لا تعتذر عما فعلت
الشاعرُ ماضٍ في أسئلته وشهوة الإيقاع

 

سليمان بختي

 

مهما تخفَّفَ محمود درويش من أعباء وأثقال، من صدمة الوصول أو نفاد الرغبات، فإنه يلبث في مجموعته لا تعتذر عما فعلت أمينًا لحفرياته في الذات والمكان و"القضية". وإذا كانت ثمة تفاصيل وأشياء وظلال، فهي من "لزوم ما يلزم" القصيدةَ والغنائيةَ والقول.

ومحمود درويش يمضي هنا في شهوة الإيقاع، فيُفرِغُ حكاياتِه ومشاهداتِه وأسئلتِه ولقطاتِه من أجل الحوار مع الخواطر والمصائر والذكريات. كأنه مستغرق في ما يشبه مراجعة الذات والرغبات والمواقف، في إعادة صوغ الأسئلة وتركيب التفاصيل ومعايشة الأشياء، محاولاً الإجابةَ أو التأويل، أو حتى التبرير، على متن جملة شعرية مختلفة، مترعة بالأبعاد والرؤى والجهات.

هو حديث الذات، في قلقها ووحدتها وظلالها وأشيائها. لكن السؤال هو: ماذا يريد محمود درويش من لا تعتذر عما فعلت؟ أحسب أنه يجمع ما يريده في كلمة الحرية: فقصيدته هنا نزوعٌ متواصل إلى الحرية، نداءٌ لشوق مكبوت، صهيلٌ مستمر لريح في هبوب، وأشرعةٌ تسعى إلى أفق. وحين الذات على ريح من القلق والوحدة كيف يغدو التئامُها مع المكان، فثمة ما يحيل عمل صدمة لا على حل:

إنْ عدتَ وحدك، قل لنفسك:
غيَّرَ المنفى ملامحَه...
ألم يُفجَع أبو تمام قبلك
حين قابل نفسه:
لا أنت أنت
ولا الديار هي الديار.
(ص 9)

وحيال التنافر والتناقض والاختلاف والتغير، ماذا ينقص غير الحرية لتغدو الذات والمكان نسيجًا قويًّا متحدًا؟ وتبقى البلاد هي البلاد، في داخلها وخارجها، في تناقُضها ومأسويتها، حدثًا يعصى الفهم، يعصى القبول:

بلادنا في ليلها الدموي
جوهرة تشع على البعيد، على البعيد
تضيء خارجها
وأما نحن، داخلها
فنزداد اختناقًا.
(ص 40)

أو:

أما أنا فأقول، لأسمِّي: أعطِني
ما ضاع من حريتي.
(ص 77)

وفي "القضية" يكاد اليقين يخبو. فالقضية عبء على ليل المؤرخ وعلى الرسام وعلى الجنرال، و"النسيان ضروري لذاكرة المكان" (ص 102). ما بين الفكاهة والمتاهة، يأخذنا الترددُ إلى الأقاصي. ولا يتخلى محمود درويش عن الحوار – حركة الحوار الداخلي والأشياء والأمكنة والتاريخ، وغالبًا في مقاربات عميقة:

أولى أغانينا دمُ الحب الذي
سفكتْه آلهةٌ
وآخِرها دمٌ سفكتْه آلهةُ الحديد.
(ص 46)

والأمكنة لا تتوقف في الصورة أو في الظلال، بل تظل تنزف من الروح صورًا ورموزًا: القدس، بيروت، مصر، تونس، الشام، السياب والعراق. ولا أعرف: هل يمارس درويش تجوالاً شعريًّا في الأمكنة ليصل إلى أبعاد مجردة بين النسيان والحضور؟ – كأن النسيان طريق آخر غير الحلم لبلوغ الحرية، مثلما هي المعاناة طريق الحياة:

إنني حيٌّ
وحرٌّ
حين أنسى.
(ص 73)

أو:

لا تذكروا من بعدنا
إلا الحياة.
(ص 58)

كتب مرةً أوكتاڤيو پاث: "الشعر هو إعادة غزو للبراءة الأصلية." محمود درويش، في لا تعتذر عما فعلت، يعيد غزواتِه وتنويعاتِه على إيقاع الزمن وتحولاته، والمكان وآماله وخيباته، والذات وتأملاتها وتباريحها. وفي ذلك كلِّه، يترك خلف قصيدته أسرارًا وشكوكًا وشظايا وورودًا من صمت. وماذا بعد؟!

صاحت فجأة جندية:
"هو أنتَ ثانية؟ ألم أقتلك؟"
قلت: "قتلتِني... نسيت، مثلك، أن أموت."

*** *** ***

عن النهار، السبت 8 تشرين الثاني 2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود