الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية

هوشنگ بروكا

فاتحة

إن تاريخ الدين – أيِّ دين – هو في النهاية تأريخٌ لوقائعَ قدسيةٍ كانتْ في البدء. هو تاريخٌ يشدنا إلى "البدايات": بداية كلِّ شيء، بدايات العدم والوجود على حدٍّ سواء. هو تاريخ "كلِّي القدرة"، مفتوح على الاحتمالات كافة، لأنه "صحيح". وعليه يتأسَّس المقدس، في مكان وزمان مقدسين. تاريخ الدين/تاريخ الآلهة، حسب ميرتشا إليادِه،

[...] هو التاريخ "الصادق" الذي "لا غبار عليه" لأنه تاريخ يتحدث عن أصل العالم. أما الفاعلون فيه فهم كائنات إلهية، وكائنات فائقة الطبيعة، وموجودات سماوية أو فلكية. لذا ففي التواريخ "الصادقة" نرى أنفسنا أمام المقدس وفائق الطبيعة. وعلى النقيض من ذلك، نكون في التواريخ "الكاذبة" أمام محتوى دنيوي وأمام مضامين مستمَدة من مجرى الحياة العادية.[1]

فالتاريخ الديني "الكلِّي القدرة"، "الصادق" و"الصحيح"، تاريخ يتخذ من الأكوان الميثولوجية جغرافيةً لتسطير امتداداته، ومن الأسطورة مادةً لـ"سوپرمَنَة"[2] وقائعه. بذا يكون الموقفُ "الإيماني" من الشيء هو، في النهاية، محاولة للعيش في لحظاته. وما تقرُّب الإنسان من آلهته إلا محاولة لـ"تحيين" actualize تلك الأزمان المقدسة والتواريخ "الصادقة" التي عاشتْها؛ في عبارة أخرى، هي محاولة لـ"عَصْرَنَة" تاريخ الآلهة كي يؤسِّس عليه تاريخَه هو:

إن الإنسان، إذ يحيِّن التاريخَ المقدس ويحاكي المسلكَ الإلهي، يقيم ويبقى بالقرب من الآلهة، أي في الحقيقي وذي المعنى. [...] فالإنسان الديني، مهما كان السياق التاريخي الذي يغرق فيه، يؤمن دائمًا بأن حقيقةً مطلقةً موجودةٌ دائمًا، وأعني بها المقدس الذي يخترق هذا العالم ويتجلَّى فيه في نفس الوقت؛ وهو لهذا السبب يقدِّس العالم ويعترف به حقيقيًّا. فهو يؤمن أن للحياة أصلاً مقدسًا، وأن الوجود البشري يحرِّك جميع قواها الكامنة بمقدار ما هو وجود ديني، أي: المشاركة في "الحقيقة".[3]

إن الدين ليس مجرد عقائد وطقوس وحكايات legends وأكوان "خرافية" (بمعناها السلبي)، إنما هو أشمل من ذلك بكثير. لهذا فإن ما يتحقق منه مؤرخُ الأديان،

[...] حين يضع نفسَه في منظور الإنسان الديني الذي ينتسب إلى المجتمعات القديمة، هو أن العالمَ موجودٌ لأن الآلهة خلقتْه، وأن وجود العالم نفسه "يعني" شيئًا ما. فالعالم ليس أخرس ولا كثيفًا، ليس شيئًا جامدًا، لا هدف له أو معنًى. عند الإنسان الديني، الكونُ "يعيش" و"ينطق".[4]

فمن مهمة دارس الأديان، قبل كلِّ شيء، استنطاق ذاك الكون الذي "يعيش" و"ينطق"، دغدغة تلك الأكوان الميثولوجية وملامستها، علَّه يكشف لنا عن حدود العلاقة بين التاريخ "المؤلَّه" (تاريخ الآلهة) والتاريخ "المُؤنْسَن" (تاريخ الإنسان).

في هذا البحث، سوف نتناول الإيزيدية نموذجًا، وذلك بتسليط عدسة البحث على واحدة من أكثر القضايا والأفكار إثارة للجدل والنقاش، في أوساط العامَّة والمثقفين على حدٍّ سواء: فكرة طاووسي ملك، بخلفياتها الميثولوجية والتاريخية والإتيولوجية (الخاصة بعلم دراسة الأسباب والبدايات). وسوف نحاول البحثَ في كُنْه الفكرة وتحليلها في إطار نظرية "الرمز–الأسطورة" والتثاقف الميثي بين الإيزيدية، ككون سوسيوميثولوجي، وبين الأكوان السوسيوميثولوجية الأخرى[5].

آثرتُ التنظيرَ رمزيًّا واتخذتُه منهجًا في هذه الدراسة لأن الرمزَ لا يجعل العالمَ "منفتحًا" وحسب، بل يُعين الإنسانَ الديني أيضًا على بلوغ ما هو كوني:

بفضل الرموز يخرج الإنسانُ من وضعه الخاص وينفتح على العمومي والكوني. والرموز توقظ الخبرةَ وتجعل منها فعلاً روحيًّا، بالمفهوم الميتافيزيقي للعالم.[6]

إن هدف هذه الدراسة، في المقام الأول، هو تأصيل الفكرة "الطاووس ملكية"، وذلك باتخاذ المرحلة ما قبل العدوية–الشيخادية جغرافيةً لتحرُّكها، لأنها المرحلة الأكثر أصالةً وتجسيدًا لروح الإيزيدية[7].

"طاووسي ملك": الوجه الآخر للألوهة الكونية الشمولية

إن الدراسات والبحوث التي تناولتْ شخصية طاووسي ملك اللاهوتية في الميثولوجيا الإيزيدية، من منطلق ساميٍّ، باعتباره ملاكًا للشرِّ المتمرِّد على أمر الله ومشيئته، إنما هي دراسات تتنافى وحقيقةَ هذه الديانة ورؤيتها الفلسفية واللاهوتية لثنائية الخير والشر الكونيين. فطاووسي ملك، حسب الميثولوجيا الإيزيدية، مخلوقٌ من نور الله وسرِّه العزيز؛ هو الوجه الآخر للألوهة، بل هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى:

ربِّ، ملك الملك الكريم.

ملك العرش العظيم.

ربِّ قديمٌ منذ الأزل.

ربِّ، قدس الأقداس،

لكَ المديح والثناء.

ربِّ، كلُّ الجهات

تؤدي إليك،

يا ربَّ العالمين.[8]

إن هذه السبقات تؤكد في جلاء تداخُل سيماء شخصية خوه دي (الإله) مع سيماء شخصية طاووسي ملك إلى درجة الحلول والتماهي. ففي الوقت ذاته الذي يُنظَر إلى طاووسي ملك لاهوتيًّا على أنه ذاته في مستوى، يُنظر إليه على أنه الآخر/الله (خوه دي) أيضًا في مستوى ثانٍ. وعلى الرغم من أن السبقات المار ذكرها هي مقاطع من "قه ولي طاوسي مه له ك" ("دعاء طاووس ملك")، إذ يبدو فيه هذا الإله على أنه ذاته في مستواه الأول، فإن الملامحَ التي يستقرئها القارئ من بين ثنايا النص ودهاليزه هي ملامحُ الإله الراجح في مستواه الثاني، أي ملامح طاووسي ملك في كونه الله ذاته (خوه دي). لهذا يصعب على الإيزيدي الفصلُ بين حدود إيمانه بالله وحدود إيمانه بطاووسي ملك: فالتعالق الميثي بين شخصية الله وشخصية طاووسي ملك في وعي الإيزيدي له مرجعيته اللاهوتية والإتيولوجية الضاربة في أعماق التاريخ والأسطورة على حدٍّ سواء.

إن الأديان الساميَّة، وقبلها الزرادشتية، تنظر إلى الإله باعتباره مصدرًا للخير المطلق فقط؛ أما الشر "النسبي" فيأتيه من الخارج–العدو. لذا فالإله السامي والزرادشتي إله محض إيجابي: إيجابي في خيره، وإيجابي في صراعه مع الآخر/الشر/العدو، لأن النصرَ سيكون حليفَه في النهاية، مما يستوجب عبادةً إيجابيةً من "الداخل" المؤمن، وبالتالي، التقرب منه، باعتباره إلهًا للخير فقط، ضد قوى الشر الخارجة عن إرادته.

وإن فكرتَي الخير والشر الكونيتين لدى اليهود، باعتبارهم آباءً للفكر الديني السامي، لم تتبلورا، في رأيي، كقوتين متمثلتين في إلهين منفصلين ومتصارعين – إله للخير وإله للشر – إلا بعد فترة السبي البابلي (587 ق م) وتأثُّر الفكر اليهودي بالأفكار الزرادشتية المتأسِّسة على ذاك الصراع، التي سرعان ما استُسيغت في بابل وسائر الإمبراطورية الفارسية آنذاك، فأصبح الرب وإبليس عند اليهود نظيرين لـأهورامزدا وأهريمان (إنكرامانيو)، ليتحولَ الربُّ التوراتي لاحقًا من إله خاص باليهود إلى إله عام للبشر كافة.

في البدء، لم يحل الله في إنسان أو يتجسد فيه، بل كان موجودًا في الشيء الذي تقدِّسه العقيدةُ، وليس في كلِّ شيء. وهذا يعني أن "الله" لم يكن قد تبلور عند بني إسرائيل كمفهوم واقعي باعتباره موجودًا في كلِّ شيء، وإنما يتحقق فعلُه في اللحظة الإبداعية: يفرح فيثيب، يغضب فيبطش؛ هو الحامي والمدافع والمناصر لبني إسرائيل. وقد اعتُبِر "الله" بمرور الزمن مصدرًا لكلِّ شيء: فهو مصدر الخير والشر، إله الظلام وإله النور، إله الحب والفرح وإله الدمار والخراب[9].

إن ظهورَ الشرِّ وتبلوره في الفكر الديني كقوة أو كإله سلبي مستقل، قائم بذاته، أمام جبروت خير الإله الإيجابي هو من مفرزات الصراع التاريخي المرير بين الآلهة القمرية–الأنثوية وبين الآلهة الشمسية–الذكرية؛ وبالتالي، فإن بدايات الحضارة الرجولية–الذكورية تبدأ حين تسلَّم الرجل–الذكَرُ، كإله شمسي، زمامَ الأمور. يقول فراس السواح:

عندما انهارتِ الدياناتُ العشتارية [القمرية] وارتفع على أنقاضها آلهةُ الشمس الذكور، فاحتكروا وجهَ الألوهة الأبيض ورموا بوجهها الأسود إلى الأبالسة والشياطين، تحللتْ صورةُ عشتار السوداء الجليلة وتفتتتْ إلى صور مبعثرة مبتذلة يلوكها الخيالُ الشعبي ويعجنها على طريقة الحكايات الفولكلورية: ففي الغرب هي الساحرة العجوز الشمطاء التي تركب عصا المقشَّة طائرةً في الهواء؛ وفي بلادنا هي "النهَّالة" مصَّاصة الدماء، وهي السمَّاوية خاطفة الأطفال، وهي... "الغولة" آكلة البشر التي احتفظتْ بلقب "الأم"، حيث يشير إليها الناسُ دومًا على أنها... "أمنا الغولة"![10]

أما الإله الإيزيدي الجدير بالعبادة فهو إله كلِّيُّ القدرة في خيره وشره. وبمثل ما هو خيِّرٌ، هو شرير أيضًا. هو مصدر كلِّ شيء، ولا شيء خارج إرادته: إرادته على فعل الخير هي تمامًا كإرادته على فعل الشر. لذا فإن تقرُّبَ الإيزيدي إلى إلهه، وبالتالي، توسُّله إليه، يحمل في طياته إيمانيةً بثنائية الخير والشر المتجسِّدة في ذات الله (خوه دي) الواحدة. وقد عبَّر الشيخ عُدَي بن مسافر عن هذه الثنوية بصريح العبارة في قوله:

لو كان الشرُّ بغير إرادة الله لكان عاجزًا. ولا يكون العاجزُ إلهًا، لأنه لا يجوز أن يكون في داره ما لا يريده، كما لا يجوز أن يكونَ فيها ما لا يعلم به.[11]

كما أننا نستطيع قراءة ملامح وسيماء هذا الإله الثنوي في الأدب الشفاهي الإيزيدي: "إلهي، ارزقنا بالخير، ونجِّنا من الشر"، أو "الخير والشر كلاهما ينبعان من باب الله". والاستحلاف بين الإيزيديين يكون بإلهٍ للَّيل–الظلام في الوقت ذاته الذي هو إله للنهار–النور. بهذا يكون الإلهُ الإيزيدي هو الإله الذي قدرته على إمكان الخير كقدرته على إمكان الشر: هو المبتدأ والمنتهى.

إن فكرةَ عبادة الإله الكوني الشمولي، بوجهيه الأسود والأبيض، الأهريماني والأهورامزدي، هي فكرة قديمة جدًّا وأصيلة في الفكر الديني. فدين الإنسان البدائي كان دينًا متمركزًا حول مدار إله كامل في صورته وفي قدرته، إله مطلق في شرِّه وفي خيره. وإن الجغرافيا الإلهية في منظور الإنسان البدائي هي جغرافيا كوسموغونية–كوسمولوجية لا تعرف الحدود بين الخير والشر، بين إله أبيض وآخر أسود، ألوهة مظلمة وأخرى منيرة؛ فالخير والشر، الأبيض والأسود، النور والظلام، كلها توائم أزلية متجسدة في الذات الإلهية الواحدة. يقول السواح:

إن الإله الكوني الشمولي، عندما لا يجرِّد من نفسه ظلاًّ له يحمِّله مسؤوليةَ الموت وشرور الحياة، لا بدَّ له من الإمساك بخيوط القوَّتين الكونيتين بذراعيه الاثنتين: فباليمنى يمسك قوةَ الحياة والخير، وباليسرى قوةَ الموت والشر. وهنا تغدو مسألةُ استرضاء وجه الإله الأبيض واتقاء غضب وجهه الأسود الموضوعَ الأساسي للعبادة والطقوس. من هنا نستطيع أن نفهم الخصيصتين المتناقضتين للأم الكبرى للعصر الحجري، – أول إله شمولي عَبَدَه الإنسان، – كما نستطيع أن نفهمَ استمرار هاتين الخصيصتين في وريثات الأم الكبرى.[12]

ويؤكد السواح ذلك بقوله أيضًا:

وقد عبَّر إنسان العصر الحجري الحديث عن وجهَي عشتار [الإلهة الأم] المظلم والمنير بأنْ مثَّلها في هيئةٍ مزدوجة. ففي معابد شتال حيوك نجد الأمَّ الكبرى في بعض المنحوتات الجدارية وقد ازدوجت في شكلين اثنين متطابقين يولد منها الإله الابن–الثور؛ وهذان الشكلان ليسا تعبيرًا عن إلهتين منفصلتين، بل هما تعبيرٌ عن الإلهة الواحدة للعصر النيوليثي ذات الوجهين: وجه تديره نحو الحياة وآخر نحو الموت.[13]

إن ثنائية الخير والشر المتجسدة في ذات الإله–الآلهة الواحدة لم تكن في البدء، على المستوى الإيماني، ثنوية انحيازية لصالح الإله في وجهه الأبيض ضد الإله في وجهه الأسود، وإنَّما كان الإلهُ معبودًا في كلِّيته: بوجهه الأكمل وصورته المثلى، أي باعتباره خيرًا وشرًّا على حدٍّ سواءٍ. ولكن

[...] صورة الإله الأسود قد بدأتْ تزداد قتامةً وتنفصل عن صورة الإله الأبيض، حتى زالتْ عنها صفةُ الألوهة، متحولةً إلى نقيضها. ذلك أن التركيز المتزايد على الوجه المضيء للقوة الإلهية واستبعاد وجهها الأسود قد أدى بالضرورة إلى ظهور الشيطان مرافقًا للرحمن، وقام كلُّ إله أبيض بابتكار شيطانه الأسود، فحمَّله شرورَ العالم.[14]

على الرغم من أن الإيزيدية قد بُحِثَتْ ودُرِسَتْ، على مستوى "الآخر"، بوصفها "دين الشيطان" و"دين الشِّرك بالله"، إلى ما هنالك من دعاوى مغرضة، إلا أن حقيقة هذه الديانة ونصوصها الميثية تجعلنا أمام لوحة مغايرة تمامًا: فالإله الإيزيدي خوه دي/طاووسي ملك هو إله كوني شمولي: شموليٌّ في خيره وشرِّه، في نوره وظلامه، في بياضه وسواده، ولا توجد على الإطلاق إرادةٌ تعلو إرادته؛ لذا فهو لم يخلق شيطانَه بذاته، بل هو بدعةٌ واختلاقٌ من "الآخر". إن جغرافية الألوهة الإيزيدية لا تعرف للشيطان (إبليس، بعلزبول، بعل) مكانًا لها؛ وهي مصطلحات مبتدَعة ومختلَقة، وبالتالي، غريبة كلَّ الغرابة عن القاموس الإيزيدي.

إن الإله الإيزيدي على المستوى الإتيوميثولوجي، في رأيي، هو امتدادٌ للإله/الإلهة الكوسموغوني/الكوسموغونية، الأول/الأولى، حين لم يكن بمقدور الشر إعلان انفصاله كجزءٍ متمرِّد على الألوهة بصفتها وحدةً شموليةً كونية. فـإنَّانا السومرية كانت سيدةً للسماوات والعالم النوراني وسيدةً لعالم الموت وظلمات العالم السفلي. وقد تكررت هذه الألوهيةُ المزدوجة في شخصية عشتار البابلية التي

[...] تُظهِرها الأساطيرُ تارةً ابنةً لسِنْ، إله القمر، وتارةً ابنةً لآنو إله السماء. فكابنة لآنو، كانت عشتار إلهة للخصب والحب ومتع الحياة، وكابنة لسِنْ، القمر، حاكم الليل، كانت إلهةً للدمار وسيدة للحروب والمعارك.[15]

فكأن هذه الألوهية ذات الطابع الأمومي–الأنثوي الصرف لم يكن في الإمكان أن تستمرَّ في سطوتها إلى ما لا نهاية، لأنَّ الآخر، الذي هو الذكَر، فكَّر أيضًا في نيل نصيبه منها، وبالتالي، المشاركة في صنع التاريخ الألوهي القداسوي. لهذا كان لا بدَّ من بروز الابن، كإله ذكوري ناشئ، إلى جانب أمِّه، كإلهة كونية شمولية.

إن روح العالم في الأساس قائمة على مبدأ الشيء وضدِّه:

[...] ذلك المبدأ الذي أطلق عليه الفكرُ الصيني القديم اسم الـيِنْ [المبدأ السالب، وينتمي إليه كلٌّ من القمر والأنثى]، ويقابله الـيَنْغ، المبدأ الموجب الذي ينتمي إليه كلٌّ من الشمس والذكَر. من تفاعُل هاتين القوتين المتكافئتين تستمرُّ حركةُ العالم ومكوِّناته التي تتداخل فيها القوَّتان، فتتعادلان أحياناً، وتغلب إحداهما أحيانًا، دون أن تلغي الواحدةُ نظيرتَها.[16]

إن الميثولوجيا البابلية والسومرية هي الميثولوجيا الأكثر تعبيرًا عن حالة اللاحرب واللاسلم هذه. فعلى الرغم من انتصاب دوموزي/تموز، كإله ذكوري ناشئ، إلهًا ابنًا حينًا وإلهًا عاشقًا أحيانًا أخرى في حضرة الألوهة الكونية الشمولية إنَّانا/عشتار، فإنَّ حالةَ التوازن بين القطبين الإلهيين – القطب الذكوري/الـيَنغ والقطب الأنوثي/الـيِن – ظلَّتْ قائمةً حتى مراحل متأخرة من الأسطورة. يقول السواح:

ففي شكلها الأقدم كانت عشتارُ روحًا للنبات، تقضي جزءًا من السنة في باطن الأرض، وجزأها الآخر في نُسَغ الحياة النباتية، إلهةً مزدوجة تمثِّل العالمين وتنتقل بينهما، دون أن تفقد بانتقالها إلى واحد تأثيرَها على الآخر. وعندما أخذت بالخروج من مملكة الطبيعة والتحول تدريجيًّا إلى سيدة لها، بدأت صورتُها المزدوجة بالانقسام، وظهرت بدلاً عنها صورةُ الأم والابنة، حيث تابعت الأمُّ مسيرتَها نحو الأعلى، لتأخذ مكانَها أخيرًا بين آلهة السماء، وتركتْ ابنتَها حبيسةَ الحياة الطبيعية ودورة الإنبات السنوية. إلا أن هذا الانقسام لم يتم تكريسُه نهائيًّا، وبقيتِ الأمُّ ديمترا والابنة پرسفوني، في المستويات السرَّانية للأسطورة، اثنتين في واحدة وواحدة في اثنتين. أما في الميثولوجيا التي لم يُقيَّض لها أن تتابعَ خطَّ تطورها الأمومي، فقد تحول شقُّ عشتار الآخر إلى ابن أسلمتْه إلى دورة الطبيعة وتابعت مسيرتَها مع آلهة الذكور نحو الأعلى. إلا أنها هنا أيضًا قد بقيتْ متحدةً معه عند المستويات السرَّانية للأسطورة، وبقي تموز، شقُّها الآخر وجانبُها الذكري الكامن، معكوسًا نحو الخارج.[17]

ما يهمُّنا هنا هو تقرِّي الوجهَ "العشتاري"، بملامحه الذكورية–التموزية، في كلٍّ من الأسطورتين السومرية والبابلية، ومن بعدُ مقارنته مع الوجه ذاته بملامحه الطاووس ملكية في الأسطورة الإيزيدية.

إن فرضية هذا البحث قائمةٌ على أساس الاعتقاد بالتعالق الإتيوميثولوجي بين النص الرافدي، باعتباره نصًّا سابقًا، وبين النص الميثي الإيزيدي، باعتباره نصًّا لاحقًا. وسوف تحاول هذه الدراسةُ الكشفَ عن خيوط ومفاصل التعالق بين هذين النصين، السابق واللاحق، لنستشفَ في النهاية كيف أن طاووسي ملك الإيزيدي (الوجه الآخر للألوهة الكونية الشمولية، الله، خوه دي) هو نفسه دوموزي/تموز الرافدي (الوجه الآخر لإينَّانا أو عشتار، الإلهة الكونية الأم).

طاووسي ملك/تموز: الإله الإيزيدي الأكبر

الأسطورة، على مرِّ الزمن، هي "تحوُّل في التحول". وحسب كلود ليفي شتراوس، فإن

[...] هذه التحولات التي تحصل بين رواية للأسطورة الواحدة وأخرى، أو من أسطورة إلى أسطورة أخرى، أو من مجتمع إلى آخر بالنسبة إلى الأساطير نفسها أو بالنسبة لأساطير مختلفة، تؤثر على هيكلية الأسطورة، حينًا، أو على "كودها" [الشيفرة]، حينًا آخر، أو على المرسال المقصود منها، حينًا ثالثًا. لكن هذه التأثيرات لا تحُول دون بقاء الأسطورة أسطورةً. فهي تراعي بذلك ما يمكن تسميته بـ"مبدأ انحفاظ المادة الأسطورية"؛ وهو مبدأ يعمل على أن يكون من الممكن دائمًا أن تنشأ عن كلِّ أسطورة أسطورةٌ أخرى.[18]

والأسطورة التي ستحاول هذه الدراسة الاشتغالَ عليها هي أسطورة الصعود والهبوط الدوموزية/الطاووس ملكية، في مستواها الثاني كنصٍّ لاحق، التي تشكل واحدةً من أبرز حلقات تمفصُل الفكر الميثي الرافدي، بنكهته السومرية، مع الفكر الميثي الإيزيدي.

يقول صموئيل هووك:

"دوموزي" هو الشكل السومري للاسم الأشيع: تموز؛ بينما "إنانا" هي المرادف السومري لعشتار السامية، ملكة السماوات. دوموزي هو النموذج الأصلي لآلهة النبت كافة، الذين يموتون ويُبعَثون ثانيةً مع انبعاث النبت في الربيع.[19]

إن ثنائية الموت والانبعاث، التي تتكرر في شخصية دوموزي/تموز كلَّ سنة، هي تمثيل قدسي طقوسي للثنائية الفصلية ربيع/خريف. وبذا تكون الأسطورة الدوموزية ترجمةً لشعورية قوية ومبكرة بوحدة الثالوث الكوسمولوجي: الكون–الطبيعة–الإنسان؛ وهي محاولةٌ إنسيةٌ للحلول في ما هو فوق بشري، أي بمعنى القفز من ذاته كفيزيقا إلى الآخر/الإله، ككون ميتافيزيقي، ومشاركة الطبيعة أفراحها وأتراحها في هستيريا قداسوية. فالسنة الرافدية كانت عبارة عن فصلين فقط: ربيع، الفصل الأخضر، جهة الإخصاب والإنبات، وخريف، الفصل الأصفر، جهة الموت والعذابات. وما أسطورة الصعود والهبوط الدوموزية التي اتخذت من هذه الثنائية الفصلية متنًا لمادتها الأسطورية إلا محاكاة بشرية للما فوق بشري، استعدادًا لعبور مقدس من الظهورات الطبيعية إلى الظهورات الإلهية في أقدس تجلِّياتها. وعلى حدِّ قول ميرتشا إليادِه، فإن "الطبيعة"، في نظر مَن لديهم خبرة دينية، "كلها قابلة لأن تتجلَّى بوصفها قدسية كونية"[20]. إن دورة حياة القمح، مثلاً، على حدِّ ما يستنتج فراس السواح،

[...] ليست سوى دورة حياة الآلهة التي تقضي جزءًا من السنة في العالم السفلي وجزءًا في العالم الأعلى. وجملة الأعمال الزراعية التي يقوم بها الإنسان، من حصاد وحرث وبذارٍ وما إليها، ليست أعمالاً دنيوية، بل طقوس دينية مقدسة يمارسها على هامش الدراما الإلهي الكوني، مساعَدةً لروح الطبيعة على إتمام دورتها السنوية والعودة مجددًا في الربيع لتَهَبَه غذاءَ عام آخر. فإذا كانت روحُ الطبيعة والإنبات في الماضي تغيب في باطن الأرض ثم تعود دون تدخُّل من أحد، فإن روح القمح والحبوب تتطلب مساهمةً من الإنسان وتدخُّلاً من خلال عمله المقدس وطقوسه وصلواته.[21]

فالفعل "الدنيوي"، وكل ما يقوم به الإنسان على المستوى الحياتي، ما هو إلا تكرار لأفعال الآلهة التي قامت بها في "زمن البدايات". فكما تقول الحكمة الهندية: "كما فعلتِ الآلهةُ كذلك يفعل البشرُ." تكررت هذه الحكمة على لسان السيد المسيح أيضًا حين قال:

"الحق الحق أقول لكم: مَن يؤمن بي فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها، لأني ماضٍ إلى أبي."[22]

وإذا كانت دورةُ الإنبات وحياة الطبيعة، في تعاقُب فصولها، قد أُلِّهتْ من خلال تعالُقها على المستوى الميثي–اللاهوتي بدورة الصعود والهبوط التموزية من وإلى العالمين السفلي والعلوي في الأسطورة العشتارية الأولى، فإنها، على المستوى ذاته، قد تعالقت مع دورة الصعود والهبوط الطاووس ملكية في الأسطورة الإيزيدية.

فمَن هو طاووسي ملك، الصاعد والهابط على مدار الفصول؟ وكيف تُقرَأ ملامحُه في الميثولوجيا الإيزيدية؟ كيف تتشاكل صورةُ دوموزي/تموز في الأسطورة العشتارية الأولى مع صورة طاووسي ملك في الأسطورة الإيزيدية؟ وهل يمكن القولَ بأن أسماء دوموزي/تموز/طاووسي ملك كلها أسماء لمسمًّى واحدٍ؟ وإن كان طاووسي ملك، على مستوى الدور والوظيفة، ليس إلا انزياحًا عن النموذج الأصلي دوموزي/تموز (كما تذهب إليه هذه الدراسة)، فما هي الملامح "التموزية" في شخصية طاووسي ملك؟

في المصطلح

على الرغم من علوِّ شأن طاووسي ملك، باعتباره إلهًا كلِّيَّ القدرة في الديانة الإيزيدية، إلا أنه لا يزال، كفكرة لاهوتية أصلية، يعوم في جوٍّ من الضبابية والسرَّانية الملغَّزة، سواء على مستوى الباحث الخبير أو على مستوى المؤمن المستسلم لأقداره. قلَّةٌ قليلةٌ من الباحثين والدارسين حاولوا الإبحارَ في هذا "الشمال"، ربما لصعوبة عبوره، فبات "شمالاً" إشكاليًّا بين كَرِّ الخالق وفَرِّ المخلوق! لذا فطَرْقُ باب موضوع شديد الحساسية كهذا لا بدَّ أن يفتح المجال واسعًا أمام العديد من الإشكاليات. وأولى هذه الإشكاليات إشكاليةُ المصطلح. وفي خصوص الإشكالية الاصطلاحية حول أصل فكرة طاووسي ملك/تاوز وحيثياتها من الناحية المورفولوجية والميثولوجية، هناك أربع فرضيات رئيسة مطروحة للنقاش:

1. فرضية التعريب والأسلمة

دعاة هذه الفرضية[23] يعيدون لفظة "طاووس" الإيزيدية إلى الطوس. و"الطوس"، لغةً، حسب زعمهم، هي كلمة عربية، إسلامية صرف؛ وتأتي في اللغة بمعنى "حُسْن الوجه ونضارته"، ومنه اشتُقَّ "طاووس". ويُعَد صديق الدملوجي من أهم المروِّجين لهذه الفرضية وأكثرهم تحمسًا لها؛ إذ يحاجج في كتابه الموسوم بـاليزيدية بقوله:

إن كتب السِّيَر والتاريخ والتفسير تدلُّ على أن الملك المنبوذ، قبل أن يُطرَد من الجنَّة، كان يُسمَّى بـ "طاووس الملائكة" لِلَطافة شكله وجمال صورته.[24]

في بحث آخر لنا، أخضعنا هذه الفرضية للتنظير، على مستويات عدة، فبدتْ لنا فرضيةً "فقيرة" في محاججتها، ميثولوجيًّا ومورفولوجيًّا ومنطقيًّا[25]، ثم بينَّا كيف أن الإيزيدية لا تسبق الإسلام فحسب، بل والميلاد أيضًا بقرون عديدة.

2. فرضية "الشَّمْسَنَة"[26]

دُعاة هذه الفرضية يرون بأن طاووسي ملك هو شمس، شمش، أو شماس، إله الشمس البابلي ذاته، الذي تتطابق مواصفاتُه مع مواصفات طاووسي ملك، باعتبارهما مرموزين إلى الكمال وإلهين للشمس والحياة السعيدة. وكان إله الشمس (شمش/شماس) في معتقدات العراق القديم يمثَّل بدائرة ذات أربعة أشعة، تتخلَّلها أشعةٌ مجعدة، دلالةً على المعبود الشمسي. أما رمز طيران الشمس وحركتها، فكان يصوَّر على شكل كرة ضوئية ذات أجنحة، مذيَّلة بذيل من الأشعة على شاكلة ذيل طائر. ولإله الشمس/شماس في ميثولوجيا العراق القديم دورٌ مماثلٌ لدور "الشيخ شمس"/شيشمس/طاووسي ملك: فكلاهما يمنح العالمَ النورَ والحيوية، إضافةً إلى تجسيدهما للخير والكمال المطلق في ذاتيهما[27].

3. فرضية "المَثْرَنَة"[28]

أصحاب هذه الفرضية يخلصون إلى القول بأن الإيزيدية هي بقايا الديانة الميثرائية؛ وطاووسي ملك، حسب زعمهم، هو رب الأرباب الميثرائي، أي ميثرا نفسه. كلاهما يجسِّد الخيرَ والشرَّ معًا كقوتين إلهيتين في ذاتيهما. فطاووسي ملك هو الوجه الآخر للألوهة، بل هو الإله/خوه دي ذاته واسمٌ من أسمائه، حسبما يَرِدُ في التراث وعلم الصَّدر الإيزيديين. والإله الإيزيدي الواجب عبادته، كما أسلفنا، هو الإله الشمولي المطلق، الكلِّي القدرة في خيره وشرِّه، الذي لا حدود في صورته بين الأبيض والأسود. إن ملامح الإله الأكبر/ميثرا تتشاكل إلى حدٍّ كبير مع صورة الإله الإيزيدي هذه (اثنان في واحد): ففي الوقت ذاته الذي يُعبَد فيه ميثرا كإله للخير والبركة والحياة السعيدة، يُعبَد أيضًا على أنه إله للحرب والكوارث. وعلى حدِّ زعم دُعاة هذه الفرضية، فإن

[...] ميثرا يشبه لوغوس القديم (ابن الله، أو "الكلمة" الإلهي): فهو انبعاث الله وندَّه وسلطانه. [...] والأمر يشبه إلى حدٍّ كبير كون "طاووسي ملك" انبعاثًا من "الله" ومسؤولاً أمامه وندًّا له لحماية العالم وحفظه، حسب اعتقاد اليزيدية. وقد انبعث فيه بالتناوب ستةُ آلهة، جميعهم عبارة عن ذاتية واحدة.[29]

4. فرضية تموز–البؤرة

أما دُعاة هذه الفرضية فيرون أن لفظة طاووس/تاوز/طاوز مشتقة من "تموز" ومحرَّفة عنها. وتموز هو اسم الإله البابلي المقابل لمُرادفه السومري: دوموزي. وأصحاب هذا الرأي يرون تشابهًا كبيرًا على مستوى الدور والوظيفة بين طاووسي ملك في الإيزيدية وبين تموز/دوموزي في الديانات السومرية والبابلية: كلاهما يشكِّل مع ذات الإله/الآلهة أقنومين في واحد. ومن المرجَّح جدًّا أن تكون لفظتا زيوس Zeus وثيوس Theos المسيحية لاحقًا مشتقَّتين من تموز/تاوز (طاوز)/دوموزي التي تفيد، على المستويين المورفولوجي والميثولوجي، المعنى ذاته، أي "رب الأرباب"؛ فتكون بذلك طاووس/تاوز (طاوز)/ثيوس/زيوس كلها ألفاظٌ متقاربة ومُسنَدة إلى مرجعية واحدة هي: تموز/دوموزي، من حيث كونُه البؤرة الأسطورية الأولى.

تتخذ هذه الدراسةُ من الفرضية الأخيرة أساسًا نظريًّا لتحرُّكها. وستحاول، من خلال طرحها لحُجَجها، تقرِّي ملامح وجه تموز الإيزيدي في تخوم محاكاته لـ"تموز–البؤرة"، أي تموز السومري.

إن أية محاولة لدراسة الطقوس التموزية في الإيزيدية لا بدَّ أن تعبرَ زمانين يُعتبَران الأقدس والأكثر إشكالاً في تاريخ وميثولوجيا هذه الديانة:

-       الزمان الأول: زمان الاحتفاء بعودة السرِّ المقدس/زمان الحضور: كلُّ شيء يبدو في حضرة هذا الزمان بهيجًا، فرحًا بقدوم ذاك السر من رحلته الشاقة المقدسة. هذا الزمان هو من الأيام يوم الأربعاء، ومن الشهور شهر نيسان، ومن الفصول فصل الربيع؛ ويُصادَف في الأربعاء الأول من كلِّ نيسان بحسب التقويم الشرقي/الغريغوري (تتأخر السنة الشرقية عن السنة الغربية–الميلادية بثلاثة عشر يومًا).

-       الزمان الثاني: زمان استمطار الحزن على رحيل السرِّ المقدس/زمان الغياب: وهو زمانٌ كئيبٌ بكلِّ أشيائه، إلى كونه زمانًا عنيفًا لرحيل ذاك السر إلى الآخرة/عالم الأموات. يمتد هذا الزمان باستمطاره للعنف والكآبة من 23 إلى 30 أيلول، بحسب التقويم الشرقي.

هذان الزمانان يشكِّلان، في رأيي، انزياحًا عن زمانين كانا في البدء، هما زمانا أسطورة القمح الرافدية وأسفاره بين الموت والحياة، كميت–حيٍّ حينًا، وحي–ميت حينًا آخر.

المفهوم التاريخي والوجودي للزمان

الزمان التاريخي هو ذلك الزمان العادي، "الضعيف"، الذي يجري الإنسانُ، بكلِّ أشيائه، معه. فهو زمان "مُؤنْسَن"، إن صحَّ التعبير؛ هو زمان لتأريخ الإنسان وأشيائه. وإلى جانب كونه زمانًا محددًا ومغلقًا، فهو أيضًا زمان لا يعيد نفسه. ويسمِّي ميرتشا إليادِه هذا الزمان بـ"الزمن الدنيوي" أو "الديمومة العادية التي تندرج فيها الأفعالُ المجردة من المعنى الديني"[30]. وبحسب عبد الرحمن بدوي،

إذا كان هذا الزمان [التاريخي] زمانًا منسيًّا في "خبر كان"، فإن الزمان الوجودي هو زمانٌ "سيكون": فالزمانية الأصلية الحقيقية تصير في حالة الزمانية ابتداءً من المستقبل الحقيقي، حتى إنها لتوقظ الحاضرَ بأن تكون هي مستقبلاً قد كان. فالظاهرة الأولية للزمانية الأصلية الحقيقية إذًا هي المستقبل.[31]

المفهوم الميثي للزمان

على العكس من الزمان التاريخي، فإن الزمان الميثي هو زمان "قوي"، غير محدود، ومفتوح على احتمالات وإمكانات لا حصر لها. هو زمانٌ "فوق بشري"، يتأسَّس عليه تاريخُ الآلهة؛ فهو زمان مؤلَّه. كأنْ نقول مثلاً: "في ذلك الزمن البدئي، حين لم تكن السماء قد انفصلتْ عن الأرض، حطَّ طاووسي ملك، على هيئة طير الطاووس على شجرة الهرهر الأزلية." لا شك أن زمانًا كهذا لهو زمان مطلق ومفتوح: فهو زمان كان، ويكون، وسوف يكون. إنه زمان يليق بالآلهة وحدها، ولا تطاله اليدُ الإنسية. وبما أن الإنسان يحتذي حذو آلهته ويسعى إلى محاكاتها في أفعاله وتصرفاته اليومية، وبالتالي، تصبح الآلهةُ، على المستوى الإتيولوجي، الأصلَ والبداية، فإن الزمان الميثي المؤلَّه يكون بهذا أصلاً يتأسَّس عليه الزمانُ التاريخي والوجودي. وما يميز هذا الزمان هو أنه زمان قابل للتكرار والتحيين: فهو زمان يستعاد توالُديًّا من خلال عبوره ذروات مقدَّسة لا حصر لها. وهذه "الذروات المقدسة"، على مستوى اللغة العادية، تُسمَّى "أعيادًا". فالعيد، كذروة زمانية مقدسة، هو في الأصل محاولة إنسية لتحيين اللحظات الفوق بشرية، إذ يعيد الإنسانُ فيه ويكرِّر ما قامت به الآلهةُ من أفعال في "الزمن البدئي". إن حضورَ المؤمن في العيد وفي كرنفالاته الطقوسية هي محاولة منه للعيش قريبًا من أنفاس آلهته، وبالتالي، إدراج تاريخه في تاريخ الآلهة. وبما أن الآلهة حاضرةٌ في كلِّ زمان ومكان، وهي موجودة ميثيًّا، فإن محاولة الإنسان الديني استعادة "الزمان المقدس" هي محاولة استحضار لذاته (الموجودة في زمان ومكان محددين) في حضور الذوات الإلهية ومماهاة وجوده في وجودها. وكما يقول ميرتشا إليادِه، فإن الإنسان الديني، منذ البداية،

[...] يقيم نموذجَه الخاص الذي يريد بلوغَه على الصعيد الذي يفوق ما هو بشري، وهو الصعيد الذي كشفتْ عنه الأسطورة. إنه لا يصير إنسانًا حقيقيًّا إلا بالتوافق مع ما تُعلِّمه الأساطير ومحاكاته للآلهة.[32]

بهذا يكون الحنين إلى زمان الأصل، – زمان "الأعياد"، – على المستوى الوجودي، حنينًا إلى الإله الذي ينوجد بوجوده.

الذروة الأولى: زمان الأربعاء الأحمر

لهذا الزمان مسمَّيات عدة: زمان/عيد الأربعاء الأحمر، زمان البدء/رأس السنة الجديدة، زمان الأربعاء النيساني، زمان الباسمبار، زمان البيض الملون/الـهيكه سور، إلخ. وتصادف طقوس التحيين لهذا الزمان يوم الأربعاء الأول من كلِّ نيسان، بحسب التقويم الشرقي (الغريغوري). هذا الزمان في الأصل عبارة عن ثالوث زماني على ثلاثة مستويات: اليوم/الأربعاء، الشهر/نيسان، والفصل/الربيع. تُرى، لماذا هذا الثالوث الزماني المقدس؟ وما الدواعي والخلفيات الميثولوجية والثيولوجية الكامنة وراء تقديسه في الإيزيدية؟

على الرغم من أن للأربعاء مكانتَه القدسية الخاصة لدى الإيزيديين (إذ هو يوم قداسوي لتحيين هنيهات ملاكهم الأكبر، طاووسي ملك، ومُعاصَرته)، إلا أننا نستطيع سماع الصدى القدسي لهذا اليوم على امتداد الكُرد، بفضاءاته وموزاييك شمالاته، باعتباره يومًا للروح القدس، الكلِّية القدرة:

الأربعاءُ يومٌ إلهيٌّ

مسكون بلظى الآلام

والعذابات.

إنه جهة الفرح

والسعادة.[33]

هذا النشيد الذي يتردد على ألسنة الفتية والفتيات الكُرد أيام مناسبات الخطبة والزفاف، إنْ دلَّ على شيء فهو يدلُّ على المكانة القداسوية التي بلغَها "الأربعاء" في وعي الإنسان الكردي. هذا الإدراك القداسوي بـ"جهة الأربعاء" لم يقتصر على حدود الميثولوجيا الإيزيدية وحسب، إنما شمل الكُردَ قاطبةً، في مختلف جهاته وجغرافياته الدينية، إلى درجة أن أوساطًا واسعةً من الكُرد يضفون القدسيةَ والإجلالَ على يوم الأربعاء من دون إدراكٍ أو فهمٍ للبعد الديني والإتيوميثولوجي له. أما في الإيزيدية فالمسألة مغايرة تمامًا: إذ إن الواجب الديني يفرض على كلِّ إيزيدي التحيين القداسوي لهنيهات ملاكهم الأكبر طاووسي ملك وأفعاله. فالأربعاء زمن ليتورجي، يتكون من تحيين لحَدَث جرى في ماضٍ ميثي، "في البدء"؛ وهو "زمن مقدس"، قابل للاستعادة والتكرار بلا حدود. وفي دراسة هذا الزمان الليتورجي وقراءته على المستويات الأفقية والعمودية، سيبدو لنا زمانًا مشتتًا بين كونين: كون الإنسان وكون الآلهة.

أربعاء الخلق

يَرِدُ ذكرُ الأربعاء في الميثولوجيا الإيزيدية على أنه "يومُ بداية النهاية": بداية الخلق ونهاية العَماء الكوني، بداية النظام ونهاية الفوضى. فهو يوم انتهاء الله من عملية الخلق وإنهائه لحالة الفوضى الكونية. فمن "دعاء الخليقة":

إلهي وَضَعَ الهيكل،

في السبت كساه،

وما إن حلَّ الأربعاءُ

حتى كانت الخليقةُ على أتمِّ حالها.

يُفهَم من هذه السبقة أن الأربعاء هو اليوم الذي أتمَّ فيه الآباءُ الأوائل للبشرية/الآلهة خلقَ العالم: فهو يوم كمال الخلق.

أربعاء الموتى

الأربعاء هو يوم زيارة الموتى لذويهم الأحياء في الميثولوجيا الإيزيدية. لذا اختير هذا اليوم كزمان قداسوي لتهيئة "العشاء الرباني" وتوزيعه كصَدَقَةٍ على أرواح الموتى الأحياء، ظنًّا من الإيزيديين بأن موتاهم سوف يزورونهم، قاطعين بذلك مساحاتِ الموت بأربعاء من الروح. وحسب اعتقاد الإيزيديين، فإن مقابرَهم حيةٌ تُرزَق. وما الأزمان القداسوية في الإيزيدية – وعلى رأسها زمان الأربعاء – إلا برازخ لعبوراتٍ مقدسة بين مدن الموتى ومدن الأحياء. أما موت الإيزيدي في تخوم الجغرافيا الأربعائية، فيُعدُّ من الميتات المحظوظة؛ إذ إن الملاك الأكبر طاووسي ملك يكون في انتظار موتاه – موتى الأربعاء – لإيداعهم في جنَّات الخلد.

أربعاء السكون والراحة

في هذا اليوم، تحرَّم على الإيزيدي دينيًّا ممارسةُ أيِّ عمل يخترق به سكونَ الأربعاء. هو يوم "نيرفانا" الإيزيدية، كي يتقمص المؤمنُ الإيزيدي روحَ إلهه. حتى الاستحمام وأعمال الغسيل محرَّمة في هذا الزمان، لتتسنى له المشاركةُ في صنع تاريخ إلهه. كذلك فإن الأربعاء هو خاتمة الأيام في أسبوع البدايات، فيه انتهت الآلهةُ من وضع اللمسات الأخيرة للتكوين والخليقة. الأربعاء، إذن، هو زمان هروب الآلهة إلى السَّكينة والراحة، كما هو زمان استسلامها لسطوة ذواتها، بعيدًا عن صخب الآخر/الإنسان وضجيجه.

أربعاء طاووسي ملك

إن الجانب الأكثر قداسويةً في هذا الزمان هو كونه زمانًا لهبوط الطاووسي ملك وظهوره على الأرض، كأول مبشِّر ببدء الحياة في الكينونة؛ هو زمان فرح الثالوث الكوسموغوني الأكبر (الكون – الطبيعة – الإنسان) وبهجته بقدومه القدسي. لذا فزمان الأربعاء هو زمان متفوق بامتياز على امتداد الميثولوجيا الإيزيدية. وهو بميزته الألوهية القداسوية هذه يرتقي إلى مصاف الزماني الكوسموغوني الشمولي، لتصبح الأربعاءات اللاحقة كلها من بعد الأربعاء البدئي جغرافيةً إلهيةً يرسم فيها الإيزيدي تضاريسَ مقدساته وملامحَ طاووس ملكه، باعتباره مبتدأً ومنتهى. تقول الأسطورة:

حين كان العالمُ عَماءً كونيًّا ولم تكن الأرضُ قد انفصلتْ عن السماء، هبط طاووسي ملك في هيئة طاووسية [نسبة إلى طير الطاووس] وحطَّ على شجرة الهرهر السرمدية. وما إن نزل حتى كانت الخليقةُ على أتمِّ صورة لها. كان ذلك في زمان بدئيٍّ، أي في الأربعاء الأول من نيسان.

إن قداسوية الإله الرمز/طاووسي ملك، في هذه الأسطورة خاصةً وفي الميثولوجيا الإيزيدية عامةً، تنبع من كونه إلهًا فاعلاً في ولادة البدايات: بدايات كلِّ شيء. هذا الدور القداسوي لطاووسي ملك، كإله فاعل، يحيلنا إلى قداسوية أخرى، على مستوى ثالوث الحدث (زمان، مكان، فعل/شخصية).

الزمان القداسوي

الزمان الأكثر قداسوية في الميثولوجيا الإيزيدية هو الأربعاء الأول من كلِّ نيسان. ولكونه زمانًا نقيًّا، قويًّا، متفوقًا بامتياز، فإن الإيزيديين يعيِّدون له في ذواتهم باتخاذه زمانًا للعيد، إذ يقلِّدون فيه إلههم/آلهتهم ويكرِّرون ما قامت به من أعمال قداسوية في فضاء من الحنين الأبدي إلى البدايات. فالإنسان، إذ يشترك طقسيًّا في "نهاية العالم" وفي "تجدد خلقه"، يصبح معاصرًا لـ"ذاك الزمان"، وبالتالي، يولد "ولادة جديدة" ويعود إلى بدايات وجوده مزودًا بذلك الاحتياطي من القوى الحيوية، دون أن يمسَّها شيءٌ، مثلما كانت في لحظة ولادته.

المكان القداسوي

إن قداسوية المكان هي من قداسوية المقيم فيه. لذا تُعتَبر شجرة الهرهر السرمدية، التي حطَّ عليها طاووسي ملك في زمان البدايات، واحدةٌ من أبرز المراكز الكوسموغونية في الميثولوجيا الإيزيدية وأقدسها. وحسب هذه الميثولوجيا، فإن الهرهر هي الشجرة/الذروة الكونية الوحيدة التي برزت وسط العَماء الكوني.

الفعل القداسوي

إن الشخصية القداسوية، التي تتحرك في جغرافية قداسوية زمكانيًّا، لا بدَّ أنها ستؤسِّس لفعل قداسوي، قابل للتكرار والإعادة إلى ما لا نهاية. وهذا ما نراه في "عيد طاووسي ملك": إذ يحاول الإيزيديون، من خلال ممارستهم لطقوس العيد، معاصرةَ تلك الأفعال الطاووس ملكية ودمجَ تاريخهم الدنيوي في تاريخهم الديني.

أربعاء البيض

يُعَد البيضُ من أبرز رموز هذا الزمان/العيد على الإطلاق. فالبيضة بطقوسها هي الصفر النونية–المركز[34]؛ وكل ماخلا ذلك يُعَد طقوسًا "طَرَفية" تدور في فلكها. إن الواجب الديني يفرض على الإيزيدي، في هذا العيد/الأربعاء الأحمر، استحضار البيض في قوة، مع حضور لوني قوي، كدلالة على حضور أربعائي قداسوي قوي. لكن لماذا هذا الحضور الراجح والقوي للبيضة؟ وماذا يعني هذا الحضور في مستوياته الرمزية والسرَّانية؟ وما علاقة هذا الحضور بالحضور الطاووس ملكي، من حيث كونه طقسًا أربعائيًّا من طقوس إعادة وتكرار الزمان البدئي، زمان طاووسي ملك؟

البيضةُ، في مستواها الرمزي، اختزالٌ جميل لزمان البدايات؛ هي تكثيفٌ لقصة الخليقة، حين أراد لها الإنسان/الإله الأول أن تكون، فكانت. البيضةُ هي روح العالم، وإكسير الحياة/الحيوات؛ هي الكمون الذي تنطلق منه كل عملية خلق. إن ضرورة حضور البيض في الزمان الطاووس ملكي لهي دلالة واضحة على حضور القوة الإخصابية للعالم. لذا فكل الطقوس التي تدور في فلك البيض (التباري، التكاسُر، زفاف اللون، التبرُّك بالقشور القدسية، إلخ) ما هي في النهاية إلا تحيين لفعل مقدس حَدَثَ في "الزمن البدئي". إن طقس التباري والتكاسُر الذي يبتدئ بالبيض وبه ينتهي هو طقس غني وكثيف بدلالاته ورموزه. وبقراءة تأويلية، نستشف ما يلي:

1.    إن كسر البيضة، كمحصِّلة لفعل التكاسُر/المُكاسَرة، يعني على المستوى الرمزي المشاركةَ في فعل الفقس (فقس البيضة)، وبالتالي، المشاركة في فعل الخلق الذي تمَّ في الزمن البدئي بفعلٍ إلهيٍّ مقدس.

2.    التباري على كسر البيض هو، في المحصِّلة، تبارٍ على القوة الإخصابية والكفاءة في فعل الخلق والتأسيس له. فإعلان المتباري لقساوة بيضته أو قوتها على كسر بيضة خصمه هو إعلان لقوَّته الإخصابية المتفوقة الراجحة والجديرة بفعل الخلق أمام قوة خصمه المتنحِّية.

3.    البيضة، على المستوى الرمزي، هي عبارة عن "عالم صغير" Mikrokosmos انطوى فيه "العالم الأكبر" Makrokosmos ومنه انبثق.

أما القشور الناتجة عن فعل المُكاسَرة/التكاسُر فهي قشورٌ لها دلالاتها العميقة في هذا العيد: فلأنها قشورٌ للقوة الإخصابية، قشورٌ ناتجة عن فعل الإخصاب المقدس الذي مارستْه الآلهةُ في البدء، ليأتي الإنسانُ بعده ويكرِّر الفعلَ ذاته في زمان مقدس، فإن الإيزيديين يذرون تلك القشور القداسوية على حقول كرومهم ومزروعاتهم وحظائر حيواناتهم، إيمانًا منهم بأنها سوف تزيد وتضاعف من عطائها وبَرَكتها وخصوبتها. ولهذا، ولقوة دلالة البيضة ومكانتها القدسية في عيد طاووسي ملك، فإنه يُسمَّى أحيانًا بـ"عيد البيض". ولو بحثنا عميقًا في تفاصيل هذا العيد وطقوسه المقدسة سوف يتضح لنا كيف أن هناك علاقة جد قوية بين البيضة، باعتبارها رمزًا للخصوبة والطاقة الجنسية المولِّدة، وبين الزواج، باعتباره رمزًا لفعل الخلق المقدس. ومن هنا يتضح لنا أيضًا سببُ كون الشهر الذي يصادف فيه هذا الزمان (نيسان) شهرًا يحرَّم فيه على الإيزيدي/الإيزيدية الزواجُ والزفاف: فهو شهر استذكار "الزواج البدئي"، زواج الآلهة. ففي مطلع السنة البابلية الجديدة، الأكيتو، في أوائل نيسان حسب التقويم البابلي، كانت طقوس الخصوبة الجنسية تُستعاد بكامل أبَّهتها:

ففي يوم السنة الجديدة تنام عشتار في صحبة تموز، ويستعيد الملك هذا الزواج المقدس الميثي بالاتحاد طقسيًّا مع الإلهة (أي مع أمَة المعبد التي تمثلها على الأرض)، في حجرة سرِّية، حيث سرير زفاف الإلهة. فالإتحاد الإلهي يضمن للأرض خصوبتها؛ إذ عندما تتحد ننليل مع إنليل يبدأ ينهمر المطر. هذه الخصوبة عينها يوفِّرها اتحادُ الملك الاحتفالي، اتحاد الزوجين فوق الأرض، إلخ. فالعالم يعيد ولادةَ نفسه كلما تمت محاكاةٌ للزواج المقدس، أي كلما تمَّ اتحادُ الزواج. فالزواج يعيد ولادة "السنة"، وبالتالي، يَهَبُ الخصبَ والوفرةَ والسعادة.[35]

لذا يحرَّم على الإيزيدي/الإيزيدية الزواجُ وعقدُ النكاح في هذا الشهر المبارك – شهر الأربعاء الأحمر – لأن الآلهة، حسب الميثولوجيا الإيزيدية – ميثولوجيا الأربعاء الأحمر على وجه الخصوص – تتزاوج فيما بينها وتقوم بفعل الخلق المقدس.

في كلِّ ربيع، بعد أن تستقبل الحقولُ المحروثة بذارَها، كان رجالُ سومر ونساؤها يحتفلون بانبعاث تموز الذي يبجِّلونه بوصفه إلهَ الإنجاب والتوالد، رمزَ الرجولة التي تهفو إليها إلهةُ الأرض[36]. ولقداسوية شهر نيسان في الإيزيدية مرجعيتُه الميثية، حيث يُقال: "نيسان عروس السنة، ولا ترضى بعرائسَ تُنافسها في زفافها." وإن كانت للأسماء دلالاتُها الميثولوجية والرمزية في ثقافات الشعوب، فسوف نستشف مدى قداسوية هذا الشهر لدى الإيزيديين حين يقع اختيارُهم على "نيسان" كاسم محبَّب للإناث. إلى ذلك كلِّه، فإن نيسان هو شهر "الراحة" والتقرُّب من الآلهة، شهر الأفعال المقدسة التي قامت، وتقوم، وستقوم بها الآلهة؛ هو الشهر الذي يتكرر فيه "زمانُ البدايات"، حين قامت الآلهة بفعل الخلق الأول والتأسيس لتاريخها. إنه شهر الاختزال الإلهي والبدايات المقدسة.

وعلى اعتبار أن الإيزيدية هي واحدة من الديانات الطبيعية القديمة، فإن الكون، حسب فلسفتها، يدخل مع الطبيعة والإنسان في وحدة ثالوثية كوسمولوجية لا انفصام فيها. ففي الوقت الذي يجب على الإنسان الإيزيدي تأجيل أعماله الحياتية كيلا يعكِّر صفوَ الآلهة ولئلا يخترق بضجيجه سكونَ عوالمها، نراه يقف في هيبة الطبيعة خاشعًا، ساجدًا لناموسها الأقدس. فالطبيعة، حسب المعتقدات الإيزيدية، هي الأخرى شاغلةٌ في تأدية أفعالها القداسوية، إتمامًا لما تقوم به الآلهةُ وتمارس من أفعال. من هنا يحرَّم على الإيزيدي/الإيزيدية في هذا الشهر العمل في الأرض كيلا "تُجرَح"، حيث لا يجوز حرثُها أو القيام بقطع الأشجار والنباتات والزهور. فكل شيء في هذا الزمان – زمان الأربعاء/زمان نيسان – يندرج في زمن الفعل المقدس والخصب المقدس والعطاء المقدس.

ولتحريم حراثة الأرض في نيسان، في الزمان النيساني، مرجعيتُه الضاربة في عمق التاريخ والميثولوجيا. فالأساطير السابقة على القرآن كانت تركِّز على مكانة الخصوبة الرئيسة في ذهن الإنسان؛ وكانت هذه الخصوبة تجمع بين عنفوان الطبيعة وبين قابلية المرأة ذاتها لتقليد الطبيعة أو لمنافستها في مجال الخصوبة. هكذا كان التصور الحسِّي يفعل فعلَه في ذاكرة شعوب كثيرة عِبْر تشبيه المرأة بالطبيعة. ففي كلٍّ منَّا يمكن تتبُّع مظاهر التنوع والتغيير في كلِّ آنٍ وحين. ولهذا اعتُبِرَت المرأةُ "أمَّنا الأرض"، واعتُبِرَت الأرضُ "أمَّنا الأولى والمرأة الخصبة التي لا مثيل لخصوبتها"[37]. من هنا كان التشاكل كبيرًا بين حراثة الأرض وبين حراثة الأنثى في ميثولوجيا الأديان الكبيرة. فهذه إنَّانا، الإلهة الأم السومرية، تعلن عن جوعها الجنسي وتدعو عشيقها دوموزي إلى حراثتها – حرث فرجها:

"أما من أجلي، من أجل فرجي،

من أجل الرابية المكوَّمة العالية

لي، أنا العذراء، فمَن يحرثه لي؟

فرجي! الأرض المروية، من أجلي،

لي، أنا الملكة، مَن يضع الثور هناك؟"

فيأتيها الجواب:

"أيتها السيدة الجليلة، الملك سوف يحرثه لكِ،

دوموزي الملك

سوف يحرثه لكِ."

فتجيب، جذلى:

"احرثْ فرجي، يا رجل قلبي."[38]

لذا فإن إثم الإيزيدي في "حرث النساء"، أي الزواج، في الزمان النيساني هو تمامًا كإثمه في حرث الأرض. يقول تركي علي الربيعو:

فالحراثة في جميع الميثولوجيات القديمة، من حراثة الأرض إلى حراثة الفرج ("نساؤكم حَرْثٌ لكم فآتوا حرثكم أنَّى شئتم" [سورة البقرة])، هي فعل ديني مقدس.[39]

أربعاء اللون

من حضورات هذا الزمان أيضًا ضرورةُ اللون في طقوسها، سواء كان في خيوط الـباسِمبار[40] أو في البيض. إن ضرورة الحضور اللوني في طقوس هذا العيد ما هي إلا محاولة لاستحضار إله العيد ذاته، أي طاووسي ملك/تموز الإيزيدي، باعتباره خالقًا "ملونًا"، انتهى في "زمن بدئي"، كزمان الأربعاء، من عملية خلق "ملونة": خلق كون ملون، طبيعة ملونة، وإنسان ملون. صورة طاووسي ملك هذه، باعتباره خالقًا "ملونًا"، تتشاكل إلى حدٍّ كبير مع صورة تموز الرافدي الذي وُصِفَ في الأساطير البابلية والسومرية على هيئة شابٍّ في مقتبل عمره راكب على ظهر طاووس وهو يرتدي الأصفر والأخضر. هذا اللونان هما، من جهة، اختزالٌ لزمانين تموزيين: الزمان الأصفر – زمان الهبوط التموزي إلى عالم الظلمات، والزمان الأخضر – زمان الصعود التموزي إلى النور؛ ومن جهة أخرى، هما اختزالٌ لألوهيته "الملونة"، باعتباره إلهًا كلِّيَّ القدرة.

يشغل اللونُ ودلالاتُه الرمزية مساحةً لا يستهان بها في خريطة الميثولوجيا الإيزيدية[41]. فكثيرًا ما نسمع في الأقوال والأدعية الإيزيدية مفرداتٍ "لونية" من هذا القبيل: "الدرة البيضاء"، "الدرة الصفراء"، "الذراع الأخضر"، "إيزي/إلهي الأصفر"، "إيزي/إلهي الأحمر"، إلخ. إضافة إلى ذلك، فإن عينَ الإنسان الإيزيدي اعتادت على الستائر الملونة بألوان آلهتها: كستائر "شرفه دين"، ستائر "شيخادي"، إلخ. أما المعابد والمزارات الإيزيدية، فقد أُريد لقبابها أن تكون مسكونةً بمساحات من اللون لهَدْي زوارها ومرتاديها.

أربعاء القمح

من الطقوس الأخرى الجديرة بالبحث والدراسة، التي تُمارَس برجحان قداسوي واضح في عيد طاووسي ملك، هو طقس خبز الخُبيز/الـصه وك ("الكليجة"). يذكِّرنا هذا الطقس بتموز الذي عُرِفَ، في صورة من صوره، كإله لروح القمح في الميثولوجيا السومرية خاصةً، والميثولوجيا الرافدية على وجه العموم. يقول فراس السواح:

اكتشاف الزراعة بالنسبة لإنسان العصر الحجري لم يكن نتيجةَ فعل بشري، بل نتيجةُ عون سماوي؛ وسنبلة القمح الأولى التي زَرَعَها لم تكن إلا جسد الإله–الابن القتيل الذي بعثتْ به الأمُّ الكبرى إلى العالم السفلي من أجل ابتداء دورة الزراعة والحفاظ على استمرارها حتى نهاية الكون. فهو الإله الحي، الميت–الحي الذي يهبط إلى باطن الأرض في الخريف، ثم يعود ساحبًا وراءه خضرةَ الربيع، مكملاً دورةَ حياته السنوية التي تركزت حولها حياةُ المستوطنات الأولى ودياناتها وطقوسها.[42]

وهكذا غدا تموز، الثور القمري، مثل عشتار الخضراء،

[...] إلهًا للنبات ودورة الزراعة. فهو تموز الخضر (الأخضر)، ربُّ الإنبات والدورة الزراعية، الإله الحي–الميت والميت–الحي، الذي يهبط إلى باطن الأرض في الخريف، ويُبعَث من عالم الظلمات مع قدوم الربيع، ساحبًا وراءه خيراتِ الأعماق وبركاتِ الرحم المظلمة التي خرج منها.[43]

فحضور الصه وك/الخبيز، كطقس من طقوس الاحتفاء بإله العيد، هو حضورٌ للقمح بالدرجة الأولى، وبالتالي، حضورٌ لتموز، أي طاووسي ملك في حالته الحية–الميتة: الإله الحي–الميت. إن القمح، في المنظور الإيزيدي، هو كائن قداسوي، نُفِخَتْ فيه روحُ الإله الأكبر/طاووسي ملك. لذا يتعاطى الإيزيدي مع الخبز والزاد عامة تعاطيًا إيمانيًّا بحتًا أساسه التقوى. ونظرًا لقداسوية القمح وكينونته الألوهية في الديانة الإيزيدية، نراه يدخل في تركيبة الكثير من الأطعمة الخاصة في الأعياد والطقوس الدينية، كالـسماط simat في غالبية الأعياد، والـپيخون pexun وقه لا ته ك qelatek وجه رخوس cerxus في عيد خدر إلياس، والـكه شك kesk والـصه وك sewik في غالبية الأعياد[44].

الذروة الثانية: زمان الـ"جمايي"

يُعَدُّ هذا الزمان عيدًا من أكبر الأعياد الإيزيدية، ويُحتفى به في الفترة الواقعة ما بين 23-30 أيلول، بحسب التقويم الشرقي الغريغوري، الموافق لـ7-13 تشرين الأول الميلادي. زمان الـجمايي هو زمان لطقوس العنف المقدس؛ إنه زمان الـقاباغ/الزمان الأصفر، زمان الخريف، عندما تُمطر سماؤه دموعَ الوداع التموزي. ولدى البحث عن الجذور التاريخية والميثولوجية لهذا الزمان، سوف يبدو لنا عبارة عن اختزال ميثي لزمانين بدئيين:

1.    زمان الـ ميتراكان/مهركان: يُعرَف عند الإيرانيين القدامى بـ"عيد الخريف"، أو "عيد ميثرا"، كبير آلهة الميثرائيين. وقد كان مهركان عيدًا خاصًّا بالإله مهر، نظرًا لوجود علاقة بين حلول مهر في شهر مهر كلَّ سنة. فاعتاد الإيرانيون تسمية يوم منتصف الشهر (السادس عشر) بـ"مهر"، وشهر منتصف السنة (السابع) "مهرا"؛ وهذا يبدأ عادةً في 17 أيلول[45]. هذا الزمان، من الناحية العملية، قريب جدًّا من زمان الجمايي؛ وكلاهما يُعتبَر تكرارًا لزمن بدئي/زمن البدايات. وأهم ما يميز هذين الزمانين هو ممارسة المحتفين طقوسَ العنف المقدس.

2.    زمان الوداع التموزي: لدى الرافديين، حيث يتأهب تموز للرحيل إلى عالم الظلمات؛ ومع رحيله، تبدأ رحلةُ الحزن الأزلي: حزن يحتضن الكونَ والطبيعةَ والإنسانَ في آنٍ وحين. في الوقت الذي كان زمان الأربعاء الأحمر زمانًا للصعود التموزي/الطاووس ملكي، ساحبًا وراءه تباشيرَ الربيع والخصب والعطاء من رحم الظلمات، فإن هذا الزمان – زمان الجمايي – يُعَد زمانًا لهبوط هذا الإله إلى باطن الأرض، ساحبًا وراءه نصفَ سنة من الحزن والبكاء والذبول.

طقوس العنف المقدس

تُعَد طقوسُ العنف المقدس من أبرز طقوس هذا العيد وأهمها وأبلغها تجسيدًا لروح الطقوس التموزية/الدوموزية. كما أنها من أكثر الطقوس حاجةً إلى الممارسة في مكان مقدس، بل في أكثرها قداسوية، ألا وهو لالش النوراني.

أحد طقوس العنف هذه، التي يلعب الإيزيديون المحتفون من خلاله لعبتهم المسرحية وأدوارهم القداسوية، هو طقس الـگاكوزي gakuji: "قتل الثور". والگاكوزي طقس من طقوس هذا الزمان، حيث يُتخذ فيه الثورُ مركزًا قداسويًّا تدور في فلكه سائر الممارسات الأخرى. تبدأ اللعبة المسرحية في هذا الطقس بثلاث عشائر إيزيدية هي: القائدية والماموسية والترك. وإذ يتم تشكيل جماعة عنف من هذه العشائر، تقوم الجماعةُ بجرِّ ثور أو عجل وقع عليه الاختيار لممارسة عنفهم، وذلك وسط جمهور غفير من الإيزيديين القادمين من شتى الأنحاء، وفي جوٍّ تسوده الفوضى والإثارة والضجيج وتفوح منه رائحةُ ثأر وانتقام قداسوي سيمطر عما قريب. تقوم "جماعة العنف" بجرِّ ثورها–ضحيتها المقبلة إلى مزار الشيخ هادي/عدي كمرحلة أولى، ثم يتابعون "عنفهم"، إلى أن يصلوا مع الثور إلى مزارَ الشيخ شمس/شيشمس (إله الشمس الإيزيدي)؛ وعلى سدنة هذا المزار، تبدأ بداية النهاية، إذ تتوِّج الجماعةُ عنفَها بتصفية الثور وذبحه قربانًا لشيشمس.

لا شكَّ أن للثور دلالاتِه الرمزية العميقة في ثقافات الشعوب البدائية. فلو عدنا إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية، سوف نستشف بأن دخولَ الثور في حَرَم الطوق المقدس، باعتباره رمزًا من أكبر رموز الألوهة، قد ابتدأ في المجتمعات الزراعية، حين كان الإنسانُ في أمس الحاجة إلى الثور/البقرة لتأمين متطلبات الحياة وممارسة أشغاله اليومية في الزراعة واستثمار الأرض. إن عبادة الثور كبادرة فكرية أولى قد وُلدت لدى الإنسان كحاجة وقضية سوسيولوجية قبل أن تصبحَ حاجةً وقضيةً ثيولوجية دينية. وهذا هو شأن المقدسات كلِّها، ابتداءً من أصغرها وانتهاءً بالله. يقول تركي الربيعو:

في معظم الميثولوجيات، ترتبط الآلهةُ والأنبياء بحيوانات مقدسة تشبهها، تحل روحُها فيها، وينشأ بينها نوعٌ من التكافل يجعل في الإمكان أن يحلَّ أحدُهما محلَّ الآخر. بذلك يُعرَف الحيوانُ ثقافيًّا على أنه طوطمٌ مقدس.[46]

ويقول فالح مهدي:

قد عبد الإيرانيون القدماء البقرةَ واعتبروها مقدسةً، كما عبد الهنود والمصريون البقرةَ ونظروا إليها نظرةَ تقديس. [...] كما عبد الإيرانيون القدماء إلهَ الشمس الذي يُنضِج المحاصيلَ وسمَّوه "فييرا"، وعبدوا الثورَ الذي مات ووَهَبَ الجنسَ البشري دمه شرابًا يسبغ نعمةَ الخلود. وكان الإيرانيون يعبدونه بشرب عصير الـ"هوما" المسكر.[47]

وفي الأساطير الرافدية، يَرِدُ ذكرُ الثور باعتباره رمزًا من أكبر رموز الآلهة القمرية الأنثوية. فثور السماء الذي لقي حتفه على يد گلگامش كان عشيقًا لعشتار، الأم الكونية الأولى، التي رأت في قتله إهانةً لألوهيتها:

"الويل لگلگامش الذي دنَّسني وأهانني وقتل ثور السماء."[48]

وتموز الإله–الذكَر، الذي هو ابن الأم الكبرى وزوجها في آن معًا، تمثِّله المنحوتاتُ الجدارية على هيئة ثور يولد من رحم الأم الكبرى[49]. فـ"منذ أن رأى الإنسانُ في القمر تجسيدًا لعشتار"، يقول فراس السواح،

[...] ربط في ذهنه رمزيًّا بين قرون البقر وقرنَي الهلال، وصوَّر في خياله الأمَّ الكبرى على هيئة بقرة سماوية يرسم قرناها هلالاً في السماء. [...] فالإلهة "نوت" المصرية، التي هي قبة السماء، كانت تُصوَّر في هيئة بقرة كاملة، والأم المصرية "نيت" كانت تُدعى بالبقرة السماوية، والإلهة "هاتور" كانت تظهر دومًا برأس بقرة، والإلهة "إيزيس" إنْ لم تظهر برأس بقرة ظهرت وعلى رأسها قرنان كبيران، غالبًا ما يحتويان قرصَ القمر البدر بين طرفيهما. كذلك الأمر فيما يتعلق بعشتار البابلية وعشتار الكنعانية التي تظهر في الرسوم والمنحوتات وعلى رأسها قرنان.[50]

ويضيف السواح:

وعندما ظهر الإلهُ الابن أخذ عن أمِّه صفاتِها القمرية والرموزَ المتعلقة بها، فصار يُرمَز إليه برأس الثور الوحشي ذي القرنين الكبيرين.[51]

من هنا تكون البقرة، بصفاتها القرآنية والتوراتية، هي أسطرةٌ لوجودها السماوي، قبل أن تكونَ توصيفًا لوجودها الأرضي. يقول أنطون مورتكات:

إن تقديس الأمومة وعبادة الثور من البوادر الفكرية الأولى الهامة للمجتمع الزراعي؛ ولذلك فقد قُدِّر لهذه العبادة أن تُلازِم بلدانَ الشرق القديم آلاف السنين.[52]

وباعتبار أن الثورَ هو رمزٌ من أقدس رموز الآلهة القمرية الأنثوية، فإننا نستطيع قراءة طقوس العنف المقدس، التي تُمارَس في القاباغ/زمان العنف المقدس: فمن الواجب الديني فيها ذبح الثور كقربان على مزار شيشمس/الشيخ شمس، تتويجًا قداسويًّا لذاك العنف – نستطيع قراءتها، نقول، على أنها طقوسٌ تعكس مرحلةً من أبرز مراحل الصراع بين الآلهة القمرية الأنثوية، ممثلةً بالثور، وبين الآلهة الشمسية الذكرية، ممثلةً بالشمس. وعلى المستوى السوسيولوجي، هو صراعٌ بين النظام "الأمومي" matriarchal والنظام "الأبوي" patriarchal. إن قراءتنا لهذه الطقوس على أنها تمثيلٌ لأعنف مراحل الصراع بين الآلهة القمرية الأنثوية وبين الآلهة الشمسية الذكرية تأتي من "الفضاء العنفي" الذي تُمارَس فيه هذه الطقوس والذي يستوجب ذبحَ الثور كرمز للآلهة القمرية، فقط على مزار الإله الشمسي شيشمس، دون غيره. بذلك يمثل قتلُ الثور السماوي على يد أنكيدو (كثور مرجعي بدئي) وإهانة عشتار، يقول الربيعو،

[...] إسقاطًا لتحالف طوطمي بين الأنثى والحيوان. وبذلك حدثت أول هزيمة عالمية للجنس النسائي بتاريخ يسبق بكثير التاريخ الذي حدَّده إنجلز في كتابه الموسوم بـأصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.[53]

ومهما بدت نتيجةُ الصراع لصالح الآلهة الشمسية الذكرية، كما تُرينا هذه الطقوس، فإنه سيبقى انتصارًا نسبيًّا في رأيي. فعلى الرغم من التفوق الظاهري لهذه المجموعة من الآلهة على امتداد الميثولوجيا الإيزيدية، فإن دور الآلهة القمرية، المتمثلة في الشيخ سن، طاووسي ملك/تموز الإيزيدي وفي بعض الآلهة الأنثوية الأخرى (پيرافات، فَلك، خاتونا فخرا، ماگا إيزي، ستيا إيس، إلخ)، لا يزال دورًا بارزًا.

لطاووسي ملك، مثلاً، باعتباره إلهًا قمريًّا، شأنٌ عظيمٌ في الميثولوجيا الإيزيدية، حيث يُنظَر إليه على أنه اسم من أسماء الله. فهو والله أقنومان في واحد:

الشيخ آدي وطاووسي ملك وإيزي

هم ثلاثةُ أقانيم في واحدٍ،

فلا يأخذ بكم التيهُ في الفرقة بينهم.[54]

إن ظاهرة العنف القداسوي ظاهرة متفوقة بامتياز في طقوس زمان الجمايي، وفي طقس الگاكوزي (قتل الثور) على وجه الخصوص. لكن كيف نقرأ هذا العنف في إطار ثنائية الدين/الجماعة؟ وأين يتمفصل العنفُ مع المقدس؟

في القراءة الأولية لطقوس العنف المقدس التي تُمارَس في زمان الجمايي من منظور سوسيولوجي، سوف نستشفُّ أن العنفَ ظاهرةٌ فُرِضَتْ على الإنسان من خارجه؛ وهي ظاهرةٌ تحثه عليها ظروفُ الاجتماع مع الآخر؛ أي أنها ظاهرةٌ سوسيولوجية مكتسبة. فكما يقول تركي الربيعو:

إن حقيقة الاجتماع البشري تتأسَّس على التضحية [ممارسة العنف مع الآخر]، وإن الحقيقة – كل الحقيقة – تظهر متمفصلةً مع الأضحية. وهذا ما يفعله آدم أيضًا: إنه يطلب من ولديه أن يقرِّبا قربانًا: فالقربان من شأنه وحده أن يرشدَ إلى الحق وأن يهدي إلى الطريق الواجب اتِّباعه.[55]

وللقربان قدسية خاصة في طقوس الإيزيدية وممارسات معتنقيها: فيكاد لا يخلو زمانٌ من أزمانهم المقدسة من وجوب تقريب القرابين إلى آلهتها؛ بل وخارج إسار هذه الأزمان أيضًا، نراهم يتخذون من القربان حبلاً سريًّا للتعالق الروحي مع آلهتهم. وما ظاهرة "النذور"، الشائعة بين أوساط الإيزيديين عامة، إلا إسقاط لتلك الرؤية القداسوية إزاء القربان. يرى فرويد أن العيدَ هو خرقٌ احتفالي لمحظور: حفاظًا على المكتسَب الذي تحقَّق من قتل الأب الطاغية، تجري إعادةُ تمثيل للجريمة الأولى، وذلك بقتل البديل الطوطمي (الطوطم المقدس) وذبحه على يد أفراد عشيرة الأخوة كافة، والتهامه من قبل الجميع، وبذلك يضمنون اتحادهم بـ"الأب الطوطم" وحمايتَه لهم وكذلك تماثُلَهم معه[56].

هذا المفهوم الفرويدي للعيد، يجد تبريرَه ومرجعيَّته في ممارسات الإيزيديين لطقوس العنف الدائرة في فلك الثور. إن مشاركة الإيزيدي في طقوس قتل الثور وتقطيع أوصاله هي، في رأيي، مشاركة ذات حدين: فالإيزيدي، من جهة، يشارك الإلهَ الشمسي نشوةَ انتصاره على الإله القمري، وذلك بذبح رمزه الأقدس (الثور) على أعتاب مزار الشيخ شيشمس؛ ومن جهة أخرى، فهو يبكي الإلهَ القمري تموز/طاووسي ملك وغيابه الحاضر فيه. أما العنف القداسوي الممثل بـ"ذبح مخلوق ميثولوجي"، فنقرأه على مستويين: فهو، من جهة، كما يرى الربيعو،

[...] يجري الحفاظُ عليه من خلال الطقوس وإعادة تمثيله مع تلاوة النص الميثولوجي؛ و[هو]، من جهة أخرى، فاتحة لنظام جديد تمثِّل الميثولوجيا متنَه. فمنه ينبثق مجمل القواعد والمحارم والمظاهر الثقافية التي سيتمسك بها الإنسانُ لاحقًا.[57]

لهذا نجد كيف يعلن مردوخ البابلي حربَه ضد تيامة، إذ يشطر في النهاية جسدَها إلى شطرين، ليجعل من أوَّلها السماء ومن ثانيها الأرض[58]. وإيا، إله الحكمة، يذبح أپسو، إله المياه العذبة، وينضي عنه تاجه، ويتوِّج نفسه خَلَفًا له، كما يفعل أوديپ عندما يذبح لايوس[59]. كما يُذبَح الثورُ، الرمز الأقدس لتموز والآلهة القمرية، قربانًا لآلهة الشمس التي تحلُّ محلَّها. إذن، في معظم الميثولوجيات القديمة، ينطوي القربانُ على "سرٍّ"، كما يؤكد الربيعو؛ ولنقل إنه يهيِّئ، عبر مجموعة من "طقوس العبور"، إلى تقبُّل السر[60]. فالضحية المقبلة، حسب رونيه جيرار،

[...] تأتي من الخارج، من المقدس غير المتميز؛ وهي غريبة عن المجموعة إلى درجة لا يجوز فيها أن تكون أضحيةً على الفور. ومن أجل أن تصبح قابلةً لتمثيل الضحية الأصلية، لا بدَّ من حصولها على ما ينقصها، وهو الحصول على انتماء ما إلى المجموعة، أي أن تصبح "داخل" المجموعة دون أن تزول عنها تمامًا صفتُها الخارجية، لأن كونها من "الخارج" هو الذي يؤهِّلها كشيء قدسي لأن تقومَ بهذا الدور.[61]

ويضيف تركي الربيعو:

هكذا يصبح القتل [العنف] الجماعي ينبوعًا للازدهار وشاهدًا على أنه لا ولادة دون ألم، ولادة النظام من رحم الفوضى التي يتسبب فيها كائنٌ ميثولوجي. إنه يزرع الفوضى/العنف ليحصدَ النظام/السلم؛ بالأصح، لنحصد نحن السِّلم والنظام. وفي معظم الميثولوجيات يكون هذا الإله الذي يزرع الفوضى هو المنقذ في نفس الوقت: إنه ينذر نفسه ليكونَ قربانًا على مذبح العنف ليخلِّص الناسَ من شرِّه. هذا ما يفعله كُنگو الذي يحمل وزر الخطيئة، وما يفعله "الماشيح" الذي يقدم نفسه قربانًا وكبشَ فداء على مذبح البشرية التي ينوء كاهلها بحمل خطاياها، كما ترى الميثولوجيا المسيحية [...].[62]

فالثور، باعتباره تجسيدًا أرضيًّا لروح الإله الأكبر طاووسي ملك/تموز الإيزيدي، بقدر ما يشكل إلهًا أضحويًّا في طقوس العنف، هو إله مخلِّص أيضًا. يتابع الربيعو:

فالجماعية في العنف تظهر على أنها شرط للانتقال من مرحلة العنف التبادلي المدمِّر، الذي يهدد مجتمع الآلهة، إلى العنف الطقوسي الخلاَّق [...] الذي سيلازم لاحقًا الأضحية القربانية التي يقدِّمها البشر.[63]

فإضفاء الصفة القداسوية على طرفَي الصراع في طقوس الگاكوزي، أي على المقتول والمقتول لأجله، كخالقين أسطوريين، يضمن للقاتل الممارِس لطقوس العنف، ككائن إنساني، حالةً من الاستقرار والابتعاد عن دائرة الصراع مع ذاته، أي دائرة الاقتتال داخل الجماعة.

طقس "السماط"

السماط طبيخٌ يُطبَخ من القمح ولحم الثور المقتول كرمز للإله الميت–الحي. ثم يتناوله ممارسو العنف، أي المشاركون في طقوس العنف، في جوٍّ من الهيبة والقداسة. إن حضور القمح في هذا الطقس، كإله غائب فينا، ليس مجرد حضور عابر: هو حضور يذكِّرنا بـ

[...] القفزة الحضارية الكبرى التي حقَّقها الإنسان باكتشافه القمحَ وأكْله الخبزَ. فلقد كان الرغيفُ برزخ العبور من مرحلة الهمجية إلى مرحلة الحضارة. وفي ملحمة گلگامش، كان أول عمل قامت به المرأةُ التي أخذت بيد أنكيدو من حياة البرية إلى حياة المدنية أن جعلتْه يتذوق الخبز الذي غدا بعد أكْلِه بشرًا سويًّا[64]:

وضعوا أمامه خبزًا، فارتبك. فأنكيدو لا يعرف شيئًا عن أكل الخبز وشرب الشراب القوي. ففتحت المحظيةُ فمها قائلة لأنكيدو: "كُلِ الخبز، يا أنكيدو، عماد الحياة هو. وخُذِ الشراب القوي، فهو عادةُ أهل البلاد."[65]

حضور القمح كإله ميت–حيٍّ في زمان الجمايي هو إسقاطٌ وترجمةٌ للحضور التموزي/الطاووس ملكي، كما هو تحيين للدراما الكوني التي سينتقل عبره طاووسي ملك من دور الإله الحاضر–الغائب إلى إله غائب–حاضر. وما الحضور الراجح للقمح/الخبز/الزاد[66] في المناسبات والأعياد والأزمان المقدسة في الإيزيدية، على المستوى الفيزيقي، إلا إعادة وتكرار للحضور الطاووس ملكي على المستوى الميتافيزيقي. وبما أن زمان الجمايي، بعنف طقوسه، هو زمان لطقوس المراثي والعويل والبكاء على الرحيل التموزي/الطاووس ملكي، فإن حضور القمح "القتيل" في جنازة الثور "القتيل" في مساحات استحضار الألوهة تلك كان حضورًا لا بدَّ منه: فكلاهما – القمح والثور – تجسيد أرضي، فيزيقي، لألوهية تموز/طاووسي ملك على المستوى السماوي الميتافيزيقي.

أما الموت، فلا شكَّ أنه موت رمزي:

فالإله الابن [تموز] في المعتقد والطقس السابق لعصور الكتابة كان يموت على ثلاثة مستويات متطابقة، يُظهِر بعضُها بعضًا: المستوى الأول غيبي، حيث يتم موتُ الإله في المجال المقدس غير المنظور؛ المستوى الثاني طبيعي، حيث يمثل القمح جسدَ الإله القتيل وحيث ترفرف روحُه في حزمة القمح الأخيرة؛ المستوى الثالث إنساني، حيث يموت الإله من خلال جسد بشري من لحم ودم حلَّتْ فيه الروحُ المقدسةُ المستعدةُ للهبوط إلى العالم الأسفل [...].[67]

إن موت القمح، كروحٍ للإله الميت–الحي، هو موتٌ ثمل بـهوما الحياة، موت يتفجر بالقدسي، مفتوح ومتعدد. إنه موت لا يليق إلا بكائنات ميثية كالآلهة: كائنات، إذا ما قالت لشيء كُنْ فيكون؛ هو موتٌ أخضرُ، بقدر ما هو أصفر؛ هو موتٌ سيمطر بعد قمرٍ أو قمرين:

ربما سأموت، أتلاشى وأغيب،

أنا عود القمح الطري،

ولكن قلبي جوهرة خضراء.

لذا سأعود أخضرَ، كما كنتُ،

ولسوف يولد البطلُ كرَّةً أخرى.[68]

*** *** ***

www.dasin.org


[1] ميرسيا إلياد، ملامح من الأسطورة، بترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1995، ص 14-15.

[2] نسبة إلى الـ"سوپرمان"، أي الكائن الأسطوري.

[3] ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة، بترجمة نهاد خياطة، العربي للطباعة والنشر، دمشق 1987، ص 188.

[4] المصدر نفسه، ص 155.

[5] راجع مؤلَّفي: دراسات في ميثولوجيا الديانة الإيزيدية، إصدار خاص، 1995؛ مبحث "طاووس ملك: أكبر آلهة الإيزيدية"، ص 37-80.

[6] ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي، مصدر سابق، ص 196.

[7] هوشنگ بروكا، دراسات في ميثولوجيا الديانة الإيزيدية، مصدر سابق، ص 10.

[8] خدرى سليمان وخه ليلى جندي، ئيزدياتى: جانجانه ى كوزى زانيارى كورد، به غدا، 1979، ص 24: "قه ولى طاووسى مه له ك".

[9] فالح مهدي، البحث عن منقذ، دار ابن رشد للطباعة والنشر، بيروت 1981، ص 91.

[10] فراس السواح، لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار علاء الدين، طب 6، دمشق 1996، ص 234.

[11] نقلاً عن: هوشنگ بروكا، دراسات في ميثولوجيا الديانة الإيزيدية، مصدر سابق، ص 49.

[12] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 207.

[13] المصدر نفسه، ص 211.

[14] المصدر نفسه، ص 211-212.

[15] المصدر نفسه، ص 212.

[16] المصدر نفسه، ص 76.

[17] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 292.

[18] كلود ليفي شتراوس، الإناسة البنيانية، بترجمة حسن قبيسي، مركز الإنماء القومي، بيروت 1990، ص 235.

[19] صموئيل هنري هووك، منعطف المخيلة البشرية، بترجمة صبحي حديدي، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية 1983، ص 16.

[20] ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي، مصدر سابق، ص 14.

[21] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 117.

[22] الإنجيل المقدس (العهد الجديد)، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، بلا تاريخ ومكان النشر، إنجيل يوحنا: الإصحاح الرابع عشر، الآية 12.

[23] من دعاة هذه الفرضية: عبد الرزاق الحسني، أحمد تيمور، عباس العزاوي، سعيد الديوه جي، أوليا جلبي، الشهرستاني، صديق الدملوجي، إلخ.

[24] صديق الدملوجي، اليزيدية، الموصل 1949، ص 9.

[25] هوشنگ بروكا، دراسات في...، مصدر سابق، ص 62.

[26] نسبة إلى إله الشمس: شمس، شمش، شماس.

[27] هوشنگ بروكا، دراسات في...، مصدر سابق، ص 63.

[28] نسبة إلى ميثرا: رب الأرباب في الديانة الميثرائية.

[29] توفيق وهبي، "اليزيدية: بقايا المثرائية"، بترجمة شوكت إسماعيل حسن، مجلة لالش الصادرة عن "مركز لالش الثقافي والاجتماعي" في كردستان العراق، دهوك، العدد 2-3، ص 91.

[30] ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي، مصدر سابق، ص 67.

[31] عبد الرحمن بدوي، الموت والعبقرية، وكالة المطبوعات، الكويت/دار القلم، بيروت، بلا تاريخ، ص 25.

[32] ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي، مصدر سابق، ص 96.

[33] F. Hüseyn Sağcin, Carsem, Kovara çandî Mezopotamya Ru 41, Hejmara: 12. 33, Istanbul, 1994.

[34] حرف النون، بشكله الطبيعي مقلوبًا، هو، في المصطلح الصوفي، مجاز للتعبير عن أمرين: 1. مركزية الله في الكينونة تكون مطلقةً، ممتدةً إلى ما لا نهاية؛ وتتمثل في الشكل بنقطة الصفر. 2. طَرَفية الخلق في الكينونة تكون نسبيةً، محددة؛ وتتمثل في الشكل بالخط المنحني. من هنا جاء استخدامي لعبارة "الصفر النونية" كدلالة على "مركزية" طقوس البيض في العيد، عيد الأربعاء الأحمر.

[35] ميرسيا إلياد، أسطورة العود الأبدي، بترجمة نهاد خياطة، دار طلاس، دمشق 1987، ص 54.

[36] پول فريشاور، الجنس في العالم القديم، بترجمة فائق دحدوح، دار نينوى، بلا مكان النشر، 1999، ص 68.

[37] إبراهيم محمود، الجنس في القرآن، رياض الريس للكتب والنشر، طب 1، لندن/بيروت 1994، ص 92.

[38] نقلاً عن: صموئيل ن. كريمر، إينانا ودوموزي: طقوس الجنس المقدس عند السومريين، بترجمة نهاد خياطة، سومر للدراسات والنشر والتوزيع، طب 1، قبرص 1986، ص 92.

[39] تركي علي الربيعو، العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية، المركز الثقافي العربي، طب 2، بيروت 1995، ص 87.

[40] الباسِمبار: خيوط أربعائية من اللون المقدس، تُجدَل في إحكام، ثم تُزيَّن بها المعاصمُ والأعناق أو تُعلَّق على عتبات البيوت والأماكن المقدسة.

[41] سنتناول هذا الموضوع لاحقًا في بحث مستقل.

[42] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 281.

[43] المصدر نفسه، ص 277.

[44] خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، منشورات رابوون، أپسالا، 1998، ص 95.

[45] توفيق وهبي، "اليزيدية: بقايا الديانة الميثرائية"، مصدر سابق، ص 79.

[46] تركي علي الربيعو، العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية، مصدر سابق، ص 65.

[47] فالح مهدي، البحث عن منقذ، مصدر سابق، ص 69-70.

[48] طه باقر، ملحمة گلگامش، بلا مكان وتاريخ النشر، ص 65.

[49] James Mellaart, Çatal Hüyük, Thames & Hudson, London, 1967, pp. 180-181.

نقلاً عن: فراس السواح، لغز عشتار، ص 263.

[50] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 70-71.

[51] المصدر ذاته، ص 72.

[52] أنطون مورتكات، تاريخ الشرق الأدنى القديم، بترجمة وتعريب توفيق سليمان وعلي أبو عساف وقاسم طوير، مطبعة الإنشاء، دمشق، 1967، ص 24.

[53] تركي علي الربيعو، العنف والمقدس...، مصدر سابق، ص 155.

[54] خليل جندي، نحو معرفة...، مصدر سابق، من "قه ولى گانيا مارا" ("نبع الأفاعي")، أو "كه نيا مارا" ("ضحكة الأفاعي")، ص 84.

[55] تركي علي الربيعو، العنف والمقدس...، مصدر سابق، ص 116.

[56] سيغموند فرويد، الطوطم والتابو، بترجمة بوعلي ياسين، دار الحوار، اللاذقية 1983، ص 175.

[57] تركي علي الربيعو، العنف...، مصدر سابق، ص 14.

[58] فاضل عبد الواحد علي، من سومر إلى التوراة، سينا للنشر، طب 2، القاهرة 1996، ص 195.

[59] تركي علي الربيعو، العنف...، مصدر سابق، ص 17.

[60] المصدر ذاته، ص 101.

[61] رينيه جيرار، العنف والمقدس، بترجمة جهاد هواش وعبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق 1992، ص 300.

[62] تركي علي الربيعو، العنف...، مصدر سابق، ص 21-22.

[63] المصدر نفسه، ص 27.

[64] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 279.

[65] فراس السواح، ملحمة گلگامش، دار الكلمة، بيروت 1981، اللوح الثاني.

[66] لمزيد من التفصيل حول حضور القمح/الزاد في المناسبات الإيزيدية، راجع م.س. هگاري، "الزاد في أعياد ومناسبات الإيزيدية"، مجلة لالش الصادرة عن "مركز لالش الثقافي والاجتماعي" في كردستان العراق، دهوك، العدد 6، ص 20-37.

[67] فراس السواح، لغز عشتار، مصدر سابق، ص 287.

[68] Erich Neumann, The Great Mother, Princeton, New Jersey, 1974, p. 322.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود