على الحافة
في «أخلاقيات» الصِّراع

 

حبيب معلوف

 

مع تكاثُر التهديدات بانفجار العنف في منطقتنا والعالم، مع تفوق إمكانات تصعيد الصراع على إمكانات تشجيع الحوار، ومع تعزيز احتمالات نشوب الحروب وتفاقُم القتل والاقتتال والموت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، تبدو الأسئلةُ القديمةُ عن معنى الحياة والوجود مبررة جدًّا – من جديد.

ما هي غاية الإنسان من حياته؟ وما هي الجذور العميقة لهذا العنف كلِّه؟ الأجوبة التاريخية عن هذه الأسئلة كثيرة: منها ما هو ديني غيبي، منها ما هو روحي، منها ما هو نفعي مادي، إلخ. ولكن ما هو جواب الفلسفة الإيكولوجية Eco-philosophy؟ ما هو جواب الإيكولوجيا الذي تستند إليه الفلسفة البيئية، بشكل أو بآخر؟ الفلسفة الإيكولوجية لا تكتفي بالجواب عن سؤال «ما هي غاية الإنسان من حياته؟»، بل هي تعيد طرح السؤال، كون الفلسفة نفسها ولاَّدةً للأسئلة أكثر من كونها «فقَّاسة» للأجوبة!

وبين الأسئلة الجديدة التي تطرحها القضيةُ البيئية نفسها في العالم أسئلة من قبيل: هل هناك غاية واحدة للإنسان؟ هل الإنسان كائن مستقل فعلاً عن غيره من الكائنات؟ فإذا كان الكائن الإنساني غير مفصول عما يسمى «شبكة الحياة» Web of Life، كما تبرهن الإيكولوجيا، فإن السؤال الوجودي التقليدي عن معنى الحياة يُفترَض فيه أن يتغير ليصبح: ما هي «غاية» أيِّ كائن حي أصلاً؟ وكيف يمكن الفصل بين العام والخاص؟

يقول الفيلسوف الأمريكي پول تيلور إن جميع الكائنات الحية «مراكز غائية للحياة». ويُجمِعُ بيولوجيون عديدون على القول بأن «غاية كلِّ كائن حي هي أن يصل إلى مرحلة النضج ويتكاثر». إذًا غاية كلِّ كائن حي، في بساطة واختصار، هي «الحياة» في حدِّ ذاتها! صحيح أن الإشكالية الأساسية التي تنطرح في هذه الحالة هي أن متطلَّبات الحياة والغذاء لأيِّ كائن تعتمد على «قتل» كائنات أخرى، إلا أن من المؤكد أيضًا أننا قلما نرى حيوانًا يُكِنُّ عداءً مجانيًّا لغيره من الحيوانات (باستثناء النوع البشري على الأرجح!). إذ إن معظم الحيوانات المعروفة لا تهاجم إلا لكي تأكل أو للدفاع عن صغارها أو عن موطنها.

وهكذا تعبِّر الحاجةُ الغذائية عن أكثر قوانين الحياة وضوحًا؛ وهي مشتركة بين الأحياء كلِّها، من الڤيروس إلى الإنسان. لكن التكاثر يتوقف ما إن يُستهلَك الغذاءُ استهلاكًا تامًّا. ولهذا فإن لكلِّ كائن «إستراتيجية» تخصه في حماية مصادر قُوْته. وهذه أحد أهم القوانين المشتركة بين الاقتصاد وعلم البيئة، كما فهمه مالتوس وشرحه جيدًا منذ زمن بعيد. وهذا ما جاء أيضًا في صُلب تفسير داروِن في فرضيته حول «الصراع من أجل البقاء»، الصراع على الحياة والغذاء. لكنْ في هذا الصراع، على ما يبدو، لا يبقى إلا «الأناني» الذي ينجو ويتكاثر إذا عرف كيف يكون أكثر تكيفًا وأكثر نفعية.

من هنا، ربما، نشأت نظرية الأخلاق التي أفرزتْها طبيعةُ تطور الحياة الاجتماعية نفسها أو، على الأصح، طبيعة الصراع بين ما نسميه اليوم «المجتمعات». فما الأخلاق، في المنظور الإيكولوجي، غير تلك القيود على حرية الفعل في «الصراع من أجل البقاء». فإذا كان لكلِّ كائن قوته الضرورية من أجل الحياة والبقاء، فإن كلَّ فعل، من أيِّ كائن صَدَر، يتسبب في تعطيل أو في منع كائن آخر من تحقيق غايته يكون بمثابة «اعتداء» على غيره.

والاستنتاج الأولي الذي خرجت به الأخلاقُ الإيكولوجية، في هذه الحالة، أن كلَّ كائن حي له مصالحه، له خيره الخاص، وله «حقه» في الوجود والاعتبارية. وهذا ما يمكن أن يؤسِّس لأخلاق جديدة – يمكن لنا أن نسميها «أخلاقًا بيئية» Eco-ethics جديدة – تقوم على إعادة النظر في مفاهيم الحقوق والمصالح والعدالة والمساواة إلخ، وعلى توسيع هذه المفاهيم وجعلها أكثر تجريدًا وأكثر عمومية وعالمية وعدلاً، بحيث تشمل باقي الكائنات.

إن جذور فكرة الغلبة والسيطرة والسلطة والتسلط، وربما العنف المجاني أو العبثي الذي بتنا نشهده اليوم، هي في التمييز بين الكائنات واعتبار الإنسان كائنًا «متفوقًا» وصاحب امتيازات خاصة وقيمة خاصة تجرِّد غيرها من أية قيمة ولا تأخذ في حسبانها القيمةَ الذاتية والخاصة لباقي الكائنات أيضًا. إذ إن اعتبار أن «الخاص» هو ما يخص مَن يعي (من «وعي») مفهوم الخصوصية، وأن الكائنات التي لا تعي «خصوصيتها» لا قيمة لها ولا اعتبار ولا حقوق، هو تعسف «إنساني» سوَّغ – ومازال يسوِّغ – أشكال العنف كافة، حاضرًا ومستقبلاً.

إن اعتبار أية قيمة، لأيِّ شيء كان، في مدى انتفاع الإنسان من هذا الشيء، وإنكار أية قيمة ذاتية للأشياء هو مجرد تعبير غير مباشر عن عنف إنسان قد حلَّل القتل – لا بل قاتَل – من دون أن يكون قد حمل يومًا سلاحًا فتاكًا ولا قتل إنسانًا واحدًا. فحتى لو افترضنا صحة نظرية أن الكائن الإنساني هو الكائن الوحيد الذي يعقل ويتمتع بالنطق والمنطق، وأنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يقيِّم الأشياء ويقيسها، فهذا لا يعني أنه هو نفسه «المقياس الوحيد للأشياء» (پروتاغوراس). وهنا يكمن، ربما، جوهر المشكلات «الإنسانية» حتى تاريخه!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود