تأمُّلات قبل النوم

"السرُّ هو أنَّنا آلهة، والبؤس هو أنَّنا أصبحنا متسوِّلين"

 

جميل قاسم

 

حين تحدث نيتشه عن تعاليم البوذا في كتابه هو ذا الإنسان Ecce homo وَصَفَها بأنها "نظام صحِّي" يحرِّر الأخلاق من الضغينة، سمة الأديان "الأخلاقية". وبالفعل، تسمو البوذيةُ بالدين، فتجعله أقرب إلى الفضيلة منه إلى "الأخلاق". فالأخلاق غايتها الأمر والنهي، العقاب والثواب، الحق والواجب، وهي أقرب إلى تعاليم العقل وتكاليفه؛ أما الفضيلة فغايتها الحكمة والسمو والتعالي، وهي أقرب إلى منطق الحياة. وفي "ما يتعدى الخير والشر" (عنوان أحد كتب نيتشه)، تسعى البوذية إلى "تحرير الروح" من علائق المادة بتحويل العلاقة ما بين المادة والروح إلى علاقة وجودية مناطها التحرر من الذات والذاتية!

دعا البوذا ("المتنوِّر" بالسنسكريتية) إلى التجرد والزهد والتخلص من شهوات الجسد، من خلال جدلية الألم (بوصفه حقيقة الوجود الأولى)، فأصل الألم (الرغبة)، فالطريق المؤدي إلى الخلاص من الألم بالقضاء على الرغبة، الذي يتسنَّم ذروته في الفناء في المطلق (نيرفانا). وعلى أساس هذا السعي إلى التحرر من "الأنا" وتحقيق الوعي المتنوِّر، القائم على الرحمة والتعالي والتناغم بين الموجود والوجود، الكائن والكينونة، وصولاً إلى "النعمة"، قامت البوذية على مذهب أنثروپولوجي يجعل الألوهةَ في القلب من الطبيعة والإنسان والوجود.

وإذا كان "الوعي الشقي"، بتعبير هيغل، يقوم في اليهودية على فكرة "توحيد عبادة" monolâtrie الإله اليهودي، وفي المسيحية على الزهد، وفي الإسلام على النزعة الثيوقراطية (شمولية الدين والدنيا والدولة)، فهل تخلو البوذية، حقًّا، من الوعي الشقي؟

لعل الوعي الشقي في البوذية هو في التراتبية التي تحيل الدين، حتى لو تحول إلى فضيلة، إلى "مذهب" يحرسه شيخ هندي guru، "يحدِّد" الفضيلة بحدود حكمته المتناهية، فيما الحكمة، بطبيعتها، تصبو إلى الحق لذاته والحقيقة لذاتها. ومن علامات هذه "المذهبية" مناوأتها للفلسفة التي تحوِّل الألوهةَ إلى سؤال أونطولوجي، ميتافيزيقي، لا يمكن التوصل إلى ماهيته إلا من خلال ظواهرية الوجود، من خلال العلم والفلسفة والحق والحقيقة؛ وهو سؤال نصل فيه ولا نصل إلى "الحقيقة" في التأمل الروحي المحض. تُنتقَص الفضيلةُ حين ترفض فضيلةَ العقل والفلسفة، حتى لو جرَّدت الدينَ من الحرف والقشور واكتفت بالمعنى واللباب.

الله في الوجود

لكن فضيلة البوذية، بالمقارنة مع أديان التوحيد الأخرى، تظل قائمةً في جعلها الله متجذرًا في الوجود، وفي الذات، وفي النفس، على طريقة الصوفية الكبار، المؤمنين بـ"دين الحب" والحق والحقيقة، أنَّى كانت ظواهرُها.

كتاب تأملات قبل النوم[1]، يقدِّم الناشرُ مؤلِّفَه أوشو، معلِّم الزِنْ الهندي، بوصفه أستاذًا للفلسفة وواحدًا من أعظم المثقفين عبر العصور، وبصفته صاحب تعاليم في علوم التحول والتجاوز. والكتاب هو من المصنفات البوذية المستحدثة التي تنطوي على ادعاء التجاوز والاختلاف والجدة الدينية/الدنيوية (في منطق "السوق الروحانية"). فلماذا "قبل" النوم، مثلاً، وليس "بعده"؟ أليس ثمة "يقظة" و"نهضة" في هاجرة النهار أيضًا، في جدلية الصحو والمحو، الوجود والعدم؟!

أوشو (بهگفان شري راجنيش، 1931-1990)

تدعو بوذية أوشو الإنسانَ إلى التجذر في الوجود وفتح النوافذ على الوجود، بأن يذهب الإنسانُ إلى الله لا نتيجة للخوف، وإنما من خلال الحب. "المحبة" ليست مسيحية، ولا إسلامية، ولا هندوسية. وإذا كان القديس يوحنا يرى أن "الله محبة"، وإذا كان نبي جبران يعكس المقولةَ نفسَها في قوله: "لا تقل: الله في قلبي، ولكن قُلْ: أنا في قلب الله"، فإن أوشو يقول "الحب هو الله". وفي هذا اقتراب من مفهوم ابن عربي لـ"دين الحب": "الحب ديني وإيماني".

تدعو وجودية أوشو إلى التخلِّي الكامل عن الذات، حتى محو الأنا؛ وفي لحظة النيرفانا العدمية هذه تتلاقى السماءُ بالأرض، والله بالإنسان، والخلقُ بالحق. ودرامية البوذية هي هاهنا في ذهاب الإنسان إلى ما وراء إرادته ليحقق "الإرادة": كيف يصبح المرءُ سيدًا آمرًا ناهيًا ومعلمًا بالتخلِّي عن الإرادة – تلك هي الوجودية العدمية المقلوبة والتحقق السلبي للكينونة الإنسانية!

ارقص!

تتلاقى البوذية مع الفلسفة النيتشوية في مفهومَي العلم والدين "الجَذِل" gai savoir، حيث الطريقة الوحيدة للحياة هي أن تغنِّي، ترقص، تتفتح، وأن تكون مبدعًا، تُراقِص النجوم والأشجار وأمواج المحيطات... ولكنها تختلف في مقولة "موت الله" و"حياته". وعند أوشو أن الله هو النعمة والبركة والخلود. وإذا قتلت الكنيسة الله، حسب نيتشه، فالرهبان، حسب أوشو، لا يستطيعون أن يقتلوا الله "الحقيقي"، وإنما الله "الذي ابتدعوه لأنفسهم" (ص 21).

المال، السلطة، المكانة – كلها زوائد يمكن التخلِّي عنها في مقابل التأمل والصلاة والألوهة. فمَن يقوم، إذن، بالبناء والتنمية وإعمار العالم؟! وهل يمكن إعمار الذات دون إعمار العالم؟! "الگورو" أوشو غير معنيٍّ بهذا السؤال، وذلك لأن الإنسان، في رأيه، لا يمكن له أن يعرف العالم إلا من خلال معرفته لكينونته والتلاشي في الألوهة! ولأن كل ما هو موجود على الأرض موجود في السماء، هل يمكن لنا أن نقلب السؤال، فنقول إن كل ما هو في السماء موجود على الأرض؟ ما معنى الامتلاء بالوجود، إذن، إذا كان كل ما على الأرض موجودًا في السماء؟ وكيف يصبح الموجود هاهنا وجودًا مفارقًا إذا لم يكن الامتلاءُ بالوجود هو الامتلاء بالحياة، لا بالماوراء؟ – ما وراء الحياة–الوجود. الوجود في البوذية – وهي وجودية أوشو – ليس هو "حضور الكينونة" Da-sein (هيدگِّر)، بل هو الوجود في الله، حيث يكتشف الإنسانُ، في وصوله إلى مركز ذاته، سرَّه الإلهي: "السر هو أننا آلهة، والبؤس هو أننا أصبحنا متسولين." (ص 30)

هل يعني كوننا "آلهة" أننا نمتلك قرار الروح والوعي والكينونة. كلا! فالروح، حسب أوشو، ليست ملكًا لنا؛ إنها انسياب القدرة الكلِّية فينا. أما نحن فلاشيء! إنه الوقوع في "اللاشيئية". كيف يمكن للإنسان الإلهي أن يكون "لاشيء"؟! هل يحقق وجودَه من خلال اللاوجود، العدم؟ نعم! تلك علامة من علامات "الوعي الشقي" في البوذية[2].

وعلى هذا الأساس، يخالف أوشو التأملَ الغربيَّ التفكير في الشرق. التأمل، يقول، يعني حالة من "اللاتفكير" يضع العقل جانبًا استعدادًا للتعرف إلى الألوهة!

كتاب أوشو الجميل بتأملاته، بلغته الإنسانية التي صاغها المترجم الشاعر صفوان حيدر كما تصاغ الدرر والجواهر، يريد مع ذلك أن يقنعنا بأولوية العدم على الوجود، والماوراء على الوجود، في هاجرة الوجود والعالم...

*** *** ***

عن السفير، 13/06/2006


[1] أوشو، تأملات قبل النوم يومًا بعد يوم، بترجمة صفوان حيدر، دار الخيَّال، بيروت.

[2] مع الاحترام اللائق كلِّه للدكتور جميل قاسم، لا يمكن لنا أن ننشر تعليقاته على البوذية، المليئة بالمغالطات والمفتقرة إلى الدقة (وهذا ناجم عن مماهاته بينها وبين "بوذية" أوشو التي لا تمثل غير فهم أوشو الخاص للبوذية)، من غير تعقيب! يتركز رهان البوذية برمته في قدرة الإنسان على الانعتاق من عجلة الولادات والميتات التي تلقي به في هوة الألم. ولأنه ما من "إله" شدَّه إلى هذه العجلة (سمسارا) فليس خلاصه منوطًا بأحد سواه. وبذلك تعود إلى الإنسان كرامتُه ومنزلتُه اللائقتان به ككائن. "الرهبان" البوذيون مدرِّسون للـدهرما ("العقيدة")، وليسوا أبدًا وسطاء أو "مرجعيات" بين الإنسان والحقيقة (لا گورو في البوذية). ولأن البوذية لا تقدِّم نفسها بوصفها "وحيًا مُنزَلاً"، فإنها لا تفرض أي شيء، بل تقترح بالحري "تعليلاً" منطقيًّا و"تحليلاً" موضوعيًّا للآلية المسؤولة عن ألم الإنسان وعبوديته (فهي، إذن، "فلسفة عقلانية" و"علم نفس" في آنٍ معًا): كل علَّة تحتِّم معلولاً، يصير بدوره علَّة لمعلولات متلاحقة (قانون كرما)؛ وما من تدخُّل، أيًّا كان مصدره، يمكن أن يجعل الواقع على غير ما هو عليه. لا شيء في البوذية يدعى "خطيئة" أو "معصية" (بمعنى إساءة تثير سخط "رب" أو "إله")؛ لكن كل فعل خاطئ، أي في غير محلِّه، يقود إلى الألم حتمًا. ولئن كانت البوذية تمنح الإنسانَ قدرةً مذهلة، وتلقي على عاتقه المسؤوليةَ التامةَ عن مصيره وخلاصه، إلا أنها في الوقت نفسه تنفيه كشخص أو "أنا": فالأنيَّة ego، من وجهة النظر البوذية، ما هي إلا ملتقى طُرُق لمؤثِّرات خاضعة للتحول الدائم. وربما رأى بعضهم (كالدكتور قاسم) في هذه الفكرة، عن غير تمحيص، تناقضًا أساسيًّا في الديالكتيك البوذي؛ غير أن الأنيَّة في نظر البوذية ليس لها وجود في ذاتها، شأنها في ذلك شأن العالم: إن كل ما نصادفه أو نكتشفه في أنفسنا وفي كلِّ ما تقع عليه حواسُنا من العالم مقيَّد وزائل، وبالتالي "غير حقيقي" بالمعنى البوذي للكلمة. لذا على المرء، كي يكون "حقيقيًّا"، ألا يكون محدودًا بشيء، مقيَّدًا به، وألا يتكل في انعتاقه على أي كائن آخر أو ظرف خارجي – وفي عبارة أخرى، عليه أن يكون كليًّا. وهذا قطعًا ينفي عنه الشكلانية والاسمية. من هنا فإن النيرفانا ليس إلا "فناء" الأنية الوهمية، بما يجعل الإنسان يعي أنه في الحقيقة "كل شيء"! وإن وعي فراغ هذه الأنية الزائفة وفراغ الأشكال من أية ماهية دائمة هو السبيل إلى تحقيق الانعتاق. والسلوك في هذا السبيل ليس بالأمر السهل على الإطلاق؛ إذ إنه يتطلب مجهودًا جبارًا ويقظةً للانتباه متواصلة وسبرًا عميقًا للنفس يخترق الفكرَ الذي يتم بذلك تجاوُزه إلى الوعي الكلِّي. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود