعلاوة على ذلك، إننا نرى بعض اللاهوتيين في الغرب يحاولون أن يُضفُوا على الظلم الذي لحق بنا شرعيَّة لاهوتيَّة وكتابية. فأصبحت المواعد، بسب تفسيراتهم، تهديدًا لكياننا، و"البشرى السارَّة" في الإنجيل نفسه أصبحت لنا "نذيرَ موت". إننا ندعو هؤلاء اللاهوتيين إلى تعميق الفكر في كلمة الله وإلى تصويب تفسيراتهم حتى يروا في كلمة الله مصدر حياة لكلِّ الشعوب.

2. 3. 4: إن صلتنا بهذه الأرض حقٌّ طبيعيٌّ، وليست قضية أيديولوجية ولا مسألة نظرية لاهوتية فقط. هي قضية حياة أو موت. قد يكون هناك من لا يتَّفق معنا بل يناصبنا العداء فقط لأننا نقول إننا نريد أن نعيش أحرارًا في أرضنا. لأننا فلسطينيون نعاني من الاحتلال لأرضنا، ولأننا مسيحيون نعاني من التفسيرات المغلوطة لبعض اللاهوتيين. وأمام هذه الحال، تقوم مهمَّتنا بأن نُبقِيَ كلمة الله لا مصدر موت بل مصدر حياة، وبأن نُبقيَ "البشرى السارَّة" على ما هي، "بشرى سارَّة" لنا ولكلِّ الناس. وأمام من يهدِّد كياننا، كفلسلطينيين مسيحيين ومسلمين، بالكتاب القدس، إننا نجدِّد إيماننا بالله، لأننا نعلم أن كلمة الله لا يمكن أن تكون سبب دمار لنا.

2. 4: ولهذا نقول إن استخدام الكتاب المقدَّس، لتبرير أو تأييد خيارات ومواقف سياسية فيها ظلم يفرضه إنسان على إنسان أو شعب على شعب آخر، يحوِّل الدين إلى أيديولوجية بشرية ويجرِّد كلمة الله من قداستها وشموليتها وحقيقتها.

2. 5: ولهذا نقول أيضًا إن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية هو خطيئة ضد الله وضد الإنسان لأنه يحرم الإنسان الفلسطيني حقوقَه الإنسانية الأساسية التي منحه إياها الله، ويشوِّه صورة الله في الإنسان الإسرائيلي المحتل بقدر ما يشوِّهها في الإنسان الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. ونقول إن أيَّ لاهوت يدَّعي الاستناد إلى الكتاب المقدس أو العقيدة أو التاريخ ليبرر الاحتلال إنما هو بعيد عن تعليم الكنيسة، لأنه يدعو إلى العنف والحرب المقدسة باسم الله، ويُخضِع الله سبحانه لمصالح بشرية آنية، ويشوِّه صورته في الإنسان الواقع في الوقت نفسه تحت ظلم سياسي وظلم لاهوتي.

3.    الرجاء

3. 1: مع غياب أيّ بارقة أمل، يبقى رجاؤنا قويًا. الوضع الراهن لا يبشِّر بأيِّ حلٍّ قريب أو بنهاية الاحتلال المفروض علينا. نعم، كثرت المبادرات والمؤتمرات والزيارات والمفاوضات، إلا أن ذلك كله لم يعقبه أيُّ تغيير في وضعنا ومعاناتنا. حتى الموقف الأمريكي الجديد الذي أعلنه الرئيس أوباما، وإرادته الظاهرة لوضع حدٍّ للمأساة، لم يكن له أثر في تغيير واقعنا. لأن الردَّ الإسرائيلي الصريح والرافضَ للحلِّ، لم يدَعْ مجالاً للأمل. ومع ذلك، يبقى رجاؤنا قويًا. لأننا وضعنا رجاءنا في الله. إنه صالحٌ وقديرٌ ومحبٌّ للبشر، وسوف ينتصر صلاحه يومًا على الشرِّ الذي نحن فيه. وبهذا المعنى قال القديس بولس: "إنْ كَانَ الله مَعَنَا فَمَن يَكُونُ عَلَينَا؟ فَمَن يَفصِلُنَا عَن مَحَبّةِ المسِيحِ، أشِدّةٌ أم ضِيقٌ أم اضطِهَادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيفٌ؟... فَقَد وَرَدَ فِي الكِتَابِ: إنّنَا مِن أَجلِكَ نُعَانِي الموتَ طَوَالَ النّهَارِ... وَأَنَا وَاثِقٌ أَن لا خَلِيقَةٌ بِوُسعِهَا أَن تَفصِلَنَا عَن مَحَبّةِ لله" (روما 8: 31 و35 و36 و39).

ما معنى الرجاء؟

3. 2: الرجاء فينا يعني أولاً إيماننا بالله، وثانيًا تطلعاتنا إلى مستقبل أفضل، وثالثًا عدم السير وراء أوهام، إذ إننا نعلم أن الفرج ليس وشيكًا. الرجاء هو مقدرتُنا على رؤية الله في وسط الشدَّة، وعلى العمل مع روح الله فينا، ومن هذه الرؤية نستمدُّ القوَّة للصمود والبقاء والعمل في سبيل تغيير الواقع الذي نحن فيه. الرجاء يعني عدم التنازل أمام الشرِّ، بل هو الوقوف أمامه والاستمرار في مقاومته. إننا لا نرى في الحاضر والمستقبل سوى خراب ودمار. نرى تجبُّر القوي وتوجُّهه إلى فصل عنصري متزايد وفرض قوانين تنفي كياننا وكرامتنا. ونرى حيرةً وانقسامًا في الموقف الفلسطيني. ومع ذلك، فإذا قاومنا هذا الواقع اليوم وعملنا بجدٍّ، قد نحول دون حلول الدمار الذي يلوح على الأفق القريب.

بعض علامات الرجاء

3. 3: إن الكنيسة في بلدنا، رؤساءها ومؤمنيها، تحمل، بالرغم من ضعفها وانقساماتها، علامات تسند رجاءنا. ففي رعايانا حيوية ظاهرة، ومعظم شبيبتنا، فيها، رسل فعَّالون في سبيل العدل والسلام. وبالإضافة إلى التزام الأفراد، فإن المؤسَّسات الكنسية المتنوِّعة تجعل لإيماننا حضورًا فاعلاً، حضورَ خدمة ومحبة وصلاة.

3. 3. 1: ومن علامات الرجاء أيضًا المراكز اللاهوتية المحلية، ذات الطابع الديني والاجتماعي، وهي كثيرة في مختلف كنائسنا. والروح المسكونية، ولو أنها ما زالت متعثِّرة، إلا أنها ظاهرة في مختلف اللقاءات بين العائلات الكنسية.

3. 3. 2: يضاف إلى ذلك الحوارات المتعدِّدة بين الأديان. فهناك أولاً الحوار المسيحي الإسلامي، الذي يشمل المسئولين وقسمًا من الشعب أيضًا. مع العلم بأن الحوار مسيرة طويلة وجهد يكتمل يومًا بعد يوم عبر المعاناة نفسها والآمال نفسها. وهناك الحوارات بين الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وعدد من الحوارات على مختلف المستويات الأكاديمية أو الاجتماعية التي تحاول تقليص المسافات التي يفرضها الاحتلال والحدَّ من التشويه لصورة الإنسان في قلب أخيه الإنسان.

3. 3. 3: ومن أهمِّ علامات الرجاء أيضًا صمود الأجيال واستمرار الذاكرة التي لا تنسى النكبة ومعانيها، وإيمانها بعدالة قضيتها. وكذلك تطوّرُ الوعي لدى الكثير من الكنائس في العالم ورغبتُها في معرفة حقيقة ما يحدث هنا.

3. 3. 4: وبالإضافة إلى ذلك، نرى لدى الكثيرين تصميمًا لتخطي أحقاد الماضي، والاستعداد للمصالحة بعد إقرار العدل. وقد تزايد الوعي العامُّ بضرورة إقرار الحقوق الوطنية والسياسية للفلسطينيين، وارتفعت أصوات يهودية وإسرائيلية مُحِبَّةٌ للسلام والعدل تؤيِّد ذلك، وانضمَّت إليها مناصرة دولية عامة. صحيح أن قوى العدل والمصالحة هذه ما زالت غير قادرة على تبديل واقع الظلم، إلا أنها طاقة بشرية لها تأثيرها وقد تقصِّر زمن المعاناة وتسرِّع مجيء عهد المصالحة.

رسالة الكنيسة

3. 4: كنيستنا هي كنيسةُ بَشَرٍ يصلون ويخدمون، وصلاتهم وخدمتهم هي نبوَّة تحمل صوت الله في الحاضر والمستقبل. كل ما يحصل في أرضنا ولكل إنسان فيها، وكل الآلام والآمال، وكل ظلم وكل جهد لوقف هذا الظلم، كل ذلك جزء من صلاةِ كنيستنا وخدمةِ جميع المؤسَّسات فيها، ونشكر الله على أن الكنيسة ترفع صوتًا ضدَّ الظلم رغم أن بعضهم يودون لو تبقى في صمتها متقوقعةً في عباداتها.

3. 4. 1: رسالتها رسالة نبوية تعلن كلمة الله في السياق المحلي وفي الأحداث اليومية، بجرأة ووداعة ومحبَّة شاملة. وإذا تحيَّزت فإنها تتحيَّز للمظلوم وتقف إلى جانبه، كما وقف السيد المسيح إلى جانب كل فقير وخاطئ داعيًا إياه إلى التوبة وإلى الحياة واستعادة الكرامة التي منحه إياها الله، والتي لا يجوز لأيِّ بشر أن يجرِّده منها.

3. 4. 2: رسالة الكنيسة هي المناداة بملكوت الله، ملكوت عدل وسلام وكرامة. دعوتنا ككنيسة حيَّة هي أن نشهد لصلاح الله، ولكرامة الإنسان، ومن ثَمَّ أن نصلي وأن نُسمِع صوتنا ينبئ بمجتمع جديد يؤمن فيه الإنسان بكرامة نفسه وكرامة خصمه.

3. 4. 3: كنيستنا تبشِّر بالملكوت. ولا يمكن ربط ملكوت الله بأيَّة مملكة أرضية. قال يسوع أمام بيلاطس: "نَعَم، أنَا مَلِكٌ. وَلَكِنّ مَملَكَتِي لَيسَتْ مِن هَذَا العَالَمِ" (راجع يوحنا 18: 36 و37). وقال القديس بولس: "ليسَ مَلَكُوتُ الله أكلاً وَشُربًا بَل بِرّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ فِي الرّوحِ القُدُسِ" (روما 14: 17). ولذلك ليس الدين دعمًا أو تأييدًا لأي نظام سياسي ظالم، إنما هو دعامة للعدل والحقيقة وكرامة الإنسان. كما أنه يسعى لتنقية أنظمة فيها ظلم للإنسان وامتهان لكرامته. وملكوتُ الله على الأرض غير مقيَّد بأيِّ توجُّه سياسي، لأنه أكبر وأشمل من أن يحدَّه أيُّ نظام سياسي.

3. 4. 4: وقال يسوع المسيح: "إنّ مَلَكُوتَ الله هُوَ بَينَكُم" (لوقا 17: 21). وهذا الملكوت الحاضر بيننا وفينا هو امتداد لسرِّ الفداء، وهو حضور الله بيننا واستشعارنا بهذا الحضور في كلِّ ما نعمل وما نقول. وبهذا الحضور الإلهي نعمل إلى أن يتمَّ العدل الذي نرتجيه في هذه الأرض.

3. 4. 5: إن الظروف القاسية التي عاشتها وتعيشها الكنيسة الفلسطينية جعلتها تصقل إيمانها وتتبيَّن دعوتها بصورة أوضح. بحثْنا في دعوتنا وازدادت معرفتنا بها في وسط الألم والمعاناة: نحن نحمل اليوم قوَّة المحبَّة بدل قوَّة الانتقام وثقافة الحياة بدلَ ثقافة الموت. وهذا مصدر رجاء لنا وللكنيسة وللعالم.

3. 5: القيامة أساس رجائنا. كما قام يسوع منتصرًا على الموت والشرِّ، كذلك نستطيع ويستطيع كل سكان هذه الأرض الانتصار على شرِّ الحرب فيها. وسوف نبقى، نحن، كنيسة شاهدة وصامدة وفاعلة في أرض القيامة.

4.    المحبة

وصية المحبة

4. 1: قال السيد المسيح لنا: "أحِبّوا بَعضُكُم بَعضًا كَمَا أَحبَبْتُكُم أنَا" (يوحنا 13: 24). وقد أوضح كيف تكون المحبَّة وكيف يكون التعامل مع الأعداء، قال: "سَمِعتُم أنّهُ قِيلَ أحْبِبْ قريبَكَ وأبغِضْ عَدُوّكَ. أمّا أنَا فَأَقُولُ لَكُم أحِبّوا أَعدَاءَكُم، وَصَلّوا لأجلِ الّذينَ يضْطَهِدونكُم، فَتَكُونُوا أَبنَاءَ أبِيكُمُ الّذِي فِي السّمَاوَاتِ. فَهُوَ يُطلِعُ شَمْسَهُ عَلَى الأشْرَارِ وَالصّالِحِين، ويُمطِرُ عَلَى الأبرَارِ وَالظّالِمِين... فَكُونُوا أَنتُم كَامِلِين، كَمَا أنّ أَبَاكُمُ السّمَاوِيّ كَامِل" (متى 5: 45-47).

وقال القديس بولس: "لا تُجَازُوا أَحَدًا شَرًا بِشَر" (روما 12: 17). وقال القديس بطرس: "لا تردوا الشّرّ بِالشّرّ وَالشّتِيمَةَ بِالشّتِيمَةِ بَل بَارِكُوا فَتَرِثُوا البَرَكَةَ لأنّكُم لِهَذَا دُعِيتُم" (بطرس 3: 9).

المقاومة

4. 2: هذا كلام واضح. المحبّة هي وصيَّة السيد المسيح لنا، وتشمل الأصدقاء والأعداء. وهي دليل واضح لنا إذا ما كنا في ظروف يجب علينا فيها أن نقاوم الشرَّ مهما كان نوعه.

4. 2. 1: المحبَّة هي رؤية وجه الله في كلِّ إنسان. كلُّ إنسان أخي وأختي. ولكن رؤية وجه الله في كلِّ إنسان لا تعني قبول الشرِّ أو الإعتداء من قِبَلِه، بل تقوم المحبَّة بإصلاح الشرِّ ووقف الإعتداء.

والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، أي الاحتلال الإسرائيلي، هو شرٌّ يجب مقاومته. هو شرٌّ وخطيئة يجب مقاومتها وإزالتها. تقع هذه السؤوليّة أولاً على الفلسطينيين أنفسهم الواقعين تحت الاحتلال. فالمحبَّة المسيحية تدعو إلى المقاومة، إلا أن المحبّة تضع حدًا للشرِّ بسلوكها طرق العدل. ثم تقع المسؤولية على الأسرة الدولية إذ أصبحت الشرعية الدولية اليوم هي التي تحكم العلاقات بين الشعوب. وعلى الظالم نفسه أخيرًا أن يحرِّر نفسه هو من الشرِّ الذي فيه ومن الظلم الذي أوقعه على غيره.

4. 2. 2: إذا ما استعرضنا تاريخ الشعوب وجدنا فيها الحروب الكثيرة ومقاومة الحرب بالحرب، والعنف بالعنف. وسار الشعب الفلسطيني في طريق الشعوب ولاسيما في أول مراحل صراعه مع الاحتلال الإسرائيلي كما أنه ناضل نضالاً سلميًا لاسيما خلال انتفاضته الأولى. ومع ذلك كله، فإننا نرى أنه يجب على الشعوب كلها أن تبدأ مسارًا جديدًا في علاقاتها بعضِها مع بعض وفي حلِّ نزاعاتها، فتتجنَّب طرق القوَّة العسكرية وتلجأ إلى الطرق العادلة. وهذا ينطبق على الشعوب القوية عسكريًّا أولاً، صاحبةِ القوة والفارضةِ ظلمَها على الشعوب الضعيفة.

4. 2. 3: ونقول إن خيارنا المسيحي في وجه الاحتلال الإسرائيلي هو المقاومة. فالقاومة حقٌّ وواجب على المسيحي. ولكنها المقاومة بحسب منطق المحبة، فهي مقاومة مبدعة، أي أنها تجد الطرق الإنسانية التي تخاطب إنسانية العدو نفسه. وإن رؤية صورة الله في وجه العدو نفسه واتخاذ مواقف المقاومة في ضوء هذه الرؤية هي الطريقة الفعَّالة لوقف الظلم وإجبار الظالم على وضع حدٍّ لإعتدائه، وللوصول إلى الهدف المنشود، أي استرداد الأرض والحرية والكرامة والاستقلال.

4. 2. 4: لقد ترك السيد المسيح لنا مثالاً لنقتدي به. علينا أن نقاوم الشرَّ، ولكنه علَّمنا أن لا نقاوم الشرَّ بالشرِّ. إنها وصية صعبة، ولاسيما إذا أصرَّ العدوُّ على تجبُّره وعلى إنكار حقِّنا في البقاء هنا. هي وصية صعبة. ولكنها الوصيّة. وهي الوحيدة التي تستطيع أن تقف في وجه التصريحات الواضحة من قبل سلطات الاحتلال الرافضةِ لوجودنا وفي وجه الحجج الكثيرة التي تحتجُّ بها لاستمرار فرض الاحتلال علينا.

4. 2. 5: تندرج إذًا المقاومة لشرِّ الاحتلال في هذه المحبة المسيحية الرافضة للشرِّ والمقوِّمةِ له. هي مقاومة الظلم بكلِّ أشكاله، وبالأساليب التي تدخل في منطق المحبَّة، فنستثمر كلَّ الطاقات في صنع السلام. قد نقاوم بالعصيان المدني. ولا نقاوم بالموت بل باحترام الحياة. إننا نكنُّ كلَّ احترام وتقدير لكلِّ من بذل حياته حتى اليوم في سبيل الوطن. ونقول إن كلَّ مواطن يجب أن يكون مستعدًّا للدفاع عن حياته وحريَّته وأرضه.

4. 2. 6: من هنا، إننا نرى أن ما تقوم به منظَّماتٌ مدنيّة فلسطينية ودولية غير حكومية، وكذلك بعضُ الهيئات الدينية، من دعوة الأفراد والمجتمعات والدول إلى مقاطعةٍ اقتصادية وتجارية لكلِّ ما ينتجه الاحتلال وسحب الاستثمارات منه، يندرج في نطاق المقاومة السلمية. وإننا نرى أن حملات المناصرة هذه يجب أن تسير علانية وبجدية، معلنةً بصدق وبوضوح أن هدفها ليس الانتقام من أحد، بل وضع حدٍّ لشرٍّ قائم، وتحرير الظالم والمظلوم منه، وتحرير الشعبين من مواقف الحكومات الإسرائيلية المتطرفة، والوصول بهما إلى العدل والمصالحة. بهذه الروح وبهذا السعي سوف نصل أخيرًا إلى الحلِّ المنشود، على غرار ما حصل في جنوب إفريقيا وفي حركات تحرُّر كثيرة في العالم.

4. 3: بمحبَّتنا نتجاوز هذه المظالم لنضع أسس مجتمع جديد لنا ولخصومنا. إن مستقبلنا ومستقبلهم واحد، إما دائرة عنف نهلك فيها معًا، وإما سلام ننعم به سوية. فنحن ندعو الإسرائيليين إلى التخلي عن ظلمهم لنا، وألا يشوِّهوا الصورة الحقيقية لواقع الاحتلال بادعاء مقاومة الإرهاب. جذور "الإرهاب" هي ظلم الإنسان وشرُّ الاحتلال. هذه أمور يجب أن تزول إن كانت هناك نيَّة صادقة لإزالة "الإرهاب". ندعو الإسرائيليين أن يكونوا شركاء سلام لا شركاء في دائرة عنف لا نهاية لها، فنقاوم الشرَّ معًا، شرَّ الاحتلال، وشرَّ حلقة العنف الجهنمية.

5.    كلمتنا لإخوتنا

5. 1: إننا كلنا نقف اليوم أمام طريق مسدود، وأمام مستقبل ينذر بالويلات. وكلمتنا لجميع إخوتنا المسيحيين هي كلمة أمل وصبر وصمود وجهد جديد في سبيل مستقبل أفضل. كلمة تقول لهم إننا في هذه الأرض حاملو رسالة، وسنستمرُّ في حملها ولو بين الأشواك والدماء والمشقَّات اليومية. وإننا نضع رجاءنا في الله. هو الذي سيمنحنا الفرج حينما يشاء، ولكننا في الوقت نفسه نعمل. معه تعالى وبحسب مشيئته الإلهية نعمل، للبناء ومقاومة الشرِّ وتقريب ساعة العدل والسلام.

5. 2: نقول لهم: هذا زمن توبة، توبة تعيدنا إلى شركة المحبَّة مع كلِّ متألم، مع الأسرى، والجرحى والذين أصيبوا بإعاقة مؤقتة أو دائمة، ومع الأطفال الذين لا يقدرون أن يعيشوا طفولتهم، ومع كلِّ من يبكي عزيزًا له. شركة المحبَّة تقول للمؤمن بالروح والحقِّ: أخي أسير فأنا أسير، أخي دُمِّر منزله فمنزلي هو المدمَّر. أخي قُتِل فأنا المقتول. نحن جزء من التحديات وشركاء في كلِّ ما حصل ويحصل. وقد نكون، أفرادًا أو رؤساءَ كنيسة، قد صمتنا في حين كان يجب أن يرتفع صوتنا ليندِّد بالظلم ويشارك في المعاناة. هو زمن توبة عن الصمت، وعن اللامبالاة، وعن عدم المشاركة، أو لأننا لم نتمسَّك بشهادتنا في هذه الأرض، فهجرناها، أو لأننا لم نفكِّر ولم نعمل بما فيه الكفاية في سبيل التوصُّل إلى رؤية جديدة موحَّدة، فانقسمنا، ونقضنا بذلك شهادتنا وضعفت كلمتنا. توبة لإهتماماتنا بمؤسساتنا في بعض الأحيان على حساب رسالتنا، فلُجِم الصوت النبوي الذي يمنحه الروح للكنائس.

5. 3: ندعو إخوتنا إلى الصمود في زمن الشدَّة هذا، كما صمدنا عبر القرون، وعبر تقلُّب الدول والحكومات. كونوا صابرين صامدين متلئين بالرجاء واملأوا به قلب كل أخ لكم مشارك في الشدَّة نفسها: "كُونُوا دَائمًا مُستَعِدّينَ لأن تَرُدّوا عَلَى مَن يَطلُبُ مِنكُم دَلِيلَ مَا أَنتُم عَلَيهِ مِنَ الرّجَاء" (بطرس 3: 15). وكونوا ساعين مشاركين في كل تضحية تتطلَّبها المقاومة مع المحبَّة للتغلُّب على المحنة التي نحن فيها.

5. 4: عددنا قليل. ولكن رسالتنا كبيرة ومهمة. أرضنا بحاجة مُلِحة إلى المحبة. ومحبَّتنا هي رسالة للمسلم ولليهودي وللعالم.

5. 4. 1: رسالتنا للمسلمين هي رسالة محبة وعيش مشترك ودعوةٌ للتخلُّص من التعصُّب والتطرُّف. وهي أيضًا رسالةٌ للعالم أن المسلمين ليسوا هدف قتال أو عنوان إرهاب، بل هم هدف سلام وعنوان حوار.

5. 4. 2: ورسالتنا لليهود تقول لهم: لقد اقتتلنا وما زلنا نقتتل، إلا أننا قادرون اليوم وغدًا على المحبَّة والعيش معًا، وقادرون على تنظيم حياتنا السياسية بكل تعقيداتها بمنطق هذه المحبَّة وبقوتها، بعد إزالة الاحتلال وإقامة العدل.

5. 4. 3: وكلمة الإيمان تقول لكلِّ مندرج في أيِّ عمل سياسي: لم يُصنَع الإنسان للكراهية. لا يجوز أن تكره. ولا يجوز أن تَقتُل ولا يجوز أن تُقتَل. ثقافة المحبَّة هي ثقافة قبول الآخر، وبها تكتمل ذات الإنسان، وتثبت أركان المجتمع.

6.    كلمتنا لكنائس العالم

6. 1: كلمتنا لكنائس العالم هي أولاً كلمة شكر على التضامن الذي أظهرته لنا قولاً وعملاً وحضورًا بيننا. وهي كلمة إشادة بمواقف العديد من الكنائس والمسيحيين الداعمين لحقِّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وهي رسالة تضامن مع تلك الكنائس التي عانت بسبب مواقفها المناصرة للحقِّ والعدل.

ولكنها أيضًا نداء إلى التوبة وإعادة النظر في مواقف لاهوتية أصولية داعمة لمواقف سياسية ظالمة للإنسان الفلسطيني. هي نداء للوقوف مع المظلوم، ولإبقاء كلمة الله بشرى سارة للجميع، لا لتحويلها سلاحًا يفتك بالمظلوم. كلمة الله كلمة محبة لكل خليقته. ليس الله حليفًا لأحد على أحد ولا خصمًا مع أحد في وجه أحد، بل هو ربُّ الكلِّ ومحبُّ الكلِّ، وطالب العدل من الكلِّ ومعطي وصاياه نفسها للكلِّ. ولذا نحن نريد من الكنائس ألاّ تعمل على إعطاء غطاء لاهوتي للظلم الذي نحن فيه أي لخطيئة الاحتلال المفروض علينا. إن سؤالنا اليوم لإخوتنا وأخواتنا في كلِّ الكنائس هو: هل تقدرون أن تساعدونا على استعادة حريتنا، وبذلك فقط تساعدون الشعبين على التوصُّل إلى العدل والسلام والأمن والمحبة؟

6. 2: ولفهم الواقع الذي نحن فيه، نقول للكنائس: تَعَالوا وانظُروا. ويقوم دورنا بأن نعرّفكم على حقيقة واقعنا، وبأن نستقبلكم حجّاجًا إلينا مصلِّين، حاملين رسالة سلام ومحبَّة ومصالحة، تتقصون الحقائق وتكتشفون الإنسان الإسرائيلي والفلسطيني معًا.

6. 3: إننا ندين كل أشكال العنصرية، الدينية منها والعرقية، بما فيها المعاداة للسامية وكراهية المسلمين (الإسلاموفوبيا)، وندعوكم إلى إدانتها وإلى اتخاذ موقف حاسم من كل مظهر من مظاهرها، ومع ذلك ندعوكم إلى قول كلمة حقٍّ واتخاذ موقف حقٍّ من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وكما قلنا سابقًا، إننا نرى في المقاطعة وسحب الاستثمارات وسائل لاعنفية لتحقيق العدل والسلام والأمن للجميع.

7.    كلمتنا للأسرة الدوليَّة

كلمتنا للأسرة الدولية هي مطالبتنا لها بالكفِّ عن "الكيل بمكيالَين"، وبتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية على جميع الأطراف. لأن تطبيق القانون الدولي على البعض وعدم تطبيقه على البعض الآخر يفتح الباب على مصراعيه لشريعة الغاب ويبرر ادعاء جماعات مسلحة ودول عديدة بأن المجتمع الدولي لا يفهم سوى منطق القوة. ولهذا إننا ندعو إلى الاستجابة لما تدعو إليه الهيئات المدنية والدينية، كما ذكرنا سابقًا، والبدء بتطبيق نظام العقوبات على إسرائيل. ونكرِّر مرة أخرى، لا للانتقام، بل من أجل عمل جدي في سبيل التوصل إلى سلام عادل ونهائي، ينهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ولسائر الأراضي العربية المحتلة، ويضمن الأمن والسلام للجميع.

8.    القيادات الدينيّة اليهوديّة والإسلاميّة

نوجِّه أخيرًا نداءنا إلى القيادات الدينية والروحية اليهودية والإسلامية، التي نشترك معها في رؤيتنا للإنسان الذي خلقه الله ومنحه كرامة متساوية. ومن ثم فمن واجب كلِّ واحد منا أن يدافع عن الإنسان المظلوم وعن الكرامة التي منحه إياها الله. وبهذا نسمو معًا فوق المواقف السياسية التي أخفقت حتى الآن والتي ما زالت تسير بنا في طرق الإخفاق واستمرار المعاناة.

9.    دعوتنا لشعبنا الفلسطيني وللإسرائيليين

9. 1: هي دعوة لرؤية وجه الله في كلِّ خليقته، وتجاوز حدود الخوف أو العرق، لإقامة حوار بنَّاء، لا للسير في مناورات لا تنتهي ولا هدف لها سوى إبقاء الحال على ما هي. دعوتنا هي للوصول إلى رؤية واحدة مبنية على المساواة والمشاركة لا على الإستعلاء أو إنكار الآخر أو الإعتداء بحجة الخوف والأمن. نحن نقول إن المحبة ممكنة وإن الثقة المتبادلة ممكنة. ومن ثم إن السلام ممكن والمصالحة النهائية ممكنة. وبذلك يتحقَّق العدل والأمن للجميع.

9. 2: مجال التربية أمر مهمٌّ. يجب أن تعمل المناهج التربوية على معرفة الآخر كما هو، لا من خلال مرآة المخاصمة أو العداوة أو العصبية الدينية. لأن برامج التربية الدينية والإنسانية متأثرة اليوم بهذه المخاصمة. حان الوقت إذًا للشروع ببرامج تربية جديدة تُظهِر وجه الله في الآخر، وتقول للجميع إننا قادرون أن نحبَّ بعضنا بعضًا وأن نبن مستقبلنا معًا في أمن وسلام.

9. 3: الدولة الدينية، اليهودية أو الإسلامية، تخنق الدولة وتحصرها في حدود ضيقة وتجعلها دولة تفضِّل مواطنًا على مواطن وتستثني وتفرِّق بين مواطنيها. دعوتنا لليهود والمسلمين المتدينين: لتكن الدولة لكلِّ مواطنيها مبنية على احترام الدين، ولكن أيضًا على المساواة والعدل والحرية واحترام التعددية، وليس على السيطرة العددية أو الدينية.

9. 4: وإلى القيادات الفلسطينية نقول إن الانقسامات الداخلية هي إضعاف لنا وسبب لمزيد من المعاناة. ولا شيء يبررها. فلا بدَّ من وضع حدٍّ لها، وذلك من أجل الخير العام، وهو أهمُّ من مصلحة جميع الأحزاب. وإننا نطالب الأسرة الدولية بالمساعدة على هذه الوحدة وباحترام إرادة الشعب الفلسطيني، كما يعبِّر عنها بحرِّيته.

9. 5: والقدس هي القاعدة الروحية لرؤيتنا ولحياتنا كلها، إذ هي مدينة جعل الله لها مكانة خاصة في تاريخ البشرية. فهي المدينة التي تسير إليها جميع الشعوب، وتجتمع فيها على الألفة والمحبة في حضرة الله الواحد الأحد، بحسب رؤية النبي أشعيا: "وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأيّامِ أنّ جَبَلَ بَيتِ الرّبّ يُوَطّدُ في رَأسِ الجِبَالِ وَيَرتَفِعُ فَوقَ التّلالِ، وَتَجرِي إلَيهِ جَمِيعُ الأمَمِ... وَيَحكُمُ بَين الأمَمِ، وَيَقضِي لِلشّعُوبِ الكَثِيرَةِ، فَيَضرِبُونَ سُيُوفَهُم سكَكًا وَرِمَاحَهُم مَنَاجِلَ، فَلا تَرفَعُ أُمّةٌ عَلَى أُمّةٍ سَيفًا وَلا يَتَعَلّمُونَ الحربَ بَعدَ ذَلِكَ" (أشعيا 2: 2-5). على هذه الرؤية النبوية، وعلى الشرعية الدولية في ما يختص بالقدس كلها، فيها اليوم شعبان وثلاث ديانات، يجب أن يرتكز كل حلٍّ سياسي. وهي أول القضايا التي يجب الاتفاق عليها، لأن إقرار قداستها ورسالتها سيكون مصدر إلهام لحلِّ القضية كلها، وهي قضية ثقة متبادلة ومقدرةٍ مشترَكة على بناء "أرض جديدة" في أرض الله هذه.

10.                       رجاؤنا وإيماننا بالله

في غياب كلِّ أمل، إننا نطلق صرخة أمل. لأننا نؤمن بالله، إلهٍ صالح وعادل. ونؤمن أن صلاحه سوف ينتصر أخيرًا على شرِّ الكراهية والموت الباقي حتى الآن في أرضنا. وسنرى "أرضًا جديدة" و"إنسانًا جديدًا" يسمو بروحه حتى يبلغ محبَّة كلِّ أخ وأخت له في هذه الأرض.

* * *

كفلسطينيين وكمسيحيين فإننا نأمل أن تكون هذه الوثيقة نقطة انعطاف تركِّز على جهود كل الشعوب المحبة للسلام في العالم، وخاصة منها ما يتعلق بأخواننا وأخواتنا المسيحيين. كما نأمل أن يتم تلقيها بشكل إيجابي وأن تحوز على دعمكم القوي، تمامًا كما فعلت في حينه الوثيقة المماثلة التي تحمل نفس الإسم والتي أطلقت عام 1985 من أجل جنوب إفريقيا، وبرهنت في حينه أنها كانت أداة فعالة ضد الاضطهاد والاحتلال. لأننا نعتقد أن التحرر من الاحتلال هو لمصلحة جميع الشعوب في منطقتنا. لأن المشكلة ليست فقط سياسية، بل مشكلة تدمير كائنات بشرية.

لذلك نحن ندعو الله أن يلهمنا جميعًا، و أن يلهم خاصة سياسينا وصانعي السياسة لدينا، كي يجدو الطريق المؤدي إلى تحقيق العدالة والمساواة، لأن هذا التحقيق هو الطريق الوحيد المؤدي إلى السلام الدائم الذي نصبو إليه.

-       صاحب الغبطة الكاردينال ميشيل صبّاح.

-       صاحب الغبطة البطريرك الدكتور منير يونان.

-       صاحب السعادة المطران عطالله حنّا.

-       المحترم الدكتور جمال خاضر.

-       المحترم الدكتور رفيق خوري.

-       المحترم الدكتور متري راهب.

-       المحترم الدكتور نعيم عتيق.

-       المحترم الدكتور يوحنا كتناشو.

-       المحترم فادي دياب.

-       الدكتور جريس خوري.

-       السيدة سيدار دعيبس.

-       السيدة نورا قرط.

-       السيدة لوسي تحلجيه.

-       السيد نضال أبو الزلف.

-       السيد يوسف ضاهر.

-       السيد رفعت قسيس – منسق.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود