المسيح لم يؤسِّس دينًا!

 

نبيل عبد الكريم

 

الذين يتعرفون إلى المسيحية من خلال التلفزيون سيستغربون القولَ إن الناصري، في تعاليمه، لم يؤسِّس دينًا بقدر ما أسَّس مفهومًا للدين. لم يشترع جديدًا، كما أنه لم ينقض قديمًا، بل تخطَّى الكلَّ إلى كمال الدين على الأرض – إلى كمال التعامل – تاركًا كمال الدين يوم الدين إلى الديان: "لا تدينوا لئلا تُدانوا" (إنجيل متى 7: 1)، علَّم أول ما علَّم. وعندما تجمَّع القومُ لرجم الزانية وبَّخهم قائلاً: "مَن كان منكم بلا خطيئة فليكن أول مَن يرميها بحجر"، كما أهاب بالزانية أنْ "اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة" (إنجيل يوحنا 8: 8، 11).

هذَّب وشحذ ما كان يُضبَط بدائيًّا ومرحليًّا إلى ما يُضبَط حضاريًّا وأبديًّا، ضاربًا بالشكليات عرض الحائط:

سمعتم أنه قيل للأولين: "لا تقتل، فإن مَن يقتل يستوجب حكم القضاء." أما أنا فأقول لكم: مَن غضب على أخيه استوجب حكم القضاء [...]. (إنجيل متى 5: 21-22)

وعلى الوتيرة ذاتها:

سمعتم أنه قيل: "لا تزنِ." أما أنا فأقول لكم: مَن نَظَرَ إلى امرأة بشهوة، زنى بها في قلبه. [...] سمعتم أيضًا أنه قيل للأولين: "لا تحنث، بل أوفِ للربِّ بأيمانك." أما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا أبدًا، [...] بل ليكن كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. [...] سمعتم أنه قيل: "العين بالعين والسن بالسن." أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل مَن لطمك على خدِّك الأيمن فاعرِضْ له الآخر. [...] سمعتم أنه قيل: "أحبب قريبك وأبغض عدوك." أما أنا فأقول لكم: أَحبُّوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وصلُّوا من أجل مضطهديكم [...]. (متى 5: 27-28، 33-34، 37-40، 43-44)

وعلَّم أيضًا:

[...] إذا تصدَّقتَ فلا يُنفَخ أمامك في البوق، كما يفعل المراؤون في المجامع والشوارع ليعظِّم الناسُ شأنهم. [...] أما أنت، فإذا تصدَّقتَ، فلا تعلم شمالُك ما تفعل يمينُك [...]. وإذا صلَّيتم، فلا تكونوا كالمرائين، فإنهم يحبون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع، ليراهم الناس. [...] أما أنت، فإذا صلَّيتَ، فادخل حجرتك وأغلق عليك بابها وصلِّ إلى أبيك الذي في الخُفية [...]. وإذا صليتم فلا تكرروا الكلامَ عبثًا مثل الوثنيين، فهم يظنون أنهم إذا أكثروا الكلامَ يستجاب لهم. [...] وإذا صمتم فلا تعبسوا كالمرائين، فإنهم يكلِّحون وجوهَهم، ليظهر للناس أنهم صائمون. [...] أما أنت، فإذا صمتَ، فادهن رأسك واغسل وجهك، لكيلا يظهر للناس أنك صائم، بل لأبيك الذي في الخُفية [...]. (متى 6: 2-3، 5-8، 16-18)

كذلك فإن معظم التعاليم المسلكية المحسوبة على المسيحية لم يكن الناصري أول مَن نادى بها، وإنْ كان أسلوبُ مناداته فريدًا، يطال على السواء قلب الفقير والغني، الفطين والبليد الذهن، الفقيه وصيَّاد السمك. لكنه، على الرغم من الوعظ والجزر، والنهي والأمر، والترغيب والترهيب، عبر الأجيال والقرون، بقي الإنسانُ عاصيًا. حتى الرب الإله – على ذمَّة أحد أنبياء بني إسرائيل – ضاق ذرعًا بالإنسان وأفلس حيلةً معه، فاحتكم بالأصالة حيرةً ويأسًا:

اسمعي خصومةَ الربِّ، أيتها الجبال وأسُس الأرض الدائمة، فإن للربِّ خصومةً مع شعبه ويحاكم إسرائيل: يا شعبي، ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك؟ اشهد علي! وإني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من العبودية وأرسلت أمامك موسى وهارون ومريم.

ويتابع النبي الشكوى بالوكالة:

بماذا أتقدَّم إلى الرب وأنحني للإله العلي؟ هل أتقدَّم بمحرقات بعجولٍ أبناءِ سنة؟ هل يُسَرُّ الربُّ بألوف الكباش؟ بربوات أنهار من الزيت؟ هل أعطي بكري عن معصيتي، ثمرةَ جسدي عن خطيئة نفسي؟

ويَبُقُّ النبي البحصة بالنيابة، مختزلاً الدينَ برمَّته:

قد أخبرتك، أيها الإنسان، ما هو صالح: وماذا يطلب منك الربُّ إلا أن تضع الحقَّ وتحبَّ الرحمة وتسلكَ متواضعًا مع إلهك؟

معصية الإنسان المدمنة لم تكن من قلَّة القوانين والنبيين، ولا من كثرة اللوائح والمحامين، وإنما كانت من فقدان حسٍّ ينبع من داخل الإنسان يحثُّه على الصلاح وعن الطلاح. يسوع الناصري قد لا يكون أول مَن شخَّص الداء، لكنه كان أول مَن قدَّم الدواءَ ووَضَعَه في متناول الجميع مجانًا. رأى أن الإنسانَ أسيرُ ولادته من الجسد – كما الكاسر أسير شراسته – فنادى بـ"ولادة ثانية من الروح" (إنجيل يوحنا 2: 6)؛ أدرك استحالةَ الولادة ثانية بحكم الطبيعة الجسدية للإنسان، فاقتحم هذه الطبيعة قائلاً:

ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من أن يبذل نفسَه في سبيل أحبائه. (يوحنا 15: 13)

التضحية العظمى قُدِّمَتْ، والفدية القصوى دُفِعَتْ – ممَّن لا يستحق القصاص عمَّن يستحقه. فهل من قلوب ترتعش خجلاً، وتختلج اتعاظًا، و"تولد ثانية من الروح"؟!

للمسيحية شقَّان: شقٌّ لاهوتي يتخطَّى كنهُه الإدراكَ، وآخر مسلكي في متناوله. حكاية من الغابر طافت بعد غوص زمن هي الآتي: كان مسلم يعاتب صديقًا مسيحيًّا بأنه في حين يذكر القرآنُ المسيح مراتٍ وبالخير، لا يأتي الإنجيلُ على ذكر محمد ولا مرة واحدة: "ولو! هل يجوز هذا؟!" فأخذ الصديق يشرح له أن التاريخ حال دون ذلك، إذ كُتِبَ الإنجيلُ ستمائة سنة قبل محمد. "لا، لا"، قاطعه المسلم، "ليس هذا بعذر مقبول! المسألة ليست مسألة تاريخ، المسألة مسألة زاء!" (أي "ذوق"، أو أدب التعامل – باللهجة البيروتية القيمة!)

صرحُ المسيحية برمَّته، بفقهه وبفلسفته، وبما أوحى من فنون وآداب وسلوك حميد ومؤسَّسات – من الدير في القفر، المستضيف لكلِّ طارق، إلى الصليب الأحمر، المستجيب لكلِّ طارئ، من بطرس وبولس ورفاقهما إلى ألبرت شفايتسر والأم تيريزا وأمثالهما، من أوراتوريو المسيا (هاندل) والقداس الوقور (بتهوفن)، إلى "حلاج المحبة" – وما أحوجنا اليوم إليه! – وقصة مدينتين (دكنز)، من حقوق الإنسان والأسير إلى حقوق المعاق والسجين – كلُّه قائم على مبدأ واحد، على حسٍّ داخلي بدَيْن أدبي وجب إيفاؤه. أو بكلمة واحدة: على "الزاء" – وبالمعنى الذي عناه بطلُ الحكاية أعلاه!

هذه هي المسيحية – لا أكثر ولا أقل.

أما الشق المسلكي للمسيحية، فهو ثمرة الشق الفقهي. وقد اختزله أحمد شوقي في عبارة واحدة أيضًا حين أنشد: "وُلِدَ الرِّفقُ يوم مولد عيسى" – الرفق بالإنسان، وبالحيوان، وبالبيئة، طوال الرحلة من التراب وإليه جسدًا، ومن الخالق وإليه روحًا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود