جبران خليل جبران: نبي عصره

هويات مرتبكة

محاولة لرسم صورة حيادية لصاحب الأجنحة المتكسرة

 

نجيب نصير

 

هل سيبقى جبران مجهولاً؟

الـ"نعم" تبدو مقسَّمة بين شرق وغرب، حسب فهم الأرومات المعرفية للشعوب التي تتناول هذا النتاج غير المعرَّف به بدقة، أو حتى غير الموصَّف تحت بنود تسميات الأجناس الأدبية. فلا هو بشاعر، على الرغم من لهفته كي يكون بين الشعراء؛ ولا هو بناثر، على الرغم من ضبطه لقوافي القصائد وتقطيعه لسطور الحكمة التي كتبها وألقاها على مستمعين لم يكونوا كثرًا ولا قلة. لم يكن رومانسيًّا بدقة، ولا رمزيًّا يشهد له الرمزيون، ولا مثاليًّا يكتنه الجوهر المجرَّد. ولم يكن رسامًا متفردًا، على الرغم من تفرُّغه لهذه المهمة. إنه كتلة عصية على الفهم الغربي، بملكاته التحليلية، وعلى الفهم الشرقي، بأحكامه الأخلاقية.

 

لم يستطع روبن ووترفيلد، في كتابه جبران خليل جبران: نبي عصره*، إلا ترتيب تلك الأوراق عبر منهجيته العلمية الغربية بانضباطها الحيادي، في محاولةٍ لتقديم ذاك الفتى المشرقي الذي لم يملك يومًا سببًا للإنجاز الذي حقَّقه – وطبعًا حسب المقياس الغربي الصارم والمدقِّق. حيث بدا الكتاب يدور حول أحقِّية جبران بالشهرة – والشهرة والمبيعات تكاد تكون المقياس الأمريكي الوحيد الذي يعترف بالإنجاز – وهو ما كان يستغربه المؤلِّف طوال صفحات الكتاب: كيف لهذا الفتى الانطوائي أن يتسلَّل عبر تراتبية الإبداع الأوروأمريكي وحلقاته المتداخلة، فيتصدَّر مكانةً ما، تشهد لها أرقام مبيعات كتاب النبي وتمثال يمجِّده في إحدى ساحات بوسطن، المدينة الأم بالنسبة لإبداعات جبران، أو الحلقة الوسيطة الحاضنة لتأملات ذاك الفتى المتميِّز عن أقرانه، وليس مع أولئك الطاعنين في المعرفة الغربية، من أمثال فريد هولاند داي، المغرم بالوسامة الذكرية، الذي أصبح وقتئذٍ مرشدًا وناصحًا ومشجعًا لمواهب الفتى المراهق الفنية.

وقد اختطَّ ووترفيلد، على الرغم من دراسته الدقيقة والمدقِّقة، منهجًا تفكيكيًّا يربط نجاح جبران بمسألتين: الأولى هي قدرة المجتمع الأمريكي على رعاية من يُحتمَل أن تتفتح فيهم الموهبة عبر العمل الخيري الذي يتميَّز به هذا المجتمع، في محاولة لتأصيل نفسه إبداعيًّا بالتوازي مع أوروبا–المثال؛ والثانية: هي مقدرة جبران نفسه على التعامل مع هذه الرعاية، حيث بدا، من خلال الكتاب، وكأنه مشعوذ شرقي، يحاول إقناع الآخرين أنه "عزيز قوم ذل". وهكذا يبدو الفضل في حضور جبران المشرذَم لحركة مجتمع ناهض، أكثر منه لطغيان موهبة إبداعية تبحث عن مكان لها تحت الشمس.

 

جبران خليل جبران بريشة يوسف الحويك

ينقسم الكتاب في مجمله إلى حلقتين: الأولى تبحث في حركة جبران الإنسانية، منذ انطلاقه من بيروت حتى موته، وتضبطها، مبتدئًا من اسم الباخرة التي أقلَّتْه من كولونيا، مدقِّقًا في أسماء الشوارع وأرقام البيوت التي سكنها الفتى المحظوظ؛ ولم تترك الدراسة – التي تبدو محايدة – سجلاته المدرسية، وحتى أسماء المديرات اللواتي قُمْنَ بالإشراف على هذه الصروح الخيرية – السبب الرئيس في ولادة جبران الذي نعرفه.

وفي الحلقة الثانية من الكتاب، يحاول المؤلِّف، بلغة مغلَّفة بالحياد النقدي، أن يلقي نظرة نقدية على نتاجاته، ولكنه لا يصل إلى شيء محدَّد أو تصنيف مقارن، لاسيما في استلافه أن جبران شاعر من الشرق مغلَّف بورق هدايا غربي! حتى إنه يضنُّ عليه بصفة تقاطُع بين الشرق والغرب، جاعلاً منه – بصفة أخلاقية – أمثولة لمقولة كبلنغ الشهيرة: "الشرق شرق والغرب غرب...".

 

يؤطِّر الكتاب جبران خليل جبران بصفات أخلاقية، دون أن يذكرها؛ فقط يضع القارئ في جوِّها من خلال توجيه دفة الدراسة إلى الأماكن التي تُظهِر جبران في صورة ذاك الأناني، المعني بخلاصه الفردي، دون التعاطف مع الآخرين، مهما قربوا؛ حيث يضع علاقاته دومًا في ميزان المصلحة، محاولاً عدم الاستجداء، بالظهور في مظهر المتأنِّف، على الرغم من أن حياته كلَّها تقريبًا (حتى زواج ماري هاسكل) معتمدة اعتمادًا كبيرًا على عطايا الآخرين التي قَبِلَها كمحتال مُكابِر، يرى من واجب الآخرين أن يقدِّموا له لقاء ما تحمل نفسه من فرادة واحتمال موهبة.

هذا ما ألقى عليه المؤلِّف أكثر من ضوء، عبر علاقته بأخته مريانا، التي هَجَرَها وحيدة في بوسطن بعد وفاة أخيه بطرس وشقيقته سلطانة والأم، ليذهب للعيش في نيويورك على حساب ماري هاسكل التي حاولت تلقيم المجتمع الأمريكي (طبعًا قبلها جيسي فيرمونت بيل) هذه العبقرية بناءً على وَلَهِها الشخصي الذي لم يُثمِر – على الرغم من صعوبة العيش في أمريكا، البلد الذي لا يعترف بغير العمل المضني طريقةً للحصول على إمكانات الاستمرار.

ربما كان هذا ما أثار خيال المؤلِّف وحنقه في الوقت نفسه؛ حيث لا ميزة أخلاقية تربط هذا الرجل بإنتاجه: فهو أناني، منطوٍ، نصف موهوب، يتلاعب بألفاظه وذكرياته ومرويَّاته، للحصول على مكانة يستطيع غيرُه تحقيقها لو استطاع الحصول على الرعاية نفسها، بما في ذلك المقالات النقدية التي كُتِبَتْ عنه مادحة – وهي، في مجملها، تعبير عن علاقات شخصية أكثر منها مقاربة نقدية لأعمال جبران، لاسيما في رسومه، حيث بدت وكأنها مواد إعلانية لزيادة مبيعات لوحاته التي لم تأخذ أيَّ صدى عفوي، على طريقة الرسامين الموهوبين الأفذاذ. حتى إن جبران نفسه ادَّعى معرفته الشخصية برودان، النحات الفرنسي الشهير، في محاولة لرفع منزلته كرسام يقف بين المشاهير.

 

 

 

ثلاث لوحات لجبران بالأكواريل

هذه الوقائع الموثَّقة كلُّها، وغيرها كثير، لا تصنع من جبران أكثر من ناقل لحكمة شرقية مبهمة، تحاول أن ترسم لها صورة بريشة غربية، لعلها تحصل على ضجيج استشراقي يدفعها إلى منصة الشهرة. وهذا ما حصل مع كتاب النبي، حيث يستكثر المؤلِّف هذه الشهرة، عبر استغرابه من أرقام المبيعات عبر كلِّ هذه السنين، قائلاً إننا ليتنا نستطيع، مثله، أن نحوِّل تناقضاتنا وعقدنا إلى مصادر طاقة، خاتمًا كتابه بإزاحة السؤال عن الوسائل التي تبرِّر غايات جبران، ليخلص إلى أنه كان – وبكلِّ بساطة – كائنًا مضطربًا قلقًا، غير قادر على أن يتلاءم مع مثاله الأعلى، ويصعب عليه أن يتحمَّل حقيقته كائنًا بشريًّا.

في كتابه رمل وزبد يلقي جبران شهادته، وكأنها خاتمة لحياته: إن الروح المجنحة نفسها لا تستطيع أن تتخلَّص من الحاجات الطبيعية.

ترى ماذا يريد أن يقول؟ أو بالأحرى: ما جبران؟

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* روبن ووترفيلد، جبران خليل جبران: نبي عصره، بترجمة ميشيل خوري، دار ورد، دمشق، 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود