تركي عامر

ألن يعودَ إلى المرعى؟

 

فاطمة ناعوت

 

هاهنا شاعرٌ يحملُ قضيةً، مثل غالبية شعراء فلسطين. غير أني أظنُّ أن ترحالَه الكثير وولعَه بالأسفارِ، عبرَ الجغرافيا وعبر الأنثروبولوجيا، قد وسَّع مخروطَ قضيته من حيِّز القومية إلى رحابةِ الوجود. لم تغبْ عن ناظريه محنةُ فلسطين، كخلجةٍ تنبضُ داخل قفصٍ من حديد، مثلما لم تغبْ عنَّا، – نحن شعراء العروبة جميعًا؛ – غير أنها، في كثير من الأحيان، تكون مُنْطَلَقًا ونقطةَ بدءٍ لانفجارةِ صرخةٍ كامنةٍ تخرج من صدرِ العربيِّ في وجه الوجودِ بأسره. ذاك الوجود الذي بخلَ على كوكبنا الطيِّب بحلمٍ بديهيٍّ وبسيطٍ ومنطقي.

في ديوانه الأخير لن أعود إلى المرعى، الصادر في مصر عن دار "كاف نون"، استطاع تركي عامر، في قصيدة بعنوان "البداية"، تلخيصَ مأساةِ العروبة وتصوير "بداية" محنة فلسطين في العام 48، في سردٍ قَصِّيٍّ رمزيٍّ لا يخلو من مسحةِ سخرية، وإن توشَّتْ بالمرارة. هي السخرية الهادئة المتسربلة بوشاح الحياد، التي تغدو صفعتُها على وجه الطاغية أشدَّ ثِقلاً من الصراخ المدوِّي! والمدهشُ أن تجيء هذه "البداية" كقصيدة نثر في مخالَفةٍ للتوقُّع. إذ دَرَجْنا أن يخرجَ الشعرُ الغنائيُّ، – الوطني بخاصة، – المحمَّل بطاقة وجدانٍ وشَجَنٍ، "مُفَعْلَنًا"، حيث تساعدُ غنائيةُ التفعيلةِ الخليلية وهارمونية موسيقاها الظاهرة على تكثيفِ صوت النشيد وشَجْوِه. لكن "مضمون" تلك القصيدةِ – "البداية" – وطبيعةَ بنائها فرضا كلاهما "شكل" القصيدة الشعريَّ، لأنها تحكي، على نحوٍ سرديٍّ ساخر، قصةَ دخولِ صهيون بيتَنا العربيَّ، ذي الكَرَمِ الحاتميِّ (نسبةً إلى الطائي)، كضيفٍ، ثم راح يزيحنا رويدًا رويدًا، حتى غدونا أغرابًا في بيتنا!

بساطة الحكي والتخفف من إبداء وجهة النظر – وكأن عينًا راصدةً تقرِّر أمرًا لا يعنيها كثيرًا – فَرَضَ طبيعة الشكل الذي يحملُ المضمون. وهذه هي اللعبة الفنية الصحية للشاعر، – وأعني عدم الفصل بين الشكل والمضمون، – التي تكرِّس مفهوم أن كلَّ مضمون يقترح شكلَه الأكثر ملائمة. يقول الشاعر:

قبلَ جُرْحٍ وخمسةِ عقودٍ/ .../ نزلَ ببيتنا ضيفٌ غريب/ .../ كانَ اسمُ أبي "حاتمًا"/ وبندقيتُهُ لم تكنْ محشوَّةً رصاصًا/ كانَ الضيفُ ثقيلَ الظلِّ واللسان/ يكسرُ اللغةَ الوحيدةَ التي يجيدُها أبي/ .../ وعندَ الصباح/ أخرجَ الضيفُ من ثقوبِ أحلامه أفاعيَ وثائق/ تثبتُ أنَّ له كلَّ البيت/ .../ كانَ في جعبتهِ بندقيةٌ محشوَّةٌ رصاصًا وعقيدَة/ قُتِلَ أحدُ أعمامي وجُرِحَ أبي/ وخرجتْ أمي تبحثُ عن طبيبٍ ولم تعدْ/ وبعدَ جُرْحٍ وخمسةِ عقودٍ/ .../ جاءَ حفيدُ الضيفِ/ يأمرُ حفيدَ أبي/ أنْ يُلَمْلِمَ أطرافَ عباءته قليلاً/ لَمْلَمَ حفيدُ أبي أطرافَ العباءة/ وظبظبَ قدَميهِِ إلى صدرِهِ/ وسكتَ/ ونام.

بعد عهد طويل من الكتابة العمودية والتفعيلية – منذ العام 72 وحتى آخر ديوان له بالفصحى في العام 96، هو من حواضر الروح، الذي تلاه ديوانٌ بالعاميَّة الشامية في العام 97، هو سطر الجمر، تخلَّلهما العديدُ من الدواوين الأخرى والكتابات النقدية والفكرية – يجيءُ ديوان لن أعودَ إلى المرعى، متأرجحًا بين التفعيلة والنثر – تلك الرحلة التي لم يتخَلَّ تركي عامر فيها عن ولائه المنصاع للخليل بن أحمد الفراهيدي إلا قليلاً. ثم يخرج هذا الديوان الجديد في مصر، ليُجاوِرَ بين القصيدة التقليدية والقصيدة التي تحاول أن تلبس ثوبًا معاصرًا.

تركي عامر إذًا لم يعد من ذلك النمط من المبدعين الذي ينتهجون مسارًا وحيدًا، يرون أن الحيدةَ عنه لونٌ من العبث وهدمٌ لمعبد الجمال؛ بل على العكس، ساعدتْه ثقافتُه الواسعة على الأصعدة السياسية والحدودية والإنسانية والألسنية على إدراك أن للفنِّ منابعَ أكثر ثراءً وسعةً مما نتيحُ لأنفسنا ونسمح. مكَّنتْه لغتُه الإنكليزية السليمة من النَّهْل من آدابِ الغرب مباشرةً، من غير الحاجةِ إلى وسيط يبتسرُ من طاقة المادة المقروءة، فآمنَ أن للشعر دروبًا لم يُدرجْها الخليلُ في جدولِه، فكان التحوُّل الشعري من العمود والتفعيلة إلى قصيدة النثر أو إلى الشعر الحرِّ، كما أميل أن أسمِّيها.

جاءت القصائد النثرية في الديوان قريبةً جدًّا من عوالم قصيدة النثر، وإن كانت ظلالُ التفعيلة مازالت تحوِّمُ على أجوائها، لا في صورة الوزن والموسيقى، لكنْ في طرائق ارتياد الصياغات والجنوح نحو التجريد وانفلات حبل التكثيف والتقشُّف من بين أصابع الشاعر.

وكانت قصيدة "لن أعود إلى المرعى بعد اليوم"، التي شخَّصتْ بذاتها – كصرخة تمرُّد واحتجاج على الشعر القديم والبحور الخليلية التي رَكَدَتْ منذ الحداثة الشعرية – ثورةً على الانصياع التام لأسْرِ اللغة حين تقبض على أعناقنا، فتغدو أنشوطةً و"مشنقة"، بدلاً من أن تكون أداةً وسبيلاً. ولا يفوتنا الملمَح الساخر في القصيدة حين يقول:

سقطتْ مطرَقةٌ/ من شرْفةِ هذا المساء/ لتستقرَّ على سطحِ بحرٍ من رخامٍ أبيضَ/ ثمةَ سبابةٌ من خزف/ وإبهام/ يمسكانِ بريشةِ عنقاء/ سالَ دَمٌ أسوَد/ بما فيهِ الكفاية/ لترميمِ لسانِ العرب/ بطريقةٍ مخالفةٍ لشريعةِ الرويِّ/ .../ تعمَّمَ الطوفان/ فاختبأتْ فاكهةُ البحرِ/ في بطنِ حوت/ حالمةً بأفقٍ/ يفضي إلى شواطئِ شمسٍ تشرقُ من شمال/ فأنشأ الرَّاعي يقولُ شعرًا/ لن أذهبَ إلى المرعى بعدَ اليوم/ فلتفلتِ الذِّئاب/ وَليفْنَ الغنم.

وفي قصيدة "المشنقة" يقول:

لن أُفَعْلِلَ السطورَ ولو دارت رحى داحس والغبراء من جديد/ فليشق الفراهيدي بحره بعصا سحرية/ .../ لن أثقلها بالقوافي/ فالأكسِسْوارات للراقصات/ وقصيدة النثر ليست جارية.

هنا الثورة على الرويِّ والقوافي وبحور الخليل والحلي اللغوية الناتئة؛ الثورة على "مشانق" الموروث؛ الثورة على كلِّ تقليد ثابت وعلى كلِّ إطار قارٍّ مستقر، حتى تشرق الشمس من الشمال، وليفلتَ الذئب وتضيع الغنم!

ويجب أن نشير، في هذا المقام، إلى أن تركي عامر من هؤلاء الشعراء الذين امتلكوا بحق تمكنًّا لغويًّا وصرفيًّا مدهشًا؛ فجاءت قصائد الديوان كاملةً منضَّضةَ الأحرف، بغير خطأ نحويٍّ أو صرفيٍّ واحد، ما يعمِّق المفارقة في محاولته التمرد والثورة على ما يعشق ويحب.

وعودٌ على مسألة التجريد في الشعر – وأنا هنا لا أنفي الشعريةَ عن القصائد التي تجنح إليها، لأنني مازلت أراها أحد منابع الشعر التي، لو أُجيدَ اللعب عليها، لكان في وسعها بناء قصيدة جيدة. فآليةُ التفكير البشريِّ – خاصة عند المثقفِ المحلِّل – تنبع من التجريد، ثم تمشي صوب العينيِّ، لتطبِّق الفكرةَ المجرَّدة عليه، ثم تعود مجددًا إلى منطقة التجريد في صورة تنظير فلسفيٍّ وفكريٍّ. وأظن أن الشاعرَ يحاول دومًا اقتناصَ لحظاتٍ بعينها في مراحلَ مفصليةٍ من هذا التحول، فيكون الشعر الجميل.

وأزعم أن قصيدة النثر تقف عند المرحلة الوسطى تلك. فهي تحاول أن تجذبَ المجرَّدَ من فضاءِ الهيوليِّ غير العينيِّ إلى ساحةِ الملموس – وهي عملية ليست باليسيرة. وفي هذا ردٌّ على الذاهبين إلى أن قصيدة النثر استسهالٌ في كتابة الشعر. هؤلاء يظنون – حقًّا أو ادِّعاءً – أنها إنما تحررتْ من الوزن الخليليِّ و المجاز المستهَلك وحسب؛ لكن الشاهدَ أن قصيدة النثر – الحقيقية – لونٌ شعري مغاير، شكلاً ومضمونًا ومنهجًا وفلسفةً، لألوان الشعر التقليدية.

على أن عبارة "لن أعودَ إلى المرعى" – عنوان الديوان وعنوان قصيدة النثر الأولى في الديوان – يجب الوقوف عندها والنظر فيها. فخروج تركي عامر من أسْرِ الخليل إلى فضاء الشعر الرحب، واختياره الطريق الأصعبَ في الكتابة، أمرٌ محمود بطبيعة الحال، لأنه يشي برغبة في الإنصات إلى العالم والوجود، ويؤكد إيمانَه بأن الشكل والمضمون كلٌّ متجادلٌ متحاوِر متفاعِل يفرزُ بعضُه بعضًا. فشكلُ الفنِّ في كلِّ عصرٍ يجبُ ألا ينفصم عن طبيعة الحياة والبيئة في العصر ذاته على الصُعُدِ السياسية والاجتماعية والإنسانية والفكرية – وإلا غدا الفنُّ فرارًا وعزلةً واعتكافًا في برجٍ عالٍ يقترب من السماء ولا يصلها، ينبت عن الأرض ولا يلامسها، فيغدو المبدع كائنًا منقسمًا، يرى الكونَ من منظارٍ متعالٍ، لا يشتجرُ مع مفردات الحياة، ولا يعبأ بها.

ذاك أن عنوان الديوان يثير تساؤلاتٍ حول طبيعة الألوان الشعرية ومآلها. ولأن السؤالَ عادةً ما يقترحُ، من متْنِه، إجاباتٍ عليه، سأطرح ما استطعتُ رصدَه من رؤًى استفساريةٍ حول هذه الموضوعة:

-       هل ثمة جزمٌ وحدودٌ فاصلةٌ حاسمة بين الألوان الشعرية؟ أو هل ثمة أسوارٌ تفصلُ بين مراعٍ متجاورة متباعدة؟

-       هل تتواجه الاتجاهاتُ الشعريةُ في صراعٍ إزاحيٍّ ينفي بعضُها بعضًا؟ أم تتجاور في توازٍ، من غير أن ينظر أحدها إلى الأخرى – إمَّا إنكارًا وإمَّا استنكارًا – في سلامٍ أشبه بالحروب الباردة؟ أم تتجاور في جدليةٍ متحاورةٍ، ثريةٍ بالشعرِ، مُثْريةٍ له، غير منتقصةٍ منه؟

-       هل في وسعنا أن نوسِّع "فضاءَ المرعى"، ندخله ونخرج منه ونعود إليه من جديد، نهدمه ونعيد بناءه ونضيف إلى جغرافيته وفضائه شعرًا وفكرًا وفلسفةً في السياق الذي يخدم نصَّنا الأحدث والأقرب إلى المعاصرة؟

-       هل هَجَرَ تركي عامر "المرعى الخليليَّ" نهائيًّا؟ أم سيزورُه بين الحين والآخر؟ أم سيهدم أسوارَه الحاجبةَ، ليطلقَ مساحتَه على المدى الأرحب؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود